[تمهيد في سبب نزول سورة القدر]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نطقت بشكره الألسنة، وجل عن أن يأخذه نوم أو سنة، وفضل أزمنة كما فضل أمكنة، فجعل ليلة القدر خيرا من ثلاث وثمانين سنة، فقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر}.
Bogga 13
قال المفسرون: إن الضمير في أنزلناه عائد على القرآن الكريم وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه، كما قال تعالى: {حتى توارت بالحجاب}. ولم يتقدم للشمس ذكر. ثم اختلفوا فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وجماعة آخرون: أنزل الله تعالى القرآن ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم نجمه على محمد عليه الصلاة والسلام في عشرين سنة، فذاك قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم}. وقال الشعبي وجماعة: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك ليلة القدر، ويؤيده ما ذكره جماعة: أن ابتداء مجيء جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام كان في رمضان. قيل: في سابعه، وقيل: في سابع عشره، ومنهم من قال: ابتداء مجيئه إليه في شهر رجب، ومنهم من قال: في ربيع الأول. وقيل في هذه الآية: إنما جعل الإنزال من رمضان؛ لأن جبريل كان يعارض النبي عليهما الصلاة والسلام بالقرآن فيمحو الله ما يشاء ويثبت. وقال جماعة: المعنى أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها فجعلوا (في) للسببية، كقول عمر رضي الله عنه ليلة نزول سورة الفتح:
Bogga 14
لقد خشيت أن ينزل في قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن. قالوا: ولما كانت سورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيما وتجسيما كقوله تعالى: {وما أدراك ما ليلة القدر} عبارة تفخيم لها كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة}، وقوله: {القارعة ما القارعة}، ثم أدراه تعالى بعد بقوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر}.
Bogga 15
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما كان في القرآن: ((وما أدراك)) فقد أعلمه وما قال: ((وما يدريك)) فإنه لم يعلمه.
Bogga 16
وقد اختلف العلماء في سبب تسميتها ليلة القدر على أقوال:
(أحدها): أنها سميت بذلك؛ لأن الله تعالى يقدر فيها الأرزاق والآجال وحوادث العالم كلها، ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، كما قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم}. روي ذلك عن ابن عباس وقتادة وغيرهما وعزاه النووي للعلماء. ومعناه: أنه يظهر للملائكة وإلا فتقدير الله تعالى قديم.
(ثانيها): أن هذا من عظم القدر والشرف والشأن كما تقول: فلان له قدر. روي عن الزهري.
Bogga 17
(ثالثها): سميت بذلك؛ لأنها تكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن له قبل ذلك وتزيده شرفا عند الله تعالى.
(رابعها): لأن العمل فيها له قدر عظيم. وقد خص الله تعالى هذه الأمة بهذه الليلة.
Bogga 18
[سبب اختصاص الأمة المسلمة بليلة القدر]
Bogga 19
واختلف في سبب ذلك فروى مالك في الموطأ عمن يثق بقوله من أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله -أو ما شاء الله من ذلك- فكأنه تقاصر أعمار أمته: أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، خير من ألف شهر. وروى الترمذي في جامعه عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي -بعدما بايع معاوية- فقال: سودت وجوه المؤمنين أو يا مسود وجوه المؤمنين، فقال: لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إنا أعطيناك الكوثر} [يا محمد] يعني: نهرا في الجنة ونزلت {إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر}. يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم بن الفضل -أحد رواته- فعددناها فإذا هي ألف شهر، لا تنقص يوما ولا تزيد يوما. قلت نعم كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوك بني أمية هذا القدر أعني: ألف شهر، وهي ثمانون سنة وثلاث أعوام وثلث عام. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
Bogga 21
قوله: {تنزل الملائكة والروح}.
فقيل: هو جبريل عليه السلام. وقيل: هم صنف من الملائكة. وعلى كلا القولين هو عطف خاص على عام، وقيل: هم صنف من الخلق سماوي حفظة على الملائكة، كما أن الملائكة حفظة على بني آدم، وهم على صفة بني آدم ولا تراهم الملائكة.
Bogga 22
وقوله: {بإذن ربهم} إلى آخره من قال: إن الأرزاق تقدر في هذه الليلة جعل نزول الملائكة بسبب ذلك، وجعل (من) سببية، التقدير: تنزل الملائكة بسب كل أمر، وجعل (سلام هي) ابتداء كلام، أي: هي سلام إلى طلوع فجر يومها. ومن لم يقل بتقدير الأرزاق في هذه الليلة جعل قوله: {من كل أمر} متعلقا بقوله سلام، أي: أنها سلام، أي: سلامة من كل أمر. قال مجاهد: لا يصيب أحدا بها داء. وقال: الشعبي ومنصور: هي سلام بمعنى التحية، أي: تسلم فيها الملائكة على المؤمنين. وهذه الآيات مصرحة بشرفها ومنوهة باسمها، وذكرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)). وفي سنن النسائي الكبرى (وما تأخر)، وكذا في مسند أحمد ومعجم الطبراني من حديث عبادة ((وما تأخر))، وسيأتي ذكره وهذه فضيلة عظيمة حاضة على طلبها.
Bogga 23
وقد أجمع من يعتد به من العلماء على بقائها وأنها لم ترفع، بل
هي باقية إلى آخر الدهر. قال القاضي عياض رحمه الله: وشك قوم فقالوا: رفعت لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان ((فرفعت)) وهذا غلط من هؤلاء الشاكين؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ((فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في السبع أو التسع)). هكذا هو في أول صحيح البخاري. وفيه تصريح المراد برفعها رفع بيان علم عينها، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها. (قلت): وحكاه ابن عطية عن أبي حنيفة وقوم أعني: القول برفعها. قال: وهذا قول مردود وإنما رفع تعيينها. انتهى.
Bogga 24
وقد اختلف العلماء في محلها فذهب جمع من العلماء إلى أنها تلزم
ليلة بعينها واختلف هؤلاء في تعيين تلك الليلة على أقوال:
أحدها: أنها في جميع السنة، وهو المشهور عن أبي حنيفة رضي الله
عنه، ويشهد له قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ومن يقم الحول يصيبها. لكن في صحيح مسلم عن زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصيب ليلة القدر. فقال رحمه الله أراد أن لا يغفل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، فبهذا فهم أبي من كلام عبد الله. ويشهد له ما في مسند أحمد عن أبي عقرب قال:
Bogga 25
غدوت إلى ابن مسعود ذات غداة في رمضان فوجدته فوق بيته جالسا فسمعنا صوته وهو يقول: صدق الله وبلغ رسوله -فقلنا: سمعناك تقول صدق الله وبلغ رسوله- فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (([إن] ليلة القدر في [النصف من] السبع الأواخر [من رمضان] تطلع الشمس غداة إذ صافية ليس لها شعاع)). فنظرت [إليها] فوجدتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورواه البزار في مسنده بنحوه.
Bogga 26
وفي معجم الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: ((أيكم يذكر ليلة القدر الصهباوات)). فقال عبد الله: أنا بأبي أنت وأمي يا رسول الله حين طلع الفجر وذلك ليلة سبع وعشرين. والحديث في عدة كتب، لكن لم أر التصريح بليلة سبع وعشرين إلا في معجم الطبراني الكبير، فلذلك اقتصرت على عزوه إليه.
الثاني: أنها في شهر رمضان كله. وهو قول ابن عمر رضي الله
عنهما وجماعة من الصحابة. وفي سنن أبي داود عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع قال: ((هي في كل رمضان)). قال: قال أبو داود وروي موقوفا عليه.
(قلت): الحديث محتمل للتأويل بأن يكون المعنى بأنها تتكرر وتوجد في كل سنة في رمضان؛ لأنها وجدت مرة في الدهر، فلا يكون له دليل لهذا القول.
الثالث: أنها أول ليلة من شهر رمضان. قاله: أبو رزين العقيلي
الصحابي رضي الله عنه.
الرابع: أنها في العشر الأوسط والأواخر. ويرده ما في الصحيح عن
أبي سعيد من قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم لما أن اعتكف العشر الأوسط: ((إن الذي تطلب أمامك)).
Bogga 27
الخامس: أنها في العشر الأواخر فقط. ويدل له قول النبي صلى
الله عليه وسلم : ((التمسوها في العشر الأواخر))، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة. ثم ألتمس العشر الأوسط ثم أتيت قيل لي أنها في العشر الأواخر)).
السادس: أنها تختص بأوتار العشر الأواخر، لقوله صلى الله عليه
وسلم : ((التمسوها في العشر الأواخر في وتر)).
Bogga 28
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليل القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر في إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو في آخر ليلة، فمن قامها ابتغاها إيمانا واحتسابا ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)). فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وحديثه حسن. يرويه عمر بن عبد الرحمن، وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ليس بابن عوف. وقال الطبراني: أظنه ابن الحارث بن هشام.
وفي هذا الحديث فائدتان حسنتان: (إحداهما): قوله: ((وما تأخر)) وقد تقدم التنبيه عليها. (الثانية): أنه إنما يترتب الثواب على قيامها بقصد ابتغائها لا على مطلق القيام. وفيه إشكال لقوله: (أو آخر ليلة))؛ لأنه قال أولا: (فإنها في وتر) وآخر ليلة ليست وترا إن كان الشهر كاملا، وإن كان ناقصا فهي ليلة تسع وعشرين فلا معنى لعطفها عليها؛ لأن العطف يقتضي المغايرة . ويجاب عنه بأن قوله: (أو في آخر ليلة) معطوف على قوله: (فإنها في وتر) لا على قوله: (أو تسع وعشرين) فليس تفسيرا للوتر، بل معطوف عليه.
السابع: أنها تختص بشفاعه، لقول أبي سعيد الخدري: وقد قيل له:
ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ أما واحد وعشرون فالتي تليها ثنتان وعشرون وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة.
الثامن: أنها ليلة سبع عشرة. وهو مروي عن: زيد بن أرقم وابن
Bogga 29
مسعود أيضا. ففي معجم الطبراني عن زيد بن أرقم قال: ما أشك وما أمتري أنها ليلة سبع عشرة ليلة أنزل القرآن ويوم التقى الجمعان.
وعن زيد بن ثابت أنه كان يحيي ليلة سبع عشرة، فقيل له: تحيي ليلة سبع عشرة. قال: إن فيها نزل القرآن، وفي صبيحتها فرق بين الحق والباطل، وكان يصبح فيها مبتهج الوجه. قلت: وحكي أيضا عن الحسن البصري.
التاسع: أنها ليلة تسع عشرة. وهو محكي عن: علي بن أبي طالب
وابن مسعود أيضا.
العاشر: أنها تطلب ليلة سبع عشرة بتقديم سنين، أو إحدى وعشرين،
Bogga 30
أو ثلاث وعشرين. حكي عن علي وابن مسعود أيضا. ويشهد له ما في سنن أبي داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: ((اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين)). ثم سكت. والله أعلم.
الحادي عشر: أنها ليلة إحدى وعشرين. يدل له حديث أبي سعيد
الثابت في الصحيح، الذي فيه: وإني رأيتها ليلة وتر، وإني أسجد في صبيحتها في ماء وطين، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء، فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاته وجبينه وأنفه فيهما الماء والطين، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر.
الثاني عشر: أنها ليلة ثلاث وعشرين. وهو قول جمع كثير من
Bogga 31
الصحابة وغيرهم، ويدل لها ما في صحيح مسلم عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أريت ليلة القدر ثم أنسيتها [وأراني صبحها] أسجد في ماء وطين)). قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: ((أيكم يذكر [حين] طلع القمر وهو مثل شق جفنة)). وفي مسند أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: نظرت إلى القمر صبيحة ليلة القدر فرأيته كأنه فلق جفنة. قال أبو إسحاق السبيعي: إنما يكون القمر كذلك صبيحة ثلاث وعشرين. ورواه عبد الله بن أحمد في زيادته عن علي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((خرجت ليلة حين بزغ القمر كأنه فلق جفنة)). فقال: ((الليلة ليلة القدر)). وكذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده مرفوعا. وفيه أن الصحابي هو علي رضي الله عنه.
Bogga 32
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن أنيس قال: قلت: يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها، وأصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد فقال: ((انزل ليلة ثلاثة وعشرين)). وروى الطبراني في معجمه الكبير مثله عن عبد الله بن جحش، عن أبيه مرفوعا. وفي مسند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتيت وأنا نائم في رمضان، فقيل لي: إن الليلة ليلة القدر. قال: فقمت وأنا ناعس فتعلقت ببعض أطناب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يصلي، فنظرت في تلك الليلة فإذا هي ليلة ثلاث وعشرين. ورجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في معجمه الكبير أيضا.
الثالث عشر: أنها ليلة أربع وعشرين. وهو مروي عن: بلال وابن
عباس والحسن وقتادة. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس موقوفا عليه: ((التمسوها ليلة القدر في أربع وعشرين)). ذكره عقب حديثه الآتي: ((هي في العشر الأواخر في تسع يمضين أو في سبع يبقين)). وظاهره أنه تفسير للحديث فيكون عمدة. وفي مسند أحمد عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليلة القدر ليلة أربع وعشرين)).
الرابع عشر: أنها تكون في ليلة ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين.
Bogga 33