قالت: «إني أقدم نفسي للذهاب في أية مهمة تفرضونها، والأفضل على ما أرى أن أتقدمكم في البلاد التي تنوون المسير لفتحها، فأغرس في قلوب أهلها الاطمئنان للمسلمين وسلطانهم، ويساعدني على ذلك مبالغتكم في إكرام نصارى بوردو وطمأنة قلوبهم ومحاسنتهم واحترام شعائر دينهم والمحافظة على أعراضهم وأرواحهم، فإذا فعلتم ذلك هان علي إقناع أولئك بأن المسلمين الفاتحين أهل حرمة وذمام، يخافون الله ويعملون بالعدل، وليس كما يتوهم بعض ذوي الأغراض أن المسلمين قساة القلوب لا دين يردعهم عن ارتكاب المحرمات ولا حنان في قلوبهم يمنعهم من الظلم والعسف، وقد حمل الناس على تصديق ذلك ما كان يرتكبه بعض الذين كانوا يرافقون جند المسلمين لمجرد الرغبة في النهب والقتل، ولم يكن أميرهم حكيما عاقلا مثل عبد الرحمن ليصلح ما يفسدونه مما رأيناه منه في هذا المساء.»
فازداد عبد الرحمن إعجابا بتفكير تلك المرأة وغيرتها على المسلمين، وقال: «افعلي ما يتراءى لك وإني فاعل بنصارى بوردو ما تريدينه فما الذي يرضيهم؟»
فقالت : «إنما يرضيهم المحافظة على شعائرهم الدينية واستبقاء كنائسهم ومعابدهم ثم رد أسراهم بالفدية مثلما جرت العادة، وهناك أمر ذو بال أوجه نظركم إليه، وذلك أن بيع أسرى النصارى إلى اليهود مما يسيء إلى النصارى لما تعلمه من الضغائن بين الطائفتين، وخصوصا بعد ما ظهر من ممالأة اليهود لكم وتسهيل الفتح عليكم.»
فقطع عبد الرحمن كلامها قائلا: «ولكن اليهود تجار نبيعهم الأسرى بالمال، فمن أراد من أهل البلاد أن يفتدي أسيره افتداه منهم بالمال.»
قالت: «ولكن بعض اليهود يبتاعون الأسرى للتنكيل بهم تشفيا مما كان النصارى يسومونهم إياه من قبل، وكثيرا ما كان اليهود يبتاعون الأسرى النصارى ويذبحونهم فإذا تجنبت هذا الأمر كان خيرا على كل حال.»
الفصل الثالث عشر
الآنية
ولم تتم سالمة حديثها حتى سمعوا قرقعة وضوضاء خارج الفسطاط، ثم دخل أحد الغلمان وهو يقول: «الأمير هانئ بالباب، ومعه أناس يحملون أكياسا.»
ثم دخل هانئ ووراءه عبيد يحملون أكياسا وأدوات وهو يقول: «هذه أدوات الكنيسة لم نستطع جمعها إلا بشق الأنفس؛ لأنها كانت قد وزعت بين أصحاب الغنائم.» قال ذلك وأمر الرجال أن يفرغوا ما في الأكياس بين يدي الأمير، ولم تمض لحظة حتى امتلأ البساط بالشمعدانات والصلبان والكئوس وفيها الفضة والذهب، فضلا عن أنواع من الملاعق والصحون والصور المذهبة والمفضضة وقطع من الذهب اقتلعوها من التماثيل الكبيرة التي لم يستطيعوا حملها من جدران الهيكل وأعمدته.
فلما خرج الحمالون ولم يبق في الخيمة إلا عبد الرحمن وهانئ وسالمة، التفت عبد الرحمن إلى سالمة وقال لها: «هذه هي الآنية، فماذا نفعل بها؟»
Bog aan la aqoon