فتهامس الأمراء وتداولوا مليا ثم قال أحد أمراء اليمنية: «أرى الأمير على صواب في رأيه؛ لأن الرجل منا لا يستطيع الحرب وهو مثقل بالأحمال، وإذا خسر الإنسان غنيمته وانتصر في حربه عوض أضعافها.»
فوافق على ذلك كثيرون ولحظ هانئ أن البربر لا يزالون يلوذون بالصمت، فخشي الفشل فقال: «وأزيد على ما قاله الأمير أننا إذا انتصرنا في هذه الوقعة كانت غنائمنا فوق ما تدركه العقول؛ لأن الدوق قارله (شارل) صاحب هذا الجند وأشار إلى جند شارل قد حمل معه كل ما في بلاده من التحف وكل ما في الأديرة والكنائس والقصور، فإذا انتصرتم عليه ظفرتم بالغنى والفخر والسعادة.» قال ذلك بلهجة تحمل كل معاني الإخلاص، وهو يبتسم ويتفرس في وجوه الأمراء.
فلم يجد أمراء البربر ما يدفعون به قوله، فتكلم شيخ من أمرائهم قائلا: «لا ريب في أن الجندي لا يستطيع الحرب إلا إذا كان خفيفا، ولكن من لنا بمن يقنع أفراد الجند بأن يتركوا غنائمهم التي ظفروا بها بعد شق الأنفس وهم لا يطمعون في إمارة أو قضاء وإنما ربحهم من هذه الحرب ما يرجعون به من الغنائم، فعندي أننا بدلا من أن نترك الغنائم هنا نحملها معنا في صباح الغد ونجعل لها مكانا بجانب معسكرنا ، فإن ذلك أيسر على أصحابها من أن يتركوها في مكان يحول بينهم وبينه نهر.»
الفصل السابع والستون
رسول أمين
فلم ير عبد الرحمن بدا من الموافقة فعادوا إلى المعسكر وباتوا تلك الليلة هناك، وأصبحوا في اليوم التالي وأخذوا في عبور النهر إما خوضا أو سيرا على قوارب نصبوها عرضا، وكان ذلك النهر جدولا صغيرا لا يعد شيئا بالنسبة إلى نهر لوار وهو يصب فيه فعبر أولا عبد الرحمن وهانئ ليعينا أماكن الخيام فوقفا على مرتفع أطلا منه على ذلك السهل، وأخذا في تعيين الأماكن والجند يشتغلون في نصب الخيام وغرس الأعلام إلى قرب الأصيل فلاحت من هانئ التفاتة وهو ينظر إلى الأفق فرأى شبحا يعدو نحوهما عدوا سريعا، فتعلق ذهنه به وجعل يتفرس فيه فرأى عليه ملابس الرهبان فازداد استغرابا، ثم رآه قد سقط على الأرض وهو يشير بيديه نحو هانئ، فركض هانئ فرسه حتى وقف عنده فإذا هو حسان خادم سالمة وقد استلقى على ظهره وقبض بإحدى يديه على جنبه كأنه يشكوا ألما هناك وأمسك بيده الأخرى شيئا أومأ به نحو هانئ.
فترجل هانئ، وأراد أن يساعد حسانا على الجلوس، فأشار له بعينيه أن يتركه، فسأله عن أمره فقال بصوت متقطع وهو يلهث وقد ضغط بكفه على جنبه من شدة الألم: «أرسلتني مولاتي سالمة برسالة إلى الأمير عبد الرحمن من دير القديس مرتين فحملتها (وأشار بيده والرسالة فيها) حتى إذا خرجت من الدير ورأيت أعلامكم عن بعد أسرعت نحوكم، فما شعرت إلا ونبل أصابني في جنبي من خائن أظنه عدلان الأحول فأيقنت أني ميت فأسرعت حتى أدرككم بهذه الرسالة؛ لأنها في غاية الأهمية فسقطت قبل أن أصل إليكم وهذه هي الرسالة.»
ثم انقطع صوته وتزايد ألمه وأغمض عينيه وأرخى يديه، فناداه هانئ فلم يجب، وكان عبد الرحمن قد شاهدهما فأسرع إليهما وسمع كلام حسان، فلما رآه على تلك الحال أسف لحاله أسفا شديدا وكذلك هانئ، وترجح عنده أنه ميت، ولكن الأمل لا ينقطع من الحياة طالما بقي نفس يتردد ، فأشار عبد الرحمن إلى هانئ أن يستقدم أحد الأطباء.
فركب بنفسه على أدهمه وركض نحو الجند، وصاح: «هاتوا طبيبا.» وبعد قليل جاء الطبيب وهو من نصارى الأندلس وقد قضى في خدمة العرب زمنا طويلا، فأسرع إلى حسان وجس نبضه فإذا هو ميت لا حراك به، فطلب إليهم أن يدبروا أمر غسله ودفنه، فحملوه إلى خيمة خاصة بذلك.
أما عبد الرحمن فتناول الكتاب وفضه وأخذ يتلوه وهانئ يسمع، فإذا فيه:
Bog aan la aqoon