Sharkh Bukhnir Cala Madhhab Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Noocyada
والمصريون كانوا يعتقدون أن الإله «فتا» كون العالم من بيضة خرج منها.
وهذا الانقسام في العقائد والتصورات إلى قسمين موجود في تاريخ العقل البشري من أوله إلى آخره، أحدهما يجعل أصل كل شيء في المادة، والآخر في إله حي ومستقل، وهذه التثنية لا تزال اليوم كما كانت في القديم، ويعبر عنها تارة بالقوة والمادة، وطورا بالروح والجسم، وبالطبيعة وبما وراء الطبيعة.
وما عدا هذه الروايات الدينية؛ فإنه يوجد أيضا آراء فلسفية بحتة قديمة تقترب أحيانا من آراء العلم اليوم فيما خص ظهور العالم وسكانه. وربما كان سبب هذه الموافقة أن أكثر الفلاسفة في القديم كانوا أطباء أو طبيعيين لا يعتمدون إلا على المراقبة والاختبار. إلا أن الفلسفة ما لبثت أن استقلت بعدهم، وصارت علما قائما بنفسه، فأخذ الفلاسفة يتقلبون في تيه التصورات، وكثرت الآراء كثيرا واختلفت. على أنه وجد في كل زمان قوم منهم ميالون للرأي المادي، وسنأتي على بيان ذلك فيما يأتي. وإذا كان الفلاسفة الماديون لم يفوزوا على خصومهم؛ فلسطوة الدين على الفلسفة من جهة، ولقلة ما كان لهم من المعلومات الصحيحة من جهة أخرى. فإنه لما لم يكن للماديين من البراهين الحسية ما يؤيدون به رأيهم في مادية الوجود، ولا سيما ظهور العالم العضوي طبيعيا، كانت دعوى الروحيين إن لم تكن أقنع فأرضى، حتى إن فلاسفة كأرسطو وفولطر لم يهملوا أن يستعملوا ضد الرأي المادي الحجة القديمة التي لا تزال تكرر لما لها من الوقع العظيم على الجمهور، وهي أن العمل يقتضي له عامل ضرورة، والبيت بان كذلك.
وأما اليوم فقد اختلف الأمر لما بين مذهب دارون والفلسفة المادية من الارتباط الشديد؛ إذ بين هذا المذهب أن التعليل الطبيعي ليس بالممتنع كما كان يظن من قبل. على أن الذين اعتقدوا وحدة الكون قبل دارون قد بينوا فلسفيا أن ظهور الأحياء أمر طبيعي، وكذلك ظهور الإنسان، وإني من الذين قالوا بهذا الرأي مع التأكيد الممكن إذ ذاك، وذلك قبل دارون بسنين عديدة.
على أن مثل هذه النتائج الفلسفية المستخرجة من مبادئ عامة لا قيمة لها إلا لعدد قليل من ذوي العلم والأفكار الراقية، وأما القسم الأكبر (الذي كما يقول الفيلسوف بركلي: لا يفتكر لنفسه، ويريد له رأيا)، فيقتضي له أدلة حسية واضحة وتعليلات كذلك، وهذه موجودة في مذهب دارون الذي انتقضت به كل الأفكار الفلسفية المبنية على النظر، فخلا الجو للفلسفة الطبيعة أو المادية التي تستند في براهينها إلى الطبيعة والمواد نفسها.
وهو واضح بعد ذلك أن الفلسفة المادية استفادت كثيرا من مذهب دارون، ولا يسعها أن تنحرف عنه لا للنسبة الكائنة بينهما، والتي ذكرناها فقط؛ بل لأن هذا المذهب هو الذي مهد السبيل أولا لتشييد فلسفة في الطبيعة صحيحة. والفرق بين الفلسفة المادية على ما صارت إليه اليوم، وما كانت في الماضي واضح كذلك ؛ فإنها كانت في الماضي تستند إلى بعض المشابهات، وربما أهملت أكبر الاختلافات، ثم تبني نتائجها في أمر الكون على ما لا يخرج عن حد الآراء والحدس، فكانت تعدم قيمتها لذلك. وأما اليوم فصارت بمذهب دارون ليس فلسفة فقط، بل علما أيضا وعلما وطيدا.
وإذ قد تقرر ذلك، وعرفنا ما لمذهبنا من الشأن في فلسفة الطبيعة، بقي علينا أن ننظر إلى أولئك الذين كان لهم هذه الأفكار أو مثلها، وقد جاهروا بها فيما تقدم من العصور. وسنرى أنهم نظرا لمبدئهم الطبيعي والبسيط هم يتوافقون في الأمور الجوهرية؛ ولذلك كانت فلسفتهم واضحة جدا ومتفقة كذلك، بخلاف سواهم الذين تكثر عندهم المناقضات، وتكاد لا تجد اتفاقا بينهم في أمر من الأمور، وإنك لتضيع في مذاهبهم حتى تقول أخيرا كما قال التلميذ في رواية «فوست» للشاعر غاتي:
وإني ليعروني دوار لذكرها
كأن رحى قامت برأسي تدور
ولا يرضى بذلك الفلاسفة الذين يقولون: إن كل ما يقال عنهم من هذا القبيل إنما هو من باب الوقيعة. ولكن قل لي: إلى أين وصلوا مع كل اجتهادهم، فقد وصلوا إلى حيث قال أحد مشاهيرهم إذ قال: «إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ خطأ يتخلله أشعة ضئيلة من النور قليلة جدا.»
Bog aan la aqoon