فقالت: «ومتى يفيق؟»
قال: «لا بد من الانتظار يوما أو يومين وعلى الله الشفاء.» فارتبكت سالمة، ووقعت في حيرة من أمرها، وخافت على حسان؛ لأنه يسوءها أن يصاب بسوء لما له من الأيادي البيضاء في خدمتها، فضلا عن حاجتها إليه، فقضت ذلك اليوم أيضا كأنها على جمر الغضا وهي تصلي وتتضرع إلى الله أن يشفيه، وقضت ليلها وهي تفكر في هل تنتظر شفاءه أو تسير وحدها، فرأت أنها لو بقيت عند حسان لم تنفعه؛ لأن أهل الدير أكثر عناية به منها، فعزمت على السفر في الغد على أي حال بعد أن توصي الرئيس والطبيب به.
فلما أصبحت سارت توا إلى حسان فرأت الراهبين في خدمته وهو لا يزال غائبا عن رشده فسألتهما عن حاله فقال أحدهما: «أراه قد تندى بالعرق قليلا، وهذه علامة حسنة تبشر بالخير.» فذهبت إلى الرئيس وأخبرته عن اضطرارها للسفر العاجل وأوصته بحسان فبعث إلى الطبيب وبالغ في توصيته فلما خرج الطبيب طلبت من الرئيس أن يرسل معها من يصحبها إلى بواتيه، وأخرجت من جيبها دنانير دفعتها إليه باسم الدير، فأجابها الرئيس إلى رغبتها وأمر راهبا من رهبانه أن يرافقها إلى حيث تشاء، ولما تأهبت للمسير ذهبت إلى حسان كي تراه قبل سفرها، فوجدته على حاله، وخرج الرئيس لوداعها بباب الدير فكررت على سمعه الوصية وقالت: «إذا من الله عليه بالشفاء فأبقه عندك ريثما أعود، فإني عائدة على عجل.» فأجابها بالإيجاب وقد نزلت من نفسه منزلا رفيعا لهيبتها وحكمتها وكرمها، وكان خدم الدير قد أعدوا فرسها وأعدوا لرفيقها الراهب بغلة من بغال الدير عليها خرج فيه بعض الأطعمة الجافة زادا لهما في الطريق، وركبا وسارا والراهب دليل الطريق، على أن البغلة لو تركت لنفسها لم تخطئ الطريق إلى بواتيه، ومنها إلى تورس، لكثرة ما يركبونها إلى تينك المدينتين لنقل لوازم الدير من الآنية والأطعمة وما إليها، وكانت سالمة قبل خروجها من الدير قد التفت برداء أسود فأصبحت كأنها من راهبات تلك البلاد وزادها شبها بهن اصطحابها ذلك الراهب، وكان على رأس الراهب قبعة كالخمار تكسو كل رأسه إلا وجهه وقد تجمعت لحيته بين جناحي الخمار وبرزت إلى الأمام مع شاربه فأصبح فمه غائرا.
الفصل الأربعون
شبح غريب
تواريا عن الدير وقد صارت الشمس في الضحى وتوجها شمالا في طريق بعضه مطروق وبعضه غير مطروق، وكانت سالمة تعجب لما تراه من المنازل المهجورة والكروم المتروكة، وهي تعلم أن أهل القرى إذا نشبت الحرب لجئوا إلى المدن يحتمون بأسوارها، ولكنها رأت ما يدل على الهجرة القريبة كأن أهل تلك الحقول تركوها بالأمس، فقالت في نفسها: «لا بد أن حادثا طرأ على هذه البلاد.» فالتفتت إلى الراهب وهو على بغلته بجانبها وقالت: «مالي أرى الحقول مهجورة على هذه الصورة؟»
قال: «لا أظنك تجهلين ما نحن فيه من الضيق بسبب هجوم العرب على بلادنا، وأهل القرى لا حصون تحميهم من السلب والنهب.»
فقالت: «ولكن العرب لا يزالون بعيدين عن هذه القرى، وربما لا يستطيعون الوصول إليها فكيف هجرها أهلها عفوا؟»
قال: «إن خوف أهل القرى يا ابنتي ليس من جند العرب فقط، بل هم يخافون جند الإفرنج أنفسهم؛ لأنهم إذا مروا بقرية نهبوها وأذلوا أهلها وخربوا منازلها وليس من يردعهم، والظاهر أنهم علموا بقرب مجيء ذلك الجند ففروا من وجوههم، لا أدرى إلى أين ولعلهم لجئوا إلى البلاد البعيدة عن الطريق ريثما يمر الجند فيعودون إلى حقولهم.»
وكانت سالمة تسمع كلام الراهب وترى فيه ما يبشرها بنجاح مهمتها، ولكنها كانت منشغلة الذهن بشبح وقع نظرها عليه عن بعد وهو راكب على جواد وقد ساقه نحو الجهة التي يسيران إليها، ولما رآها الراهب تنظر إلى ذلك الشبح وجه هو التفاته إليه، فلما رأت سالمة انتباه الراهب للأمر قالت له: «ما ظنك بهذا الفارس؟»
Bog aan la aqoon