105

Sharh Riyadh as-Salihin

شرح رياض الصالحين

مسارعة الصحابة إلى الإنفاق من المحبوب
يقول لنا أنس بن مالك ﵁: (كان أبو طلحة ﵁ أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:٩٢]).
انظروا تطبيق الصحابة رضوان الله ﵎ عليهم، وليس مطلوبًا منك أن تفعل كفعلهم، ولكن المطلوب منك أن تنفق من الشيء الذي تقدر عليه، وربنا أوجب عليك الزكاة (٢.
٥%)، فاقتد بالصحابة ومهما أنفقت فلن تبلغ مد أحدهم ولا نصيفة، كما قال النبي ﷺ، ولكن نتأمل في سيرتهم وكيف بلغوا المبلغ العظيم في عبادتهم ربهم، وفي إنفاقهم أحب الأموال إليهم.
(قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:٩٢]، قام أبو طلحة إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:٩٢] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى).
يعني: قال الله ﷿: (مِمَّا تُحِبُّونَ) ولم يقل: حتى تنفقوا أحب الأشياء إليكم، وهذا تكرم من الله سبحانه، فقوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ) يعني: أنت تحب أشياء فأنفق من هذه الأشياء التي تحبها لا كلها، و(من) تبعيضية.
فـ أبو طلحة كان أعظم شيء يحبه حديقة كاملة فتصدق بها، وهذا شيء كبير جدًا ولكن كانت نظرته للدار الآخرة، كأنه يقول: أنا سأعطي هذه الحديقة وربنا سيعطيني أفضل وأحسن من هذه الحديقة بكثير، فقال للنبي ﷺ: (وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها)، أي: أرجو البر على ذلك، وأن تكون مدخرة لي عند الله ﷾.
قال: (فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله)، يعني: تصرف فيها كما تحب حيث أراك الله سبحانه.
فقال النبي ﷺ: (بخ بخ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح)، يعني: تعجب النبي ﷺ لإحسان هذا الرجل ولعظيم صدقته، فقال: (بخ) وهي كلمة تقال للتعجب، فهو ﷺ تعجب من فعل هذا الرجل الطيب رضي الله تعالى عنه، ولتفخيم أمر الصدقة التي أخرجها، فقال النبي ﷺ: (ذلك مال رابح) يعني: أن لك الربح من الله والأجر العظيم على صدقتك، لا يضيع عند الله سبحانه، بل يربحك عليها الأجر العظيم.
فقال ﷺ: (قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، وهنا النصيحة العظيمة الذي يعلمها لنا النبي ﷺ، عندما يأتي إليك إنسان بمال كثير ويقول لك: أنفق هذا المال، قد تقول: آخذ منه المال وأنفقه من أجل أن يكون لي نصف الأجر، لكن اصبر قليلًا وانظر ماذا فعل النبي ﷺ، لم يقل: هات المال وأنا سوف أتصدق به، بل قال له: اجعله في الأقارب الفقراء، ومعلوم أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فهو ﵊ نصحه وأرشده إلى أنه إذا كان هناك أحد في أقربائك فقير فأنفق هذا المال عليه، حتى تكون له صدقة وصلة ويحصل على أجرين.
فقال ﷺ: (وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة ﵁: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).
نتعلم من ذلك أننا ننصح لغيرنا كما ننصح لأنفسنا، ونتعلم أن على الإنسان أن يخرج من طيب ماله الذي يرجو بركته، ويرجو الأجر من الله ﷿ عليه، فينفق لله ويحتسبه، وما نقص مال من صدقة، كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، والصحابة كانوا ينفقون نفقات عجيبة جدًا، وكان ربنا ﷾ يعطيهم أضعافًا مضاعفة.
وهذا عبد الرحمن بن عوف كان ينفق نفقات عجيبة جدًا، ويقال إن عبد الرحمن بن عوف لم يجب عليه في ماله زكاة؛ لأنه كان ينفقه قبل أن يحول عليه الحول ويتصدق به، وربنا يعطيه مثله وأضعافه، وكان يسمع أن الفقراء يسبقون الأغنياء يوم القيامة بنصف يوم، فهو ينفق من أجل أن يدخل مع الفقراء، فربنا سبحانه يعطيه بنيته، وقد شهد له النبي ﷺ بأنه أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، ومع ذلك كان ينفق ويعطي ولم يتكل على ما قاله النبي ﷺ.
وهذا الزبير بن العوام قيل: كان عنده من العبيد ألف، الذين يعملون ويأتونه بالأجرة، وكان تاجرًا محظوظًا، وكان ابن عمة النبي ﷺ وحواري رسول الله ﷺ، وكان من المتصدقين ومن أهل الكرم رضي الله تعالى عنه، فقد كان الألف عبد يأتونه بالأجرة، فيأخذ الأجرة ولا يأكل منها أبدًا، وإنما يجعلها كلها لله ﷿، ينفقها في سبيل الله ﷾، فكان ربنا ﷾ يبارك له في ماله.
وهذا أبو بكر الصديق ﵁ كان ينفق ماله كله في سبيل الله ﷾، وعمر بن الخطاب كان ينفق نصف ماله في سبيل الله ﷾، وكانت نفقاتهم عظيمة، فقد كانوا يرجون بها أن يعفو الله تعالى عنهم يوم القيامة ويدخلهم جنته.

12 / 7