Shaykh Cabd Qadir Maghribi
محاضرات عن الشيخ عبد القادر المغربي
Noocyada
مقدمة
عصره
أسرته وسيرته
أوليته
المغربي الصحفي والمصلح
المغربي الفقيه
المغربي المؤلف
أول مقال كتبه الشيخ المغربي نقلا عن جريدة المقطم
مقدمة
عصره
Bog aan la aqoon
أسرته وسيرته
أوليته
المغربي الصحفي والمصلح
المغربي الفقيه
المغربي المؤلف
أول مقال كتبه الشيخ المغربي نقلا عن جريدة المقطم
محاضرات عن الشيخ عبد القادر المغربي
محاضرات عن الشيخ عبد القادر المغربي
تأليف
محمد أسعد طلس
Bog aan la aqoon
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وجنده.
أما بعد؛ فهذه محاضرات ألقيتها على طلابي في معهد الدراسات العالية بالقاهرة للتعريف بالشيخ الإمام عبد القادر المغربي، أحد قادة الإصلاح، وزعماء الحركة الفكرية والأدبية، في نهضة أمتنا العربية، الذي توفاه الله في العام الماضي، واحتفل العالم العربي والإسلامي بتكريمه احتفالا كبيرا، اشتركت فيه الحكومات العربية، والإسلامية، والمحافل الأدبية والاجتماعية، اشتراكا دل على مكانة الفقيد وتقديرهم إياه، بما بذل في خدمة أمته، وعمل على تتميم رسالة شيخه السيد المصلح جمال الدين الأفغاني، وصديقه الإمام الشيخ محمد عبده.
ومن حق أمتنا العربية، في هذه الفترة من تاريخنا الحديث أن تقف وقفة طويلة أمام سير البررة من أبنائها، الذين قضوا في سبيلها ورفعة شأنها في كافة الحقول العامة من سياسة وأدب واجتماع واقتصاد، منذ القرن الماضي في أيامنا هذه، فإنهم البناة الأول لهذه الحركة التحررية التي نرجو لها أن تتم في دنيا العرب، وعوالم المشرق كله بحول الله وقوته.
إن علي مبارك، ورفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومصطفى كامل، وعلي يوسف، وجمال الدين القاسمي، وعبد الرحمن الكواكبي، وعبد العزيز جاويش، والأمير شكيب أرسلان، وعبد القادر المغربي، وإخوانا لهم كثيرين في مضمار الفكر والعلم والإصلاح، لهم دين كثير في أعناق هذه الأمة العربية، فيجب عليها أن توفيهم إياه، وذلك بتعريف الأجيال الصاعدة الناشئة اليوم بما فعله أبناء الرعيل الأول بالأمس القريب والبعيد من جهد وكد في سبيل النهضة العربية الحاضرة، وإيقاد شعلتها، والدفع بها تسير قدما بخطى صحيحة متزنة، وتنفض عن عيونها وسن العصور الظالمة، وآثار عهود الاستعمار الظالم البغيض بشتى ألوانه وأشكاله في كافة أقطار القارتين الشقيقتين آسيا وأفريقيا.
وإن الجهود التي يقوم بها بعض الكتاب وقادة الفكر اليوم في مصر وسائر البلاد العربية، والأقطار الشرقية، لتعريف الجيل الصاعد الواعي بأخبار الرعيل الأول من الجنود القدامى في حملة محاربة الاستعمار، والبعث القومي، لهي جهود مشكورة، وطيبة، ومفيدة. وإن الشيخ الإمام «المغربي» رحمه الله هو أحد أولئك الجنود الذين بذلوا حياتهم، منذ نعومة أظفارهم إلى أن قضوا، في سبيل أمتهم، متسهلين كل صعب من سجن ونفي وتعذيب وتشريد في سبيل عقيدتهم الوطنية، وأفكارهم الإصلاحية، والعمل على القضاء على الاستعمار في حقول السياسة والعلم والاقتصاد.
ومما هو جدير بالذكر أن الوعي العام قد تنبه في القارتين الشقيقتين، وأن الناس بصورة عامة أخذوا يتتبعون أخبار الرعيل الأول من المجاهدين القدامى، وينقبون عن آثارهم، ويعملون على التعرف إليهم، والإشادة بمآثرهم، والسير على غرارهم، وتتميم رسالتهم.
ولقد كان للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية وللمعاهد والمؤسسات العلمية المرتبطة بها أو بغيرها من المعاهد العالية الأخرى في مصر وعواصم المشرق أثر بين في هذه الحلبة، وإن جهود هذه المؤسسات في الطلب إلى المؤلفين أن يكتبوا عن ذلك الرعيل، وإلى الحاضرين أن يتحدثوا عنهم، ويسهموا في ذلك، لهي جهود طيبة ومحمودة، ويرجى لها أن تفيد.
وبعد فرحم الله «المغربي» «الأفريقي» الأرومة، «الآسيوي» المنبت الذي قضى في سبيل نهضة الشرق من أدناه إلى أقصاه، وحقق لأممه أن تسير في ركب الحضارة من جديد، عاملة على تدعيم مواكب النور، والحضارة، والحرية، والخير في الأرض.
محمد أسعد طلس
Bog aan la aqoon
القاهرة 29 / 12 / 1957
عصره
1284-1375ه/1867-1956م
أطل القرن الثالث عشر للهجرة مع نهاية القرن الثامن عشر للميلاد، وكانت الإمبراطورية العثمانية هي المسيطرة على أكثر أرجاء العالم العربي، وإن كانت هذه السيطرة روحية في بعض أقاليمه كشمالي أفريقيا، ومصر، أما الجزيرة العربية والشام والعراق فكانت تحت النفوذ المطلق للإمبراطورية، كما كانت على حالة عجيبة من التفكك والتفسخ الداخلي والخارجي.
ولما حاول السلطان العثماني سليم الثالث إصلاح الأمور وتنظيم الجيش، والأخذ بطرائق الإصلاح الأوروبية الحديثة بمعونة سفير نابليون الثالث لدى بلاطه الجنرال سباستياني
Sébastiani
لم يمكنه الإنكشاريون المرتزقة من القيام بتلك الحركة الإصلاحية، وأكرهوه على أن يخلع نفسه، وتم لهم ذلك في سنة 1807م، وفتكوا بجميع زعماء الإصلاح الذين كانوا يؤازرون ذلك السلطان في حركته الإصلاحية، وأجلسوا على العرش ابن عمه مصطفى الرابع الذي سار معهم كما يريدون، وأرجع الإمبراطورية إلى طرائق الرجعية والفساد، وكذلك فعلوا مع خلفه السلطان محمود الثاني، الذي أراد أن يخطو خطوة نحو الإصلاح، فوقفوا في وجهه فترة إلى أن تغلب عليهم، وأصدر «فرمانا شاهانيا في سنة 1826م أوجب به تأليف جيش نظامي حديث في الإمبراطورية، وفتك بعدد كبير من الإنكشارية، وقضى على سلطانهم قضاء مبيدا، ولكن الدول الغربية الطامعة في استعمار الإمبراطورية العثمانية لم تترك السلطان المصلح يتم خطواته الجريئة؛ ففي سنة 1827م اتفقت الدول الثلاث الكبرى آنئذ (وهي روسيا وإنكلترا وفرنسا) فيما بينها على تجزئة أوصال الإمبراطورية، وحطمت أسطولها في معركة «نافارين» المشهورة، ثم تتابعت المحن على الإمبراطورية المريضة، فلم يتمكن السلطان محمود الثاني من إتمام إصلاحاته، واستمرت الدولة تتخبط في حالة الفوضى والجهل، وكان لانفصال بعض أجزاء الإمبراطورية عنها أثر كبير في إلهاب عواطف الأجزاء الأخرى وإثارة العواطف القومية عند أهلها؛ فقد كان لانفصال اليونان عن جسم الإمبراطورية في سنة 1830م بعد حرب فظيعة، ذهب بسببها أكثر قطع الأسطول التركي والأسطول المصري، كما كان لانفصال المقاطعات الرومانية عن الإمبراطورية وإعلانها استقلالها في ذلك الحين أثر بالغ في إضعاف كيان الدولة، وإثارة شعور القوميات غير التركية، وفي طليعتها القومية العربية.
ويظهر أن الدولة العثمانية قد طاش صوابها في ذلك الحين، وأرادت التنفيس عن غمها، الذي ران عليها من جراء تلك الضربات، فسلكت إلى ذلك سبيلا بشعة مجرمة، وهي الانتقام من النصارى الخاضعين لها وبخاصة نصارى الديار الشامية، وكتبت حكومة الآستانة إلى ولاتها في الشام تطلب إليهم أن ينتقموا ممن تحت أيديهم من النصارى، وجمع والي دمشق التركي أعيان البلاد في سنة 1831م وتلا عليهم الفرمان الشاهاني القاضي بقتل كبراء النصارى في تلك البلاد لتآمرهم على الدولة وإفسادهم مصالحها، ولكن موقف أعيان المسلمين كان موقفا مشرفا إذ قالوا له: ليس بين النصارى المقيمين بيننا مفسدون، وإنما هم أهل ذمة وعهد، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم
أوصى بهم خيرا، فقال: من آذى ذميا كنت خصمه يوم القيامة، ونحن لا نتحمل تبعة ظلمهم والفتك بهم، فأخذ الوالي العثماني خطوطهم على ذلك، وبعث بها إلى الباب العالي في الآستانة.
Bog aan la aqoon
ولعمري إنه لموقف مشرف، وإنه لدليل على أن الروح القومية السليمة كانت قويمة صحيحة في الأمة العربية منذ آنذاك، على الرغم من محاولة الدولة العثمانية تفكيكها، فأية علاقة بين نصارى اليونان الثائرين على الدولة العثمانية، وبين نصارى العرب العائشين في الشام، المحافظين على حقوق المواطن الصالح! ولكنه منطق الظلم والفوضى، ولا شك في أن هذا العمل كان بذرة من بذور الانبعاث القومي العربي؛ فقد رأى العرب المسلمون في هذه الديار فساد خطة الأتراك وسوء إدارتهم، فتركزت في نفوس الواعين منهم - على الأقل - فكرة التخلص من الظلم التركي، وإنقاذ البلاد العربية الرازحة تحت عبئه من تلك الحالة الشاذة؛ وكانت أولى الانتفاضات ثورة أهالي دمشق على واليهم التركي سليم باشا في سنة 1247ه؛ حين قدم إليهم من الباب العالي وأخذ يعاملهم بقسوة وعنف، بعد أن قاسى منه أهل حلب قسوة وعنفا شديدين، وما أن وصل إلى دمشق حتى زاد الضرائب والمكوس، واحتقر الوجوه والأعيان، وضرب العامة فعزموا على الفتك به وبجنده، وتجمهروا متظاهرين عليه، ثم حصروه في قصره وضيقوا عليه فاضطر إلى أن يلجأ إلى القلعة، ثم أمر بإحراق دار الحكومة ليشغل الناس عن محاصرته ويستطيع النجاة بنفسه، فلم يأبهوا للحريق، واضطر إلى أن يقذف عليهم نيران المدافع من القلعة فهلك عدد كبير منهم، ثم لجأ هو إلى بيت القاضي الشرعي، فهاجم الناس البيت واحتلوه وقتلوا الوالي، وألفوا من بينهم حكومة محلية تدير شئون البلاد.
هكذا كانت حالة ولاية دمشق، ولم تكن حالة سائر ولايات الشام أو غيره من أجزاء العالم العربي أحسن وضعا؛ ولذلك تداعى العقلاء وأهل الحكمة والوعي ، إلى العمل في كافة الحقوق المؤدية إلى إثارة القومية الصحيحة، والإصلاح العام، والتوجيه المستقيم، لا في السياسة وحسب، بل في التعليم والأدب والاجتماع والإصلاح.
أما التعليم والأدب فقد كان أول المجالات التي ابتدأ فيها الإصلاح؛ ففي القرن السابع عشر نبغ في حلب المطران جرمانوس فرحات (1670-1732م) العالم المصلح الذي رأى فساد اللغة العربية، فعمل على إصلاحها والتأليف فيها، وعرب الإنجيل تعريبا صحيحا مسجوعا، عرف الكنيسة فصاحة لغة العرب، ووضع معجما صغيرا سماه «الإعراب عن لسان الأعراب»، وأوجد أول مجمع علمي لغوي في حلب، انتخب له نخبة من علماء حلب الدينيين والمدنيين، الذين انصرفوا إلى الترجمة والنقل، وكانوا يعرضون عليه نتاجهم فينقحه، وأخذ يسعى في جمع المخطوطات العربية، وبذلك غدت حلب في عهده مركز الإشعاع الفكري في النهضة الحديثة، ومنها انتقل إلى لبنان وسورية، فظهر فيهما نفر من رجال الفكر أمثال: الشيخ أحمد عبد اللطيف البربير (1747-1811م)، وبطرس كرامة (1774-1851م)، وأمين الجندي (1756-1840م)، والشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871م)، والشيخ يوسف الأسير (1814-1889م)، وأحمد فارس الشدياق (1804-1888م)، وبطرس البستاني (1819-1883م)، والشيخ إبراهيم الأحدب (1826-1890م)، والشيخ حسين الجسر (1845-1909م)، والشيخ حسين بيهم (1833-1881م)، والشيخ طاهر الجزائري (1850-1919م)، والشيخ عمر الأنسي (1821-1876م) ...
وليس ها هنا مجال البحث التفصيلي في التعليم والأدب.
وأما الاجتماع والإصلاح فقد نبغ أوائل القرن التاسع عشر نفر من المصلحين في سورية ولبنان رأوا سوء الحالة الاجتماعية التي كان عليها قومهم، فألفوا في الإصلاح آثارا كان لها وقعها، وتأثيرها في المجتمع العربي وهم: أحمد فارس الشدياق (1804-1888م) في مقالاته العديدة وكتبه الكثيرة، وأجلها «الفارياق» و«كشف المخبأ» و«كنز الرغائب».
وفرنسيس المراش (1826-1873م) في كتابيه «مشهد الأحوال» و«غابة الحق».
وسليم بطرس البستاني (1848-1884م) في رواياته الإصلاحية، سواء التي ترجمها، أو التي ألفها، أو في مقالاته التي ملأ بها جداول مجلته «الجنان».
وإبراهيم اليازجي (1847-1906م) في قصائده التوجيهية، أو في مقالاته القومية التي نشرها في جريدة «النجاح»، أو مجلة «الضياء».
وعبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م ) في مقالاته الإصلاحية التي نشرها في «جريدة الشهباء» وفي كتابيه المشهورين «أم القرى» و«طبائع الاستبداد».
وأديب إسحق (1856-1885م) في مقالاته التي نشرها في «جريدة التقدم» أو رواياته الاجتماعية التي ألفها أو ترجمها أو في كتبه الاجتماعية.
Bog aan la aqoon
وشبلي الشميل (1860-1916م) في مقالاته التوجيهية الجدلية، ومباحثه العلمية، وبخاصة مباحث علم النشوء والارتقاء.
وفرح أنطون (1861-1922م) في رواياته الاجتماعية التي ترجمها أو ألفها، وفي مباحثه الفلسفية والاجتماعية التي نشرها.
ونجيب الحداد (1867-1899م) في رواياته الإصلاحية ومقالاته النقدية.
وعلامتنا وشيخنا دولة الأستاذ فارس الخوري مد الله في عمره (1877م) في مقالاته وقصائده الإصلاحية ومباحثه السياسية والقانونية والاجتماعية.
هؤلاء هم أئمة الشاميين المصلحين في القرن التاسع عشر.
أما الناحية السياسية القومية فقد ظهرت في الجزيرة العربية منذ أن قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1115-1206ه/1703-1787م بدعوته الدينية الإصلاحية الرامية إلى تطهير الإسلام مما علق به من البدع، وقد اعتنق فكرته الأمراء السعوديون في أوائل القرن التاسع عشر، وكان هذا بدء الانطلاق في القومية العربية الهادفة إلى استقلال الجزيرة العربية، وما حولها من البلاد العربية عن السلطنة العثمانية.
وقد قوى السعوديون صلاتهم بالزعماء الدينيين المصلحين في الأقطار الأخرى كالشيخ محمد عبده في مصر والألوسيين في العراق، وازدادت هذه الصلة قوة حين نبغ من تلاميذهم السيد محمد رشيد رضا، والشيخ عبد القادر المغربي - رحمهما الله - والشيخان محمد بهجة الأثري، ومحمد بهجة البيطار - حفظهما الله.
وكان إلى جانب هذه الحركة السياسية التي قامت في قلب الجزيرة العربية، حركة أخرى تمت بصلة قوية إلى الناحية السياسية، وهي حركة الجمعية الخيرية التي قامت في دمشق في أواخر عهد الوالي المصلح مدحت باشا سنة 1878م/1295ه برعاية الوالي نفسه، وكان على رأسها العلامة الكبير الشيخ طاهر الجزائري، ومن رجالاتها رفيق بك العظم، وعطا أفندي الكيلاني، والأمير شكيب أرسلان، وسليم أفندي البخاري والشيخ جمال الدين القاسمي، وأسعد بك الدرويش، وسليم بك الجزائري، وشكري بك العسلي، وعبد الوهاب بك الإنكليزي، وأستاذنا فارس بك الخوري، وغيرهم من الشبان العرب المخلصين. وقد امتدت حركتهم من سورية إلى لبنان، فاتصلوا ببعض رجالاته في بيروت كالشيخ أحمد عباس الأزهري، والشيخ عبد القادر المغربي، والشيخ محمد رشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان، والسيد عبد الغني العريسي، والسيد محمد المحمصاني، والسيد عمر حمد ، وعملوا جميعا في دمشق وبيروت على إحياء جذوة القومية العربية والوقوف أمام حملة التتريك، التي كانت تسعى إليها الدولة العثمانية، وإن كانوا يختلفون في الطريق المؤدية إلى ذلك، فبعضهم يرى أن الحركة يجب أن تهدف إلى انتزاع حقوق العرب من الأتراك انتزاعا بالقوة بعيدا عن الجامعة العثمانية الإسلامية، وهو رأي الشبان، وبعضهم يرى أن الأصلح في نظرهم وفي تلك الظروف أن يكون ذلك ضمن الجامعة العثمانية الإسلامية، وهو رأي الشيوخ، وكان شيخنا المغربي، والشيخ رشيد رضا، والأمير شكيب أرسلان يرون الرأي الثاني كما سنفصله فيما بعد.
أما بعد فهذه لمحة رأينا أن نقدمها بين يدي محاضراتنا؛ لنبين البيئة التي ظهر فيها الشيخ الإمام عبد القادر المغربي، والمحيط الذي نشأ فيه، والحالة الاجتماعية والثقافة التي كانت عليها بلاد الشام في تلك الفترة.
أسرته وسيرته
Bog aan la aqoon
في السابع والعشرين من شهر شوال سنة 1375ه الموافق ليوم 7 / 6 / 1956م فجعت اللغة العربية والأمة الإسلامية بالشيخ الإمام المصلح اللغوي عبد القادر المغربي بعد جهاد طويل في سبيل خدمتهما، والسعي المتواصل لرفعة شأنهما والذب عن كيانهما، دام ستين سنة على أقل تقدير، فقد ولد رحمه الله في 1284ه/1867م، وحمل القلم مجاهدا ومصلحا، وله عشرون سنة، فلم يتركه حتى توفاه الله.
والفقيد من أسرة علمية عريقة في الدين والفضل.
فأبوه هو الشيخ مصطفى بن أحمد بن عبد القادر بن عبد الرحمن المغربي. وعبد الرحمن هذا
1
تولى منصب الإفتاء في اللاذقية وطرابلس والشام مدة 45 سنة، وقد ترجمه المرادي في تاريخه «سلك الدرر»، وقال: إن وفاته كانت سنة 1191ه، وبيتهم في طرابلس، كما في تونس، بيت علم وقضاء وفتيا، استمر ذلك فيهم منذ أن هاجر جدهم «الشيخ محمد درغوث طورغود» من تونس إلى طرابلس في أواخر القرن الحادي عشر للهجرة.
وكان للشيخ أحمد عناية خاصة بتنشئة ولده مصطفى على العلم، فتلقى التجويد على «الشيخ العريف»، وطلب مبادئ العربية على «الشيخ عرابي»، وكان من رفاقه في هذا الطلب مصطفى أفندي كرامة والشيخ إبراهيم الأحدب نزيل بيروت، ثم عكف على تلقي العلوم الدينية من حديث وتفسير وفقه على «الشيخ رشيد الميقاتي»، واشتهر في ذلك العهد «الشيخ يوسف الأسير الصيداوي ثم البيروتي» في فنون العربية وآدابها، فاستدعاه الشيخ أحمد إلى طرابلس للإقامة ضيفا في داره وتعليم ولده، فلبى الطلب، وأخذ يعلمه اللغة والأدب، وقد وجدت في خزانة آل المغربي نسخة مخطوطة من مقامات الحريري في ذيلها إجازة بخط الشيخ يوسف الأسير لتلميذه مصطفى، الذي قرأها عليه قراءة ضبط وتصحيح. ولما بلغ مصطفى نحو العشرين من عمره أحب أبوه إرساله إلى الأزهر لإكمال التحصيل، فذهب في سنة 1268ه ولم تطل مدة إقامته فيه لرمد شديد أصابه، فكتب إليه والده بالحضور إلى طرابلس بعد أن أجازه شيوخه: الباجوري، والرشيدي، والسقا، والمبلط، والدمنهوري. وفي عودة مصطفى إلى طرابلس مر ببيروت، فأجازه مفتيها «الشيخ محمد الحلواني»، وفي سنة 1272ه تزوج بالسيدة أسماء كريمة «الحاج عثمان علم الدين» من كبار تجار طرابلس، وكانت بين الأسرتين محبة وود قديم، ثم توفي والده، وكان عمره بضعا وعشرين سنة، فنشط إلى العمل وضاقت عليه طرابلس، فتيمم دمشق التي كانت مركز ولاية سورية. وكانت طرابلس متصرفية ملحقة بها؛ للاجتماع بعلمائها الأعلام والاستزادة من طلب العلوم، وكان أشد اتصاله بالأمير عبد القادر الجزائري الذي كان حديث العهد بالوفود إلى دمشق، ثم ما لبث أن تولى سنة 1280ه القضاء في محكمة الميدان، إحدى محاكم دمشق الأربع يومئذ، ولم يشغله ذلك عن العلم ومثافنة العلماء، وكان كلما وجد فرصة للعمل شغلها بتأليف رسالة في الفنون الشرعية أو غيرها، حتى تجمع لديه عدة رسائل، وطائفة من هذه الرسائل متوجة بإهدائها إلى الأمير عبد القادر رحمه الله، مما يجدر بنا ذكره في هذه المناسبة أنه في سنة 1310ه زار عبد القادر المغربي في الآستانة الأمير محمد بن عبد القادر الجزائري، فأراه هذا رسالة مخطوطة وقال له: خط من هذا؟ فقال له عبد القادر: خط والدي، ثم تصفح الرسالة، فإذا هي في إعراب بعض ألغاز الشواهد، فقال الأمير محمد: كان والدي تعجبه مناظرة العلماء في مجلسه، وكان له ابن عمه، وهو الشيخ مصطفى التهامي، فكان يثير خلافا نحويا أو لغويا في المجلس حتى يسمع ما يقول العلماء فيه، وكان أشد ما يحتدم النزاع بين المصطفوين المغربيين: المغربي والدك والمغربي ابن عمة أبي الأمير عبد القادر، واختلفا في بيت من أبيات الشواهد النحوية، وبعد أيام وضع والدك رسالة في معنى البيت وإعرابه، وافتتحها بإهدائها للأمير، وهي هذه التي في يدك، وتاريخها 1275ه.
ومن الرسائل التي ألفها مصطفى أبو عبد القادر في تلك الأثناء رسالة «درر التعريف بالحب الشريف» شرح فيها حديث «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إن الله يحب فلانا ... إلى آخر الحديث»، وقد قرظها كل من الشيخ علاء الدين بن عابدين علامة الشام الأشهر، وعلامة آخر اسمه «محمود»، وأغلب الظن أنه «محمود أفندي حمزة» مفتي الشام المشهور. وله رسالة أخرى ضمنها محاورة خيالية، وقعت بين مدن الشام تتسابق إلى الحظوة بولاية «أسعد مخلص باشا»، ومن مصنفاته «منظومة» من بحر الرجز ضمنها قواعد المعاملات الفقهية وحدودها وأركانها وشرائطها، وابتدأها بمسائل البيع فالإجارة فالكفالة فالحوالة فالقضاء، وختمها بمسائل الفرائض. وله رسالة شرح فيها منظومة محمد بن سيفا في العلاقات البلاغية، ورسالة «الدر المنضد في شرح قل هو الله أحد» وقد ألفها لما نزل دمشق، واتصل بأفاضلها وعلمائها، ولا سيما الأمير عبد القادر الذي كان ينتاب مجلسه على الدوام كما أسلفنا، وكان مجلس الأمير لذاك العهد مثابة للفضلاء وكبار العلماء، فكان يحصيهم في نفسه عددا، ويتمنى لو يجمع شتاتهم بعد أن كانوا بددا، فاتفق في بعض المجالس أن جرى بينه وبين سميه الشيخ مصطفى المغربي التهامي ذكر معنى «الصمد» الوارد في سورة الإخلاص، وكان مجلس الأمير غاصا بطائفة من علماء دمشق، فاحتدم الجدال بين المغربيين، وكان الأمير يعجبه هذا النقاش في العلم بينهما إلى آخر ما تقدم ذكره في حديث الأمير محمد في الآستانة، وقال مصطفى أبو عبد القادر في ذلك في مقدمة الرسالة: فاغتنمت ما حل بيني وبين زميلي، وأضمرت في نفسي وضع تفسير على سورة الإخلاص في رسالة موجزة يقتصر فيها على ما قاله المفسرون في تفسيرها ، فألفها ثم عرضها على العلماء لأخذ خطوطهم في تقريظها وتوقيعهم عليها، وقد حدثني عبد القادر المغربي أن عدد هؤلاء العلماء كان عشرين عينا من أكبر أعيان دمشق في ذلك العهد، وفي مقدمتهم شيخ الشام «عبد الله الحلبي»، وعلى ساقتهم قاضيها التركي «مكتوبي زاده محمد أفندي» وتاريخ تقريظه 1283ه، وفي السنين التي بعدها انتقل مصطفى المغربي إلى قضاء اللاذقية وبلاد أخرى في ولاية حلب، فأخذ خطوط بعض علماء تلك البلاد في تقريظ الرسالة، فأصبح عدد التقاريظ ستا وعشرين تقريظا، دل مجموعها ونمط أسلوبها على حالة الثقافة والتفكير في ذلك العهد؛ أي منذ مائة سنة كاملة، وقد طلب إلي الفقيد - قبيل وفاته بأيام - أن أهتم بنشرها، ولكن الأجل وافاه قبيل الشروع في ذلك.
ويظهر من تواريخ هذه المؤلفات والرسائل أن والد الشيخ المغربي أقام في دمشق بين سنتي 1275 و1283ه؛ أي ثماني سنوات قضى معظمها في نيابة محكمة الميدان الشرعية. وكان يزور طرابلس ويعود إلى دمشق لزيارة أصدقائه فيها، لا سيما الأمير عبد القادر والشيخ علاء الدين بن عابدين الذي كان تولى قضاء طرابلس الشام، فكانت بينهما صداقة صميمة، وقد أديا فريضة الحج معا، ثم تولى مصطفى المغربي بعد محكمة الميدان بدمشق نيابة القضاء في اللاذقية سلخ شوال سنة 1283ه/1867م،
2
وكان بعد ذلك يؤم الآستانة ساعيا إلى نيل القضاء في بعض ولايات السلطنة، فتولى بعض النيابات، ثم اقتضته الظروف العائلية أن يرجع إلى طرابلس ويقيم فيها وذلك في سنة 1295ه، وفي خلال ذلك عين عضوا في مجلس إدارة طرابلس، ولم يطب له العمل فيه لكثرة ما كان يعرض عليه من معاملات قانونية لم يكن له بها عهد، ويراها لا تنطبق على أحكام الشريعة، فيأبى الموافقة على قراراتها ، وكان متصرف طرابلس يومئذ إبراهيم باشا (الذي عين بعد طرابلس لمتصرفية القدس الممتازة)، وكان يتململ الباشا بمخالفته ففاتح بذلك الشيخ علي رشيد الميقاتي - أوجه مشايخ طرابلس عند الحكام في ذلك العهد - وقال له: قل لمصطفى أفندي المغربي: إن مجلس الإدارة ما هو مدرسة دينية، وإنما هو مجلس تنفذ فيه الأحكام حسب القوانين الوضعية، وعلم بذلك الشيخ مصطفى المغربي، فجعل من يومئذ كلما عرضت معاملة لتوقيعها يتلهى بقراءة كتاب بين يديه، حتى تمر المعاملة من دون أن يوقعها إلى أن أتم مدة عضويته، فعكف على العبادة ودراسة كتب العلم، ولا سيما صحيح الإمام البخاري فقد كان مشغوفا بتلاوته ومذاكرة أقرانه في مشكلات مسائله، ثم عرضت له مشاكل عائلية ضاق بها ذرعا لعدم تمرسه بأمثالها من الأمور الدنيوية، وقد أثر ذلك في صحته فانتقل إلى جوار ربه سنة 1304ه، وكانت ولادته في حدود سنة 1244ه.
Bog aan la aqoon
هذه معلومات عن أسرة «دارغوث» «المغربي». حدثني ببعضها الشيخ عبد القادر، ونقلت بعضها من أوراق وجدتها بخطه في خزانة كتبه، وإنما ألممت بها لأبين لكم طرفا من أخبار الأسرة التي نبغ فيها شيخنا، والصلات القوية بين أجزاء العالم العربي مشرقه ومغربه، والحركات العلمية والاجتماعية التي كانت عليها بلادنا في القرنين الأخيرين.
هوامش
أوليته
ولد عبد القادر المغربي في اللاذقية، حيث كان أبوه قاضيا، ثم انتقل إلى طرابلس الشام حينما انتقل أبوه إليها، وتلقى العلم فيها على أبيه وأفاضل رجالات أسرته، وكبار علماء بلدته، فكان أبوه يجمع له ضوابط منظومة من قواعد العلوم المختلفة ويحمله على حفظها، ثم ختم القرآن الكريم وهو ابن عشر سنوات، وحفظ المتون العلمية المشهورة كالألفية والأجرومية والسنوسية وجوهرة التوحيد، ثم لزم الشيخ حسين الجسر علامة طرابلس ومؤسس المدرسة الوطنية فيها، وكانت هذه المدرسة أول معهد علمي محدث، وقد وصف زميله في الدراسة الشيخ محمد رشيد رضا هذه المرحلة من عمرهما فقال في مقدمة كتاب البينات:
سبقني المغربي إلى طلب العلم وسبقته إلى مطالعة بعض كتب الأدب والتصوف والتاريخ قبل طلب العلم ...
ولما دخلت المدرسة الوطنية في طرابلس الشام كان هو في الصف الأول من تلاميذها، وكان الشعر والأدب أول أسباب التعارف والتآلف بيننا، وكان موضع عجب مني في اجتهاده؛ إذا شرع في حفظ درس يضع رءوس إبهاميه في أذنيه وبقية أصابعه فوق عينيه، حتى لا يسمع صوتا ولا يرى شيئا، ثم يقرأ ما يريد حفظه قراءة بصوت بين الجهر والمخافتة، ولا وسيلة لجمع الفكر وتوجيه قوة النفس أمثل من هذه الوسيلة، ثم عطلت المدرسة الوطنية وانتقل ناظرها أستاذنا الشيخ حسين الجسر الشهير إلى المدرسة السلطانية
1
في بيروت، وتبعه بعض تلاميذها، فدخلوها ومنهم صديقي صاحب «البينات» ولما تركها الأستاذ، وعاد إلى طرابلس عادوا معه؛ لثقتهم بتعليمه وتربيته، وانقطع إلى تعليم فنون اللغة وعلوم الشرع، والتقينا ثانية عنده في المدرسة الرجبية، فكان لكل منا وجهة هو موليها في العلوم الشرعية، وإنما كنا مشتركين في طلب آداب اللغة والعلوم المصرية ومطالعة المجلات والجرائد حتى المصرية الممنوعة من البلاد العثمانية التي كانت تأتي في البرد الأجنبية لقناصل الدول، فيطلعني عليها بعض أصحابي من أدباء النصارى، فنطالعها مجتمعين تارة أو منفردين أخرى.
2
والحق أن المغربي وصديقه رشيد رضا قد أفادا من شيخهما العلامة الجسر فوائد قومت تفكيرهما ووجهتهما الوجهة الصالحة حتى قال المغربي عنه: «وقد كان شيخي الجسر مصلحا دينيا دقيق النظر، ولكنه مع هذا بقي طول حياته محافظا متحفظا شديد الحذر، وأهم ما استفدناه من طريقه في الإصلاح يمكن تلخيصه مما وقع لي في زمن الحداثة وطلب العلم.
Bog aan la aqoon
ذلك أنني بعد أن تلقيت من دراستي على والدي الاستسلام إلى كل ما جاء في الكتب الموروثة عن أسلافنا الماضين، والتصديق بنصوصها من دون تردد ولا ارتياب، عدت فاقتبست من شيخنا الجسر تعاليم فيها شيء من حرية النقد وانطلاق الفكر، وقد تعلمنا أن النصوص الدينية الموروثة فيها الغث وفيها السمين، وأن بينهما ما هو غير صحيح ولا معقول ولا منطبق على القرآن ولا السنة النبوية الصحيحة فيجب الانتباه إليه والتنبه عليه، والتحذير منه، وتمييز غثه من سمينه، وحقه من باطله، ولتمييز الحق من الباطل في نقل الأخبار طريقتان: (1)
التدقيق في سند الخبر وروايته. (2)
تدقيق النظر في إمكانية الخبر وعدم إمكانيته، وهذا ما قرره الفيلسوف العربي ابن خلدون في الكتاب الأول من مقدمته الذي بحث فيه عن طبيعة العمران ... فكان شيخنا الجسر رحمه الله في درسه إنما يشرح لنا ما قاله ابن خلدون في نظريته، وقد علمنا بأن ندقق الخبر ونعمق النظر، فليس كل نص يقبل، سواء أعقل أم لم يعقل، بل نزن كل ذلك بميزان القرآن والسنة وطبائع العمران
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ، بينما كان والدي رحمه الله، بسبب تربيته الأزهرية، لا يسمح لي في أن أنحو هذا النحو في النظر والتدقيق وإعمال الفكر في التفريق بين النصوص الدينية.
غير أني لما اتصلت بالسيد الأفغاني، وأنعمت النظر في دراسة تعاليمه، انتقلت في حياتي الفكرية إلى الدور الثالث أو الطور الثالث، وهو أن نفهم النص الديني فهما صحيحا، مراعى فيه قوانين اللغة، وقواعد بلاغتهما، ونستوثق من مطابقة النص للكتاب والسنة، ثم نجرأ على التصريح بما فهمنا من النص سواء أوافق رأي غيرنا أم لا. وقد اقتبسنا هذه الطريقة في الفهم من أقوال السيد الأفغاني وتعاليمه المروية المبثوثة في العروة الوثقى أولا، ثم في سائر ما علق بكفنا من كتاباته وكتابات تلميذه الشيخ محمد عبده ثانيا، فالأساس الذي بقي عليه الإصلاح الديني إذن هو تمييز نصوص الدين والحرص على فهمها فهما حرا، مستندا إلى قواعد اللغة العربية وقوانين بلاغتهما، ثم الجرأة في الدعوة إلى الصحيح المعقول من تلك النصوص، واطراح الباطل الدخيل عليها، والجهر بذلك كله من دون جمجمة في قول أو تقية من ذي صول.»
3
والحق أن شيخنا قد مر في دراساته بأطوار أو أدوار ثلاثة:
أولها:
دور الدراسة المنزلية في طرابلس أو الدراسة في المدرسة السلطانية ببيروت سنة (1300ه/1882م)، وقد كان فيه محافظا أشد المحافظة، تلقى فيه علوم الدين الأولية، وحفظ ما حفظ من آي الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف، وبعض المتون الدينية واللغوية والكلامية، وكان في هذا الدور طالبا مستسلما إلى كل ما يسمع، حافظا لكل ما يقال له دون أن يناقش أو يتردد أو يرتاب.
وثانيها:
Bog aan la aqoon
دور حرية الفكر وانطلاقه ومحاكمة ما يسمع، وهو الدور الذي اتصل فيه بالشيخ حسين الجسر (1845-1909م)، وكان الشيخ الجسر هذا عالما فاضلا واسع الاطلاع على الثقافة الإسلامية، تلقى علمه في الأزهر على كبار شيوخه، ثم رجع إلى بلده طرابلس، وكان ذا نزعة إصلاحية، فرأى ما عليه المسلمون من الجهل بحقيقة الدين، وقواعد العقيدة الإسلامية الصحيحة، فعمد إلى تأليف الرسائل الصغيرة ونشر المقالات المفيدة، مقوما اعوجاج العقائد، وعاملا على نشر الإسلام الصحيح، ومن أشهر ما خلف لنا في ذلك كتاباه اللطيفان: «الحصون الحميدية» و«الرسالة الحميدية» في تبيين العقيدة الإسلامية السلفية النقية من الأوضار والضلالات، وقد كان واسع الاطلاع على العلوم الطبيعية والفلسفية فزاده ذلك رسوخا في فهم الدين وتنقيته مما علق به. وقد اتخذ الشيخ الجسر تلاميذه وكتبه جريدة «طرابلس الشام» وسائط لنشر دعوته الإصلاحية، وكان الشابان النابغان الطرابلسيان عبد القادر المغربي ورشيد رضا ألمع تلاميذه وأكثرهم استفادة من طريقته.
وثالثها:
دور التعمق في الدراسة والمناقشة والبحث، وهو الذي اتصل فيه بجريدة «العروة الوثقى» التي كان يصدرها في باريس الإمامان الأفغاني ومحمد عبده، واسمعوه يتحدث إليكم عن أول صلته بالإمامين وجريدتهما فيقول:
أول ما فوجئت باسم جمال الدين كنت تلميذا في المدرسة السلطانية، التي أمر بإنشائها في بيروت الوالي حمدي باشا سنة 1300ه/1882م، وكان ناظر المدرسة يومئذ الشيخ أحمد عباس الأزهري، المشهور في بلاد الشام بعلمه وفضله والتهاب وطنيته، رأيت يوما الشيخ أحمد بين الطلاب، وهم في ساحة المدرسة يرتعون ويلعبون وحوله طائفة منهم، وبيده جريدة يشير بها إليهم، وسمعته يقول لهم وقد سألوه عنها: إنها «العروة الوثقى»، يصدرها السيد جمال الدين الأفغاني، ويساعده في تحريرها صديقي الشيخ عبده المصري، وأفاض الشيخ أحمد في وصف «العروة»، والغرض من إنشائها ووصف الرجلين وعلو مكانتهما، وبدرت منه التفاتة، وإذا تلميذان صغيران يمران أمامه، فأشار إلى أحدهما وقال: هذا ابن الشيخ عبده، وأشار إلى الآخر قائلا: وهو أخوه حمودة، وكنت لا آبه بهذين التلميذين ولا أرتاح لرؤيتهما، فصرت من يومئذ أنظر إليهما بإجلال وأحب التقرب منهما والحديث إليهما، ورجعت إلى طرابلس الشام من المدرسة السلطانية عام 1301ه حاملا إلى صديقي الشيخ رشيد رضا صاحب المنار رحمه الله خبر «العروة الوثقى» ومنشئها، وأخذت أبحث عن أعدادها، وكانت ثمانية عشر عددا مبعثرة لدى بعض فضلاء طرابلس الذين كانت تأتيهم عفوا أو بطلب منهم، فجعلت ألتقطها من عندهم لأنسخها وأعيدها إليهم، وكان شريكي في هذا الحرص الشيخ رشيد، وكان هو ينسخ إليهم من مقالاتها، أما أنا فكنت أنسخها بقلمي من ألفها إلى يائها، ثم جمعت كراريسها في مجلد،
4
ثم يورد افتتاحية العدد الأول ويعلق عليها بقوله: «هذه الفاتحة هي خلاصة برنامج العرض الذي أنشئت مجلة «العروة الوثقى» من أجله؛ تنبيه الضعفاء إلى ما يريده الأقوياء بهم، وشرح الأسباب التي أدت إلى ضعف الضعفاء وقوة الأقوياء، ويريد بالأقوياء سياسيي أوروبا وزملاءهم سياسيي الشرق الذين ساروا على آثارهم، وقلدوهم في استبدادهم بالضعفاء والتفريط في مصالحهم، فالأفغاني وعبده كانا يريدان أن يكون لهؤلاء الضعفاء - وهم المسلمون - دول قوية آخذة بأسباب المدنية والعمران الموصلة إلى العزة والاستقلال مع مراعاة تعاليم الإسلام الأساسية.
فالشيخ المغربي في طوره الثالث هو تلميذ «العروة الوثقى» التي سيطرت على لبه سيطرة عجيبة استمعوا إليه يقول: «أعطيت العروة الوثقى كل وقتي دراسة وتفهما، وكنت أحيانا أعنى بشرح ألفاظها وتعابيرها ... ولا جرم أن «العروة الوثقى» مهدت بين يدي ناشئة العرب مناهج في الكتابة وأساليب الإنشاء ما كانوا يعهدونها من قبل، ونبهت إلى وجوب استعمال كلمات اللغة الفصحى والاستعانة بها على إيراد المعاني العصرية ومطالب الحياة الاجتماعية ... وقد تضمن العدد الأول مما يحتاج إلى الشرح من فصيح اللغة نحو ثلاثين كلمة.»
5
فأنتم ترون أن الشيخ قد فنى في «العروة الوثقى» وفي تدارسها وشرح ألفاظها وانتقادها، وقد ذكر في كتابه عن «جمال الدين» طرفا يسيرا مما كان قد علق على نسخته المخطوطة من «العروة»، أحصى ما فيها من الكلمات اللغوية التي شرحها، فبلغت «في أعداد العروة كلها زهاء خمسمائة كلمة»
6
Bog aan la aqoon
ولا عجب فإن الشيخ كان مفتونا باللغة ومفرداتها منذ نعومة أظفاره.
ولم يكن تأثير «العروة الوثقى» في الشيخ من الناحية اللغوية والأسلوب وحسب، بل من الناحية الفكرية فقد قال: «إني لما اتصلت بالسيد الأفغاني وأنعمت النظر في دراسة تعاليمه انتقلت في حياتي الفكرية إلى الدور الثالث أو الطور الثالث، وهو أن نفهم النص الديني فهما صحيحا مراعى فيه قوانين اللغة وقواعد بلاغتها، ونستوثق من مطابقة النص للكتاب والسنة، ثم نجرأ على التصريح بما فهمناه من النص سواء أوافق رأي غيرنا أم لا. وقد اقتبسنا هذه الطريقة في الفهم من أقوال السيد الأفغاني وتعاليمه المروية والمبثوثة في «العروة الوثقى» أولا، ثم في سائر ما علق بكفنا من كتاباته وكتابات تلميذه الشيخ محمد عبده ثانيا، فالأساس الذي بنى عليه الإصلاح الديني إذن هو تمييز نصوص الدين والحرص على فهمها فهما حرا مستندا إلى قواعد اللغة العربية، وقوانين بلاغتها، ثم الجرأة في الدعوة إلى الصحيح المعقول من تلك النصوص والتعاليم واطراح الباطل الدخيل عليها، والجهر بذلك كله من دون جمجمة في قول أو تقية من ذي صول.»
7
واستمر الشيخ في هذا الدور طوال عمره يدأب ويجد، ويدرس ويجتهد حسب شروط الاجتهاد السابقة، حتى كانت له آراء ونظريات نعرض لها فيما بعد إن شاء الله، وقد تمرس بهذا الأمر تمرسا حينما ازدادت صلته بالشيخين، واجتمع إليهما في الآستانة أو في القاهرة، فأفاد من صحبتهما واجتهد في السير على غرارهما يتتبع آثارهما ويقرأ لهما، ودفعه الشوق لرؤية جمال الدين،
8
وكان في سنة 1310ه/1892م مقيما في دار الخلافة، فسافر إليه وظل في جواره سنة واحدة أفاد فيها منه فوائد جليلة ضمن كثيرا منها في كتابه اللطيف عن جمال الدين، ثم رجع إلى طرابلس عاكفا عن دراسة آثار جمال الدين، وأولع بعدئذ بدراسة آثار الشيخ محمد عبده، واستجاب إلى دعوته الخيرة، وشرع يصدع بالإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي فاستدعاه الإمام محمد عبده إلى مصر حيث المجال للدعوة الإصلاحية آنذاك أرحب وأوسع، ولكن ما لبث الأستاذ الإمام أن لقي وجه ربه
9
فانصرف المغربي إلى الصحافة، وكتب في كبريات جرائد مصر مقالات أثارت العزائم وشحذت الهمم الغافية.
10
يقول رشيد رضا واصفا الحقبة التي سبقت سفر المغربي إلى القاهرة سنة 1905: ولما اشتد اضطهاد الحكومة الحميدية للأحرار، وأصحاب الأقلام والأفكار، وأسرفت في إيذاء قراء المنار، كان نصيب صاحبي ونصيب آخرين من أهل العلم والفضل السجن، فلما أنقذه الله تعالى منه هاجر إلى مصر، فسألت شيخنا الأستاذ الإمام أن يجعله كاتبا للإفتاء عنده، فارتاح لذلك واستكتبني مذكرة لوزارة الحقانية في ذلك، وهو في سرير المرض الذي توفاه الله تعالى فيه؛ لأنه تعالى قدر أن يكون هذا الرجل كاتبا اجتماعيا لا قاضيا ولا كاتبا شرعيا. وهو لو لم يكن موطنا نفسه على هذا العمل، ولا شاعرا بقوة استعداده له، حتى إنه لما دعي إلى الكتابة في الجرائد المصرية استشارني في الموضوعات التي ترجى فائدتها وتلقيها بالقبول، وفي الأسلوب الذي يحسن اختياره، ولعله ما أبهم إمضاءه «المغربي» فلم يصرح باسمه إلا لأن شعوره باستعداده كان دون قوته، كما هو شأن طلاب الكمال الذي لا حد له بعد أن يصيبوا حظا عظيما منه، وأما الناقصون المغرورون، فإنهم يتيهون عجبا بكل ما يخطونه
Bog aan la aqoon
11
والحق أن المغربي لو سلك سبيل القضاء والوظائف الرسمية لضاع في ذلك الخضم، ولكن انصرافه إلى الكتابة جعل منه فردا من بناة حركتنا الإصلاحية، وقد كان في القاهرة يحرر في جريدتي «الظاهر» و«المؤيد» حتى عرفه الناس على الرغم من توقيعه مقالاته بتواقيع مستعارة، إلى أن انزاح كابوس الظلم الحميدي عن البلاد الشامية بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1908م فرجع إلى بلدة طرابلس الشام سنة 1909م.
أخذ المغربي بعد اتصاله بالأفغاني ومحمد عبده يجهر بضرورة الإصلاح الديني والاجتماعي، والتنبيه إلى تأخر المسلمين ولزوم إحداث انقلاب ديني اجتماعي يعود بالمسلمين إلى بساطة الدين وأصوله الثابتة، كما كان يجهر بانتقاد الطريقة التي كان عليها رجال العهد الحميدي في إدارة البلاد العثمانية وأسلوبهم في الحكم مما أخر المسلمين عن أمم الأرض، وكانت رسائله بهذا الشأن لا تنقطع إلى الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، الذي سبقه في السفر إلى مصر عام 1315ه، وقد عثرنا على بضعة أبيات من قصيدة كان المغربي نظمها، يخاطب بها السلطان عبد الحميد، وينتقد سياسته الداخلية انتقادا شديدا وإهماله إصلاح أحوال المسلمين من رعيته وهي قوله:
بلغ أمير المؤمنين نصيحة
تبغي القبول ولا تريد ثوابا
قبر تعمره ببدرة عسجد
وتعيد عمران البلاد خرابا
12
تكسو الدعي الحلة البيضاء إذ
تكسو الشعوب من السواد ثيابا
Bog aan la aqoon
تجبي الضرائب من فقير مملق
تغني بها المتملق الخلابا
تقصي إلى الأطراف كل محنك
وتبيت تدني النوك والأوشابا
كم من بريء صادق حكمت في
حوبائه المتجسس الكذابا
بل هذه الخصيان كيف تقدمت
بيض الفحول السادة الأنجابا؟
ضيعت ملكك وامتهنت رجاله
فعلام تحوي التاج والألقابا؟
Bog aan la aqoon
ثم إن الحكومة الحميدية لم تجد بدا من اعتقاله، فأوعزت «سلطات المابين» في الآستانة بذلك إلى خليل باشا البكدشلي والي بيروت، فحضر إلى طرابلس بنفسه، واعتقل المترجم في أوائل عام 1322ه/1904م ليلا، ثم ساقه إلى بيروت ليلا تحت حراسة شديدة خوفا من هياج الرأي العام وأقارب المترجم، وهم كثيرون، وقد بقي موقوفا عدة أشهر في «دائرة البوليس» بسراي البرج، ثم إن الحكومة وضعت يدها على مكتبته وأوراقه، وأخذ الوالي بنفسه يمعن فيها بحثا وتنقيبا، ولكنها في نهاية الأمر أعادت إليه بعضها بعد خروجه من المعتقل، ولما أفرج عنه بعد أشهر، واتصل ذلك بعلم الأستاذ الإمام الشيخ عبده استدعاه إلى مصر، وقدم إلى وزارة مصطفى فهمي باشا طلبا بتسميته كاتب فتوى لديه، وحين وجد المغربي أنه لم يعد في وسعه البقاء في البلاد العثمانية تحت هذه المراقبة الشديدة من رجال عبد الحميد استطاع الإفلات والسفر خلسة إلى قبرص في الباخرة الخديوية ومنها إلى مصر، فبلغها في 17 ربيع الثاني 1323ه الموافق 20 يونيو 1905م، ولكن المنية كانت قد عاجلت المفتي الشيخ محمد عبده بعد وصوله إليها بقليل، فعكف على الاشتغال بالصحافة محررا في جريدة الظاهر التي كان يصدرها المحامي المشهور إذ ذاك «محمد بك أبو شادي»، ثم دعاه الشيخ علي يوسف للمشاركة في تحرير «جريدة المؤيد» خلفا للمرحوم السيد عبد الحميد الزهراوي، فاتسع له فيها المجال لنشر فكرة الإصلاح الديني والاجتماعي، ونقد أوضاع المؤسسات الدينية ومنها الأزهر الشريف، وقد كتب عشرات المقالات في هذا الموضوع وفي البحوث الدينية واللغوية والأدبية الأخرى، وظل يحرر في «جريدة المؤيد» إلى أن أعلن الدستور العثماني سنة 1908م، فعاد إلى سورية في عام 1909م، وواصل الكتابة في «المؤيد» والصحف المصرية الكبرى كاللواء، والشعب، والعلم، ومجلة الهداية وبعض صحف بيروت، ومما نشره في المؤيد يومئذ مقال بعنوان «حجاب المرأة في الإسلام»، تناقلته عنها الصحف السورية، وكان له تأثير عميق في البلاد، وحمل عليه المحافظون من أجله حملات منكرة.
وفي عام 1911م / 1330ه أنشأ في طرابلس الشام جريدة باسم «البرهان»، وكانت مباحثها تدور حول بعض أمور سياسة الدولة الداخلية، وموضوعات الاجتماع الإسلامي، والدعوة إلى وحدة الكلمة، والعمل على تكوين كتلة إسلامية قوية تستطيع أن تقف في وجه مطامع أوروبا. وكان يمدها بالمقالات بعض كبار الكتاب كالأمير شكيب أرسلان المؤرخ المصلح المشهور، والأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي - أديب فلسطين الكبير - وغيرهما من كبار كتاب العصر، ولكنه اضطر إلى وقفها عند اشتراك الدولة العثمانية في الحرب العامة أواخر عام 1914م؛ لأن أكثر مشتركيها في مصر والهند، وقد دعته الحكومة العثمانية في تلك السنة إلى الانضمام إلى الشيخ عبد العزيز جاويش والأمير شكيب أرسلان، والسفر إلى المدينة المنورة؛ لتأسيس كلية إسلامية فيها، أطلقت عليها الحكومة اسم «معهد دار الفنون»، فأسسوها باحتفال حافل إلا أن نشوب الحرب العامة قضى على ذاك المعهد. ثم أنشأت وزارة الأوقاف العثمانية في القدس عام 1915م كلية دعتها «الكلية الصلاحية»، وكان الغرض منها تخرج علماء ومبشرين بالدين الإسلامي، يجمعون بين العلوم الدينية والعلوم العصرية، فاشترك المغربي في تأسيسها وتنظيم شئونها مع الشيخ عبد العزيز جاويش والأمير شكيب أرسلان، وأخذ يدرس فيها الآداب العربية وفنون البلاغة والسيرة النبوية إلى أن أسست الحكومة العثمانية في دمشق عام 1916م «جريدة الشرق»، وسمته مديرا لهيئتها التحريرية، فانتقل إلى دمشق وأخذ ينشر في الجريدة مقالات في الأدب والتاريخ والإصلاح الإسلامي، ومما نشره فيها عام 1916م مقال بعنوان «النهضة الدينية في الأمة الإسلامية»، دعا المسلمين فيه إلى التجدد ونبذ الخرافات، وقد أحدث دويا في البلاد بين الشيوخ وأرباب التقليد، وأعيد طبع المقال فيما بعد في الجزء الثاني من «كتاب البينات»، ولما رزحت سورية تحت الاحتلال الإنكليزية - الفرنسي في أواخر عام 1918م لزم الشيخ داره وعكف على التأليف، ومن تآليفه التي أتمها في تلك الحقبة تفسيره لجزء «تبارك»، وقد حذا فيه حذو الأستاذ الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء «عم».
وحاول المحتلون الفرنسيون أن يعهدوا إلى الشيخ بعض الأعمال العلمية والدينية، ومنها إفتاء طرابلس للإفادة منه، ولكنه كان يرفض بإباء إذ كان متشائما من الحالة التي آلت إليها البلاد بعد أن رأى الإنكليز والإفرنسيين يقسمون بلاد الشام إلى مناطق ودويلات صغيرة، ويغدرون بالملك حسين حليفهم وينفونه إلى قبرص وكثيرا ما كان ينشد قول أبي العطاء السندي في بني أمية:
أليس الله يعلم أن قلبي
يحب بني أمية ما استطاعا
وما بي أن يكونوا أهل عدل
ولكني رأيت الأمر ضاعا
ولما أنشأت حكومة المرحوم الملك فيصل بن الحسين في دمشق «ديوان المعارف»، الذي سمي فيما بعد «المجمع العلمي العربي» كلفته أن يكون عضوا عاملا فيه فلم يتردد في القبول؛ لأنه رآه بعيدا عن جو السياسة، ووجد أن العمل فيه يساعده على خدمة اللغة العربية ومدها بالمصطلحات العلمية الجديدة، فعكف على العمل في المجمع من وضع مصطلحات علمية وتصحيح أخطاء شائعة وإلقاء محاضرات كثيرة ممتعة في مواضيع مختلفة بلا كلل ولا ملل، وعهد إليه أيضا في عام 1933م بتدريس اللغة والآداب العربية في كلية الحقوق بالجامعة السورية، حتى إذا كان عام 1934م أصدر فؤاد ملك مصر مرسوما بتسميته عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية الملكي بمصر، وهو الذي أطلق عليه فيما بعد اسم «مجمع اللغة العربية»، فكان لا ينقطع عن السفر إلى القاهرة في شتاء كل سنة لحضور جلسات هذا المجمع والمذاكرة مع إخوانه الأعضاء في مواضيعه، وتزويد مجلته بالكثير من المقالات والأبحاث العلمية واللغوية المختلفة.
وكان أصاب «المجمع العلمي العربي» في دمشق عام 1933م بعض الاضطراب، واضطر إلى التوقف لأزمات مالية طارئة، فانقطعت مجلته عن الصدور، إلى أن كان عام 1935م فعهدت الحكومة السورية إلى المغربي برئاسة مجمع دمشق فقام بأعبائها على غير رضى منه؛ لأنه كان يحب البعد عن الأعمال الإدارية التي تحول بينه وبين الانقطاع للعلم والتفرغ للبحث، فأعاد إصدار المجلة كسابق عهدها، ثم عادت الأزمة المالية مرة ثانية في عام 1937م، فتوقفت المجلة أيضا عن الصدور حتى أوائل عام 1941م، ثم أعيد إصدارها بعد أن وضعت لها المخصصات الكافية في الميزانية، وعاد المغربي إلى أعماله العلمية، يشغل منصب نائب رئيس المجمع بعد أن أسندت الرئاسة إلى المرحوم محمد كرد علي، فاستأنف بحوثه العلمية واللغوية وإلقاء المحاضرات الشيقة الممتعة، وفي عام 1941 انتخب عضوا في «المجمع العلمي العراقي» ببغداد، فكان يمد هذه المجامع الثلاثة بآرائه وبحوثه التاريخية والأدبية واللغوية بدون انقطاع إلى أن اختاره الله إلى جواره، بعد أن خلف للخزانة العربية عددا كبيرا من المؤلفات والمحاضرات والأبحاث.
أما مؤلفاته فنتكلم عن كل منها فيما بعد، وأما محاضراته التي تنيف عن المائة محاضرة فقد كان ألقى أكثرها في قاعة المجمع العلمي بدمشق والباقي في بعض المدن السورية واللبنانية والمصرية في غضون ثلاثين سنة، نشر شيء منها في مجلدات المحاضرات الثلاثة التي أصدرها المجموع المذكور، وأما أبحاثه العلمية المتنوعة ومقالاته التي تدور حول الإصلاح الديني والاجتماعي والتاريخ والأدب، فإنها جد كثيرة، وكان نشر معظمها في «جريدة المؤيد» كما أن أبحاثه اللغوية وآراءه في تنمية اللغة والعربية وإحياء ألفاظها وما إلى ذلك، فهي مبثوثة في مجلة مجمع اللغة العربية المصري، ومجلة المجمع العلمي في دمشق.
Bog aan la aqoon
وكان للمغربي شعر هو أقرب إلى شعر العلماء، كان قاله في أول نشأته الأدبية، ثم لما خاض غمار الكتابة والتأليف أعرض عن النظم إعراضا تاما، على أن له بعض المقطعات التي نظمها في بعض المناسبات، وهي متينة التركيب ولطيفة المعنى.
13
وكان المغربي إذا ما قرأ كتابا قديما أو حديثا علق عليه هوامش وتعليقات وشروحا لو جردت وطبعت لبلغت كتابا يفوق الأصل، وقد رأيت في خزانة كتبه الكثير من ذلك، كما رأيت طائفة كبيرة من الكراريس كان لخص فيها في حداثته بعض العلوم الدينية واللغوية والكونية، وشرحا على دواوين البحتري والمتنبي وأبي تمام. وخزانة كتبه تعتبر من الخزائن المشهورة في سورية لما حوته من الكتب المخطوطة في علوم الدين واللغة، حتى إن بعضها يعد من الكتب النادرة، هذا فضلا عن الكتب المطبوعة في مختلف الفنون، وقد كتب الأستاذ المرحوم عبد الله مخلص مقالة طويلة عن نفائس ذخائرها في مجلة المجمع العلمي العربي.
هذه خلاصة أولية عن الرجل وسيرته وحياته العلمية. أما أخلاقه وطبائعه ومزاياه فنوجز الكلام فيها بقولنا: كان حر الفكر صريحا متشددا في رأيه، لا يحيد عنه متى اقتنع أنه صواب، صابرا على هجمات خصومه في سياساته وآرائه الدينية لا يبالي بهم، وكان النصر بجانبه في أكثر الأحيان، وكان بعيدا عن الدنيا وحطامها، لم يسع قط إلى منصب أو فائدة مادية مهما عظمت، وكان كثير الاهتمام بشئون العالم الإسلامي وجمع شتات المسلمين والسعي لرفع مستواهم ومجاراة الأمم الأخرى، والتدليل على أن الدين وأصوله تحض على كل ما فيه الخير للبشر، ويظهر هذا بصورة جلية في مقالاته المنشورة في «المؤيد» وفي كتاب البينات ومحاضراته العديدة، وإن رسوخه وطول باعه في علوم اللغة العربية وأسرارها. ولا سيما تمكنه من علم الصرف، كان يساعده كثيرا على التعمق في فهم النصوص الدينية وأقوال شعراء العرب والألفاظ التي نقلت عنهم واشتقاقاتها وإدراك المراد منها، ويظهر هذا في تفسيره لجزء تبارك، وفي كتابه الاشتقاق والتعريب، ولا ننسى جولاته الواسعة في شرح الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة ودفاعه عنها في مناسبات عديدة، كما أنه كان رحمه الله واقفا بالمرصاد لكل متهجم على الدين الإسلامي أو على اللغة العربية، فكان يقارعهم بقلمه ويدفع الحجة بالحجة، بأسلوب رفيع في المتانة وقوة الدليل، وكان أسلوبه بعيدا عن الإسفاف، ولم ينقل عنه أنه استعمل في ردوده ألفاظا نابية أو عبارات شائنة، كما كان يتصف بصفة قلما جاراه فيها أحد من العلماء في عصره، وهي الصبر على العلم والبحث والتأليف ساعات معتزلا في غرفة عمله، مكبا على كتبه وقراطيسه بلا كلل ولا ملل، وقد نقل عنه أنه في حداثته كان يقبع في غرفته أياما خاليا بنفسه، لا تفتح غرفته لأحد إلا للخادم التي تناوله طعامه.
ومما تجدر الإشارة إليه هو سعيه المتواصل إلى توسيع أفقه العلمي والثقافي منذ فجر حياته، فقد أولع منذ حداثته بدراسة اللغة الإفرنسية وحفظ الشيء الكثير من أشعارها، غير أنه كان يصعب عليه الكلام بها؛ لأنه تلقاها عن الكتب والمعاجم وعن أساتذة سوريين، ولم يتعلمها على أبنائها، وقد كان مع ذلك يحسن الترجمة عنها مستعينا بالمعجم، وقد ترجم أثناء إقامته في مصر رواية «غادة الكاميليا» لإسكندر دوماس، ومثلها الشيخ سلامة حجازي في عام 1908م.
وكان للمغربي في محاضراته العامة ودروسه التي يلقيها على طلابه في الجامعة السورية أسلوب هو الغاية في الطلاوة، كما كان له صوت حسن الجرس جهوري المقاطع، ينحدر كأنه السيل بلا تلعثم ولا توقف، كل ذلك ببيان مشرق، وأسلوب أخاذ بحيث لا يمل سامعه مهما أطال. وكانت له قدرة بارعة على شرح عويصات المسائل العلمية، وأسرار العربية وتقريبها من الأفهام بالشواهد وضرب الأمثال.
هذه صفحة عن نشأة عبد القادر المغربي وسيرته، وهي - كما ترون - صفحة مشرقة تصور حياة شخصية عاملة عالمة قام صاحبها بقسط ليس باليسير في خدمة دينه ولغته وبلاده وقوميته العربية.
هوامش
المغربي الصحفي والمصلح
رأيتم أن المغربي كان مؤمنا بأن الصحافة هي الوسيلة الوحيدة للإصلاح وإنقاذ الأمة الإسلامية من ربقة الجهل والفوضى والتقهقر، وأن أشياخه في الشام ومصر كانوا يتخذونها أداة لإبلاغ آرائهم، ونشر أفكارهم ودعوة الناس إلى مذاهب الخير التي يرتئونها.
Bog aan la aqoon
ولذلك عمد إلى السير في هذا الطريق، فانصرف إلى الصحافة يمارسها، وينشر بوساطتها آراءه منذ أن امتشق القلم في مصر سنة 1905 بعد وصوله إليها بسبعة أشهر إلى أن توفاه الله.
وقد أبقى لنا في خزانة كتبه أضابير جد قيمة أحصى فيها مقالاته الصحفية ورتبها ترتيبا دقيقا كاملا منذ سنة 1905 إلى سنة 1956، وكأنه كان يريد نشرها في مجلدات، فقد صنفها تصنيفا متقنا، وكان قد نشر قسما منها في مجلدين سماهما «البينات» ضمنهما بعض مقالاته التي كتبها ما بين سنتي 1906-1910م.
ونحن إذا رحنا نعرض مقالاته ورسائله الصحفية ونستقرئ بحوثها العلمية والأدبية والسياسية والاجتماعية نجد له في سنة 1905 مقالا واحدا نشره في المقطم، ولعله أول مقال كتبه، وكان عنوانه «التمثيل العربي»،
1
وقد كتب على هامش الجزازة التي تحوي المقالة «كتبتها بعد وصولي إلى القاهرة بسبعة أشهر في سنة 1905م/1323ه»، ولعلها أول مقالة كتبها في مصر.
ونحن إذا درسنا تلك المقالة دراسة دقيقة نجد أسلوبا مشرقا وأفكارا نيرة وملاحظات وتوجيهات تدل على سمو فكر الكاتب على الرغم من ثقافته البسيطة ومحيطه الأولي الذي تخرج فيه. فقد ابتدأ مقالته بتبيين فوائد التمثيل وقرنه إلى صنويه؛ الصحافة والخطابة، بل هو يذهب إلى تفضيله على الصحافة والخطابة؛ لأنه أقربها تأثيرا وأنجعها علاجا في تربية الأمم ووسائل تهذيبها.
ثم شرع في تصوير التمثيل، وكيف أن الممثل يعمد إلى حادثة مشهورة، أو رواية مأثورة فيعرضها على الأنظار، ويقلد رجالها وكل من له مشاركة في حوادثها متحريا محاكاتهم في أزيائهم وهيئاتهم وعادتهم وسائر ملابسهم.
والمغربي في وصفه عمل الممثلين واصف بارع دقيق الملاحظة مبسط للأمور المعقدة، شارح للقضايا الغامضة شرحا يدلنا على دقة تفكيره وسلامة بصيرته وبخاصة حين يقول إن «فن التمثيل إذن محاكاة وتقليد، والتقليد والمحاكاة غرائز من غرائز الإنسان نشأت معه مذ كان على بساط بساطته الأولى، انظر إلى الطفل فإنه لا تمسه نفحة من العقل، حتى يأخذ في تقليد من حوله ومحاكاتهم في أقوالهم وأعمالهم، فلا غرو إن كانت النفوس بالتمثيل أعلق، وإليه أحن وفيه أرغب»، ويبين المغربي بعدئذ أن الهدف من التمثيل هو إصلاح الشعوب وتقويم النفوس والاحتيال على سوق الناس إلى ما يريده بهم المصلحون، إما عن طريق الأساليب البلاغية، أو ضرب الأمثال، أو تصوير الوقائع التاريخية، أو نحت التماثيل أو الغناء، وأن التمثيل هو جماع تلك الفنون إذ يتناول الكاتب المؤلف الحادثة التاريخية فيضربها مثلا يتجلى فيه جمال الفضيلة بأبهى مظاهرها وقبح الرذيلة بأبشع صورها، ثم يكسو ذلك من جلابيب البلاغة والشعر والتلحين والتصوير ما شاء وشاء تمكنه من نواحي تلك الفنون.
ثم يذكر المغربي اهتمام كتبة الفرنج بالتأليف في فن التمثيل؛ لأنهم وجدوا فيه ضالتهم من قيادة الشعب وسوقه من حيث يشعر أو لا يشعر إلى تربية ملكاته، ثم يلتفت المغربي بعدئذ إلى قومه فيرى حالتهم الاجتماعية المتقهقرة، ويتمنى أن يعظم شأن هذا الفن الاجتماعي الإصلاحي بين ظهرانيهم، ثم يثني ثناء طيبا على رائد هذا الفن في مصر الشيخ سلامة حجازي، ويصفه بأنه ممثل بارع ممتاز ببراعته، وبذلك وسعه في تحسين الفن والسعي لإتقان أساليبه حتى كاد يتجاوز به طور الطفولية، فيجب على أفاضل البلد وجمهور الكتاب أن يشجعوه ويشدوا أزره فيما يهدف إليه.
ولا ينسى المغربي أن يحرض من آنس من نفسه استعدادا وميلا فطريا إلى هذا الفن أن يعكف عليه، وأن يتأهب له أهبته بالإكثار من قراءة الروايات الإفرنجية واستظهار جيدها وترجمة المفيد منها، ثم يعرض بهذه المناسبة إلى موضوع ترجمة الروايات والتمثيليات التي هب الناس في ذلك الوقت إلى ترجمتها، فينقدها نقدا علميا صحيحا، ثم يعرض إلى الروايات المؤلفة ويقارن بينها وبين الروايات المترجمة ويقول: «ومن أوتي حظا من الفهم في هذا الفن أدرك لأول وهلة الفرق بين الروايات المترجمة والأخرى الموضوعة وضعا فإن حوادث الأولى تسرد على نسق غريب في أسلوب عجيب فهي كأنها متكافلة طورا، يفسر السابق اللاحق وآونة يوضح المتأخر المتقدم.» ولا يسمع السامع حادثة منها حتى تنشب أنفاسه في حلقه مبهوتا متشوقا إلى معرفة ما يليها فإذا سمعه وقع من نفسه موقع الدهشة والاستغراب، وليس كذلك الروايات الأخرى - أي الروايات المؤلفة - حتى ما ينسب إلى أشهر المشتغلين في الفن، ويطيل المغربي في نقد الروايات المؤلفة ثم يقول: إن كتابها يغفلون عن إيضاح مغزاها والغرض المفيد الذي وضعت من أجله من حث على فضيلة أو تغيير رذيلة بعبارات جلية وأساليب واضحة بحيث تسترعي أسماع النظارة، ولا ينسى أن يوجه ملاحظاته في آداب الاستماع والاعتبار، وبما يجب على النظارة أن يتحلوا به من الحشمة فيقول: «أما النظارة المتفرجون فإن أكثرهم لاه عن تعرف الأسرار بهتك الحجب والأستار، مشغول عن تفهم الحكم والفضائل بما فوقه مائل وليس تحته طائل، إنه يحسن بنا أن نتشبث بالحشمة والوقار وندع الطيش وخيانة الأبصار ونترك كثرة اللغط والضوضاء، سيما عندما يروقنا شيء من أقوال الممثلين وأفعالهم، فإن اللغط يحرمنا فهم تتمة السياق؛ بل ربما شوش على الممثلين أنفسهم، فلا يدرون أيمضون في حديثهم أم يسكتون، بينما يفرغ القوم من جلبتهم وضوضائهم.»
Bog aan la aqoon
هذه هي ملاحظات المغربي وأقواله في وصف مسارح التمثيل المصري قبل نصف قرن، وهي لعمر الحق ملاحظات جد لطيفة، وأقوال تدل على عمق الملاحظة.
أما لغته في مقاله هذا فهي كما ترون لغة بسيطة قريبة المنال أفلت فيها من كثير من قيود الكتاب في عصره ومن صناعاتهم اللفظية، اللهم إلا بعض السجعات والجمل المترادفة، والمفردات المتكررة التي تدل على أن الرجل كان حتى ذلك الحين متأثرا بالأساليب القديمة على الرغم من محاولته التملص منها. وسنرى أنه في مقالاته التالية سينطلق شيئا فشيئا من قيود الكتابة القديمة ويسيل قلمه بقوة عجيبة.
ولما أطل عام 1906م انخرط المغربي في المحيط المصري، وانضم إلى أسرة جريدة الظاهر التي كان يصدرها الأستاذ محمد أبو شادي - كما قلنا - فأخذ يحبر المقالات الاجتماعية والإصلاحية، ومن يستعرض هذه المقالات يجدها تبحث في «سيء العادات ووجوب الانتباه إليها والذهول عنها، والخلاص منها»، وفي «استهتار العامة بمصر وما يجب على العلماء نحوهم» وفي «الفضائل فرائض»، وفي «حياة الأمة في ثروتها»، وفي «الأمة كالفرد في أطواره وبلوغ استقلاله»، وما إلى هذا من المباحث الاجتماعية. كما نجد له مقالات تربوية ولغوية رائعة كمقالته التي عنوانها «إحياء اللغة العربية الصحيحة في نفوس العامة» ومقالته، التي كتبها إثر تولي الزعيم سعد زغلول نظارة المعارف العمومية، وعنوانها «ناظر المعارف الجديد سعد باشا زغلول وما ينتظره من القطر»، وقد عرض في هذه المقالة النفيسة إلى كثير من القضايا التربوية الإصلاحية الهامة فناقشه خير مناقشة، ومما يلاحظه المرء في المقالات الكثيرة التي كتبها في «الظاهر» هي بحوثه في نقد الكتب وتقريظها كبحثه عن «ابن حزم وكتابه في الأخلاق»، وبحثه عن كتاب أستاذنا العلامة المصلح بدر الدين النعساني الحلبي المسمى «بالتعليم والإرشاد»، وبحثه عن كتاب «أساس الشرائع الإنكليزية »، الذي ترجمه الأديب السيد نقولا حداد، وغيرها من الكتب المفيدة التي ظهرت في تلك الحقبة، وكان لظهورها أثر في المجتمع العربي.
ومما يلحظه المرء عن كتابات الشيخ المغربي في جريدة الظاهر في تلك الحقبة مقالته القيمة عن «الكلية المصرية» ومشروع إنشائها، ويقصد بالكلية نواة الجامعة التي كان الناس يتهامسون عن وجوب إنشائها، فقد كتب مقالين، بين في الأول منهما ضرورة تكوين هذه الكلية، وبين في المقال الثاني أن ثمة أناسا يعملون في الخفاء على تثبيط همة القائمين بهذا المشروع الجليل، ومما يلحق بهذه البحوث مقاله عن التعليم في «الأزهر وإصلاحه»، فقد أبان الحالة السيئة التي بلغها هذا الجامع العتيد، ودعا المصلحين إلى تقويم اعوجاج طريقة التعليم فيه بالأخذ بالأساليب الجديدة التي ستطبق في «الكلية المصرية».
وفي هذه السنة (1906) انتقل الشيخ إلى أسرة الجريدة المصرية الكبرى، التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف باسم المؤيد، وفي هذه الجريدة أخذ المغربي يعالج بعض القضايا السياسية بعد أن رأيناه في «جريدة الظاهر» منصرفا إلى معالجة القضايا الأدبية أو الاجتماعية أو اللغوية، فنراه يكتب مقالا مطولا بعنوان «العالم الإسلامي في الشهور الأخيرة»، حلل فيه أوضاع المسلمين السياسية، وما يجب عليهم أن يعملوه ليلحقوا بركب السياسة العالمي، ويتخلصوا من ربق الاستعمار الجاثم على صدورهم.
كما ينصرف إلى معالجة شئون الأزهر معالجة جذرية - كما يقولون - فيكتب المقالات الطويلة التي يحلل فيها أوضاع الزهر من إدارية وتدريسية ويسهب في ذلك ويطيل ، ومن أروع هذه المقالات أربع، عناوينها «كلمة حق في الأزهر والأزهريين»، و«أزهري يخطب في الأزهريين»، و«كلمة إنصاف في الأزهر والأزهريين»، و«نموذج من إصلاح الأزهر»، وقد وفى الموضوع حقه وقتله درسا وتمحيصا، وكيف لا؟! وهو العالم المتحمس المخلص لدينه، الذي رأى فساد هذه المؤسسة التعليمية الكبرى وسوء طرائق تعليمها وتقهقر رجالاتها، وكتبها عن متابعة سير ركب العلم الحديث، فساءه ذلك، وأخذ يتفنن في بحث طرائق الإصلاح، ومما يعجبني له في هذه الفترة مقالاته التربوية المفيدة التي نشرها في المؤيد عن «تربية أطفال المسلمين الدينية» وكيف يجب أن تكون، وما هي الكتب التي يجب أن يقرءوها، وما إلى ذلك من المباحث التربوية المفيدة، وله في هذا المبحث سلسلتان من المقالات التعليمية، أولاهما بعنوان «درس في الدين لابن ثمان سنين»، والثانية عنوانها «معاتب لا مشاكس مع ناشئة المدارس» وقد أظهر في تينكم السلسلتين أنه مرب منصف يغار على الشبيبة الإسلامية، ويحرص على تقويم اعوجاجها، ويختار لها أحدث الطرق التهذيبية لتبلغ المستوى الرفيع الذي بلغته شبيبة الأمم المتمدنة من أوروبا وأميركا.
هذه صورة خاطفة عن مقالات شيخنا المغربي التي دبجتها يراعته سنة 1906م في جريدتي الظاهر فالمؤيد. حتى إذا ما جاء عام 1907م رأيناه ينصرف إلى تحبير المقالات السياسية والاجتماعية والأدبية في «المؤيد» إلى أن غدا من أركان الصحافة في مصر، ويطير صيته وتذيع شهرته في العالم الإسلامي والعربي، ويكاتبه الأحرار والمفكرون في العالمين، يطلبون إليه معالجة بعض القضايا العامة، فانبرى لها بقلمه، وكله إخلاص وصدق وعلم عميق وأسلوب رائع.
ومن أروع مقالاته السياسية مقالته «مصر والسياسة» التي حلل فيها الأوضاع السياسية في مصر، وبين أن الزعامة في العالم العربي والإسلامي يجب أن تكون لمصر لما منحها الله من الثروة، ولما لها من الإمكانيات المادية والمعنوية، وقد وسع هذا البحث في مقال آخر عنوانه «مصر والأقطار العربية» ذكر فيه أن مصر تتوسط الأقطار العربية في الشرق والغرب، وأنها لعبت في الماضي أدوارا هامة في حياة هذه الأقطار فعليها في هذه الحقبة التي أشرقت فيها شمس النهضة العربية أن تعود إلى سيرتها الأولى، ولا ينسى أن للأقليات المصرية من أقباط ومسيحيين مكانة هامة في تاريخ البلد قديما وحديثا، فيكتب في ذلك مقالا جد نفيس يمتدحهم فيه، ويبين الصلات الطيبة التي كانت تربطهم بإخوانهم المسلمين، وأنهم كانوا دوما يدا واحدة؛ ويتراءى له من خلال الحجب أن الأجنبي المستعمر ربما حاول استغلال الناحية الدينية وإثارة العصبيات الطائفية، فكتب في ذلك مقالا عميق التفكير بين فيه أن «التسامح من أعظم قواعد ديننا الحنيف»، وأن المسلمين كانوا دوما قدوة صالحة لشعوب الأرض في التسامح، وأن الفتح العربي كان أفضل الفتوح. وأن التاريخ العام لم يعرف فاتحا أرحم من العرب. ويحس الشيخ بالدسائس الأجنبية التي تحاك ضد مصر منذ ذلك الأمد ويرى الحبائل الاستعمارية المستترة بستار العلم تسعى إلى تشكيك المصريين في عروبتهم ووطنيتهم، وتعمل على زعزعة إيمان العامة منهم بجدارتهم بالاستقلال، وأن مصر بلد مستعمر منذ القديم، فيكتب في ذلك مقالين من أروع ما كتب في سجل القومية والوطنية عنوانهما «مصر مستقلة بشهادة التاريخ»، عرض فيه إلى استقلال مصر منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث، وبين فيه مواقف مصر الخالدة، وما كان لها من آثار على الإنسانية جمعاء.
هذه بعض مقالات شيخنا في الحقل السياسي الداخلي، أما مقالاته في حقل السياسة الخارجية التي تنتظم شئون العالم الإسلامي، فنجد بعضها في مقالاته عن «مراكش ما لها وما عليها»، التي بين فيها سوء الحالة الداخلية التي كانت عليها مراكش قبيل الاحتلال الفرنسي، والتي دعا عقلاءها إلى حل الخصومات الداخلية بالحسنى، فإن العدو يتربص بهم، وقد كان للمغربي باع طويل في محاربة الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا بصورة عامة، وبرهان ذلك ما كتبه جلالة السلطان سيدي محمد الخامس بن يوسف عنه في كلمته السامية التي وجهها إلى لجنة تأبين المغربي، وفيها جاء: «وما نسينا ولن ننسى موقف الشيخ عبد القادر من القضية المغربية في عهد الأزمات الأخيرة، إذ كان في الصف الأول من المناضلين عن حق المغرب العربي في الحرية والكرامة.»
ومن مقالاته في السياسة الخارجية مقاله المعنون «إسبارطة وأميركا» وقد بحث فيه بحثا سياسيا رائعا عن سياسة أميركا القاسية وبين أن هذه طريقة غير حميدة، وأن القوة هي التي سوغت قسوة أميركا.
Bog aan la aqoon
ومن مقالاته السياسية الهامة مقالته عن بلاد جاوه وما إليها، فقد فند فيها مزاعم الاستعماريين الهولنديين، وحرض سكان تلك البلاد على الثورة على الظلم، والقيام في وجه المستعمر، الذي استطاع بتنظيم شئونه أن يقهر شعبا عظيما عديدا ذا إمكانيات وثروات هائلة كالشعب الأندنوسي.
هذا طرف من المقالات السياسية الهامة التي نجدها للشيخ في هذه الفترة .
أما مقالاته الإصلاحية فتتجلى في مقاله عن «المولد النبوي الشريف والاحتفال به»، ومقاله عن «الدين وأطفال المصريين»، وقد ناقش فيه الأستاذ إدريس بك راغب الذي استحسن أن لا يعلم الدين في المدارس المصرية؛ ليكون المصريون علمانيين، ويسود التفاهم بينهم وبين إخوانهم الأقباط، وقد عالج الشيخ هذه القضية معالجة حكيمة أثبت فيها أن الدين الإسلامي بتسامحه وسمو مبادئه لا يحول دون الألفة؛ بل هو على العكس مدعاة لتطهير قلوب العامة والصغار من أدران التعصب البغيض.
ومن مقالاته الإصلاحية مقالته في «وصف حفلة مشهودة» نقد فيها جماعة من الصوفية ومشايخ الطرق الذين كانوا يقيمون حلقات الذكر، ويدعون الأجانب للتفرج عليهم. وقد رد عليه شيخ مشايخ الصوفية آنئذ وهو السيد البكري، ولكن الرأي العام أيد وجهة نظر المغربي الإصلاحية.
ومن مقالاته الإصلاحية الطريفة التي تبين شدة حرصه على الدفاع عن الإسلام الصحيح مقالته التي تخيل فيها حديثا جرى بين نزيلين في مصر أحدهما مسلم يدعى محمودا، وثانيهما مبشر يزعم أن المصريين لا يصلحون للاستقلال، وقد ألقم محمود المبشر حجرا وأبان له أن التبشير ومن ورائه الاستعمار فاشلان في محاولاتهما الظالمة الرامية إلى الطعن في كفايات المصريين وغيرهم من الشعوب العربية والمسلمة.
وفي طليعة مقالاته الإصلاحية التي كان لها دوي هائل سلسلة مقالاته التي جعل عنوانها «حمامة الأزهر»، ومقالته «فتاة إنكليزية تصف الأزهر»، ومقالته «فتاة إنكليزية تصف المحمل» فقد ضمن هذه السلسلة أفكارا جريئة في انتقاد الأزهر وشيوخه وطريقتهم القديمة العقيمة.
ولم يقتصر المغربي في مقالاته هذه على مباحث السياسة والاجتماع؛ بل كانت له جولات في ميدان الأدب، ظهرت في نقده لعشرات من الكتب الأدبية واللغوية التي طبعت في ذلك الوقت، كما تجلت في سلسلة أدبية طويلة كتبها بعنوان «أمالي أدب في لغة العرب»، وقد ضمنها كثيرا من مقروءاته المنتقاة، وملاحظاته الأدبية.
هذه جولة مع شيخنا حول أعمدة «المؤيد» في مقالاته التي كتبها عام 1907، وقد استمر على طريقته هذه طوال عام 1908 حتى إذا ما أعلن الدستور العثماني وخلع السلطان عبد الحميد رجع إلى الشام ، وابتدأ عهدا جديدا من حياته.
تعشق المغربي الصحافة، واتخذها سلوة ومتعة، وحرفة فانصقل أسلوبه، وأشرقت ديباجته، وذاع صيته في مصر وسائر أنحاء العالمين الإسلامي والعربي. ولما رجع إلى الشام في عام 1909 استمر يراسل الصحف المصرية الكبيرة كالمؤيد، واللواء التي كان يصدرها الزعيم مصطفى كامل والشيخ عبد العزيز جاويش، وجريدة العلم، والمقطم، وغيرها من كبريات الصحف المصرية، كما شرع يكتب الفصول الإصلاحية في جرائد سورية كجريدة الاتحاد العثماني البيروتية، وجريدة طرابلس الشامية، وجريدة القبس الدمشقية، وجريدة المفيد البيروتية. ثم رأى أن يشمر عن ساعديه، ويحترف مهنة الصحافة، فأصدر في طرابلس الشام «جريدة البرهان» في غرة محرم 1330ه (22 كانون الأول/ديسمبر 1911م)، وقد ترجم في افتتاحية العدد الأول نفسه وما لاقاه من الويلات والمآسي في سبيل حرية فكره، وتعشقه لخدمة القضايا العامة، واستسهاله كل صعب في سبيل الإصلاح، ورفع مستوى أمته قال: «إذا مرت ببالي ذكرى أيام طفولتي، مر بجانبها ذكرى كراسة صغيرة جمع لي والدي فيها أبياتا شعرية تتضمن ضوابط نحوية وفقهية، ومسائل شتى في مختلف العلوم اللغوية والدينية، ثم انتقلت من حجر الأسرة إلى حجر المدرسة، وكان مديرها أستاذا من أكبر أساتذة العلم والدين في بلادنا السورية، وفي هذه المدرسة تنبهت إلى أنه ليس كل ما عزي إلى الدين كان صحيحا؛ بل إن هناك مسائل مدسوسة.
كانت هذه المدرسة ابتدائية، فلم يكن يدرس فيها شيء من العلوم العصرية العالية، وأذكر أنني رأيت مرة أحد معلمي المدرسة واقفا في ساحتها وحوله فئة من التلامذة، وبيده مجلة المقتطف، فسمعته يشرح لهم الغرض من إنشاء هذه المجلة، ففهمت إذ ذاك أنه يوجد في الدنيا علوم أخرى وراء علوم الدين، وأنها تؤثر في ارتقاء البشر، ثم سافرت من بلدي إلى مدرسة أخرى أرقى من الأولى، وقد اتفق لي في هذه المدرسة أيضا أنني رأيت الأستاذ ناظرها أمسك بيده عددا من جريدة العروة الوثقى، وأخذ يخطب في تلامذته، ويذكر لهم شيئا من سيرة مؤسسي الجريدة ومبلغهما من العلم، والغرض الذي أنشآ هذه الجريدة من أجله، ثم استطرد إلى وصف حالة العالم الإسلامي وما وصل إليه المسلمون من الجهل والوهن والتفرق؛ من حيث أدى هذا جميعه إلى طمع دول أوروبا بهم، ففطنت منذ سمعت هذا القول إلى ما لم أكن فطنت له من قبل وقلت في نفسي: إنه يجب على المسلمين إذن السعي في حفظ استقلالهم السياسي وإلا استعبدتهم الأمم، وجعلت من يومئذ أهتم بالمسائل السياسية وأتصفح ما ينشر من الكتب والرسائل فيها، ومن ثم تولد في نفسي الميل لخدمة أمتي من طريق فن الصحافة، هذا هو السر الذي دفع بالمغربي في عالم الصحافة، فإنه رأى أنها الوسيلة الوحيدة للإصلاح، فأخذ يحاول الكتابة، ثم أخذ يكتب وينشر، ثم عزم على امتهان هذه الحرفة، وقد بين لنا سرا آخر دفعه إلى احتراف هذه الصناعة فقال: لما جاء دور العمل وأردت ممارسة الأشغال الدنيوية، كان سعيي بالطبع موجها نحو العمل الذي يلائم الوسط الذي أعيش فيه، فيممت دار السعادة بقصد الدخول في مكتب النواب، ثم حال بيني وبين المضي في الأمر حائل اضطرني للرجوع إلى وطني فأبت إليه، ولزمت أستاذي الأول وأخذت في دراسة العلوم، ثم عينت موظفا في المحكمة الشرعية. هذا هو الظاهر من حالتي، ولكن هناك باطن يجول فيه سر خفي، وتكمن تحت رماده شرارة لا تنطفي، وليست هذه الشرارة سوى حركة النفس في تدبر أحوالنا الاجتماعية والاهتمام بشئوننا السياسية، وترديد الشكوى من موقفنا المنحط عن مواقف بقية الأمم، وقد أتاح الله لي صديقا حميما (هو السيد محمد رشيد رضا)، نفسه في الميل نفسي وهمه في الحياة همي، فكانت صداقته عاملا قويا في تكوين ميلي الصحافي ونزوعي نحو الاشتغال في الشئون العامة، وهو اليوم من أكبر رجال الصحافة وأشهر دعاة الإصلاح، ولم يكن منزعي وفكري ورأيي الاجتماعي ليخفى على من حولي من أهلي وأناسي، فكانوا ينذرونني بيوم شديد من أيام السلطان عبد الحميد، ولم أنس متصرف طرابلس وقد هالته رزم الأوراق وأضابير الرسائل التي ألقيت بين يديه، فجعل ينقر فيها ويشكو التعب من قراءتها، ثم حانت منه التفاتة ، فرأى دفترا صغيرا لخصت فيه نتفا من شئون ممالك أوروبا، فجعل يقلب يديه ويزوي حاجبيه ويقول: موظف في المحكمة الشرعية ما شأنه وشأن إيطاليا وفرنسا وروسيا. هبني نسيت هذا كله، فهل تراني أنسى والي بيروت، وقد تناول من مجموعة كتبي مجموعة أعداد العروة الوثقى، فطفق يقلب صفحاتها، وينظر في تاريخ كتابتها، ثم هز رأسه وجمجم كأنه يقول: شاب في البضع عشرة سنة من سني حياته يكتب بقلمه جميع أعداد العروة الوثقى حتى التلغرافيات والوفيات، ويعلق عليها هوامش تفسر كلماتها ... إلى السجن إلى السجن ...»
Bog aan la aqoon
ويمكث شيخنا المغربي مسجونا في دائرة الشرطة ببيروت نحوا من سنة ثم حين يرى نفسه طليقا يعزم على الرحيل إلى مصر، ويصل إليها هاربا لاجئا، ثم ينضم إلى أسرة الجريدة الكبرى «المؤيد»، فيفرح بذلك فرحا عظيما يبينه لنا قوله: «ثم بعد حين من الزمان رأيتني في إدارة جريدة المؤيد وحولي طائفة من كبار الكتاب المبرزين في حلبة الإنشاء، والعاكفين على خدمة الصحافة، وقد قضيت ثمة سنتين ونيفا حتى تأذن الله بانتشال الوطن من مخالب المحن فأسرعت الكرة إليه ونزلت بآمالي عليه»، وما أن حل أرض الوطن حتى سكنت نفسه بعد اضطرابها وعزم على خوض معركة الإصلاح فأصدر جريدة «البرهان». ولقد ظلت البرهان منارا لأولي الفكر، ومألفا للكتاب من مستنيري الشيوخ والشباب، على نمط زميلتها «المقتبس» التي كان يصدرها المرحوم الأستاذ محمد كرد علي في دمشق إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى، فاضطر إلى وقفها فتوقفت عن الصدور في 20 آب (أغسطس) سنة 1914.
وفي خزانة المغربي مجلد ضخم ضم أعداد «البرهان» منذ يوم صدورها إلى يوم توقفها، وقد كنت زرته مرات فحدثني عن هذه المجموعة وأراني إياها وأعلمني بشدة حرصه عليها، فتصفحتها وقرأت أكثر مقالاتها وبحوثها التي تدل على سعة أفقه وشدة حرصه على خدمة أمته، وبعده عن الإسفاف والقضايا الخاصة، أو المنافع الشخصية، أو المهاترات، وقد ذكر في العدد الأول منها أن «الصحافة ليست من صنف التجارة التي يتمتع صاحبها ببيع الحبر والورق أو ابتياعهما، بل هي فئة من أصحاب الأفكار المتنورة تجمع على الدوام بين مصالحها الذاتية والمصالح المشتركة مع الوطن وأبنائه، وتبذل جهدها بترويج الأمور التي تراها نافعة للمملكة وبيان الوسائل الفعالة لإزالة كل ما تراه مضرا حسب قناعتها الوجدانية، وإذا كانت نتائج الخدمات الحسنة التي تؤديها إلى الوطن الجريدة العارفة بوظيفتها حق المعرفة والقادرة على القيام بها أعظم ما يتصور، فكذلك النتائج المضرة التي تنشأ عنها. والمحافظة على شرف المطبوعات تكون بمقدار درجة ترفع أصحابها عن اتخاذها آلة للأغراض الشخصية، على أنه متى كانت الغاية المشتركة بيننا وبين المطبوعات سلامة الوطن وسعادته، فإن المساعي المختلفة تتحد حالا وانتقادات الجرائد وملاحظتها المنبعثة عن عواطف وطنية محضة وضمن دائرة الأخلاق والآداب هي تجاه الآراء العمومية، وبنوع خاص تجاهنا نحن معشر المأمورين من قبيل الاستشارة التي تنبه أفكارنا، وتسهل علينا التوفيق في وظائفنا.»
هذا ولا ينسى المغربي دوما نزعته الإسلامية العثمانية فقد كتب وأسهب في وجوب «تسكين المملكة وتوطيد دعائم الائتلاف والصفاء بين جميع العناصر العثمانية بلا استثناء، وبعبارة أخرى بين جميع أبناء هذا الوطن العزيز المنقسمين إلى جماعات تحت أسماء مختلفة، والعمل على تقوية الروابط الوطنية الجامعة بينهم»، هذه هي عقيدة المغربي الوطنية: إسلامية أولا، وعثمانية ثانيا، وقد ظل مؤمنا بهذه الفكرة حتى آخر عمره، أما القومية الضيقة فإنه لم يكن من أنصارها؛ بل كان ممن عملوا على محاربتها، وظل يسعى جاهدا لإصلاح حالة الإمبراطورية العثمانية ، وعلى هذا دأب طوال إقامته في مصر في العصر الحميدي، ثم بعد أن رجع إلى طرابلس الشام وأصدر البرهان سار على تلك الخطة، فحارب كل دعاة التفرقة الإسلامية - العثمانية، وقد رأى رجال الدولة العثمانية منه ذلك، فوثقوا بصدقه وإخلاصه في دعوته، فطلبوا إليه أن يشرف هو وجماعة من رجال الفكر العرب المؤمنين بهذه الفكرة على إنشاء معهدين في قلب العالم العربي لإحياء فكرة الإسلام ومحاربة الأقليميات وتأييد الفكرة الإسلامية - العثمانية، وكان أول هذين المعهدين في المدينة المنورة، وثانيهما في بيت المقدس باسم كلية صلاح الدين. فقام بعمله هذا بطلب من قائد الفيلق الرابع أحمد جمال باشا أحسن قيام هو وزملاؤه الثلاثة الشيخ عبد العزيز جاويش، والأمير شكيب أرسلان والشيخ بدر الدين النعساني.
2
ولما أمرت الدولة العثمانية أحمد جمال باشا ناظر البحرية العثمانية، وقائد الجيش الرابع العثماني، والقائد الأعلى لسورية، وبلاد العرب في سنة 1916م بإصدار جريدة «الشرق» للدعاية للدولة العثمانية في الأقطار الإسلامية، جمع في دمشق نفرا من حملة الأقلام العربية لإصدار تلك الجريدة، وفي طليعتهم السادة:
صاحب امتيازها:
خليل أفندي الأيوبي الأنصاري.
والمدير المسئول:
محمد تاج الدين أفندي الحسني.
ورئيس الهيئة التحريرية:
Bog aan la aqoon
الأمير شكيب بك أرسلان مبعوث حوران.
ومدير الهيئة التحريرية:
الشيخ عبد القادر أفندي المغربي.
ومدير الإدارة:
علي حكمت ناهيد بك.
وجعل لها محررون ومترجمون أخصائيون ومستخدمون، كما جعل لها وكلاء ومكاتبون في دار الخلافة والعواصم الكبرى ... فصدرت يوم الخميس في 25 جمادى الثانية 1334ه/27 نيسان 1916م.
أما خطتها فقد ذكرت في المقال الافتتاحي وإليكم خلاصته: (1)
إيجاد وحدة كافية بين الأمم والشعوب الإسلامية سواء أكانوا تابعين للحكومة العثمانية أو كانوا تحت إدارة أجنبية. (2)
الحث على رعاية الطوائف العثمانية الأخرى غير المسلمة ممن جمعتهم والمسلمين الرابطة الشرقية والتابعية العثمانية وتأمين راحتهم. (3)
الدفاع عن حوض دولتنا العثمانية ومقام الخلافة الإسلامية، وبيان ما لها من المآثر والمواقف في خدمة الإسلام والمسلمين. (4)
Bog aan la aqoon