فترى الشاعر ينظر في كل من القصيدتين إلى الحوادث والأشخاص بغير ما ينظر إليها في الأخرى، ثم تجد مثل هذا في غير هاتين القصيدتين؛ وليس لذلك من علة إلا الاضطراب الذي أصاب العالم قبل الحرب وبعدها، والذي ما يزال عظيم الأثر على تفكير المفكرين وكتابة الكتاب وشعر الشعراء.
على أن هذا التأثر بالحوادث في بعض الشئون التي لا يستقر للناس فيها عادة رأي قبل أن يصدر التاريخ عليها حكما خاليا من الغرض؛ لا يؤثر بشيء في روعة القصائد التي كان فيها، وهو بعد لا يشغل من هذه القصائد إلا حيزا ضيقا؛ فإن شوقي لا يزيد في القصائد التي تقال لمناسبة حادث من الحوادث على أن يشير لهذا الحادث بأبيات خلال القصيدة وفي آخرها، فأما أكثر أبيات القصيدة فحكم غوال، أو وصف رائع، أو ما سوى ذلك مما يلذ عقل شوقي أو خياله أن يفكر فيه أو يلهو به. وهذه الحكم لم يتغير تقدير شوقي لها؛ فهو يرى أن الأمم لا تقوم على دعامة غير دعامة الأخلاق، وهو يرى ذلك برغم ما قد يبدو في بعض الأمم القوية من تدهور الأخلاق؛ فالعلم عنده حسن وله فائدته، والغنى حسن كذلك، وسائر أدوات الحضارة تصلح الأمم، لكنها جميعا لا فائدة من رقيها وغزارتها إذا انحطت أخلاق الأمة، فأما إن قويت هذه الأخلاق فقليل من ذلك كله كاف ليرتفع بالأمة إلى ذروة المجد والسؤدد.
وليس معنى هذا أن شوقي يحقر من شأن ما سوى الأخلاق؛ فله عن العلم والفن والعمل والترحال وغيرها آيات بينات، لكنما معناه أن الأخلاق عنده في المحل الأول، وهو لا يمل من أن يكرر الدعوة إلى الخلق الصالح على أنه قوام حياة الأمم في كل قصيدة يقولها عن مصر، أو عن غير مصر، وكثير من أبياته في هذا المعنى قد أصبح مثلا يتداوله كل كاتب، وكل أستاذ، وكل تلميذ، ويردده الجميع على أنه الحكمة لا يأتيها باطل من بين يديها ولا من خلفها، أولا ترى قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
قد بلغ من تواتره على الألسن أن أصبح الكثيرون لا يعرفون إن كان لشوقي أو لشعراء العصور الزاهرة في أيام العرب، إلا لأنهم يريدون أن يكون فخر هذا البيت وغيره من مثله لهم، بنسبته لشاعر مصر والشرق في عصرهم. (4) إلى جانب مقام العاطفة الوطنية التي هي قوة متسلطة على نفس شوقي، تقوم عاطفة أخرى لا تقل عنها قوة، وربما كانت أشد أخذا بهذه النفس وإثارة لشاعريتها، تلك هي العاطفة الإسلامية؛ فشوقي شاعر الإسلام والمسلمين، كما أنه شاعر مصر وشاعر الشرق، وعاطفة المسلم تتجه حتى العصور الأخيرة إلى جهتين، ثم إلى قومين؛ فهي تتجه صوب مكة مسقط رأس النبي
صلى الله عليه وسلم
ومقام إبراهيم كعبة المسلمين وقبلة أنظارهم، ومكة في بلاد العرب، والنبي عربي، والقرآن عربي. وهي تتجه - أو كانت تتجه - صوب الآستانة، مقر الخلافة الإسلامية، ومقام الخليفة من آل عثمان، والآستانة عاصمة الترك، وخليفة المسلمين كان تركيا؛ فكل مسلم تعنيه وحدة المسلمين كان يتجه ببصره - إلى حين ألغيت الخلافة - نحو مكة ونحو الآستانة؛ يستمد من الأولى المدد الروحي، ومن الثانية مدد السيف والمدفع.
إلى جانب ما يرجوه المسلم من أهل بلاد الشرق العربي في مكة من مدد روحي، تحرك نفسه إلى هذه الأنحاء عاطفة أخرى هي العاطفة العربية؛ هي عاطفة هذه اللغة التي تربط اليوم أكثر من سبعين مليونا أكثرهم مسلمون، وكلهم خاضع لما يخضع له غيره من بطش القوة وسلطان التحكم. واللغة في حياة الأمم ليس شأنها هينا؛ فأمة لا لغة لها لا حياة لها، ورقي اللغة في أمة آية صادقة من آيات رقيها. وما دام العرب مصدر اللغة، وعلى رجل منهم هبط الوحي، وبينهم قام صاحب الشريعة، فلهم - عند المسلمين كافة، وعند الذين يتكلمون العربية خاصة - حرمة تدفعهم إلى التغني بآثارهم، والإشادة بقديم مجدهم، وتمني خير الأماني لهم.
لذلك كان العرب ومكة والوحي والقرآن والإسلام والرسول، كلها معان لها من الأثر في نفس شوقي ما ليس لسواها من آثار الماضي؛ ولذلك لم يكن شوقي يشيد بذكر المسلمين وبخلافتهم لغاية سياسية صرفة، بل إنه ليؤمن بهذه المعاني إيمانا يتجلى في الكثير من قصائده على صورة تتركنا في حيرة؛ كيف يبلغ الإيمان من نفس هذا المحب للحياة كل هذا المبلغ؟! فلا نجد لحيرتنا جلاء إلا من الحديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.»
Bog aan la aqoon