فلما دخلت قبلت يده فباركها، وجلست إلى جانبه فسألها عما تريد، فقصت عليه مختصر ما جرى لها حتى انتهت إلى أمر الأسرى فأكدت له أن العرب أكثر الأمم رفقا برعاياهم وأسراهم، وأنهم إنما امتد سلطانهم في الشرق والغرب لما آنسه أهل البلاد على اختلاف مذاهبهم من حرية الدين والعمل على غير المألوف عند أمم الإفرنج في ذلك العصر، وأن ما أصاب كنيسة بوردو من النهب إنما وقع سهوا من بعض ذوي المطامع من أتباع جند المسلمين غير العرب.
فلما سمع الأسقف كلامها تذكر أنه كثيرا ما كان يسمع منها إطراء العرب من قبل ولم يكن يصدق ما يسمع، وكان يظنها تقول ذلك عن هوس مثل هوسها بتعليم ابنتها اللغة العربية وهي مقيمة ببلاد الإفرنج مع كونها غير عربية، فلما سمع قولها بعد ما شاهده من الرفق آمن بصدقها فجاراها في الإطراء، فاغتنمت تلك الفرصة وانتقلت إلى الحديث المقصود فقالت: «لا أنسى يا سيادة الأسقف ما كنت ألقاه من نفورك إذا امتدحت العرب بين يديك حتى شاهدت ذلك بنفسك عن بعد، ولو أتيح لك معاملتهم ومعاشرتهم لزدت ارتياحا لهم ولذلك فإني أستغرب محاربة أهل هذه البلاد لهم، والوقوف في سبيلهم.»
فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، إننا كثيرا ما سمعناه بعدلهم غير أننا رأينا من بعضهم من القسوة ما يشيب لهوله الأطفال حتى كاد يثبت عندنا ما كنا نسمعه من أنهم يعبدون الأوثان ولا يعرفون عبادة الله.»
الفصل السادس والثلاثون
رأي الإفرنج في المسلمين
فابتسمت سالمة ابتسام الاستغراب، وقالت: «يعبدون الأوثان؟ إن ذلك من الأراجيف التي يشيعها أعداؤهم، فإنهم يعبدون الإله الواحد، ويحترمون الديانة النصرانية احتراما كبيرا ويكرمون السيد المسيح كثيرا، ولا يعقل أن تنسب إليهم الوثنية ونبيهم إنما قام لإبادة الأصنام التي كان العرب يعبدونها من قبله فكسرها ومحا الصورة التي كانت في معبد الوثنية في مكة، وبغض الوثنية إلى أتباعه حتى حرم عليهم التصوير ونحت التماثيل فما يبلغكم من هذا القبيل إنما هو حديث مقصود لغرض من الأغراض، ولا أنكر عليك ما قد يبديه بعضهم من سوء التصرف أو الطمع أو نحو ذلك، فهذا لا يصح القياس عليه كما لا يصح أن نقيس كل أعمال الأساقفة بعمل واحد منهم شذ عن المنهج القويم، وزد على ذلك أن العرب مهما يكن من أمرهم فهم أرفق بأهل هذه البلاد من هؤلاء الإفرنج الذين جاءوا بقبائلهم واستبدوا بهم واستعبدوا الناس واستخدموهم في أشق الأعمال ولم يقلدوا واحدا من أهل البلاد وظيفة من وظائفها، فهم القابضون على زمام الحكومة، وهم المغتصبون لخيرات البلاد، وما الغاليون إلا مثل العبيد أو الأقنان الذين يشتغلون في الحقول، هل رأيت غاليا تقلد منصبا كبيرا، أو هل رأى الغاليون راحة منذ وطئ هؤلاء الإفرنج بلادهم؟ أما العرب فإذا فتحوا بلدا أطلقوا حرية الأديان والمذاهب والمعاملات، حتى الحكومة والقضاء فإنهم يتركونهما لأهله ويقتصرون هم على قيادة الجند وحماية الأهالي من الأعداء، لا يلتمسون أجرا على ذلك إلا مالا يسمونه الجزية وهي لا تساوي بعض ما يقتضيه أولئك الإفرنج من الضرائب الفادحة، ناهيك بالحرية التي يتمتع بها الأهلون تحت عنايتهم، وسيادتكم تعلمون حال أهل هذه البلاد مع الإفرنج الفاتحين فإنها أصعب مما كانت تحت سلطان الرومان قبلهم، أليس معظم الناس هنا عبيدا، فحكامهم يتصرفون فيهم تصرف المالك فيما يملك؟ نعم إن العرب عندهم العبيد والموالي ولكنهم أشد رفقا بهم من أولئك، فإن الرق عند المسلمين غير مستحسن، وكان الإسلام يدعو إلى إبطاله ولو لم ير نصارى الشرق والغرب ما رأوه من الرفق والعدل تحت ظل المسلمين ما فضلوهم على الروم والفرس لقد أطلت عليك الشرح، إن غرضي أن تسعى في حقن الدماء، فهل تساعدني على ذلك؟ إن المسلمين فاتحون هذه البلاد لا محالة، فبدلا من أن يفتحوها عنوة ويسفكوا فيها الدماء ويهدموا المنازل والقصور، فليكن فتحها صلحا ويحفظ لكل واحد ماله وعرضه والسعي في هذا السبيل من واجبات سيادتكم أكثر مما هو من واجبات أمثالي.» وكانت سالمة تتكلم وأمارات الجد والاهتمام ظاهرة في كل كلمة وحركة.
وكان الأسقف يسمع أقوالها ويعجب بسعة علمها عن العرب كأنها عاشرتهم وساكنتهم زمنا طويلا، وكأنها أطلعت على علومهم وآدابهم، ومع كل ما في أقوالها من المخالفة للاعتقاد الذي كان متسلطا على عقول أهل تلك البلاد يومئذ فإنه أحس بالاقتناع بقولها، ونبهه ضميره إلى واجب يقضي عليه بالسعي في حقن الدماء على ما سمعه من سالمة فقال لها: «جزاك الله يا ابنتي على سعيك في مصلحة شعب الله، ونطلب إليه تعالى ونتضرع إلى السيد المسيح أن يقدم ما فيه الخير.»
فلما آنست منه اقتناعا، عمدت إلى تحقيق هدفها بلباقة وحسن سياسة فقالت: «لا أريد من سيادة الأسقف أن يكلف إخواننا المسيحيين تسليم البلاد إلى هؤلاء المسلمين عفوا، ولا أن يساعدوهم على أخذها بالسيف وإنما أرى أن يتركوا الأمر لمن غلب بغير أن يساعدوا أحد الفريقين على الآخر، فإذا غلب الإفرنج فهم أصحاب السيادة والبلاد في أيديهم، وإذا انتصر العرب فلا يضرنا انتصارهم بل هم خير لنا من أولئك.»
فارتاح الأسقف إلى قولها وكان روماني الأصل، وقد رأى من الإفرنج استبدادا في دائرة نفوذه حتى كادت السلطة أن تخرج من يده، فقال لها: «أود أن يعلم إخواني الأساقفة بهذه النصيحة في البلاد الأخرى، ولكنني أخشى أن يطلع الحكام الإفرنج على ذلك فيعود وبالا علينا.»
قالت: «علي إبلاغ ذلك إلى من شئت، وإنما أطلب منك كتابا ترسله معي إلى أسقف بواتيه لا تذكر فيها شيئا غير التعريف البسيط، وأني من أبنائك المخلصين، فإذا أنا لقيته أطلعته على ما أراه من هذا الموضوع، وأتوسل إلى مولاي أن يبث هذه الروح في رجال بطانته على ما يراه، ولا أظن واحدا من أهل بوردو لا يشهد هذه الشهادة عن العرب وقد أعادوا إليهم أسراهم وآنية كنيستهم.»
Bog aan la aqoon