Sharh Muqaddimat al-Tashil li-Ulum al-Tanzil li-Ibn Juzayy

Musaad Al-Tayyar d. Unknown

Sharh Muqaddimat al-Tashil li-Ulum al-Tanzil li-Ibn Juzayy

شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

Daabacaha

دار ابن الجوزي

Lambarka Daabacaadda

الأولى

Sanadka Daabacaadda

١٤٣١ هـ

Noocyada

شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي شرحها د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار اعتنى بإخراجها بدر بن ناصر بن صالح الجبر دار ابن الجوزي

1 / 3

بسم الله الرحمن الرحيم

1 / 4

مقدمة الشرح الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذا شرح للمقدمة الأولى من مقدمتَي كتاب: «التسهيل لعلوم القرآن» لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي. وإني لأشكر الله الذي يسَّر لي إتمام شرحها، وإني لأسأله أن يبارك لي في وقتي لأنجز سواها مما هو بين يدي. ولا يفوتني في هذا المقام أن أشكر أخي بدر بن ناصر بن صالح الجبر الذي أعانني على إخراج هذا الشرح بهذه الصورة التي بين يديكم، فقد كان مراجعًا ومدقِّقًا ومخرجًا، فجزاه الله عني خيرًا، وبارك له في كل أموره. وقبل البدء بشرح هذه المقدمة أشير إلى كتاب: «ابن جزي ومنهجه في التفسير» لعلي بن محمد الزبيري ﵀، فإنه يُعدُّ من أحسن الكتب التي كُتبت في بيان منهجِ مُفَسِّر، وقد ذكر في ترجمة ابن جزي ﵀ ما نصه: (ـ مولد ابن جزي ووفاته ـ: ولد أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي في يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ٦٩٣هـ، الموافق ١٢٩٤م في مدينة غرناطة عاصمة الأندلس في ذلك العهد، واستُشهد ﵀ في ضحوة يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام ٧٤١هـ، الموافق ٣٠ أكتوبر/ت١ سنة ١٣٤٠م في معركة (طريف) بعد أن أبلى بلاء حسنًا - تقبَّل الله شهادته ـ.

1 / 5

لقد فُقد ﵀ وهو يشحذ هِمم الناس، ويحرِّضهم ويثبِّت بصائرهم، وكان هذا هو آخر العهد به، لقد حفظ لنا صاحب «نيل الابتهاج» نصًّا تاريخيًا هامًّا يتعلق باستشهاد ابن جزي نقله عن فهرسة الحضرمي - أحد تلاميذ ابن جزي - جاء فيه: قال الفقيه المحدث الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين ابن الحكيم: (أنشدني - يقصد ابن جزي - يوم الوقيعة من آخر شعره قوله: قصدي مؤمل في جهري وإسراري ... ومطلبي من إلهي الواحد الباري شهادةٌ في سبيلِ اللهِ خالصةٌ ... تمحو ذنوبي وتُنجيني من النار إن المعاصي رجسٌ لا يُطَهِّرُها ... إلا الصَّوارمُ في أيْمانِ كُفَّارِ ثم قال: (في هذا اليوم أرجو أن يعطيني الله ما سألته في هذه الأبيات، وهكذا صدق الله ابن جزي، فصدقه وانتقل إلى جوار ربه بموكب الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأكرمهم وآواهم، وفي هذه المعركة استشهد العديد من علماء الأندلس وأعيانهم، كما استشهد العديد من علماء المغرب وأعيانه) (١). هذا موجزٌ نكتفي به فيما يتعلق بحياة ابن جزي، ومن أراد المزيد في كتب ابن جزي وعلمه وطريقته في العلم وشيوخه وتلاميذه، فيمكنه مراجعة كتاب الزبيري.

(١) ابن جزي ومنهجه في التفسير، لعلي الزبيري، ص١٦٩، ١٧٠.

1 / 6

سبب تأليفه للكتاب ومقاصده قال المصنف ﵀ (١): الحمد لله العزيز الوهَّاب، مالك الملوك وربِّ الأرباب، هو الذي أنزل على عبده الكتاب هدًى وذكرى لأولي الألباب، وأودعه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة غاية الحكمة وفصل الخطاب، وخصَّه بالخصائص العليَّة، واللطائف الخفيَّة، والدلائل الجليَّة، والأسرار الربَّانية العُجاب، بكل عجب عجاب، وجعله في الطبقة العليا من البيان حتى أعجز الإنسان والجانّ، واعترف زعماء أرباب اللسان بما تضمَّنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب، ويسَّر حفظه في الصدور، وضمن حفظه من التبديل والتغيير، فلم يتغير، ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب، وجعله قولًا فصلًا، وحكمًا عدلًا، وآية بادية، ومعجزة باقية يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب، وتقوم بها الحجة للمؤمن الأوَّاب، والحجَّة على الكافر المرتاب، وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام، وبيَّن من الحلال والحرام، وعلَّم من شعائر الإسلام، وصرف من النواهي والأوامر، والمواعظ والزواجر، والبشارة بالثواب، والنذارة بالعقاب، وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصَّته، واصطفاهم من عباده وأورثهم الجنة وحسن المآب. فسبحان المولى الكريم الذي خصَّنا بكتابه، وشرَّفنا بخطابه، فيا له من نعمة سابغة، وحجة بالغة، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها، وتوفية حقها، ومعرفة قدرها، وما توفيقي إلا بالله هو ربي لا إله إلا هو

(١) كُتبَت هذه المقدمة اعتمادًا على تحقيق الدكتور: محمد بن سيدي محمد بن مولاي للتفسير الذي طبع أثناء تنقيح هذا الشرح ومراجعته، فوثقت هذه المقدمة منه.

1 / 7

عليه توكلت وإليه متاب، وصلاة الله وسلامه وتحياته وبركاته وإكرامه على من دلَّنا على الله، وبلَّغنا رسالة الله، وجاءنا بالقرآن العظيم وبالآيات والذكر الحكيم، وجاهد في الله حق الجهاد، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد، وعلَّم ونصح وبيَّن وأوضح حتى قامت الحجة، ولاحت المحَجَّة، وتبيَّن الرشد من الغي، وظهر طريق الحق والصواب، وانقشعت ظلمات الشك والارتياب، ذلك سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي القرشي الهاشمي المختار من لُباب اللباب، والمصطفى من أطهر الأنساب، وأشرف الأحساب، الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، والجنود القاهرة، والسيوف الباترة الغضاب، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة، وجعله قائدًا للغر المحجَّلين والوجوه الناضرة، فهو أول من يشفع يوم الحساب، وأول من يدخل الجنة ويقرع الباب، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الأكرمين خير أهل وأكرم أصحاب، صلاة زاكية نامية لا يحصر مقدارها العد والحساب، ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتَّاب، أما بعد: فإن علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدرًا، وأجلها خطرًا، وأعظمها أجرًا، وأشرفها ذكرًا، وأن الله أنعم عليَّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلُّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه، فاطلعت على ما صنفه العلماء ﵃ في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار، ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار، ومنهم من تكلَّم في بعض فنون العلم دون بعض، ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقًا نحاه، وذهب مذهبًا ارتضاه، وكلًاّ وعد الله الحسنى، فرغبتُ في سلوك طريقهم، والانخراط في سلك فريقهم، وصنفتُ هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر ما يتعلق به من العلوم، وسلكت مسلكًا نافعًا؛ إذ جعلته وجيزًا جامعًا، قصدت به أربع مقاصد تتضمن أربع فوائد:

1 / 8

الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلًا على الطالبين، وتقريبًا على الراغبين، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمَّنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها، ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه من غير إفراط ولا تفريط، ثم إني عزمت على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار. الفائدة الثانية: ذكر نُكت عجيبة وفوائد غريبة قلَّما توجد في كتاب؛ لأنها من بنات صدري ونتائج فكري، ومما أخذته عن شيوخي ﵃، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر. الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات، إما بحل العُقَد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات. الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح؛ وذلك أن أقوال الناس على مراتب، فمنها الصحيح الذي يعوَّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد، ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساويًا أو متفاوتًا، والتفاوت قد يكون قليلًا أو كثيرًا. وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول، فأدناها ما أُصرِّحُ بأنه خطأ أو باطل، ثم ما أقول فيه: إنه ضعيف أو بعيد، ثم ما أقول: إن غيره أرجح منه أو أقوى أو أظهر أو أشهر، ثم ما أقدم غيره عليه إشعارًا بترجيح المتقدم، أو بالقول فيه: قيل، كذا قصدًا للخروج من عهدته. وأما إذا صرحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يُقتدى به، على أني لا أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلًا؛ وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، وأما إذا ذكرت شيئًا دون حكاية قوله عن أحد؛ فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء

1 / 9

نفسي أو مما أختاره من كلام غيري، وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيهًا للكتاب عنه، وربما ذكرته تحذيرًا منه، وهذا الذي ارتكبت من الترجيح والتصحيح مبني على القواعد العلمية، أو على ما تقتضيه اللغة العربية، وسنذكر بعد هذا بابًا في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله. وسميت هذا الكتاب كتاب «التسهيل لعلوم التنزيل»، وقدمت في أوله مقدمتين: إحداهما: في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى: فيما كثر دوره من اللغات الواقعة. وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم، وتنقذني من عذاب الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (١).

(١) انظر التسهيل بتحقيق الدكتور: محمد بن مولاي ١/ ٤٧ - ٥٠.

1 / 10

بدأ المؤلف كتابه بالحمد والثناء على الله سبحانه، والصلاة والسلام على رسوله ﷺ، ثم ذكر أن علم القرآن هو أرقى العلوم قدرًا، وأجلها خطرًا، وأعظمها أجرًا، وهذه القضية لا يكاد يختلف عليها علماء المسلمين، فعِلم القرآن هو أجل العلوم الإسلامية؛ لأن القرآن هو كلام الله سبحانه، ومنه تؤخذ الشريعة والعقائد، وكل علوم الإسلام ترجع إلى هذا الكتاب، وذكر أن العلماء قد خدموه إقراء وتفسيرًا وتدبرًا واستنباطًا، وذكر أيضًا أن من نِعم الله عليه أنه شغله بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وهذا نراه كثيرًا في كلام العلماء، وهو التنبيه على ما منَّ الله عليهم به من التفرغ لخدمة كتاب الله ﷾ بأنواع من الخدمة، فنجد بعض العلماء قد تفرغ للإقراء فقط؛ يصحِّح للطلاب القراءة، ولا تكاد تجده يُحسن غير هذا، وهذه نعمة، فلو أردت منه غير هذا ما استطاع، فهذا علم من علوم القرآن قد ميَّز به سبحانه بعض الناس، وهناك أناس قد تفرغوا لتفسيره والاستنباط منه. ثم ذكر تصنيفات العلماء في التفسير، وذكر لها أوصافًا، كأنه يريد أن يبين السبب الموجب لتأليفه التفسير، ولعلنا نذكر لكل نوع مثالًا من هذه المصنفات التي صُنِّفت قبل ابن جزي - أي: قبل عام ٧٤١هـ. قوله: (ومنهم من آثر الاختصار) مثاله: تفسير الوجيز للواحدي (ت٤٦٨هـ). قوله: (ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار) مثاله: تفسير الرازي (ت٦٠٦هـ). قوله: (ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض) مثاله: ابن العربي (ت٥٤٣هـ) في (أحكام القرآن) حيث خصَّه بنوع مما يتعلق بالتفسير وإن كان الكتاب ينحو منحًى فقهيًا لكن المقصد من ذلك أنه تكلم على جزء من علم التفسير، وكذا كتب غريب القرآن أو كتب معاني القرآن التي اختصت بنوع من علم التفسير دون الأخذ بكل معلومات التفسير. قوله: (ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس) مثاله: الثعلبي (ت٤٢٧هـ)، وابن أبي حاتم (ت٣٢٧هـ)، والماوردي (ت٤٥٠هـ) وابن الجوزي (ت٥٩٧هـ)، فهؤلاء يُعدون نَقَلَةً للتفسير. قوله: (ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق) مثل: ابن جرير (ت٣١٠هـ)، وابن عطية (ت٥٤٢هـ)، وغيرهم. المقصود أن هذه الأوصاف العامة التي ذكرها يمكن أن توصف بها بعض التفاسير، وبعضها قد يجتمع فيه أكثر من وصف. ثم قال بعد ذلك: (فرغبت في سلوك طريقهم، والانخراط في مساق فريقهم). يثير قوله هذا سؤالًا، وهو: ما الفائدة أن يُخرج العالم تفسيرًا، فالتفاسير كثيرة؟

1 / 11

الجواب: إن من أهم المقاصد التي يقصدها المؤلف ويرجوها، بركةَ ذلك العمل؛ بأن يكون ممَّن ألف في التفسير، وممَّن يعتمد الناس كتابه في الرجوع إليه والاستفادة منه، فيترحَّمون عليه، لذا فإنه ينظر في ذلك إلى الأجر الأخروي؛ ولهذا لا نستغرب عندما نرى علماء المسلمين يحرصون على أن يُخلِّفوا أثرًا بعدهم، ولقد كان من أثر ذلك أن حرص العلماء على تخليد علومهم في كتب تناقلتها الأجيال، حتى إننا نجد اليوم من التفاسير ما كُتب في القرن الهجري الأول والثاني والثالث والرابع ... إلخ، وكثرة المخطوطات في تفسير القرآن تدل على أن هذا المقصدَ من المقاصدِ المهمةِ للعالِمِ؛ لأنه يريد أن يخلف أثرًا بعده يستفاد منه. قوله: (وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، وسائر ما يتعلق به من العلوم). يظهر من قوله هذا أنه قصد أن يكون كتابه في علمين: الأول: تفسير القرآن، وهو الذي عبَّر عنه بقوله: (وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم). الثاني: علوم القرآن ممَّا عدا التفسير، وهو الذي عُطفت عليه جملة: (وسائر ما يتعلق به من العلوم)، بل قد يدخل في هذه العبارة كل ما يتعلق بالقرآن من معلومات، سواءٌ أكانت من علوم القرآن والتفسير، أم كانت من علوم أخرى، لكن سيأتي في عباراته ما يدلُّ على أنه يريد علوم القرآن العظيم (١). قوله: (وسلكت مسلكًا نافعًا؛ إذ جعلته وجيزًا جامعًا). لو قُمتَ بموازنة بين تفسير ابن جُزي وبين أحد التفاسير التي ذكرها مثل: تفسير المهدوي (ت٤٤٠هـ) أو مكي بن أبي طالب (ت٤٣٧هـ) أو

(١) ينظر التعليق على قوله: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن) (ص١٤).

1 / 12

غيرهما فإنك ستجدُ أن تلك التفاسير أطول من تفسيره بكثير، وأن طريقتَها في التصنيف الاستيعابُ والاستطرادُ، وهي خلافُ طريقة ابن جُزي الذي عَمَد إلى الاختصار، فالاستطرادات عنده قليلة بالنسبة للكمِّ الذي كتبه في هذا التفسير؛ لذا يصح أن يطلق عليه: التفسير الوجيز الجامع، فهو جامع للأقوال مع وجازة العبارة. قوله: (قصدت فيه أربع مقاصد) هنا فائدة مهمة وهي أنه يحسن بنا أن نعرف مقاصد المؤلفين في تآليفهم، فابن جزي ألف كتابه هذا لمقاصد أربع ذكرها، وكان قد سبق أن أشار إلى مقصد عام، وهو أن ينخرط في سلك المفسرين. وهذه المقاصد الأربعة التي نصَّ عليها تُعدُّ خطة العمل التي أراد ابن جُزيٍّ أن يقوم عليها كتابه، فكأنه يقول: إن هذه المقاصد ستكون موجودة في كتابه (١). فالمؤلف أراد أن يحقق أربع فوائد وهي: (الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلًا على الطالبين، وتقريبًا على الراغبين) وهذه الفائدة تتعلق بقضية الإيجاز؛ أي: أنه قصد أن

(١) فائدة في دراسة منهج المفسر: حينما يريد الباحث أن يدرس منهج مفسِّر، والمفسِّر قد نصَّ على خطة عمله في مقدمة التفسير - كما فعل ابن جُزيٍّ، فإنه سيحاكمه إلى مقاصده في تأليف كتابه، ولا يصحَّ - كما يقع من بعض الباحثين - أن نحاكمه إلى مقاصد أخرى لم ينصَّ عليها، وهذه قاعدة علمية يجب على الباحث أن ينتبه لها، فيقف مع مقاصد المؤلف وشرطه في كتابه دون أن يفتعل عليه غيرها ويحاكمه إليها، فإذا قال المؤلف - مثلًا ـ: «اشترطت في كتابي هذا أن أذكر رواية من روايات المذهب»، وأطلق فلا يجوز أن يأتي إنسان ويقول: «من عيوب المؤلف أنه يذكر روايات ضعيفة في المذهب»؛ فهذا الاستدراك غير صحيح؛ لأن المؤلف لم يشترط أن يميز الصحيح والضعيف، وإنما اشترط على نفسه أن يذكر رواية في المذهب، فإذا لم يذكر رواية من روايات المذهب وذكر رواية من روايات مذهب آخر فإنه يقال: إنه خالف شرطه، فذكر من غير روايات المذهب مع وجود رواية في المذهب.

1 / 13

يكون الكتاب صغير الحجم سهلًا على من أراد أن يطلب علم التفسير، وهذا المقصد هو الذي أراده الواحدي (ت٤٦٨هـ) لما كتب كتابه: (الوجيز) ليسهل على من أراد أن يقرأ التفسير استظهار كتابه أو حفظه، قال: «... إلى إيجاز كتاب في التفسير، يقربُ على من تناوله، ويسهل على من تأمله، من أوجز ما عمل في بابه، وأعظمه فائدة على متحفِّظيه وأصحابه. وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا، تعجيلًا لمنفعتهم، وتحصيلًا للمثوبة في إفادتهم ما تمنَّوه طويلًا، فلم يُغْنِ عنهم أحدٌ فتيلًا ...» (١). إذن هذا المقصد يحسن أن يكون مقصدًا لمن أراد أن يؤلف لعامة الناس، فليس كل الناس يستطيع أن يقرأ المجلدات الكبار، وكأن ابن جُزيٍّ ﵀ أراد أن يقرِّب التفسير للراغبين فيه فقال: (صغير الحجم تسهيلًا على الراغبين). ثم وصف كتابه فقال: (فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها). كأن المؤلف ينتقد بعض الكتب - وإن لم يذكرها - ويشير إلى أن فيها مشكلة من جهة الإطالة في العبارة أو الحشو، والمراد به: زيادة ما لا داعي له، وكأنه أراد أن يقول: (سأجعل كتابي مختصرًا)، ويدل لذلك العبارة التي ستأتي في قوله: (من غير إفراط ولا تفريط). ثم قال بعد ذلك: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن) نلاحظ أنه قال أولًا: (صنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر

(١) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق صفوان داوودي، ص٨٧.

1 / 14

ما يتعلق به من العلوم) ثم رجع مرة أخرى وقال: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه). وهذا يشير إلى ما ذكرته سابقًا من أن إدخال مسائل بعض أنواع علوم القرآن من مقاصد ابن جزي في تفسيره هذا. ثم قال: (من غير إفراط ولا تفريط) كأنه يقول: جعلته وجيزًا مختصرًا ليس فيه ذلك الحشو ولا ذلك التطويل. ثم قال: (ثم إني عزمت على إيجاز العبارة وإفراط الاختصار وترك التطويل والتكرار)، بدأ بذكر الأسلوب الكتابي الذي سينتهجه في عباراته في هذا التفسير (١). ثم قال ﵀: (الفائدة الثانية: ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة قلما توجد في كتاب؛ لأنها من نبات صدري، وينابيع ذكري، ومما أخذته عن شيوخي ﵃، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر).

(١) وقد لاحظ صاحب كتاب «منهج ابن جزي في التفسير» أن هذا الإفراط في الاختصار قد يصل إلى أن يكون فيه غموض في العبارة، والكاتب - وهو يكتب أحيانًا - يكتب ما في ذهنه، فيُحسُّ - وهو يكتب - أنه قد أبان العبارة، وأن من سيقرأ له سيفهم عنه، والواقع أن العبارة قد تكون مضغوطة جدًا وتحتاج إلى فكٍّ واستشراح، لذا تجد في بعض عبارات العلماء بسبب هذا الإفراط في الاختصار وضغط العبارة؛ تجد أن من يأتي بعدهم يتعبُ، بل قد يحارُ في فَكِّ هذه العبارة. ومن كُتب التفسير التي تتميز بضغط العبارة، واحتياجها إلى استشراح وفكٍّ = تفسير البيضاوي (ت٦٨٥هـ)، ففي بعض عباراته ضغط شديد يصل إلى حد الغموض؛ ولعل هذا الغموض في العبارة أحد أسباب اعتماد هذا الكتاب منهجًا تدريسيًا عند علماء الأتراك بحيث إن الطالب يحتاج إلى المعلم لفك عبارات هذا الكتاب. ونجد هذا أيضًا في «تفسير الجلالين» في بعض المواطن، فالإفراط في الاختصار إذا كان مؤديًا إلى الغموض فإنه يعد من عيوب التأليف؛ لأن المقصد من التأليف أن يفهم الطالب، وليس المقصد أن يبحث الطالب عن المراد من هذه العبارة ولماذا وردت هكذا؟

1 / 15

يتحدث المؤلف عن المقصد الثاني من هذا التأليف، وهو (ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة)، وغالبًا ما تكون في باب المُلَح أو الاستنباطات الطريفة. ثم قال عنها: (قلما توجد في كتاب) أي: لا يوجد كتاب يحوي هذه النكت، ولا يزال الناس إلى اليوم ينشدون كتابًا يجمع هذه النكت، وهذا صعب، فهي كثيرة جدًا، ولا يمكن حصرها. ثم ذكر ﵀ مصادره في هذه النكت والفوائد: ١ - قال: (من بنات صدري ونتائج فكري). وهذا ما يقع له حسب اجتهاده وتدبره في الكتاب العزيز، ولا يعني هذا ألا يكون قد سُبِق إليها، لكنه حسب علمه لم يطلع عليها، وإن وقع لك وأنت تقرأ كتابه شيئًا ادَّعى افتراعه وابتداعه، ثم رأيته لأحد ممن تقدمه، فاعلم أن الأمر كما يقال: (وقع الحافر على الحافر)، فاتفق هو مع المتقدم عليه دون اطلاع سابق، وذلك كثير في كتب أهل العلم. ٢ - قال: (مما أخذته عن شيوخي بالمشافهة، فهي غير مسطرة في كتاب). هذه الدرر التي يأخذها عن شيوخه كالتي يصل إليها بمحض اجتهاده، وقيدها عنده أنها غير مدونة في كتب أهل العلم، فهي من بنات أفكار شيوخه، لكن لا يلزم ألا يكون وصل إليها أحد قبلهم - كما مرَّ التنبيه على ذلك في الفقرة السابقة. ومن باب الفائدة، فإن الطالب لو جعل له كرَّاسًا يجمع فيه الفوائد واللطائف التي يسمعها من أساتذته في شتى العلوم والمعارف لحفظ من فوائد العلم شيئًا كثيرًا. ولقد كان عمِل بهذه الفكرة أحد أصحابي، ورأيت كُنَّاشةً جمع فيها فوائد ولطائف وأشعار مما كان يسمعه من الأستاذين في سني دراسته في

1 / 16

الكلية، وكان فيها من اللطائف والمعارف الشيء الكثير، حتى كأنك تسير في حديقة غنَّاء مليئة بأنواع الثمار والفواكه والزهور. وأذكر من فوائد ما علِق في ذاكرتي من أثناء دراستي في الجامعة تعليقًا لأحد أساتذة التربية على قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢]، قال ما معناه: جاء لفظ صاحب للردِّ على زعمهم بأن محمدًا ﷺ مجنون؛ إذ كيف تتهمونه بالجنون، وهو مصاحب لكم تعلمون جميع أحواله، وأنتم أشد الناس معرفة بصدقه وأمانته. ٣ - قال: (أو مما التقطته من مستظرفات النوادر الواقعة في غرائب الدفاتر). أي: أنه أخذها من مصادر لا يتصور أنها من مراجع علم التفسير، فقد تكون من كتاب فقهي أو كتاب أدبي أو كتاب لغوي، والقارئ قد يقع على شيء من علم التفسير في غير مظانِّه، ومن هذه الكتب - على سبيل المثال ـ: كتاب «نتائج الفكر» للسيهلي (ت٥٨١هـ)، فهذا الكتاب - وهو في علم النحو - لا يُتوقَّع أن يوجد فيه شيء مما يتعلق بالتفسير؛ فأنَّى لك أن تكتشف أن فيه من النكت والطرائف والفوائد التفسيرية الشيء الكثير العجيب، وإنك واجد فيه مِنْ براعة السهيلي في استنباط الكثير من بلاغة القرآن ولطائف لغته ودقائقها الشيء الكثير، وقد استفاد منه ابن القيم (ت٧٥١هـ) كثيرًا في كتابه: «بدائع الفوائد». ذكر السهيلي (ت٥٨١هـ) بحثًا ماتعًا حول سؤال قال فيه: (فإن قيل: كيف جاز ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١]، ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾ [المزمل: ٨]، والمقصود بالذكر والتسبيح هو الرب ﵎، لا اللفظ الدال عليه؟ قلنا: هذا سؤال قد كعَّ عنه أكثر المحصِّلين، ونكتة عجز عنها أكثر المتأولين ... والقول السديد في ذلك - والله المستعان - أن نقول: الذِّكر

1 / 17

على الحقيقة محله القلب؛ لأنه ضدُّ النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فُهِم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله ﷿ إنما تعبَّدنا بالأمرين جميعًا، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولًا باللسان، واعتقادًا بالجَنان، فصار معنى الآيتين على هذا: اذكر ربك وسبح ربك بقلبك ولسانك، ولذلك أقحم الاسم تنبيهًا على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن الذكر بالقلب مُتَعَلَّقُه المسمى المدلول عليه بالاسم دون سواه، والذكر باللسان متعلَّقه اللفظ وما يدلَّ عليه؛ لأن اللفظ لا يراد لنفسه، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى، هذا ما لا يذهب إليه خاطر، ولا يتوهَّمُه ضمير، فقد وضحت تلك الحكمة التي من أجلها أُقحِم ذكر الاسم، وأنه به كملت الفائدة، وظهر الإعجاز في النظم والبلاغة في الخطاب. فهذه نكتة لمتدبرها خير من الدنيا بحذافيرها، والحمد لله على ما فَهَّمَ وعَلَّم) (١). ومن لطيف ما نقله ابن القيم (ت٧٥١هـ) عن شيخه ابن تيمية (ت٧٢٨هـ) في هذه الآية قوله: «وعبَّر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية - قدس الله روحه - عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربك متكلمًا به، وكذا سبح اسم ربك؛ «المعنى: سبِّح ربك ذاكرًا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها، فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته» (٢). ثم قال ﵀: (الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات إما بحل العقد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات).

(١) نتائج الفكر، للسهيلي، تحقيق محمد البنا، ص٤٤، ٤٥. (٢) بدائع الفوائد ١/ ١٩.

1 / 18

يشير بهذه الفائدة إلى أن هناك مشكلات؛ سواء ما يقال فيه: «مشكل القرآن» أو فيما يُشكِل من المسائل العلمية التي يذكرها العلماء، فنبَّه أنه سيعمل على حلِّ هذه العقد المقفلات: • إما بحسن العبارة فتكون واضحة بحيث تنفك المشكلة، ويزول الغموض. • وإما برفع الاحتمالات بأن يذكر القول الصواب فيها، إن كانت تحتاج إلى بيان القول الصواب، أو بأن يبين عن المراد باللفظة أو الجملة إذا احتملت أكثر من معنى. وإما ببيان المجملات بأن يذكر المعنى البيِّن من هذه الأقوال التي فيها إجمال، فحسن العبارة وطريقة التعبير عنها كفيل بإيضاح وإفهام هذه القضايا المشكلة. ثم تحدث ابن جزي عن الفائدة الرابعة فقال: (الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح ....). المؤلف جعل من مقاصد التأليف عنده تحقيق أقوال المفسرين أي: تمييز الصحيح من الضعيف، وتمييز الصحيح من الباطل، وهذا المقصد موجود في بعض التفاسير؛ لأن بعض الكتب يغلب عليها النقل وعدم التحقيق، وأما الكتب التي تتميز بالتحقيق فمن أهمها: تفسير الإمام الطبري (ت٣١٠هـ) رحمه الله تعالى فهو من الكتب التي تعتمد تمييز الراجح من المرجوح والتحقيق في أقوال المفسرين، وكذلك تفسير ابن عطية (ت٥٤٢هـ)، وتفسير القرطبي (ت٦٧١هـ)، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان (ت٧٤٥هـ)، وتفسير ابن كثير (ت٧٧٤هـ)، وتفسير الألوسي (ت١٢٧٠هـ)، وتفسير الطاهر ابن عاشور (ت١٣٩٣هـ) وهو «التحرير والتنوير»، هذه بعض الكتب التي عملت بما يذكره المؤلف وإن لم تذكر ـ

1 / 19

في الغالب - نصًّا منظمًا كنصِّ المؤلف، وهذه الكتب المحررة ستجد فيها نقاشات علمية وترجيحات وتحريرات في التفسير، فابن جزي قدَّم تنظيرًا متكاملًا، ثم سيذكر التطبيقات في التفسير. وقد جعل المؤلف أقوال الناس على مراتب؛ منها: ١ - الصحيح الذي يعول عليه. ٢ - والباطل الذي لا يلتفت إليه (١). ٣ - وما يحتمل الصحة والفساد، ثم يذكر مع هذا الاحتمال قد يكون متساويًا وقد يكون متفاوتًا، والتفاوت قد يكون قليلًا أو كثيرًا.

(١) مقاصد التأليف جزء من المنهج، والمؤلف أراد بكتابه أن يكون وجيزًا جامعًا محققًا للأقوال فيه، ولكن عند النظر في تعامله ﵀ مع هذه المقاصد وتطبيقه لها نجد أن في ذلك إشكالية، فقد وقع فيه تفسير باطل كما أنه تفسير طويل، وقد نبَّه الزبيري الذي كتب في منهج ابن جزي على هذا، وذكر من الأمثلة على الإطالة في التفسير ما ذكره عند قوله: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ [الشورى: ٣٨] قال: «قيل يعني: الأنصار؛ لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي ﷺ الى الإسلام، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين ﵃؛ لأنه بدأ أولًا بصفات أبي بكر الصديق ثم صفات عمر بن الخطاب ثم صفات عثمان بن عفان ثم صفات علي بن أبي طالب فكونه جمع هذه الصفات ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك، فأما صفات أبي بكر فقوله: ﴿... لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: ٣٦] وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن كان جميعهم متصفًا بها لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره»، ثم ذكر بعد ذلك صفات عمر فقال: «وأما صفات عمر فقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٧]» جعلها في عمر فسار على هذا الأسلوب فقسَّم الآية على الخلفاء الراشدين ثم قال في عثمان: «أما صفات عثمان فقوله: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الشورى: ٣٨]، ثم انتقل إلى صفة علي فقال: «وأما صفة عليٍّ فقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٩] لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصارًا للحق»، إلى أن ذكر بعد ذلك ما فيه إشارة إلى الحسن والحسين ﵄ وإشارة إلى بني أمية في كلام طويل مخالف لعقلية ابن جزي المحقق، ولكن كما تعلمون الكمال عزيز، فوقع في مثل هذا المثال مما يمكن أن يستدرك عليه المستدرك، فقد وقع فيما نهى عنه في قضية التمييز بين الصحيح والباطل، لكن هذا لا يشوش على الكتاب إطلاقًا ولا يفقده تميزه.

1 / 20

هذه التفصيلات التي ذكرها في حال العمل التفسيري قد لا نحتاج إليها كثيرًا؛ أي: أننا لا نعمل بها في حال الاختلاف، ولا ننظر هل هذا من هذا القسم أو من ذاك؛ لذا لو أردنا أن نمثل لما يكون متساويًا أو ما يكون متفاوتًا لصعب علينا في كل مثال يقع فيه اختلاف، وهذه إن ذُكرت في باب التنظير، فلا يلزم أن يوجد لها تطبيقات كثيرة في التفاسير في كل الأحوال. أما الصحيح والضعيف، أو الصحيح والباطل فهذا يوجد، ويمكن التمثيل له فنقول: هذا تفسير صحيح وهذا تفسير ضعيف. قوله: (وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول). المؤلف لم يجعل القارئ يستقرئ طريقته في قضية الترجيح، بل ذكر طريقته تلك في هذه المقدمة بوضوح، فذكرها بالترقي من الأدنى إلى الأعلى. • فأدناها: ما صرَّح بأنه خطأ أو باطل، فهو أضعف الأقوال. • ثم ما ذكر أنه ضعيف أو بعيد، وهذا مرتبته أعلى قليلًا من الذي قبله. • ثم ما يقول فيه: إن غيره أقوى أو أرجح أو أظهر أو أشهر، وهذا أعلى من سابقه. • ثم ما يقدم غيره عليه إشعارًا بترجيح المتقدم وأن الذي بعده أقل منه عند المؤلف. ثم قال: (وأما إذا صرَّحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به). الأصل عند ابن جزي عدم التصريح بالأسماء، وقد ذكر سبب ذكره الأسماء في بعض المواطن:

1 / 21

الأول: إذا أراد أن يخرج من عهدة القول. الثاني: إذا أراد أن ينصر القول؛ لأن قائل هذا القول إمام معتبر فهذه قاعدته في التصريح بالأسماء. ثم علَّل سبب عدم تصريحه بالأسماء، فقال: (على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلًا؛ وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم). أوجز المؤلف قضية اختلاف الناقلين في نسبتها إلى أصحابها وهي تحتاج إلى تأمل، والظاهر من العبارة أنه يقصد مفسري السلف؛ لأن غيرهم من العلماء كالطبري (ت٣١٠هـ) أو ابن عطية (ت٥٤٢هـ) وغيرهم إن نَسَبَ إليهم شيئًا فسينظر في كتبهم التي بين يدينا ويعرف صحته من عدمه، لكن الذين قد لا يصح الإسناد إليهم، أو يكون للواحد منهم أكثر من قول، هم مفسرو السلف، وهذا يدل على أن عنده مشكلتين تحفَّان ببعض تفسيرات السلف: الأولى: قلة صحة الإسناد إليهم. الثانية: اختلاف الناقلين في نسبتها إليهم. وهاتان المشكلتان تحتاجان إلى نظر آخر غير ما ذكره الإمام ابن جزي ﵀، وهو: أولًا: إن ما يتعلق بصحة الإسناد لم يكن مشكلة جوهرية عند المفسرين، فلم يتوقف ابن جزي أو من قبله أو بعده من المفسرين من الاستفادة من مرويات السلف بهذه الأسانيد التي فيها ما هو ضعيف وليس باطلًا أو موضوعًا، وأخذوا منها بيان معاني القرآن، ورجحوا بها أقوالهم على أقوال المتأخرين، والمقصود أن قضية صحة الإسناد في آثار السلف في التفسير لا تمثل مشكلة كبيرة؛ بدلالة أن علماءنا منذ القرن الثاني ومن بعده لم يتوقفوا في هذه الأسانيد وقبلوها وعملوا بما فيها مع

1 / 22