ولكنها مع هذا لا تستطيع أن تنسى ذلك اليوم الذي أشرفت فيه على الغرق: حين غمرها الماء ثم صعدت إلى الهواء فلقفت أنفاسا وراحت تمد يديها دون أن تدري إلى أي شيء تمد هاتين اليدين ثم غمرها الماء، فهي في هلع وصعدت لتختطف من الهواء بضعة أنفاس أخرى ثم يغمرها الماء، لم تكن تفكر في هذه اللحظات في شيء، إلا أنها كانت كلما صعدت إلى سطح الماء تذكرت أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكن جهلها بالعوم لا يمهلها أن تقول شيئا، فهي ما تلبث أن تعود إلى الغمرة مرة أخرى ولا يعني ذهنها شيئا، وتشبثت بهما وصعد فمها إلى الهواء وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ولكنها في هذه المرة كانت تحمل معنى العودة إلى الحياة بعد أن كانت تريد أن تقولها في وداع الحياة.
وحين استقر جسمها على الأرض أحست أنها تكره ذلك الفتى الذي أنقذها؛ فقد كانت واثقة في لحظتها تلك أنه هو وحده السبب في غرقها، وأنه لولاه ما ألقى بها الملائكة إلى براثن التهلكة، قليلا ما أحست بكره فتاها، وما أضأل الكراهية التي أحست بها نحوه، كغلالة من دخان لا تحجب ولا تعتم ولا تكاد ترى، قليلا ما أحست بهذا الكره، ثم أنا المخطئة، إنه أنا التي كنت أفكر فيه وليس هو، أحببته كما كنت أحبه ولم أزد؛ فما كان ثمة في قلبي مكان لزيادة كنت أحبه بعد الله وبعد النبي وقبل، ولماذا المقارنة؟! كنت أحبه بكل ما أعرفه من معنى الحب، لكم فرحت وهو يلقي إلي خبر سفره جاعلا عبد الصادق طريقه إلي، ما الذي جعل اسمه عبد الصادق؟! أنا لا أحبه، فإن الذي يلد «عتريس» ليس خليقا أن يحب أبدا، كيف استطاع هذا الإنسان أن يأتي إلى بيتنا والذي يحاول أن يضحك دائما ويمزح ويقهقه، كيف استطاع هذا الإنسان أن يحاول أن يلد كل هذا الهول الذي يملأ القرية والقرى المحيطة بها؟ بل البعيدة عنها أيضا، أنا لا أخافه فأنا واثقة أن الله أكبر منه وأقدر عليه من العبد ولكني أكره هذا الخوف الذي يلقيه في قلوب الناس، أكره الرعب من غير النار وأكره الخشوع لغير الله، وأكره السلاح الذي يسلطه على حياة الناس؛ فحياتهم قلق ومشقة وخوف، ولكن «عتريس» يسلط عليهم الخوف كل الخوف؛ فهم في رعب لا يتركهم، رعب دائم لا يتخلى عنهم حياتهم جميعا، كم كان حافظ ذكيا وهو يلقي إلي الحديث عن طريق عبد الصادق، لقد فهمت زكية أم عليوة ما كان يريده حافظ من حديثه، ما الذي جعل أباها يسمى عليوة وماذا أعجبها في الاسم حتى تسمي به ابنها أيضا، أصبح عليوة محاميا، ولكنه لا يريد أن يترك الدهاشنة بل هو باق بها ويذهب إلى البندر في كل يوم، لكم يكره الشيخ عبد التواب عليوة ابن زكية أم عليوة، كان الشيخ عبد التواب قبل أن يصبح عليوة محاميا هو مفتي القرية لا ينازعه في فتواها أحد، واليوم هبط هذا المحامي لا يكتفي بالقضايا والإجرام بل يفتي في الدين أيضا، ألهذا السبب يكرهه؟ هل الكراهية شيء بسيط إلى هذا الحد؟ كيف يسمح الشيخ عبد التواب لنفسه وهو يحمل كلام الله، الله الرحيم الغفور، كيف يسمح لنفسه أن يسب عليوة للناس ويرميه لهم بالجهل والكفر والزندقة؟ هل الكفر والزندقة شيء بسيط يرمي به الناس هكذا دون تفكير؟ فهمت زكية ما كان حافظ يريد أن يقول، خبيثة زكية ، وكانت تبتسم دائما كلما ذهبت إلى الصفصافة في موعدي اليومي، وكثيرا ما كانت تقول وصية حبيب القلب، أنا شاهدة على الوصية، وإذا قلت في جد إنما أملأ الجرة ضحكت فلا يفلح جدي ولا تقطيبي أن يخفي شيئا مما أضمر، لماذا نحاول أن نخفي الحب، في حين أن الشيخ عبد التواب لا يحاول أن يخفي الكراهية؟ جميل هو الحب، حب الله وحب النبي وحب الزوج ولكنه لم يكن زوجي حينذاك.
وحين طلب حافظ يدها من أبيها كان أبوها حريصا أن يسألها رأيها، وسأل وسكتت ثم ابتسمت ثم أومأت أن نعم، وحين تزوجا وخلت بهما الحجرة وقبلها، حافظ أومض في ذهنها أن هذا حرام ثم ما لبثت أن تذكرت أنه زوجها وأن الحرام كل الحرام ألا تطيعه إذا قبلها فأطاعت، وحين انتقلا إلى القاهرة امتلأ قلبها خوفا، كيف تترك مهد حياتها جميعا منذ الطفولة التي لا تعيها إلى البواكير الأولى من الصبا والكتاب وحافظ وذكريات هواها، وأباها وأمها وصديقاتها وجميع هذه القرية بمن فيها من ناس؟ ناس تعرفهم جميعا وكلمتهم جميعا، تحية عابرة أو حديثا طيبا سمحا، وأولئك الصديقات اللواتي طالما طلبن منها أن تؤدي لهن خدمات، تلك الخدمات الصغيرة الحبيبة إلى النفس، تلك الأشياء الدقيقة الرقيقة في حياة الناس التي تزيد الصلات قربا وتجعلها قوية متينة، تحب أولئك الصديقات اللواتي تركن لها أطفالهن ريثما يقمن بشأن من شئون حياتهن المليئة بالعمل أو أولئك اللواتي طلبن إليها أن تملأ لهن الجرار لأنهن مريضات أو أولئك اللواتي سألنها أن تشاركهن في خبز العيش، تحبهن أكثر من أولئك اللواتي أدين لها هي الخدمات الصغيرة، كيف تترك هذا جميعه إلى القاهرة؟ ويلي من القاهرة واسعة سعة الدهر، ولكنها لي، لي أنا كانت ضيقة ضيق اليأس، وحيدة أحس الوحدة لأول مرة في حياتي، هناك في القرية، في الدهاشنة كنت أجد الأنس مهما تكن الوحدة محيطة بي، أما هنا في القاهرة فأنا في وحدة مهما تكن الجارات حوالي، أنا هنا في جزء من بيت إن رفعت صوتي عن الخفوت قليلا أصاب كثيرا من الآذان، ولكنه لا يصل إلى قلب أحد، أما هناك فقد كانت نجواي تبلغ إلى القلوب وإن لم يصل منها إلى الآذان شيء، وحيدة كنت في القاهرة، فما كنت أستشعر الأنس ولا الألفة ولا الاطمئنان إلا حين نلم بالقرية في زيارة عابرة أو زيارة فيها شيء من المكث والقرار ثم جاءت فؤادة، ما أحلى فؤادة! ماذا أفعل وهي كل يوم ذاهبة إلى الست تفيدة؟ وتفهم أباها وتريد أن تفهمني أن الزيارة موجهة إلى تفيدة كأني لا أذكر أيام كان طلعت طفلا، فكان لا يترك منزلنا منذ مشرق الشمس حتى يضمه بيته عند المساء كأني لا أذكر هذه النظرات التي كانا يتبادلانها وهما يتلمسان طريقهما إلى الباب كل منهما يتعرف على شبابه في عين الآخر، كنت أرى، وحين عرف كل منهما شبابه وكادت المعرفة تتوطد انقطعا كلاهما عن رؤية أحدهما الآخر أمام الناس، ولكنها تذهب إلى الست تفيدة، كم هي جميلة فؤادة! وكم أخشى عليها! وماذا أقول لأبيها؟ لا أنسى يوم مولدها، أول مرة رأيتها، رأيت حبي لحافظ يتجسم أمامي فإذا هو حبي للحياة، هذه النظرات الذاهلة التي ملأت ما حولي أنسا وهداية، رأيت في وجهها الله، ولم لا؟! أليست الإنسانية كلها ناشئة عن فؤادة؟ وهل هناك آية أعظم من الإنسان؟ لقد خلق الله الكثير وأنزل الأديان ولكن آيته العظمى ما زالت هي الإنسان، سره الغامض وصرحه الضخم وبنيانه الذي لا يبلى فهو باق في الدنيا وفي الآخرة لا ينتهي، كانت فؤادة حلوة كالأمل تحقق، كابتسامة خالدة على وجه الزمن، وحين جئنا إلى القرية لم أشأ أن يقتصر تعليمها على الدين كما كان الشأن معي، فرحت ألح على كل ذي علم في القرية أن يعلمها من علمه شيئا، وأحبت القراءة، وأحبت المدرسة وأصرت على الذهاب إليها، أتراها تكلم طلعت فيما تقرأ، ماذا أقول لأبيها عن طلعت؟ لا بأس أن يتزوجها، أتراني لهذا أغمض عينا كان من واجبها أن تتنبه؟ إني واثقة من ابنتي، بل واثقة من طلعت، ولا بأس به أن يتزوجها؛ فحافظ - وإن جهل مكان نفسه - من أعيان الدهاشنة، وإني أرى فايز بك لا يستكبر مثلما كان أبوه يستكبر وأرى طلعت أكثر تواضعا، وهل يعرف القلب كبرا؟ لعله الشرف كل الشرف أن تحبه فؤادة وأن تتزوج منه، وهل هناك شرف أبعد أو أعظم من أن يلتقي حبان ويتناجى قلبان ويكتمل الهوى بينهما بزواج؟ الزواج الشرعي الذي أراده الله يوم شرع الزواج هو الحب، الحب وحده الشريعة ومراسم الزواج إعلان لهذه الشريعة أن تذيع بين الناس فلا يكون الزواج بغير حب، ألم يحتم الشرع رضاء الزوجة وطلب الزوج؟ فهو الحب إذن مهما تكن منابعه، قد ينبع عن العقل أو قد ينبع عن القلب وعن أي المصدرين يصدر يصبح زواجا شرعيا. هي تحبه، لم تقل، ولكن ما ذهابها إلى الست تفيدة كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا؟! أو كلما اختلقت إلى ذلك سبيلا وهو يحبها، وإلا فما بقاؤه في البيت كلما ذهبت؟! نعم إني أسألها هل كان طلعت موجودا وتجيب بنعم سريعة، وكأنها لا تفهم ما أقصد إليه وتبحث في سرعة وفي ذكاء عن موضوع آخر، والعجيب أنها دائما تجد الموضوع الآخر، لن أقول لحافظ شيئا، أأقول ظنونا قد تصدق أو لا تصدق؟ أأثير مخاوفه ومكامن القلق في نفسه من أجل أفكار؟ ... إنما هي أفكار، وهل تأكدت من شيء؟ وهل ثمة شيء أتأكد منه؟ مجرد نظرات لعلي رأيتها بآمال وبما أهفو إليه من مستقبل ابنتي، أصلي أربع ركعات لله أن يعود زوجي آمنا سالما، الله أكبر. ولم تفكر في شيء وهي تصلي إلا أن تتلو الآيات في خشوع وإيمان وتؤدي الصلاة على أكمل وجه حتى إذا أتمتها وسلمت عن يمين وشمال راحت ترنو إلى الأريكة التي تواجهها بحسبها أن يعود زوجها سالما فيلبس جلبابه وطاقيته ويربع رجليه على هذه الأريكة ويروي لها عن القاهرة وما رآه، إنها لا يهمها من أمر القاهرة شيء، ولكن يهمها كل الأهمية أن يجلس زوجها على الأريكة ويروي.
الفصل الثالث
كل ما يحيط بها آمن، هي واثقة من الزمن، واثقة من نفسها، لا تعبأ بشيء، تفعل ما تراه خليقا أن يفعل، لا يهمها رأي أحد ما دامت هي مطمئنة إلى رأيها، أحبت فلم تخف من الحب، وقد مشى الحب إلى قلبها منذ عرفت قلبها، فقد تعرفت على قلبها أول ما تعرفت وفيه هواه، منذ هي طفلة وقلبها طفل وشبا وشب الحب معهما، لم يعنها أن تحب البك ابن البك ابن الباشا، وإنما أحبت في صراحة مع نفسها، وفي اطمئنان ودون خوف.
فالحب عندها نبضات قلب، وما كانت تتصور أن قلبا يعيش دون نبضات، لم تعلن حبها إلى أحد؛ لأنها لم تر داعيا إلى إعلانه، ولم تهمس إلى طلعت وإنما كانت تعرف أنه يحبها، وأنه يعرف حبها له، فقد همس لها يوما: أتحبينني قدر ما أحبك؟
وابتسمت له ابتسامة تعرف هي ما حملته من معان ثم لم تزد شيئا.
واستمر حبها بعد ذلك على أساس من هذا السؤال الطيب وهذه الابتسامة المحملة بالمعاني، وقد كانت واثقة من نتائج حبها ثقتها أن اسمها فؤادة، وأن اسم حبيبها طلعت، وثقة أخرى كانت مستقرة في قلبها، كانت تعتبر الحب هو الزواج الحقيقي وأن ورقة المأذون إنما جعلت لإعلان هذا الحب.
كانت كلما سمعت عن زواج في القرية سألت العروس: أتحبينه؟
فإن إجابتها: نعم.
Bog aan la aqoon