بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا يليق بجلاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت والوهاب.
فأقول: إن الباعث على التعرض لكلام هذا الفاضل في المؤلف الذي وسمه بالفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد في الأحكام الإلهية ليس القصد فيه إلى الجدال والتعنت أو إظهار الفضيلة، فإنا نعوذ بالله من تصور ذلك. فضلا عن وقوعه. ولو كان سلوكه فيما سلك بيان ما اعتقده أو ظنه لم يكن لأحد عليه لوم ولا اعتراض، لأن العلم كله في العالم كله، وأي كلام لا يرد عليه كلام؟ وكم ترك الأول للآخر.
Bogga 27
لكنه - عفى الله عنه - أساء الأدب وأفحش في حق العلماء الأجلاء وعمدة الفضلاء الذين هدوا الناس بتحقيقاتهم وشيدوا معالم الدين بآثار تدقيقاتهم، فتارة ينسبهم إلى الجهل وسوء الفهم، وتارة إلى الغفلة وقلة التدبر، وتارة إلى تخريب الدين واتباع المخالفين، حتى أنه يظهر من لوازم ما نسبهم إليه خروجهم عن الدين! والإقدام على مثل هذا لا يخفى قبحه وجهل مرتكبه على ذي دين قويم وعقل مستقيم، حتى أن المحقق نجم الدين أبا القاسم - قدس الله روحه - تكلم على ابن إدريس (رحمه الله) وأزرى عليه غاية الإزراء، حيث إنه تعرض للشيخ الطوسي - تغمده الله بالرحمة والرضوان - في بعض المسائل وتكلم بما فيه نوع من إساءة الأدب، فحصل عند المحقق من مزيد الإنكار والتعجب من مثل هذا الإقدام ما حصل. فياليت شعري كيف لو كان يطلع على مثل هذا الكلام من المؤلف في هذا المصنف!
فعلم أن الإقدام على مثل ذلك ما نشأ إلا من زيادة الغرور بالاعتقاد في النفس زيادة الفضل والكمال والتميز عن الغير ممن تقدم وتأخر، وهذا لا يصدر من أهل التقوى والصلاح وممن يخاف الله في القدح في حق العلماء وهضم حالهم ونسبتهم إلى غير ما هو فيهم، وهو أقبح قبيح في العقل فضلا عن الشرع! حتى وصل (رحمه الله) في كثرة افتخاره ومدحه نفسه إلى التشبث في ذلك بالمنامات الخيالية والهذيانات القشرية، وبالغ في مدح نفسه بالمعرفة والتحقيق وعدم وصول أحد من العلماء إلى ما بلغه من التدقيق وأنه اختص من الله ومن الأئمة بما لم يحصل لأحد غيره وتعوذ باعتقاد أمور خارجة عما علم ضرورة من دين الشيعة، لأ نها لم يسبق لأحد قبله القول بها، بل بعضها مما اتفق عليها المخالف والمؤالف وهي واضحة الفساد، لكن ربما إذ رآها جاهل أو غافل اعتقدها حقا، فساء ظنه بالسلف واعتقد أنهم مضوا على الخطاء والغفلة، بل ربما تغير اعتقاده في هذا المذهب حيث إن جلة علمائه كانوا على غير الصواب ولم يوفقهم الله للخروج عن هذه الضلالة!
Bogga 28
فلزم علينا عند ذلك أن تتبعنا ما تيسر تتبعه وأجبنا عنه بمؤلف سميناه ب " الشواهد المكية في مداحض حجج الخيالات المدنية " ولا نبرئ أنفسنا عن الخطاء والزلل في القول والعمل، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.
ولما كان ملك ملوك الأمم وصاحب العز والعدل والسيف والقلم، المؤيد بعناية الإيمان، والخاذل لحزب الشيطان، ظل الله على المؤمنين وحافظ شريعة سيد المرسلين، الحقيق من الله بالنصر على من ناواه، السلطان بن السلطان الملك المظفر السلطان: عبد الله قطب شاه - أدام الله إقباله وأبد عزه وإجلاله ولا زال أمداد أقلام السعود تجري بدوام عزه وسلطانه وأقدار الأفلاك تقضي بحصول مطالبه وقوة إمكانه - ممن يجب إهداء كل نفيس إليه ويحسن عوض كل جليل عليه؛ والعجز والقصور يقعدني عن إهداء تحفة دنياوية وخطيرة مالية ورأيت العلم أرغب مرغوب إليه وأجل متنافس فيه بين يديه، سيما ما اشتمل على الذب عن الطعن في حق جماهير العلماء المجتهدين ورد كلام الحمقاء المخترعين تخطئة أكابر الدين فيما هو الحق باليقين، فجعلت هذا المؤلف مع الدعاء الخاص الصادر عن الإخلاص تحفة وهدية لخزانة كتبه العامرة الوافية بالقواعد والأحكام والوافرة بتحقيق المطالب في كل مرام، ولعله حين يتشرف من حضرته بالوصول يقع من جليل ألطافه في خير القبول. والحمد لله أولا وآخرا وعلى كل حال .
* هذا الكلام أول التعدي والخروج عن الواقع ونسبة أهل الفضل والتحقيق إلى ما هم بريئون منه، وكيف يدعي خروج أقوالهم عن المتواتر ومع ثبوت التواتر المفيد للعلم يتصور من هؤلاء العلماء الأجلاء خروج أقوالهم عنه وعدولهم عن المعلوم إلى المظنون؟ فكأن المصنف كان عنده من آثار الأصول والحديث ما لم يكن عندهم أو اطلع بسعة علومه على ما لم يطلعوا عليه! وهذه دعوى لا يليق بعاقل ادعاؤها في مثل هذا الزمان مع تباعد عهده وقرب عهدهم. ومن تمام الجهل نسبة هؤلاء الأجلاء إلى الغفلة وعدم الاطلاع على الأحاديث بجهالة المتواتر منها وغيره.
ومما يدل دلالة واضحة على خلل ما اعتقده وتفرد به مما ذكره ومما يأتي أنه لم يوجد
Bogga 29
تصوره لأحد من العلماء الخاصة والعامة فضلا عن موافقة عليه، وما نقله من ظاهر كلام بعضهم وتشبث به في الدلالة على مطلوبه ليس فيه دلالة صريحة ولا فحوى عند من تأمله وعرف مساقه، ولا شك أن إنكار وجود الأحاديث الضعيفة عن الأئمة (عليهم السلام) من قبل ومن بعد مكابرة ومخالفة للوجدان، كيف! وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ستكثر بعدي القالة علي (1) وورد أيضا غيره بمعناه وقال (صلى الله عليه وآله): إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه (2) ومثل ذلك كثير لمن تتبعه.
ولولا تفرقة الأصحاب وتميز الصحيح عن غيره لأشكل الحكم والرجوع إلى الأصول الأربعمائة المذكورة المشهورة لم يتيسر لكل أحد الوصول إليها ولم يعلم أيضا صحتها كلها على ما سيجيء بيانه.
* أول ما في هذا الكلام أيضا من الشناعة: نسبة الإحداث إلى الجليل الأوحد العلامة - قدس الله روحه - فإن في الحديث: إن شر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (3).
وثانيا: أن الأحاديث في نفسها إذا اعتبرها المعتبر لا تخرج عن هذا التقسيم وهو وصف ثابت لها، سواء صرح به أو لم يصرح، وليس جميع ما نقل عن الأئمة (عليهم السلام) من الأصول وغيرها محقق الصحة بتمامه، بل الأصول المنصوص عليها منهم (عليهم السلام) معروفة، وما سواها، منها: ما حصل عن الأصحاب بيان ضعف مؤلفها، ومنها: ما كان مؤلفها يعتمد الرواية عن الضعفاء، ومنها: ما يقبل
Bogga 30
بعضها ولا يقبل البعض الآخر؛ وذلك معروف واضح لمن اطلع على كتب الرجال. والأصحاب قد اطلعوا على الصحيح منها وغيره ونبهوا عليه في كتب الرجال وأجهدوا أنفسهم في تحقيق ذلك لعلمهم بأنها قد امتزج صحيحها بضعيفها، فلو كانت كلها صحيحة متواترة كما قاله المصنف ما كان أغناهم عن هذا الغناء! لأ نها كلها مأخوذة من أصول ثابتة صحيحة عن الأئمة (عليهم السلام) على مدعى المصنف. وكيف جاز له أن ينسب إلى العلامة الحلي (رحمه الله) اعتقاد أن معظم تلك الأحاديث الممهدة بتلك الأصول غير صحيحة؟ ومن أين علم أن جميع ما ورد عنهم (عليهم السلام) سواء كان صحيحا أو سقيما قد أمروا بإثباته وكتابته وقد صح عنهم تأملهم وتأوههم ممن يأخذ الحديث عنهم ويتأوله له بحسب مراده وهواه؛ وقد شاع الاختلاف بين الرواة في زمانهم في الأحاديث والكذب عنهم في القدح في حق بعض الرواة من الأمور الفاحشة التي لا يتحمل الصدق في بعضها، فكيف بعد هذا يدعي مدع أن جميع ما يسند إليهم من الأحاديث من قبل ومن بعد يكونون قد أمروا بإثباتها مع أن فيها ما يقطع بخروجه عن مذهب الشيعة والثابت عنهم منزه عن الاختلاف والتضاد وحكمه حكم المتواتر، وقد صرحوا بأنه لا يصح فيه الاختلاف. وسيأتي أن الشيخ (رحمه الله) ضعف بعض الأحاديث من كتابيه وعلل ضعفها بضعف راويها، أو إسناده الرواية إلى غير معلوم أنه الإمام، أو أنه مخالف للإجماع، فكيف يجامع هذا القول أنه أخذ كتابيه من أصول صحيحة كلها ثابتة عن الأئمة (عليهم السلام)؟ كما يقوله المصنف ويلزم الشيخ وأمثاله بشيء ينادون بنفيه عنهم.
* هذا من عظيم الافتراء على العلامة (رحمه الله) إنه يقول ذلك بقول مطلق! وأين وجد ما ادعاه عليه من التزامه لمخالفة الأخبار المتواترة في أصول أو فروع؟ والعلامة أعرف منه بالأخبار وأوسع اطلاعا في جميع العلوم والآثار. والمباحث الأصولية أغلبها مشتركة بيننا وبين العامة وأغلب أدلتها العقل، والحق منها ظاهر على مذهب الشيعة.
Bogga 31
ودعوى المصنف - كما يأتي - أن كل مسألة من أصول أو فروع لابد أن يكون له دليل قطعي يستفاد من الحديث دعوى ينكرها الوجدان، فإن الأحاديث كلها صحيحها وضعيفها ليس فيها ما يستفاد منه جميع أحكام المسائل نصا ولا فحوى إلا أن كان بنوع من الرجوع إلى القواعد والأصول الثابتة عن أهل البيت (عليهم السلام) بالقوة الربانية، وهي الاجتهاد المحصل للظن بالحكم، ولا سبيل إلى غير ذلك، فكيف يمكن حصول حكمها بالقطع المستند إلى العلم؟ ولو اعتبرنا الوقف في كل مسألة لا نجد العلم بحكمها من الحديث - كما يقوله المصنف - انسد عنا غالب أحكام المسائل الشرعية وتعطلت، ولزم من ذلك تكليفنا بما لا سبيل لنا إلى معرفة حكمه والضرورة داعية إليه، ومخالفة الحكمة لذلك أمر ظاهر لا ينكره إلا غبي جاهل.
* من فهم هذا الكلام ظن أن تحته طائلا، والحال أنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا.
Bogga 32
* نعم، قد اتضح عند أولي الألباب ضعف محصول من يدعي هذه الدعوى العريضة ولو كانت حقا، وهنا يحسن التمثيل بقول القائل:
وكم من عائب قولا صحيحا * وآفته من الفهم السقيم ولابد من بيان جملة من الواضحات في هذا المقام على خلاف ما يدعيه لتنكشف حقيقة الحال.
أولها: إن كلامه على العلامة - قدس الله روحه - بما يقتضي تركه العمل بالحديث وأ نه اعتمد على الأمور الظنية بقول مطلق. وهذا ليس بصحيح، فإن العلامة اعتمد على العمل بالحديث في مسائله وفتواه وتساهل في العمل بالخبر بما لم يتساهل فيه غيره صونا لضياع الخبر، ولم يرجع إلى غيره إلا عند فقده، فيرجع إلى الاجتهاد الذي قد اتفق عليه المؤالف والمخالف حتى جوزه بعضهم للأنبياء ونقلوه عن الأمم السالفة، وهو راجع إلى قواعد أهل البيت (عليهم السلام) وأصولهم بالاستنباط المعتبر في الاجتهاد، وقد ثبت عنهم (عليهم السلام) تجويزهم لشيعتهم العمل بالظن إذا تعذر العلم في مسائل كثيرة، وقد صرح غالب الأصحاب المعتمدين في مسائل عديدة: أنهم لم يجدوا فيها نصا، والوجدان أيضا يحقق ذلك عند الاختبار. والمصنف يدعي أن كل حكم لابد أن يوجد عليه دلالة من الحديث، فظاهر ذلك أن يكون صريحا ولا يحتاج إلى الاستنباط. وكلام المصنف على العلامة فيما أشرنا إليه من تركه الحديث كان أحق به السيد المرتضى وابن إدريس وغيرهم ممن لا يعمل بخبر الواحد.
ودعواه أن جميع الأحاديث التي في الكتب الأربعة كلها مأخوذة من الأصول القديمة المشهورة الثابتة النقل عن الأئمة (عليهم السلام) كأنها كانت موجودة في زمن الشيخ وغيره من أصحاب تلك الكتب ولم تكن موجودة في زمن المرتضى وابن أبي عقيل وابن الجنيد وغيرهم من المتقدمين، أو كانت موجودة لكنهم لم يطلعوا عليها، وإلا كيف جاز للمرتضى وغيره في فتاويهم غالبا مخالفة
Bogga 33
الأحاديث التي في الكتب؟ مع تقدم الكليني ومن لا يحضره الفقيه عليه وهو يعلم أن تلك الأحاديث منقولة نقلا صحيحا عن الأصول الثابتة عن الأئمة (عليهم السلام) ويعتذر المرتضى (رحمه الله) عن عدم العمل بها بأنها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا. وكيف جاز لابن أبي عقيل وابن الجنيد مع تقدمهما على السيد المرتضى وقرب وجود تلك الأصول في زمانهما أن يفتوا بخلاف المشهور من الأحاديث في مواضع عديدة؟ فلولا أنهم جميعا لم يظهر عندهم صحتها لما جاز لهم أن يحكموا بخلاف مدلولها. ولا يقال: إنهم كانوا يحكمون على ما يخالفهم بالتقية حتى تحمل عليها.
وثانيها: إن الشيخ وابن بابويه والمفيد في مواضع عديدة تخالف فتواهم ما أوردوه من الحديث ويصرحون بضعف الحديث. ويذكر الشيخ (رحمه الله) ضعف راويه [رواية خ ل] بشيء لا مزيد عليه وأن ذلك علة ضعفه، وتارة يرده بالإرسال وأ نه غير معلوم الاستناد إلى الإمام، فكيف يجامع هذا ما ألزمه به المصنف بأن كل ما في كتابيه من الأحاديث معترف بصحتها وثبوتها وأ نها كلها منقولة من أصول صحيحة مقطوعة الثبوت عن الأئمة (عليهم السلام) والشيخ (رحمه الله) ينادي بخلاف ذلك؟
وثالثها: إنه قد وقع التصريح من النبي والأئمة (عليهم السلام) بما يقتضي كثرة الكذب في الأحاديث عليهم.
ورابعها: إن الكشي والنجاشي وغيرهما ما كان يخفى عليهم حال الأصول وصحتها، وليست الأحاديث التي نقلت إلا منها، فأي حاجة بعد ذلك إلى التعرض لرجال سندها بمدح أو قدح والقدح غيبة ما أجازوها هنا إلا للضرورة، وما الحاجة إلى ذكر السند في الأحاديث إلى المعصوم إذا كان أخذها من الأصول يغني عن ذلك؟ والاعتذار عنه بأن القصد بذلك التبرك لو تم كان التنبيه عليه واجبا في أغلب مواضعه خوفا من التباسه بالضعيف، كما وقع واحتيج في معرفة الصحيح والضعيف منه إلى كتب الرجال، فكانوا في غنية عن هذا التكلف والإقدام على القدح في الناس بما لا عذر يوجبه، خصوصا الشيخ (رحمه الله) على دعوى المصنف التي قدمناها.
وخامسها: إن السيد المرتضى والشيخ المفيد - رحمهما الله تعالى - كانا في عصر واحد
Bogga 34
ونقل السيد علي بن طاووس (رحمه الله) في رسالته لولده عن الشيخ الجليل العارف بعلوم كثيرة سعيد بن هبة الله القطب الراوندي: أنه وقع الخلاف بين السيد والشيخ المفيد في خمس وتسعين مسألة من مسائل الأصول، وقال: لو استوفيت الخلاف بينهما لطال الكلام (2) ومن المعلوم: أن هذا الاختلاف لا يصلح له سبب إلا اختلاف الحديث، ولو كانت كلها صحيحة وكل حكم من أصول وفروع فيها دلالة عليه - كما يقوله المصنف - لم يجز منهم هذا الاختلاف، وإنما نشأ غالبا من رد السيد أخبار الآحاد وعمل المفيد بها (رحمهما الله).
وسادسها: إن العلامة ومن تأخر عنه ما كان عندهم إهمال الأحاديث ولا للعمل بها (3) وفي كتبهم وتأليفاتهم كل مسألة يوجد الحديث فيها أوردوه وتكلموا في دلالته وصحته وضعفه، فكيف ينسبهم المصنف إلى تخريب الدين والجهالة والغفلة عن العمل بأحاديث أهل البيت (عليهم السلام)؟
وسابعها: إن المصنف حمل بعض الأحاديث المخالفة بظاهرها لما هو المعلوم الثابت من مذهب الشيعة على مدلول ظاهرها وتكلم على القائل بخلاف ذلك، والحال أنه لا يخفى أن القرآن والحديث مصدرهما والحكمة فيهما أمر واحد، فكما وقع في القرآن ما يخالف بظاهره العقل والنقل واعتقاد الشيعة، مثل قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم) و (استوى على العرش) (من يهدى الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) فلا يبعد في الحكمة أن يقع في الحديث مثل ذلك، لأن كلا منهما المراد به الهداية والخطاب للناس عاما. وليس في ذلك إخلال بالهداية والحكمة بعد قوله سبحانه: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فكما أولنا ظواهر القرآن بما يوافق العقل والمذهب كذلك الحديث لأنه إذا جاز في الأقوى جاز فيما دونه بطريق أولى. ولو اعتبر معتبر لوجد جميع ما وقع في القرآن من مواد الاشتباه في الأفعال والآجال
Bogga 35
والأرزاق والهداية والمشية والقدر وقع نظيره في الأحاديث، وحكمة الله في الجميع واصلة وذكر في بعض التفاسير: أن الحكمة فيه الابتلاء لزيادة الثواب، لأن الدنيا دار تكليف وعناء، ولا شك أن الشيعة أقرب إلى ذلك من غيرهم، فكيف يليق بعاقل أن يقول: الأخذ بظاهر الأحاديث متعين ولا يجوز غيره، وقد أجازه كل العلماء في القرآن، وأول كل منهم آياته على ما يقتضيه مذهبه حتى قيل: إنه لا يمكن أن يحتج خصم على خصمه بالقرآن، لأن كل آية من ذلك فيه ما ينافيها بحسب الظاهر وتدل على معتقد الآخر.
وإذا عرفت هذا تبين لك أن أصل ما بناه هذا المؤلف على الخطأ، وكلما زاد الغالط في الحجة ازداد غلطا وفسادا من حيث يدري أو لا يدري. والله المستعان.
* هل يصدر مثل هذا الكلام في مدح نفسه من شخص يفرق بين الحسن والقبيح؟ وفي الحقيقة ليست حقايق ودقايق صادقة فيما يدعيه، ولكنها عجائب وغرائب تفرد بانتحالها والخطأ فيها عن سائر الناس من الخاصة والعامة، ويا ليته! كان صرف وقته في شيء يعود نفعه عليه (رحمه الله).
* * *
Bogga 36
* اعترضه المصنف في حاشية الكتاب فقال، أقول: هذا ناظر إلى ما في كتب العامة: من أنه يجب كفاية أن يكون في كل قطر من الأقطار رجل عالم بتلك الأمور ليندفع شبهة الملاحدة وغيرهم من القواعد الدينية. ولي فيه نظر، وهو أنه من بنى دينه ومذهبه على مقدمات يقينية له
Bogga 37
أن يدفع تلك الشبهة إجمالا، بأن يقول: تلك مصادمة لليقين، وكل ما هو كذلك فهو باطل، كما أجاب به بعض فحول العلماء عن شبهة المجهول المطلق بأنها مصادمة لمقدمة بديهية وكل ما هو كذلك فهو باطل.
أقول: ما أفاده غريب! لأن الخصم لا يسلم اليقين الذي يدعيه إلا بعد إثباته بالبرهان القطعي، وهو موقوف على معرفة شرائطه وتمكنه من الإتيان بها، وذلك لا يحصل إلا بما فصله الشهيد الثاني - قدس الله روحه - وما ماثل به من جواب بعض فحول العلماء لا يوافق جوابه ، لأ نه يدعي فيه أنه مبني على مقدمة بديهية والبديهي يظهر لكل أحد ولا مساغ لإنكاره. وأما اليقين إذا حصل لأحد في مسألة لا يلزم حصوله كذلك لغيره، فلابد له من دليل على حصول اليقين بتلك المسألة، على أن حجج الخصم ليست محصورة حتى يمكن الجواب عنها بكلام الأئمة (عليهم السلام) أو من دليل العقل.
وقوله: " هذا ناظر إلى ما في كتب العامة " لا ندري ما عنى به من وجه الذم؟ لأ نه ليس يلزم علينا أن كل ما اعتبره المخالفون من أصول وفروع لا يكون معتبرا عندنا، لأن العلوم مشتركة، وما فيه الخلاف بين ظاهر لا موافقة لنا فيه، فأي محذور في مشاركتهم في المسائل التي لا خلاف بيننا وبينهم فيها، حتى أن المصنف في عدة مواضع يعيب العلماء المتقدمين باتباع طريق العامة ويهضم قدرهم بذلك من غير موجب.
Bogga 38
* واعترضه في الحاشية، فقال، أقول: الاطلاع على جميع السنة المتعلقة بالأحكام إنما يتجه على قاعدة العامة: من أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما أودع أسرار الدين عند أحد، بل كل ما جاء به أظهره بين يدي أصحابه. وأما على قاعدة الإمامية أنه أظهر ما احتاجت إليه الأمة في زمانه وأودع الباقي عند أهل بيته (عليهم السلام) فلا يتجه أصلا.
أقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجوز له ان يخفي الدين الذي أمر بتبليغه عن أحد من الناس بعد قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) وإنما الذي لم يستوعب إظهاره لو سلم عدم إظهاره لسائر الناس في زمانه فقد دلهم على أخذه من أهل بيته من الأحاديث الدالة عندنا وعند المخالفين التي لا تنكر من التمسك في الدين بالكتاب والعترة - أهل بيته - وأ نهم النجاة من الضلال، فكيف يليق نسبة الرسول إلى إخفاء بعض شريعة المكلفين وهو مأمور بالتبليغ إلى الإنس والجن وقد عرفهم علم ما لا يعلمونه؟ أو يشتبه [يشبه خ] عليهم بالرجوع فيه إلى الكتاب وأهل بيته؟ وأما ما لا يتعلق بالتكليف من الأسرار والحكم وغير ذلك فلا نزاع في جواز تخصيص الأئمة به (عليهم السلام) على أن ما ذكره لا يتوجه على كلام الشهيد (رحمه الله) لأن العلم الذي عند الأئمة المتعلق بالتكليف أظهروه لشيعتهم فصار احتياجهم إلى معرفته كاحتياج المخالفين في زماننا هذا وغيره، فكيف ينفي المصنف الاحتياج إلى ذلك ويعترض به كلام الشهيد (رحمه الله).
Bogga 39
* إن الذي يتأمل هذا الكلام يعلم أن الاجتهاد أعظم شروطه حصول القوة الإلهية التي وعد الله بحصولها بعد المجاهدة وهي الهداية إلى الحق، فكيف يتصور معها بطلان الاجتهاد والمؤاخذة عليه ووصف صاحبه بالكذب على الله، كما يظهر من كلام المصنف فيما يأتي. وفي الأحاديث المذكورة في تتمة كلام الشهيد صراحة في الاكتفاء بالظن الحاصل للخصم من قول الحاكم من غير دلالة على أن يكون مستند الحاكم العلم أو الظن، ولا على أن الحاكم لا يجوز له الحكم إلا إذا استند فيه إلى نص صحيح، بل ظاهره إذا وصل إلى الرتبة المذكورة صار له أهلية الحكم بحيث لا تخرج عن أصول الأئمة سواء كان بالاستنباط أو بغيره.
Bogga 40
* هذا كلام المحقق (رحمه الله) صريح في أن الأدلة ظنية لا قطعية وحقية الإجتهاد، وأن المخطئ
Bogga 41
فيه غير مأثوم والمصنف يعتمد كلام المحقق، فكيف يدعي أن كل مسألة يوجد عليها دليل قطعي من الحديث ويبطل الاجتهاد، ويزعم أن صاحبه آثم، ويخص العلامة بالاعتراض عليه والتشنيع في ذلك. وكذلك أيضا المصنف يعتمد كلام الأخ الشيخ حسن - قدس الله روحه - لظنه موافقة اعتقاده في بعض المواد، وفي المعالم في فصل الأخبار بعد ذكره الأدلة على العمل بخبر الواحد قال: الرابع أن باب العلم القطعي بالأحكام الشرعية التي لم تعلم بالضرورة من الدين أو من مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في نحو زماننا منسد قطعا، إذ الموجود من أدلتها لا تفيد إلا الظن، لفقد السنة المتواترة وانقطاع طريق الاطلاع على الإجماع من غير جهة النقل بخبر الواحد ووضوح كون البراءة الأصلية لا تفيد غير الظن وكون الكتاب ظني الدلالة، وإذا تحقق انسداد باب العلم في حكم شرعي كان التكليف فيه بالظن قطعا، والعقل قاض بأن الظن إذا كان له جهات متعددة تتفاوت بالقوة والضعف فالعدول منها عن القوي إلى الضعيف قبيح، ولا ريب أن كثيرا من أخبار الآحاد يحصل بها من الظن ما لا يحصل بشيء من سائر الأدلة فيجب تقديم العمل بها (1) انتهى كلامه رفع الله مقامه.
إذا تبين هذا علم أن كلام المحققين على طرف النقيض لما يعتقده: من أن أحكام الشرع كلها تستفاد بالقطع من الأحاديث ويحصل العلم بها، مع اعتقاده فيهما التحقيق، ومع ذلك يتجاهل عما لا يوافق وهمه الفاسد!
Bogga 42
* كلام المحقق صريح في أن الاجتهاد لا يخرج عن قواعد القرآن والسنة وأ نه راجع إليها (2) بالاستنباط وأ نه لا يجوز فيه أخذ الحكم عن القياس والاستحسان، وكذلك كلام العلامة وعامة فقهاء الإمامية، والمصنف ينسبهم إلى اتباع المخالفين وإلى ترك العمل بالأخبار الثابتة الصحيحة في الكتب الأربعة المفيدة للقطع في الأحكام. وعند الإنصاف هل يسمع هذا الكلام
Bogga 43
الخارج عن العقل والشرع؟ أو أن صاحبه يعد من قسم العلماء العقلاء المتقين! ما أظن ذلك إلا من مغرور مثله غلبه الهوى وحب الرياسة وأن يعرف بها، واستحوذ عليه الشيطان. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
Bogga 44
* عمل المتجزي بظنه ليس من باب القياس على عمل المجتهد المطلق، بل لكون
Bogga 50
ظنه في المسألة عنده أرجح من الظن الذي يحصل له من قول المجتهد، والدليل القاطع إنما دل على لزوم الرجوع إلى قول المجتهد المطلق للمقلد الصرف دون المتجزي، ولا شك أنه بعد مراجعة الدليل وإنعام التأمل في الحكم لمن تأهل ذلك يحصل عنده ظن راجح على الظن الذي يحصل له من قول المجتهد، فيجب العمل بأقوى الظنين.
* قال الأخ الشيخ حسن - قدس الله روحه - في المعالم في الاحتجاج على ثبوت الإجماع وصحة العمل به: لما ثبت عندنا بالأدلة العقلية والنقلية كما حقق مستقصى في كتب أصحابنا الكلامية أن زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه، فمتى أجمعت الأمة على قول كان داخلا في جملتها، لأ نه سيدها والخطاء مأمون على
Bogga 51