فقطع عبد الرحمن كلامها، ووجه خطابه إلى بسطام قائلا: «هب أنهم فعلوا ما تقول، فالعبرة بالنتيجة وإذا كنا نسلك مثل ما سلك هؤلاء فأي فضل لنا، وبماذا تتوقع النصر في الدنيا والنعيم في الآخرة فالذي يهمنا أن نعمل بمقتضى الكتاب والسنة ونقتدي بالسلف الصالحين، وزد على ذلك أن طمعنا في القليل من الغنائم قد يؤدي إلى فشلنا ويقف في سبيل الفتح فنخسر أضعاف تلك الغنائم، ناهيك بالفشل وما قد يلحقنا بسببه من العار.» ثم وجه خطابه إلى هانئ وقد بدا الاهتمام بين حاجبيه، وقال: «لا يخفى عليكم أننا نعتزم عملا أثمن كثيرا من الذهب والفضة والآنية، وأعظم من أن يقاس بالحطام الفانية، نحن نعتزم فتح هذا العالم الكبير فإذا وفقنا في فتحه كسبنا الأموال والأرواح ونشرنا الإسلام في قبائل من النصرانية والوثنية لا يحصيها إلا الله، فنملك المدن والرقاب وتخفق رايتنا على رومية والقسطنطينية وغيرهما من عواصم النصرانية، ويصير صعلوكنا أميرا وفقيرنا غنيا فتحرز يا هانئ ما استطعت من الذهب والفضة والجواهر، وتملك ما تريده من الجواري والغلمان وإذا كنت مخطئا في قولي فنبهوني.»
فأدرك هانئ أن عبد الرحمن إنما ينتظر الجواب من بسطام احتيالا عليه في إجابة الطلب، فقال بسطام وقد سحر بلطف عبد الرحمن: «إنك على صواب، والحق يقال إن البربر وغيرهم من الموالي لم ينصفوا في حقوقهم بإزاء العرب مثلما أنصفوا في أيامك، لقد كان أسلافك - ولا يزال كثيرون من أمراء العرب إلى اليوم - يعدون المسلمين من غير العرب عبيدا، فإذا حاربوا معهم في معركة لا يقاسمونهم الغنائم كما يقاسمون العرب، فلا تظننا غافلين عن هذا الفضل.»
فقطع عبد الرحمن حديثه قائلا: «أنا لم أعامل غير العرب إلا بالعدل؛ لأن المسلمين أخوة، والآن أسرع إلى الغنائم قبل اقتسامها ومعك الأمير هانئ، واستبعدا آنية الكنيسة واحملاها إلينا لننظر في أمر إعادتها إلى أصحابها.»
خرج بسطام وهو منتفخ الصدر بما آنسه من الرعاية والإطراء، ونسي ما كان في نفسه على هانئ بسبب مريم وأهل الفظاظة والخشونة من أقرب الناس إلى المصافاة لخلو قلوبهم من نتائج الكظم، فإذا أساء إليهم أحد بعمل جاهروا بما في نفوسهم عليه فهم لا يحقدون، وخصوصا في موقف يشبه موقف بسطام بالنسبة إلى مريم، فإنه كان يطلبها؛ لأنه استلطفها ووعد نفسه بها، ولكنه لم يتعلق بحبها كما فعل هانئ، أما هانئ فإنه سار في أثر بسطام، وظل قلبه في ذلك الفسطاط، أو لعله استعاض عنه بقلب مريم؛ لأنها أحست عند خروجه كأن قلبها اقتلع من صدرها، وخشيت الفضيحة لظهور أثر ذلك على وجهها فتشاغلت بإصلاح الخمار الأسود.
فلما خرج الأميران التفتت المرأة إلى عبد الرحمن، وقالت: «هل يأذن مولاي الأمير بإرسال فتاتي هذه مع هذا الشيخ إلى مقر تقيم فيه تحت حمايتك ريثما أتم حديثي معك ونرى ما يكون.»
فصفق عبد الرحمن وصاح: «يا غلام.» فدخل أحد الغلمان، فقال: «أبلغ هذا الشيخ وهذه الفتاة إلى خباء نسائي، وأوص قيمة الخباء بإكرامها، وألا تعدها في جملة الجواري وإنما هي ضيفة علينا إكرامها ورعايتها.»
فاستحسنت المرأة ذلك والتفتت إلى حسان، وقالت: «سر يا عماه مع مريم في رعاية مولانا الأمير، وكن معها حتى آتيك.»
فأشار مطيعا وخرج وهو يتوكأ على عكازه، وخرجت مريم في أثره والغلام أمامهما.
الفصل الحادي عشر
بعض السر
Bog aan la aqoon