فالرواة يقولون: إن هذا الغلام الفارسي كان إذا لقي الصبيان من سبي الفرس مسح على رءوسهم، وقال: إن العرب أكلت كبدي. فليس الأمر إذن أمر الضريبة الذي فرضها المغيرة على هذا الغلام، وإنما هو أمر فارسي موتور قد فتحت بلاده وقتل من قومه الكثيرون، فهو ثائر لوطنه وثائر لهؤلاء الأسارى الذين انتشروا في الأرض الإسلامية كلها، وهو يرى أن العرب قد أكلت كبده بما فعلت بوطنه من الأفاعيل، وهو لم يكن وحيدا في المدينة، وإنما كان معه في المدينة رجال آخرون موتورون، منهم الفارسي كالهرمزان الذي كان ملكا من ملوك الفرس، أو كبيرا من كبرائهم والذي جد في مقاومة المسلمين ما استطاع، وأفلت منهم في غير موطن حتى أسر في آخر الأمر وأرسل إلى عمر. وكان عمر حريصا على قتله، ولكنه خادع عمر حتى أمنه، أمنه عمر ساعة من نهار، فمكر حتى جعله أمانا دائما، أظهر الظمأ فدعى له بالشراب، فقال لعمر: إني أخشى أن تقتلني وأنا أشرب. فقال له عمر: لا بأس عليك. فرد القدح ولم يشرب، وقال لعمر: قد أمنتني. قال عمر: لم أؤمنك. قال من حضر من المسلمين: بل أمنته يا أمير المؤمنين. فقد قلت له: لا بأس عليك. فقد انخدع المسلمون وانخدع معهم عمر لهذا الفارسي، ولا غرابة في ذلك، فالحر يخدع أحيانا فينخدع، وليس شيء أسهل في الإسلام من الأمان يعطى لغير المسلم، يعطيه رجل من عامة المسلمين لرجل من المحاربين فيجري أمانه ويلتزمه قائد الجيش كما يلتزمه لخليفة وجماعة المسلمين، ويعطيه العبد المسلم للمحارب أو المحاربين، فيصح أمانه ملزما للجيش وقائده وللخليفة وجماعة المسلمين.
وذلك لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم.» وقد أسلم الهرمزان، فعصم دمه بالإسلام، ولم يجعل لأحد عليه سبيلا، وأقام في المدينة.
ورجل آخر كان يقيم في المدينة لم يكن فارسيا، وإنما كان عربيا من أهل الحيرة وكان مسيحيا، وكان بينه وبين سعد بن أبي وقاص صلة.
يقول ابن سعد: إنها كانت صلة الظئر.
6
كأن امرأة جفينة كانت مرضعا لبعض ولد سعد، وكان سعد هو الذي جاء به إلى المدينة حين عزله عمر عن الكوفة.
ورجل رابع كان يقيم بالمدينة، ولكنه كان غريب الأطوار، عرف كيف يخدع كثيرا من المسلمين ومنهم عمر، وهو كعب الأحبار. وكان كعب يهوديا من أهل اليمن زعم أنه سأل عليا - رحمه الله - عن النبي حين ذهب علي إلى اليمن مرسلا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما أنبأه علي بصفة النبي عرف هذه الصفة مما كان يجد بزعمه في التواراة، ولم يأت المدينة أيام النبي، وإنما أقام على يهوديته في اليمن، وزعم هو بعد ذلك للمسلمين أنه أسلم ودعا إلى الإسلام في اليمن، وقد أقبل إلى المدينة أيام عمر، فأقام فيها مولى للعباس بن عبد المطلب رحمه الله، وكان بارعا في الكذب على المسلمين يزعم أنه يجد صفاتهم في التوراة، وربما زعم لهم أنه يجد صفاتهم في الكتب، وكان المسلمون يعجبون بذلك ويعجبون له. ولم يلبث أن كذب على عمر نفسه، فزعم له أن يجد صفته في التوراة، فعجب عمر وقال: تجد اسم عمر في التوراة؟! قال كعب: لا أجد اسمك وإنما أجد صفتك.
وقد صحب عمر حين سافر إلى الشام ليتم فتح بيت المقدس، ويقال: إنه هو الذي دل عمر على مكان الصخرة، وكانت قد استخفت لكثرة ما كان الناس يلقون عليها من الكناسة، فأمر عمر فأزيل عنها ما كان عليها وأقام المسجد، وسأل أين يضع القبلة، فقال له كعب: اجعلها إلى الصخرة. فقال له عمر: ضاهيت اليهودية يا كعب! وجعل القبلة إلى المسجد الحرام.
Bog aan la aqoon