[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا)
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الدَّرَّاكَةُ الْفَهَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ وَأَعْلَى فِي الدَّارَيْنِ قَدْرَهُ)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْحُكْمِ وَالتَّدْبِيرِ، الْمُسْتَبِدِّ بِالْقَضَاءِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّذِي شَرَحَ الْأَحْكَامَ لِلْعِبَادِ، وَكَفَّهُمْ بِتَنْفِيذِهَا عَنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، وَأَتْحَفَ الْحُكَّامَ بِالشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَغْنَاهُمْ بِهَا عَنْ السِّيَاسَةِ الْكِسْرَوِيَّةِ، وَعَصَمَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ الْمَنْقُولَ، عَنْ تَحْكِيمِهِمْ تَحْقِيقَ الْعُقُولِ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَمِنْ كُلِّ مَلَكٍ وَجِنٍّ وَإِنْسَانٍ، وَصَلَوَاتُ اللَّهُ الَّتِي لَا تُحْصَى عَدَدًا، وَسَلَامُهُ الَّذِي لَا يَنْقَضِي أَمَدًا، وَرِضْوَانُهُ وَتَحِيَّاتُهُ، وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ، الْمُسَرْمَدَاتُ أَبَدًا عَلَى الْعَلَمِ الْأَكْبَرِ، وَالسَّيِّدِ الْأَطْهَرِ، مُتَلَقِّي السِّرِّ مِنْ شَدِيدِ الْقُوَى، فَلَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى سِرِّ الْوُجُودِ، وَعَيْنِ الْجُودِ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ وَرَسُولِ الْمَلِكِ الْأَعْلَى إلَى الثَّقَلَيْنِ، النَّبِيِّ الْمُمَجَّدِ، سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ ﷺ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَعَلَّمَهُ مِنْ لَدُنِّهِ عِلْمًا عَجَزَتْ أَفْكَارُ الْخَلْقِ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِأَقَلِّهِ وَحَلَّاهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ الرَّحْمَانِيَّةِ بِكُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، فَجَعَلَهُ لِلْمُهْتَدِينَ سِرَاجًا مُنِيرًا، وَنَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى اللَّهِ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَلَا يُنْكَرُ، وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ، وَيُقَرِّرُ ذَلِكَ لَهُمْ بِنُصْحٍ تَتَحَرَّكُ لِقَبُولِهِ الْبَوَاعِثُ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] .
فَقَامَ ﷺ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، مَعَ تَحْرِيرِ الْمَقَالَةِ، وَإِيضَاحِ الدَّلَالَةِ، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي الْإِرْشَادِ وَالتَّهْذِيبِ، وَالتَّبْصِرَةِ وَالتَّقْرِيبِ، وَالْإِجْمَالِ لِلْأَحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ، فَبَيَّنَ كُلَّ مَنْهَجٍ مَقْصُودٍ، وَكُلَّ مَقْصِدٍ مَحْمُودٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَفْظٍ مُخْتَصَرٍ، وَتَوْضِيحٍ يُزِيلُ الْغَبَرَ؛ وَكَلَامٍ فَائِقٍ، وَمَعْنًى رَائِقٍ مُبَيِّنٍ لِلْحَقَائِقِ، وَآخِذٍ مِنْ الْبَلَاغَةِ بِالْعُرَى الْوَثَائِقِ غَنِيٍّ عَنْ اسْتِنْتَاجِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَكَفِيلٍ بِإِيضَاحِ الْمُهِمَّاتِ، حَتَّى صَارَتْ قَوَاعِدُ دِينِهِ مُعَيَّنَةً، لَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي فِيهَا إلَى بَيِّنَةٍ، فَفَتَحَ لِأُمَّتِهِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ الَّذِي لَهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِنَادٌ؛ لِئَلَّا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ، وَلَا يُرَى فِي دِينِهِمْ عِوَجٌ، وَلِيَكُونَ
1 / 2
لِلْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ أَجْرٌ وَلِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ، وَيُؤْتِي الْكُلَّ مِنْ رَحْمَتِهِ كِفْلَيْنِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاعْتِصَامُ بِسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا الِانْقِيَادُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، صَلَاةً وَسَلَامًا نَنَالُ مِنْ اللَّهِ بِهِمَا جَمِيلَ الرِّضَا، وَنَجِدُهُمَا عُدَّةً لِيَوْمِ فَصْلِ الْقَضَا، وَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَنُجُومِ الِاقْتِدَاءِ، وَمَعَالِمِ الدِّيَانَةِ، وَمَعَاقِلِ الْأَمَانَةِ، سَادَاتِنَا أَهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ، وَأَعْلَى عَلَى كُلِّ آلٍ قَدْرَهُمْ وَأَشْهَرَهُمْ، وَأَئِمَّتِنَا أَصْحَابِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا، وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا، الْقَائِمِينَ بِنُصْرَتِهِ، الْحَامِلِينَ لِشَرِيعَتِهِ، وَعَلَى مَنْ أَحْسَنَ اتِّبَاعَهُمْ، وَجَدَّ مِنْ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي اتِّبَاعِهِمْ، مَا دَامَ هَذَا الدِّينُ مُوَطَّأً بِالْقَوَاعِدِ الْبَيِّنَةِ، وَفُرُوعُ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولُهَا فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ مُدَوَّنَةٌ
(أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّ عِلْمَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ، هُوَ مِنْ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَآدَابُهُ مِنْ أَجَلِّ الْآدَابِ الْمَرْعِيَّةِ، وَخُطَّتُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخُطَطِ الشَّرْعِيَّةِ، رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرِيعَةِ بَلْ هُوَ أُسُّهَا، وَرَئِيسُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَلْ هُوَ رَأْسُهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْقَائِمُونَ مِنْ الْبَشَرِ بِحَقِّهِ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ أَوْ وَرَثَتُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ.
فَقَامَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمِنْ بَعْدِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَلَمَّا تَمَيَّزَ الْمُلْكُ مِنْ الْخِلَافَةِ صَارَ يُخْتَارُ لَهَا الْأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ، وَقَدْ أَلَّفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ وَسَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَبْيِينِ أُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ سَيْرًا حَثِيثًا، مَا بَيْنَ نَاثِرٍ مُطْنِبٍ وَمُوجِزٍ وَنَاظِمٍ قَصِيدَةً أَوْ مُرْتَجِزٍ، وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ مَا أُلِّفَ فِيهِ مِنْ الْمُخْتَصَرَات، الَّتِي أَغْنَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ، رَجَزُ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْقَاضِي الرَّئِيسِ الْوَزِيرِ الْأَعْظَمِ، أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عُرِفَ بِابْنِ عَاصِمٍ، فَهُوَ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِنْ مَقَاصِدِهِ " مُحْتَوٍ عَلَى جَمٍّ غَفِيرٍ مِنْ فَوَائِدِهِ، مَعَ سَلَامَةِ نَظْمِهِ، وَجَزَالَةِ لَفْظِهِ، وَقِلَّةِ تَعْقِيدِهِ وَسُهُولَةِ حِفْظِهِ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ، وَلَيْسَ مِنْ بَعْدِهِ بَيَانٌ، وَقَدْ اعْتَنَى بِشَرْحِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَنَثَرَ اللَّآلِئَ الْمَنْظُومَةَ فِي عِقْدِهِ، وَلَدُهُ الْإِمَامُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ الْقَيْسِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْغَرْنَاطِيُّ ذَكَرَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ وَالِدِهِ أَنَّهُ وُلِّيَ الْقَضَاءَ عَامَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ، احْتَفَلَ فِيهِ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ، وَأَكْثَرَ مِنْ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ، فَأَبْدَأ وَأَعَادَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَجْزَلَ أَجْرًا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَغْفَلَ عَنْ حَلِّ مُقْفَلَاتِهِ، مَا يَعُدُّهُ الْحُذَّاقُ مِنْ مُعْضِلَاتِهِ، ثُمَّ شَرَحَهُ بَعْدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ابْنُ الْعَبَّاسِ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْرَفُ بِالْيَزَنَاسِيِّ نَسَبًا وَاشْتِهَارًا، الْعَبْدُ الْمُرَادِيُّ أَصْلًا وَنِجَارًا التِّلِمْسَانِيُّ نَشْأَةً وَدَارًا، شَرْحًا اعْتَنَى فِيهِ بِتَفْكِيكِ الْعِبَارَةِ، وَأَغْنَى بِالتَّصْرِيحِ عَنْ الْإِشَارَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْفِ فِي النَّقْلِ غَلِيلًا، وَلَا أَبْرَأَ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ عَلِيلًا، وَقَدْ شَرَحَهُ أَيْضًا بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مِنْ مِصْرَ وَلَمْ يَصِلْ شَرْحُهُ إلَيْنَا
(وَلَمَّا مِنْ اللَّهُ عَلَيْنَا) بِإِقْرَائِهِ وَقِرَاءَتِهِ وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي تَفَهُّمِ عِبَارَتِهِ، وَقَيَّدْنَا عَلَى هَوَامِشِ الْمَتْنِ وَالشَّرْحِ مَا هُوَ كَالتَّتِمَّةِ لِلشَّرْحَيْنِ وَأَبْرَزْنَا مِنْ نُكَتِهِ وَتَحْرِيرَاتِهِ مَا فِيهِ لِطَالِبِهِ قُرَّةُ الْعَيْنِ طَلَبَ مِنَّا بَعْضُ مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَشَاهَدَهُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ، أَنْ أَشْرَحَهُ شَرْحًا كَفِيلًا بِمُحَصِّلِ الشَّرْحَيْنِ، حَائِزًا لِكِلْتَا الْفَضِيلَتَيْنِ، مِنْ إيرَادِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاظِرُ مِنْ النَّقْلِ، وَتَبْيِينِ الْعِبَارَةِ حَتَّى يَتَّضِحَ مَعْنَاهَا لِلْعَقْلِ مُطَرِّزًا ذَلِكَ بِفَوَائِدَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاظِرُ، وَقَوَاعِدَ يَسْتَعِينُ بِهَا الْمُنَاظِرُ، وَتَنْبِيهَاتٍ وَتَحْقِيقَاتٍ، تُزِيلُ الشُّبُهَاتِ، فَجَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا بِمَقْصُودِ طَالِبِهِ وَافِيًا، وَبِسَهْمٍ صَائِبٍ فِي مُؤَلَّفَاتِ الْفِقْهِ رَامِيًا، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ بِالْوَفَاةِ، وَلَا تُعَقِّبُ صَاحِبَهَا حَسْرَةَ الْفَوَاتِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ كَمَا نَفَعَ بِأُصُولِهِ، كُلَّ مَنْ رَغِبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَحْصِيلِهِ وَحُصُولِهِ، وَيَجْعَلَهُ وَصْلَةً بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَيُنِيلَنَا بِهِ فِي الدَّارَيْنِ غُفْرَانَهُ وَأَمْنَهُ، إنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، رَحِيمٌ قَرِيبٌ وَسَمَّيْتُهُ (الْإِتْقَانَ وَالْإِحْكَامَ فِي شَرْحِ تُحْفَةِ الْحُكَّامِ) جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، وَمُقَرِّبًا مِنْ رَحْمَتِهِ، قَالَ
1 / 3
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَقْضِي وَلَا ... يُقْضَى عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنًا وَعَلَا
ثُمَّ الصَّلَاةُ بِدَوَامِ الْأَبَدِ ... عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ
وَآلِهِ وَالْفِئَةِ الْمُتَّبِعَهْ ... فِي كُلِّ مَا قَدْ سَنَّهُ وَشَرَعَهْ
قَالَ الشَّارِحُ وَلَدُ النَّاظِمِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْجَمِيعِ فِي طَالِعَةِ شَرْحِهِ فِي التَّعْرِيفِ بِوَالِدِهِ النَّاظِمِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَاصِمٍ مَا نَصُّهُ وَقَدْ رَأَيْت أَنْ أُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ الْكَلَامِ فَصْلًا يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِمَشْيَخَةِ الشَّيْخِ وَالِدِي ﵀ وَبِتَآلِيفِهِ وَمَوْلِدِهِ وَوَفَاتِهِ
(وُلِدَ ﵀) ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ عَامِ سِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (وَتُوُفِّيَ) حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ عَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَمِنْ شُيُوخِهِ الشَّيْخُ الْأُسْتَاذُ الْمُفْتِي الشَّهِيرُ أَبُو سَعِيدٍ فَرَجُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ لُبٍّ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْقَيْجَاطِيُّ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الشَّاطِبِيُّ وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِلَاقٍ وَخَالَاهُ قَاضِي الْجَمَاعَةِ أَبُو بَكْرٍ وَرَئِيسُ الْعُلُومِ الْمُسَانِيَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الْخَطِيبِ الشَّهِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ جُزَيٍّ وَالشَّرِيفُ الشَّهِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّرِيفِ الْعَالِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ التِّلِمْسَانِيُّ وَالْقَاضِي الرَّحَّالُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ النُّمَيْرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَشْهَبُ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَلَنْسِيُّ ﵏ أَجْمَعِينَ
(ثُمَّ) عَدَّ جُمْلَةً مِنْ تَآلِيفِهِ فِي الْأُصُولِ وَالْقِرَاءَاتِ وَالْفَرَائِضِ وَالنَّحْوِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَذَا النَّظْمُ (قَالَ مُقَيِّدُ هَذَا الشَّرْحِ سَمَحَ اللَّهُ لَهُ) وَقَدْ أَنْشَدَنَا صَاحِبُنَا الْفَقِيهُ الْمُؤَقِّتُ الْفَرْضِيُّ الْعَدَدِيُّ الْحَاجُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْأُسْتَاذِ سَيِّدِي أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْقَاضِي بَيْتًا لِنَفْسِهِ رَمَزَ فِيهِ لِوِلَادَةِ النَّاظِمِ وَوَفَاتِهِ وَبَلَدِهِ عَلَى طُرُقِ نَظْمِ الْوَفَيَاتِ لِلْكَاتِبِ الْقَشْتَالِيِّ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيلِ وَالرَّمْزُ لِلْوَفَاةِ بِالْحُرُوفِ بِحَسَبِ الْجُمَلِ فَقَالَ:
وَقَدْ رَقَصَتْ غَرْنَاطَةُ بِابْنِ عَاصِمٍ ... وَسَحَّتْ دُمُوعًا لِلْقَضَاءِ الْمُنَزَّلِ
فَرَمَزَ لِسَنَةِ الْوِلَادَةِ بِالرَّاءِ وَالْقَافِ وَالصَّادِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْمَذْكُورِ سِتُّونَ وَسَبْعُمِائَةٍ رَمْزًا لِلْوَفَاةِ وَبِالسِّينِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ وَالدَّالِ وَالْمِيمِ وَالْوَاوِ وَالْعَيْنِ وَالْأَلِفِ وَمَجْمُوعُهُمَا بِالْحِسَابِ الْمَذْكُورِ ثَمَانُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَفِي تَعْبِيرِهِ بِالرَّقْصِ إشَارَةٌ إلَى الْوِلَادَةِ الْمَفْرُوحِ بِهَا إذْ الرَّقْصُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْفَرَحِ غَالِبًا كَمَا أَنَّ فِي التَّعْبِيرِ بِسَحِّ الدُّمُوعِ وَالْقَضَاءِ الْمُنَزَّلِ الْإِشَارَةَ لِلْمَوْتِ
(وَافْتَتَحَ) النَّاظِمُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ ﵊ كَانَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ وَمَوَاعِظَهُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى (وَخَرَّجَ) أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ» وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى افْتِتَاحِ تَآلِيفِهِمْ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إمَّا بِلَفْظِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْبَسْمَلَةِ وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفُونَ الْكَلَامَ فِي الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَأَخْصَرُ مَا رَأَيْت الْآنَ فِي ذَلِكَ كَلَامُ الشَّيْخِ خَالِدٍ الْأَزْهَرِيِّ فِي شَرْحِ تَوْضِيحِ ابْنِ هِشَامٍ وَلَفْظُهُ: الْحَمْدُ لُغَةً الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ، فَيَكُونُ مَوْرِدُهُ خَاصًّا وَهَذَا الْوَصْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَيَكُونَ مُتَعَلِّقُهُ عَامًّا وَالشُّكْرُ عَلَى الْعَكْسِ لِكَوْنِهِ لُغَةً فِعْلًا يُنَبِّئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَوْرِدُهُ اللِّسَانَ وَالْجِنَانَ وَالْأَرْكَانَ وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إلَى الشَّاكِرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا أَعَمُّ وَأَخَصُّ مِنْ الْآخَرِ بِوَجْهٍ فَفِي الْفَضَائِلِ حَمْدٌ فَقَطْ وَفِي أَفْعَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ شُكْرٌ فَقَطْ وَفِي أَفْعَالِ اللِّسَانِ بِإِزَاءِ الْإِنْعَامِ حَمْدٌ وَشُكْرٌ.
وَالْحَمْدُ عُرْفًا فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَالشُّكْرُ عُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ فَالشُّكْرُ أَخَصُّ مُطْلَقًا لِاخْتِصَاصِ تَعَلُّقِهِ بِالْبَارِي تَعَالَى وَلِتَقْيِيدِهِ بِكَوْنِ الْمُنْعِمِ مُنْعِمًا عَلَى الشَّاكِرِ وَغَيْرِهِ
1 / 4
وَلِوُجُوبِ شُمُولِ الْآلَاتِ فِيهِ بِخِلَافِ الْحَمْدِ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْت وَإِنَّمَا قَالَ فِي حَدِّ الْحَمْدِ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ وَالْوَصْفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَعْرِيفُ الْحَمْدِ الْوَاقِعِ فِي الْكِتَابِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَصْفٌ بِاللِّسَانِ وَمَنْ أَرَادَ تَعْرِيفَ الْحَمْدِ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ قَالَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَشْمَلُ الْقَدِيمَ وَالْحَادِثَ وَالْحَمْدُ وَالْمَدْحُ بِمَعْنًى وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ الْحَمْدَ خَاصٌّ لِأُولِي الْعِلْمِ وَالْمَدْحُ يَكُونُ لِأُولِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ فِي حَدِّ الشُّكْرِ صَرْفُ الْعَبْدِ. . . إلَخْ زَادَ بَعْضُهُمْ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلَى مُطَالَعَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالسَّمْعِ إلَى تَلَقِّي مَا يُنَبِّئُ عَنْ مَرْضَاتِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَنْهِيَّاتِهِ وَأَلْ فِي الْحَمْدِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا كُلٌّ نَحْوُ: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ إمَّا قَدِيمٌ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ حَادِثٌ وَهُوَ حَمْدُ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ سُبْحَانَهُ أَوْ لِبَعْضِهِمْ، فَالْقَدِيمُ صِفَتُهُ وَوَصْفُهُ، وَالْحَادِثُ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ فَالْحَمْدُ كُلُّهُ لَهُ وَلَامُ لِلَّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ أَيْ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَاسْمُ الْجَلَالَةِ عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْوَاجِبَةِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْأَلْسُنَ فَلَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَالَ تَعَالَى ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: ٦٥] أَيْ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا تَسَمَّى اللَّهَ اسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى النَّفْيِ أَيْ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ
(وَرُوِيَ) أَنَّهُ رُئِيَ فِي النَّوْمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى خَيْرًا كَثِيرًا بِسَبَبِ قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ الَّذِي يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ هُوَ وَصْفٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ الشَّارِحُ ﵀ وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الِاسْتِفْتَاحُ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ بِالْأَلْقَابِ الْبَدِيعِيَّةِ النَّوْعَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِبَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ وَهِيَ دَلَالَةُ اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ الْغَرَضِ فِي مَضْمُونِ جُمْلَتِهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَفِي قَوْلِهِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى كَوْنِ الْقَاضِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ مِنْ مَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ وَمِمَّنْ وَلَّاهُ فَمَا أَحَقَّهُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ بِذَلِكَ الْخَوْفَ مِنْ الْجَوْرِ وَأَنْ يَتَوَخَّى الْإِصَابَةَ لِلْعَدْلِ بِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ مِنْ الْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ مَجَازٌ يُمَاثِلُهُ مَا بِيَدِ مَنْ وَلَّاهُ وَبِيَدِ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْقَضَاءُ حَقِيقَةً ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: ٥٧] وَقُرِئَ " يَقْضِي الْحَقَّ " اهـ.
(وَجَلَّ) فِعْلٌ مَاضٍ وَمَعْنَاهُ عَظُمَ وَشَأْنًا تَمْيِيزٌ مَنْقُولٌ مِنْ الْفَاعِلِ أَيْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَعَلَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَطْفٌ عَلَى جَلَّ فِعْلٌ مَاضٍ أَيْضًا قَالَ بَعْضُ مَنْ شَرَحَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَصْدَرٍ مَعْطُوفًا عَلَى شَأْنًا أَيْ جَلَّ شَأْنُهُ وَعَلَاؤُهُ وَقَصْرُهُ ضَرُورَةٌ وَلَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ لِلْأَمْرِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦] وَالصَّلَاةُ الرَّحْمَةُ وَهِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى زِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ وَإِنْعَامٌ وَمِنْ الْعِبَادِ عِبَادَةٌ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَلَكِنْ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ الرَّحْمَةِ بِالصَّلَاةِ مِنْ التَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الرَّحْمَةِ وَبِدَوَامِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ حَالٌ مِنْ الصَّلَاةِ أَيْ مُؤَقَّتَةً وَالْأَبَدُ حَرَكَةُ الْفَلَكِ.
(وَالْمُصْطَفَى): الْمُخْتَارُ (وَآلُهُ ﷺ) أَقَارِبُهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ (وَالْفِئَةُ) الْجَمَاعَةُ (وَالْمُتَّبِعَةُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا، وَالْمُرَادُ بِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ﵃ أَجْمَعِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَا سَنَّهُ ﷺ وَشَرَّعَهُ وَيَتْبَعُهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَمَعْنَى سَنَّهُ وَشَرَّعَهُ، أَيْ جَعَلَهُ سُنَّةً وَشَرِيعَةً وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُتَّبِعَةِ قَالَ ﵀
وَبَعْدُ فَالْقَصْدُ بِهَذَا الرَّجَزِ ... تَقْرِيرُ الْأَحْكَامِ بِقَوْلٍ مُوجَزِ
آثَرْت فِيهِ الْمَيْلَ لِلتَّبْيِينِ ... وَصُنْته جُهْدِي مِنْ التَّضْمِينِ
وَجِئْت فِي بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ... بِالْخُلْفِ رَعْيًا لِاشْتِهَارِ الْقَائِلِ
فَضِمْنُهُ الْمُفِيدُ وَالْمُقَرِّبُ ... وَالْمَقْصِدُ الْمَحْمُودُ وَالْمُنْتَخَبُ
(بَعْدُ) مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ وَإِذَا قُطِعَ عَنْهَا لَفْظًا بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ مَنْوِيٌّ تَقْدِيرُهُ وَبَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ وَالرَّجَزُ أَحَدُ بُحُورِ الشَّعْرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي أَوَّلُهَا الطَّوِيلُ وَآخِرُهَا الْمُتَقَارِبُ وَهُوَ مُسَدَّسُ الدَّائِرَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ مُسْتَفْعِلُنْ سِتُّ مَرَّاتٍ وَيُقْرَأُ لَفْظُ الْأَحْكَامِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ
1 / 5
الْهَمْزَةِ لِلسَّاكِنِ قَبْلَهَا لِلْوَزْنِ وَهُوَ جَمْعُ حُكْمٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْفِقْهُ الْمُتَقَرِّرُ فِي الْكُتُبِ الْمُعْتَقَدَةِ كَالْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا لِيُفْصَلَ بِهَا بَيْنَ الْخُصُومِ.
(وَالْمُوجَزُ) الْمُخْتَصَرُ قَلِيلُ اللَّفْظِ كَثِيرُ الْمَعْنَى (وَآثَرْتُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى اخْتَرْتُ وَفَضَّلْتُ وَمِنْهُ ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] وَالْمَيْلُ: الْجُنُوحُ وَالرُّكُونُ (وَالتَّبْيِينُ) مَصْدَرُ بَيَّنَ (وَالصَّوْنُ) الْحِفْظُ وَمَعْنَى (جُهْدِي) طَاقَتِي وَوُسْعِي وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَالتَّضْمِينُ افْتِقَارُ مَعْنَى الْبَيْتِ إلَى الَّذِي بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ خَبَرًا أَوْ جَوَابَ شَرْطٍ أَوْ اسْتِثْنَاءً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ مَعْنَى الْكَلَامِ إلَّا بِهِ وَسُمِّيَ تَضْمِينًا لِأَنَّهُ ضَمَّنَ الْبَيْتَ الثَّانِيَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالثَّانِي وَهُوَ عِنْدَ الْعَرُوضِيِّينَ مِنْ عُيُوبِ الشِّعْرِ.
وَفِيهِ يَقُولُ الْخَزْرَجِيُّ
وَتَضْمِينُهَا إحْوَاجُ مَعْنًى لِذَا وَذَا
، وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ الْحَاجِبِ: فِي لَامِيَّتِهِ فِي الْعَرُوضِ فِي تَرْجَمَةِ الْعُيُوبِ
تَضْمِينُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ مُفْتَقِرًا ... إلَى الَّذِي بَعْدَهُ كَأَنَّهُ وُصِلَا
وَسَمِعْت مِنْ بَعْضِ أَشْيَاخِي ﵀ أَنَّ النَّاظِمَ عَرَّضَ بِقَوْلِهِ:
وَصُنْته جُهْدِي مِنْ التَّضْمِينِ
إلَى نَظْمِ الْفَقِيهِ الْقَاضِي الْبَلِيغِ أَبِي إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاجِّ مِمَّنْ عَاصَرَ ابْنَ رُشْدٍ، وَكَانَ الْقَضَاءُ يَدُورُ بَيْنَهُمَا أَلَّفَ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ كَتُحْفَةِ النَّاظِمِ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ مِنْ التَّضْمِينِ وَمَا سَمَّاهُ الْيَاقُوتَةَ وَفِيهِ أَلْفُ بَيْتٍ وَصَدْرُهُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَدِيمِ الْبَاقِي ... الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ الْخَلَّاقِ
الْحَكَمِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يُسْأَلُ ... فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَمَّا يَفْعَلُ
وَالْمَلِكِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْضِي وَلَا ... يُقْضَى عَلَيْهِ جَلَّ قَدْرًا وَعَلَا
سُبْحَانَهُ مِنْ وَاحِدٍ تَعَاظَمَا ... وَعَلَّمَ الْعِلْمَ أَبَانَا آدَمَا
وَبَعْدُ فَالْأَهَمُّ عِلْمُ الْأَدْيَانِ ... لِطَالِبِ الْعُلُومِ كُلَّ الْأَحْيَانِ
وَأَجْرُ مَنْ قَامَ بِهِ عَظِيمُ ... وَبِرِضَا اللَّهِ لَهُ نَعِيمُ
وَقَدْ نَظَمْت بَعْضَ أَحْكَامِ الْقَضَا ... مُبْتَغِيًا أَجْرًا وَنَيْلًا الرِّضَا
فِي رَجَزٍ خُولِطَ بِالسَّرِيعِ ... عَلَى سَبِيلِ الْمُحْدَثِ الْمَتْبُوعِ
مُسْتَعْمِلًا مَا شَذَّ مِنْ زِحَافِ ... وَبَعْضَ مَا قَدْ عِيبَ فِي الْقَوَافِي
وَذَاكَ مَغْفُورٌ لَدَى مَنْ أَنْصَفَا ... فِي جَنْبِ مَا جِئْت بِهِ مُعَرَّفَا
مُغَلِّبًا تَحْسِينِي الْمَعْنَى عَلَى ... تَحْسِينِي اللَّفْظَ الَّذِي عَنْهُ انْجَلَى
وَمَا نَظَمْته بِصِدْقِ النِّيَّةِ ... سُمِّيَ بِالْيَاقُوتَةِ الْأَلْفِيَّةِ
إذْ عَدُّهَا يُنْهَى إلَى الْقُضَاةِ ... وَغَيْرِهِمْ أَلْفٌ مِنْ الْأَبْيَاتِ
وَمِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّضْمِينِ قَوْلُهُ فِي رُجُوعِ الشَّاهِدِ عَنْ شَهَادَتِهِ
وَإِنْ يَكُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ ... يَجُزْ وَيَغْرَمُ امْتِثَالًا لِلْحَكَمْ
جَمِيعَ مَا أَتْلَفَ بِالشَّهَادَهْ ... فَصْلٌ وَفِي بَدْءٍ وَفِي إعَادَهْ
يَلْزَمُ مَنْ يَقْضِي بِأَنْ يُسْعِفَ مَنْ ... كَلَّفَهُ الْكَتْبَ لِحُكَّامِ الزَّمَنْ
بِمَا بِهِ قَضَى وَمَا قَدْ ثَبَتَا ... وَالْعَمَلُ الْيَوْمَ وَمَا أَنْ مُقِتَا
عَلَى قَبُولِ كُتُبِ الْقُضَاةِ ... مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ لَهَا وَيَأْتِي
مَنْعُ الْقَبُولِ مَعَ مَا عَلَيْهِ ... عَمَلُنَا وَصَغْوُنَا إلَيْهِ
فَانْظُرْ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بَيْتٍ مِنْهَا لَا يَتِمُّ مَعْنَاهُ إلَّا بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ النَّظْمِ وَلَكِنْ يَكْفِي فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ
مُغَلِّبًا تَحْسِينِي الْمَعْنَى عَلَى ... تَحْسِينِي اللَّفْظَ الَّذِي عَنْهُ انْجَلَى
﵀ وَنَفَعَنَا بِهِ قَوْلُهُ: (وَجِئْت فِي بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ) الْبَيْتُ.
أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِ وَاحِدٍ لِمَشْهُورِيَّتِهِ أَوْ جَرَيَانِ الْعَمَلِ بِهِ، وَفِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ يَذْكُرُ الْخِلَافَ بِحَيْثُ يَحْكِي قَوْلَيْنِ أَوْ
1 / 6
أَكْثَرَ لِمَقَاصِدَ لَهُ فِي ذَلِكَ إمَّا لِمَشْهُورِيَّتِهَا أَوْ لِجَرَيَانِ الْعَمَلِ بِهَا لِكَوْنِ الْقَائِلِ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ وَلَهُ صِيتٌ وَمَكَانَةٌ وَشُهْرَةٌ تَمْنَعُ مِنْ إهْمَالِ قَوْلِهِ وَعَدَمِ حِكَايَتِهِ وَإِنْ خَالَفَ الْمَشْهُورَ وَمَا بِهِ الْعَمَلُ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ رَعْيًا لِاشْتِهَارِ الْقَائِلِ وَلَا يَعْنِي بِذَلِكَ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ الَّذِي هُوَ إعْمَالُ دَلِيلِ الْخَصْمِ فِي لَازِمِ مَدْلُولِهِ الَّذِي أُعْمِلَ فِي نَقِيضِهِ دَلِيلٌ آخَرُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ دَأْبِ الْمُجْتَهِدِينَ النَّاظِرِينَ فِي الْأَدِلَّةِ فَحَيْثُ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُمْ دَلِيلُ الْغَيْرِ أَعْمَلُوهُ وَحَيْثُ لَا أَهْمَلُوهُ، وَالنَّاظِمُ إنَّمَا هُوَ نَاظِمٌ لِكَلَامِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَامِعٌ لَهُ بِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَإِنْ وَجَدْت فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا النَّظْمِ فَلَا يُعَبِّرُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْخِلَافِ وَإِنَّمَا يَجْزِمُ بِالْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ وَقَدْ أَطَالَ الشَّارِحُ هُنَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَبْحَاثِ وَهِيَ مِنْ حِسَانِ الْمَسَائِلِ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُشْرَحَ بِهَا قَوْلُهُ رَعْيًا لِاشْتِهَارِ الْقَائِلِ كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَام الشَّارِحِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ بِوَجْهٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَذَا أَطَالَ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْجِيحِ مِنْ الْخِلَافِ وَمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ وَالْفَتْوَى بِهِ وَمَا لَا وَمَنْ تَجُوزُ فَتْوَاهُ وَمَنْ لَا وَالْخِلَافُ الَّذِي فِي الْمَشْهُورِ مَا هُوَ وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ خِلَافَ الْمَشْهُورِ مِنْ مُرَاعَاةِ مَصَالِحَ عَرَضَتْ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُلْزَمُ اتِّبَاعَ عَمَلِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَيُنْهَى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ فَمَنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِمُرَاجَعَتِهِ وَقَوْلُهُ فَضِمْنُهُ الْمُفِيدُ الْبَيْتُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النَّظْمَ تَضَمَّنَ الْمَسَائِلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَيْهَا هَذِهِ الْكُتُبُ وَهِيَ مُفِيدُ الْحُكَّامِ لِابْنِ هِشَامٍ وَالْمُقَرِّبُ وَالْمُنْتَخَبُ كِلَاهُمَا لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْمِيمِ وَكَسْرِ النُّونِ الْأُولَى وَالْمَقْصِدُ الْمَحْمُودُ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ وَلَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا النَّظْمَ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ مَسَائِلِ هَذِهِ الْكُتُبِ بَلْ وَلَا جُلِّهَا وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ فِيهِ فَوَائِدَ وَمَسَائِلَ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ وَفِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْكُتُبِ تَوْرِيَةٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا النَّظْمَ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهُ مُفِيدًا مُقَرِّبًا مُنْتَخَبًا وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ مَقْصِدٌ مَحْمُودٌ شَرْعًا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَنَفَعَهُ بِهِ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾ [الشعراء: ٨٨] ﴿إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٩] .
نَظَمْته تَذْكِرَةً وَحِينَ تَمَّ ... بِمَا بِهِ الْبَلْوَى تَعُمُّ قَدْ أَلَمَّ
سَمَّيْته بِتُحْفَةِ الْحُكَّامِ ... فِي نُكَتِ الْعُقُودِ وَالْأَحْكَامِ
النَّظْمُ الْجَمْعُ يُقَالُ: نَظَمْت الْعِقْدَ إذَا جَمَعْت جَوَاهِرَهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَحْسَنُ وَقَوْلُهُ: (تَذْكِرَةً) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ هُوَ بَيَانٌ لِلسَّبَبِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى نَظْمِهِ وَهُوَ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ تَقَدَّمَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ ثُمَّ نَسِيَهُ يَعْنِي وَتَبْصِرَةً لِمَنْ يَتَقَدَّمُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ بَرِّيٍّ
يَكُونُ لِلْمُبْتَدِئِينَ تَبْصِرَةً
الْبَيْتَ، وَقَوْلُ الْعِرَاقِيِّ فِي صَدْرِ أَلْفِيَّتِهِ الْحَدِيثِيَّةِ
نَظَمْتهَا تَبْصِرَةً لِلْمُبْتَدِئِ
الْبَيْتَ، وَجُمْلَةُ (سَمَّيْته) مَعْطُوفَةٌ عَلَى نَظَمْته وَحِينَ يَتَعَلَّقُ بِتَعُمُّ.
وَ(تَمَّ) بِمَعْنَى كَمُلَ وَبِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَلَمَّ، وَ(أَلَمَّ) مَعْنَاهُ نَزَلَ وَالْمُنَاسِبُ لِلْمَحَلِّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ أَلَمَّ بِكَذَا أَيْ أَشْعَرَ بِهِ أَوْ لَا إلْمَامَ لَهُ بِكَذَا أَيْ لَا إشْعَارَ لَهُ بِهِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ بِتَعُمُّ وَالْبَلْوَى مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ تَعُمُّ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ مَا، وَجُمْلَةُ قَدْ أَلَمَّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَمَّ، وَتَقْدِيرُ الْبَيْتِ نَظَمْته تَذْكِرَةً وَسَمَّيْتُهُ بِكَذَا حِينَ كَمُلَ حَالَ كَوْنِهِ مُلِمًّا أَيْ مُشْعِرًا بِمَا الْبَلْوَى تَعُمُّ بِهِ لِلْقُضَاةِ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ لَدَيْهِمْ وَالتُّحْفَةُ مَا أَتْحَفْت بِهِ الرَّجُلَ مِنْ الْبِرِّ وَاللُّطْفِ وَكَذَا التُّحْفَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجَمْعُ تُحَفٌ (وَالنُّكَتُ) جَمْعُ نُكْتَةٍ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَنْبُو عَنْهُ النَّظَرُ وَلَا يُدْرَكُ بِسُرْعَةٍ (وَالْعُقُودُ) جَمْعُ عَقْدٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الصُّكُوكُ وَالْوَثَائِقُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا مَا انْبَرَمَ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، (وَالْأَحْكَامُ) جَمْعُ حُكْمٍ وَهُوَ مَا يُلْزِمُ بِهِ الْقَاضِي الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ لِأَنَّ الْفَتْوَى هِيَ الْإِخْبَارُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ إلْزَامٍ وَالْحُكْمُ هُوَ الْإِلْزَامُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ جَرَى مَجْرَى الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ عَدَمِ تَعَرُّضِهِمْ لِلْمُعْتَقَدَاتِ وَالْعِبَادَاتِ بَلْ اقْتَصَرُوا عَلَى
1 / 7
مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ وَالْخُصُومَاتِ.
وَقَدْ جَرَى النَّاظِمُ ﵀ عَلَى عَادَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ فِي تَسْمِيَةِ تَآلِيفِهِمْ بِمَا يَخْتَارُونَهُ لَهَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ فِيهَا وَكَلَامُهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّسْمِيَةَ كَانَتْ بَعْدَ كَمَالِ النَّظْمِ وَتَمَامِهِ وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ لِلنَّاظِمِ كَلَامًا عَلَى الْوَثَائِقِ وَهُوَ إنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى الْأَحْكَامِ خَاصَّةً وَأَجَابَ وَلَدُهُ بِأَنَّ الْفِقْهَ الْمَذْكُورَ فِي النَّظْمِ هُوَ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ الْعُقُودُ وَرُسِمَتْ عَلَيْهِ الْوَثَائِقُ فَمَعْرِفَتُهُ طَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ مَا عُقِدَ فِي الْوَثَائِقِ وَطَرِيقَةُ التَّوْثِيقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْحَزْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْخِلَافِ وَارْتِكَابِ الْوَجْهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَالْخُصُومَاتِ، وَذَلِكَ كَاشْتِرَاطِهِمْ إذْنَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ لِلضَّامِنِ فِي الضَّمَانِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ وَسَيَقُولُ النَّاظِمُ
وَلَا اعْتِبَارَ بِرِضَا مَنْ ضَمِنَا
وَكَإِنْزَالِ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْأُصُولِ أَيْ إقْبَاضَهُ إيَّاهَا وَذَلِكَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ الَّذِي فِي انْتِقَالِ الضَّمَانِ هَلْ هُوَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَوْ إلَّا مَعَ الْقَبْضِ فَلِلْخُرُوجِ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ يَقُولُ الْمُوَثِّقُونَ فِي وَثَائِقِهِمْ وَنَزَلَ الْمُبْتَاعُ فِيمَا ابْتَاعَ، وَأَبْرَأ الْبَائِعَ مِنْ دَرْكِ الْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّهُ بِنُزُولِهِ فِيمَا ابْتَاعَ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ الْبَائِعِ بِاتِّفَاقٍ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْإِمَامُ سَيِّدِي عَبْدُ الْوَاحِدِ الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي نَظْمِ إيضَاحِ الْمَسَالِكِ لِوَالِدِهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي تَرْجَمَةِ الْبَيْعِ هَلْ هُوَ الْعَقْدُ فَقَطْ أَوْ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِنْزَالَ.
وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَشْهُبَا ... أَوْرَدَهُ الْمُوَثِّقُونَ الْكُتُبَا
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِمْ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ، وَالْفِقْهُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُ الْأَحْكَامِ هُوَ لُبَابُ الْفِقْهِ وَمَنْخُولُهُ.
وَذَاكَ لَمَّا أَنْ بُلِيتُ بِالْقَضَا ... بَعْدَ شَبَابٍ مَرَّ عَنِّي وَانْقَضَى
وَإِنَّنِي أَسْأَلُ مِنْ رَبٍّ قَضَا ... بِهِ عَلَيَّ الرِّفْقَ مِنْهُ فِي الْقَضَا
وَالْحَمْلَ وَالتَّوْفِيقَ أَنْ أَكُونَا ... مِنْ أُمَّةٍ بِالْحَقِّ يَعْدِلُونَا
حَتَّى أُرَى مِنْ مُفْرَدِ الثَّلَاثَةِ ... وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ لِي وِرَاثَهْ
الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إلَى النَّظْمِ تَسْمِيَتُهُ (وَلَمَّا) بِمَعْنَى حِينَ، (وَأَنْ) بَعْدَهَا زَائِدَةٌ عَلَى حَدِّ ﴿وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا﴾ [العنكبوت: ٣٣] وَبُلِيتُ مَعْنَاهُ اُمْتُحِنْت بِخُطَّةِ الْقَضَاءِ فَبِالْقَضَاءِ يَتَعَلَّقُ بِبُلِيتُ وَكَذَا بَعْدَ شَبَابٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ صِفَةً، أَوْ حَالًا مِنْ الْقَضَاءِ (وَالشَّبَابُ) الصِّبَا وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الشَّبَابُ الْحَدَاثَةُ وَكَذَا الشَّبِيبَةُ وَأَشَارَ بِالْبَيْتِ إلَى بَيَانِ وَقْتِ نَظْمِهِ لِهَذِهِ الْأُرْجُوزَةِ وَهُوَ حِينَ وِلَايَتِهِ خُطَّةَ الْقَضَاءِ وَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ لَهَا بِمَدِينَةِ وَادِي آشٍ فِي شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ عَامِ عِشْرِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ إلَى أَنْ نُقِلَ عَنْهَا إلَى قَضَاءِ الْجَمَاعَةِ بِالْحَضْرَةِ وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ عَامِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِ مِائَةٍ كَذَا قَالَ وَلَدُهُ ﵀ وَيَعْنِي بِالْحَضْرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَضْرَةَ غَرْنَاطَةَ أَعَادَهَا اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِ فِيمَا قَضَى بِهِ فِي أَزَلِهِ وَجُمْلَةُ قَضَى بِهِ عَلَيَّ صِفَةٌ (لِرَبٍّ)، (وَالرِّفْقَ) مَفْعُولُ أَسْأَلَ.
(وَالْحَمْلَ وَالتَّوْفِيقَ) مَعْطُوفَانِ عَلَى الرِّفْقِ وَالْحَمْلِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ قُوَّةَ الْحَمْلِ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُعِينَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ هَذِهِ الْخُطَّةِ الْعَظِيمَةِ وَأَنْ يُوَفِّقَهُ فِيهَا إلَى الصَّوَابِ لَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: ١٨١] حَتَّى يَرَى مُفْرَدَ الثَّلَاثَةِ وَأَشَارَ بِهِ إلَى مَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» وَجُمْلَةُ
وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ لِي وِرَاثَهْ
فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَائِبِ أُرَى، (الْجَنَّةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْحَدِيقَةُ ذَاتُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَالْفِرْدَوْسُ قَالَ الْفَرَّاءُ الْفِرْدَوْسُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْكَرْمُ وَمَعْنَى كَوْنِهَا وِرَاثَةً لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.
1 / 8
[بَابُ الْقَضَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]
ِ) قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إلَى انْقِضَاءِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْقَضَاءُ الْحُكْمُ، وَعِلْمُ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِأُمُورٍ زَائِدَةٍ لَا يُحْسِنُهَا كُلُّ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ يُحْسِنُهُ مَنْ لَا بَاعَ لَهُ فِي الْفِقْهِ وَهُوَ كَالتَّصْرِيفِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ النُّحَاةِ يَعْلَمُ التَّصْرِيفَ، وَقَدْ يُحْسِنُهُ مَنْ لَا بَاعَ لَهُ فِي النَّحْوِ.
وَإِنَّمَا كَانَ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَقِلُّ بِأُمُورِ دُنْيَاهُ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَرَّاثًا طَحَّانًا جَزَّارًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصَّنَائِعِ الْمُفْتَقَرِ (إلَيْهَا احْتَاجَ إلَى غَيْرِهِ) ثُمَّ بِالضَّرُورَةِ قَدْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا التَّشَاجُرُ وَالتَّخَاصُمُ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فَاحْتِيجَ إلَى مَنْ يَفْصِلُ تِلْكَ الْخُصُومَةَ وَيَمْنَعُ بَعْضَهُمْ مِنْ غَرَضِهِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ إقَامَةُ الْخَلِيفَةِ لَكِنْ نَظَرُ الْخَلِيفَةِ أَعَمُّ إذْ أَحَدُ مَا يَنْظُرُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْغَرَضُ يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ كَانَ ذَلِكَ فَرْضَ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ اهـ.
(ابْنُ عَرَفَةَ) الْقَضَاءُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا نُفُوذَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَلَوْ بِتَعْدِيلٍ أَوْ تَجْرِيحٍ لَا فِي عُمُومِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالنُّفُوذُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْإِمْضَاءُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَمَّا بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاهُ الْفَرَاغُ وَالتَّمَامُ، وَقَوْلُهُ: نُفُوذُ حُكْمِهِ. . . إلَخْ أَخْرَجَ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الصِّفَةُ الْحُكْمِيَّةُ لِلْمَوْصُوفِ بَعْدَ ثُبُوتِ تَقْدِيمِهِ لِلْحُكْمِ، فَتَقْدِيمُهُ لِلْحُكْمِ وَالْفَصْلِ إذَا كَانَ أَهْلًا هُوَ الْمُوجِبُ لِحُصُولِ الصِّفَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ هُنَا هُوَ إلْزَامُ الْقَاضِي الْخَصْمَ أَمْرًا شَرْعِيًّا، وَالْإِضَافَةُ تُعَيِّنُهُ؛ لِقَوْلِهِ: حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ، وَأَخْرَجَ بِهِ غَيْرَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ بِتَعْدِيلٍ أَوْ تَجْرِيحٍ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ حَكَمَ بِهِ وَلَوْ بِتَجْرِيحٍ أَوْ تَعْدِيلٍ لِيَصِيرَ التَّعْدِيلُ وَالتَّجْرِيحُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا (بِكُلِّ شَيْءٍ حَكَمَ بِهِ) الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ مُقَدَّرٌ قَبْلَ قَوْلِهِ وَلَوْ بِتَعْدِيلِ الثُّبُوتِ وَالتَّأْجِيلَاتِ وَنَحْوِهِمَا إذْ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ. قَوْلِهِ: (لَا فِي عُمُومِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) أَخْرَجَ بِهِ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ أَوْسَعُ مِنْ نَظَرِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَيْ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ وَلَا تَفْرِيقُ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَرْتِيبُ الْجُيُوشِ وَلَا قِتَالُ الْبُغَاةِ وَلَا الْإِقْطَاعَاتُ وَفِي إقَامَةِ الْحُدُودِ خِلَافٌ اُنْظُرْ الرَّصَّاعَ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ الْقَرَافِيُّ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ هُوَ قَاضٍ إنَّمَا لَهُ إلْزَامُ الْحُكْمِ، أَمَّا نُفُوذُهُ فَلَا؛ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْجَبَابِرَةِ فَإِلْزَامُ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّنْفِيذِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي حَقِّ الْعَاجِزِ اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِّ نُفُوذُ حُكْمِهِ، أَيْ إلْزَامُ نُفُوذِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ شَأْنِهَا ذَلِكَ وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ
1 / 9
نَاقِلًا عَنْ الْقَرَافِيِّ الْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَاكِمٌ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْإِنْشَاءُ وَأَمَّا قُدْرَةُ التَّنْفِيذِ فَأَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ حَاكِمًا فَقَدْ يُفَوَّضُ لَهُ التَّنْفِيذُ وَقَدْ لَا يَنْدَرِجُ فِي وِلَايَتِهِ اهـ. (وَاعْلَمْ) أَنَّ النَّاظِمَ بَوَّبَ لِلْقَضَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَضَاءَ هُوَ الْحُكْمُ وَأَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ
مُنَفِّذٌ بِالشَّرْعِ لِلْأَحْكَامِ
فَتَرْجَمَ لِلْمَصْدَرِ وَذَكَرَ مَكَانَهُ اسْمَ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ مَوْجُودٌ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ وَأَصْلٌ لَهُ فَهُوَ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْأَصْلِ عَنْ الْفَرْعِ كَقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الِابْتِدَاءِ:
مُبْتَدَأٌ زَيْدٌ
وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ إلَّا أَوْصَافَ الْقَاضِي الَّتِي بَعْضُهَا شَرْطُ صِحَّةٍ وَبَعْضُهَا شَرْطُ كَمَالٍ أَوْ شَرْطٌ فِي دَوَامِ وِلَايَتِهِ وَمَوْضِعِ جُلُوسِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فِي التَّرْجَمَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
مُنَفِّذٌ بِالشَّرْعِ لِلْأَحْكَامِ ... لَهُ نِيَابَةٌ عَنْ الْإِمَامِ
يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الْمُنَفِّذُ لِلْأَحْكَامِ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ وَمُوَافَقَتِهِ، وَأَنَّ لَهُ نِيَابَةً عَنْ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ (فَمُنَفِّذٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ الْقَاضِي مُنَفِّذٌ، (وَلِلْأَحْكَامِ) يَتَعَلَّقُ بِمُنَفِّذٌ وَكَذَا بِالشَّرْعِ (وَلَهُ نِيَابَةٌ) خَبَرٌ وَمُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ الْعَمَلُ فِي عَنْ الْإِمَامِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَالرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ ضَمِيرُ (لَهُ) وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَوْلَى مِنْ إعْرَابِ مُنَفِّذٌ مُبْتَدَأً.
وَجُمْلَةُ (لَهُ نِيَابَةٌ) خَبَرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ التَّعْرِيفُ بِالْقَاضِي وَأَنَّهُ الْمُنَفِّذُ لِلْأَحْكَامِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فَزَائِدٌ عَنْ الْمَقْصُودِ. وَهْبُهُ مَقْصُودًا أَيْضًا فَدَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى فَائِدَتَيْنِ كَمَا يَقْتَضِيه الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى وَاحِدَةٍ كَمَا يَقْتَضِيه الْإِعْرَابُ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ نِيَابَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ لِلْإِمَامِ عَزْلَهُ مَتَى شَاءَ لِسَبَبٍ وَلِغَيْرِ سَبَبٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِيمَنْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ وَوَكَّلَهُ عَلَى أَمْرٍ بَدَا لَهُ فَلَهُ عَزْلُهُ بِخِلَافِ مَنْ أَوْصَى لَهُ الْإِمَامُ بِالْخِلَافَةِ وَقَبِلَ فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ وَسَائِرَ الْعُمَّالِ إنَّمَا وَلَّاهُمْ لِيَنُوبُوا عَنْهُ فِي بَعْضِ الْكُلَفِ وَالْأَشْغَالِ الَّتِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَيَنُوبُوا عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَلِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِلرَّجُلِ يَكُونُ بَعْدَهُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ جَعْلُ غَيْرِهِ يَنُوبُ عَلَيْهِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ حَكَمَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ نَافِذَةٌ قَالَهُ الْمَازِرِيُّ اهـ. مِنْ الْفُرُوقِ لِلْإِمَامِ سَيِّدِي أَحْمَدَ الْوَنْشَرِيسِيِّ ﵀ (قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي تَبْصِرَتِهِ) حَقِيقَةُ الْقَضَاءِ الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ (قَالَ غَيْرُهُ) وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: قَضَى الْقَاضِي، أَيْ أَلْزَمَ الْحَقَّ أَهْلَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ [سبأ: ١٤] أَلْزَمْنَاهُ وَحَتَمْنَا بِهِ عَلَيْهِ (وَفِي الْمَدْخَلِ) لِابْنِ طَلْحَةَ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقَضَاءُ مَعْنَاهُ: الدُّخُولُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ لِيُؤَدِّيَ فِيهِمْ أَوَامِرَهُ وَأَحْكَامَهُ بِوَاسِطَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ حَقِيقَةُ الْحُكْمِ إنْشَاءُ إلْزَامٍ أَوْ إطْلَاقٍ، فَالْإِلْزَامُ كَحُكْمِهِ بِالنَّفَقَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالصَّدَاقِ وَنَحْوِهَا.
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْإِطْلَاقِ فَكَمَا إذَا حَكَمَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ أَرْضٍ زَالَ الْإِحْيَاءُ عَنْهَا وَأَنْ تَبْقَى مُبَاحَةً لِكُلِّ أَحَدٍ، وَحَكَمَ بِزَوَالِ مِلْكِ الصَّائِدِ عَنْ صَيْدٍ نَدَّ مِنْهُ وَحَازَهُ ثَانٍ.
وَحُكْمُهُ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ عِوَضٌ، وَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ قِيلَ: أَيُجْبَرُ بِالضَّرْبِ وَالسِّجْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَحِكْمَتُهُ رَفْعُ التَّشَاجُرِ وَرَدُّ الثَّوَابِتِ وَقَمْعُ الظَّالِمِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ ا. هـ. وَقَدْ اشْتَمَلَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى حَقِيقَةِ الْقَضَاءِ وَمَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ثُمَّ قَالَ فِي التَّبْصِرَةِ: (وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُؤَلِّفِينَ بَالَغُوا فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الدُّخُولِ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ حَتَّى تَقَرَّرَ فِي ذِهْنِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ أَنَّ مَنْ وُلِّيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ سَهُلَ عَلَيْهِ دِينُهُ وَأَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ.
وَالْوَاجِبُ تَعْظِيمُ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَمَعْرِفَةُ مَكَانَتِهِ مِنْ الدِّينِ فِيهِ بُعِثَتْ الرُّسُلُ وَبِالْقِيَامِ بِهِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَجَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا (فَقَدْ جَاءَ) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا
1 / 10
فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» (وَجَاءَ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهُ ﷺ قَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُ إلَى ظِلِّ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ» .
(وَفِي الْحَدِيثِ) «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ إمَامٌ عَادِلٌ» وَقَالَ ﷺ «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
(وَاعْلَمْ) أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَفِي حَقِّ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يُدْخِلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) اهـ.
بِاخْتِصَارٍ، وَقَوْلُهُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ: وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ لَيْسَ هُوَ غَلَطًا وَإِنَّمَا هُوَ نَظَرٌ لِلْغَالِبِ الَّذِي هُوَ كَالْمُحَقَّقِ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ وَاحِدَةٌ وَمَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى مُمَاثِلِهِ، وَالْعَيْبُ يَحْدُثُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَالْإِمَارَةِ وَالْمَيْلِ لِلنَّفْسِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ وَمَنْ يُعَامِلُهَا بِخَيْرٍ فَالتَّحْذِيرُ مِنْ الْقَضَاءِ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَتَقْدِيمِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَمِنْ بَابِ قَوْلِ الْقَائِلِ:
إنَّ السَّلَامَةَ مِنْ سَلْمَى وَجَارَتِهَا ... أَلَّا تَحِلَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا
(وَقَدْ سَمِعْت) مِنْ بَعْضِ أَشْيَاخِي ﵀ أَنَّ أَمِيرًا وَلَّى إنْسَانًا خُطَّةَ الْحِسْبَةِ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ طَلَبَ مِنْ الْأَمِيرِ أَنْ يُخَلِّيَهُ عَنْ تِلْكَ الْخُطَّةِ وَيُوَلِّيَهَا لِغَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ؟ فَقَالَ: إنَّ النَّاسَ يُهْدُونَ لِي وَيُعَامِلُونَنِي بِخَيْرٍ لَمَّا تَوَلَّيْت وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكُمَ عَلَى مَنْ يُعَامِلُنِي بِخَيْرٍ بِمَا يَكْرَهُ فَانْظُرْ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ غَالِبًا وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً وَلَا يَمِيلُ لِغَرَضٍ وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ فَهُوَ قَلِيلٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَهُوَ مِمَّا يُسْمَعُ بِهِ وَلَا يُرَى تَغَمَّدَ اللَّهُ الْجَمِيعَ بِرَحْمَتِهِ
وَاسْتُحْسِنَتْ فِي حَقِّهِ الْجَزَالَةُ ... وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَةُ
وَأَنْ يَكُونَ ذَكَرًا حُرًّا سَلِمْ ... مِنْ فَقْدِ رُؤْيَةٍ وَسَمْعٍ وَكَلِمْ
وَيُسْتَحَبُّ الْعِلْمُ فِيهِ وَالْوَرَعْ ... مَعَ كَوْنِهِ الْحَدِيثَ لِلْفِقْهِ جَمَعْ
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ بَعْضَ شُرُوطِ الْقَاضِي، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا صِفَاتٌ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِهِ وَقَسَّمَهَا إلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطُ صِحَّةٍ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا أَوْ عَدَمِ وَاحِدٍ مِنْهَا عَدَمُ صِحَّةِ وِلَايَتِهِ، وَشُرُوطُ كَمَالٍ تَصِحُّ وِلَايَتُهُ بِدُونِهَا لَكِنْ الْأَوْلَى وُجُودُهَا فَذَكَرَ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ التَّكْلِيفَ وَالْعَدَالَةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَكَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا.
وَمِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ الْجَزَالَةَ وَالْعِلْمَ وَالْوَرَعَ، وَجَمْعَهُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ فَاشْتَرَطَ فِيهِ التَّكْلِيفَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى شَرْطَيْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ وَغَيْرَ الْبَالِغِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمَا قَلَمٌ وَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمَا خِطَابٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ عَلَى نَفْسِهِ فَأَوْلَى عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُكْتَفَى فِي شَرْطِ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ بِهِ التَّكْلِيفَ مِنْ عِلْمِهِ بِالْمُدْرِكَاتِ الضَّرُورِيَّاتِ بَلْ حَتَّى يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ جَيِّدَ الْفِطْنَةِ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ؛ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى وُضُوحِ مَا أَشْكَلَ وَفَصْلِ مَا أَعْضَلَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاشْتَرَطْتُ فِيهِ الْعَدَالَةَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِشَرْطِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.
وَالْوِلَايَةُ مِنْ أَعْظَمِ السَّبِيلِ؛ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْأَحْكَامِ وَلَا مَوْثُوقٌ بِهِ فِي اجْتِنَابِ الْأَغْرَاضِ وَيَأْتِي أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ مَنْ يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَيَتَّقِي فِي الْغَالِبِ الصَّغَائِرَ وَالْمُبَاحَ الَّذِي يَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ كَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاشْتَرَطْتُ فِيهِ الذُّكُورَةَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْعٌ عَنْ الْإِمَامَةِ، الْعُظْمَى وَوِلَايَةُ الْمَرْأَةِ الْإِمَامَةَ مُمْتَنِعٌ لِقَوْلِهِ ﷺ «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» فَكَذَلِكَ النَّائِبُ عَنْهُ لَا يَكُونُ امْرَأَةً.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْصِبُ الْوِلَايَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لِلنِّسَاءِ وَاشْتُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ بَقِيَّةُ أَثَرِ الْكُفْرِ وَالنُّفُوسُ تَأْنَفُ مِنْ الِانْقِيَادِ لِمَنْ عَلَيْهِ رِقٌّ وَالْإِذْعَانِ لِمَنْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ لِسِوَاهُ مِلْكٌ (قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ): وَإِذَا كَانَ نَقْصُ الرِّقِّ مَانِعًا مِنْ وِلَايَةِ نَفْسِهِ فَأَحْرَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ إنْفَاذِ وِلَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَمَّا مَنَعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَانْعِقَادِ الْوِلَايَةِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ مِنْ مُدَبَّرٍ
1 / 11
وَمُكَاتَبٍ وَمُعْتَقٍ بَعْضُهُ هَذَا فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَلَا يَمْنَعُهُ الرِّقُّ أَنْ يُفْتِيَ وَلَا أَنْ يَرْوِيَ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فِي الْفَتْوَى وَالرِّوَايَةِ وَيَجُوزُ لَهُ إذَا عَتَقَ أَنْ يَقْضِيَ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ أَيْضًا (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) عَنْ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي وَثَائِقِ أَبِي الْقَاسِمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فَقْدَهَا مُوجِبٌ لِلْعَزْلِ فَتَنْفُذُ وِلَايَةُ الْأَصَمِّ وَالْأَعْمَى وَالْأَبْكَمِ، وَتَنْفُذُ أَحْكَامُهُ وَيَجِبُ عَزْلُهُ سَوَاءٌ وُلِّيَ كَذَلِكَ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَتْ السَّلَامَةُ فِي الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ لِعَدَمِ تَأَتِّي الْمَقْصُودِ مِنْ الْفَهْمِ وَالْإِبْهَامِ لِفَاقِدِ بَعْضِهَا فَضْلًا عَنْ كُلِّهَا.
(تَنْبِيهٌ) زَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شُرُوطِ الصِّحَّةَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فَطِنًا فَلَا يَجُوزُ وَلَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْمُقَلِّدِ وَلَا تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ هَكَذَا يَحْكِي أَصْحَابُنَا عَنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمُقَلِّدِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِ وَإِلَّا صَحَّتْ وِلَايَةُ غَيْرِهِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ فَمُقَلِّدٌ (ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ) فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ أَعْلَمَ الْمُقَلِّدِينَ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِ إمَامِهِ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ، وَلِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ فَطِنًا لَا تَجُوزُ وِلَايَةُ الْمُغَفَّلِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بَلْ اشْتِرَاطُهَا هُنَا أَوْلَى (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) وَبَقِيَ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ شَرْطٌ تَاسِعٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَاحِدًا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ شَعْبَانَ وَغَيْرُهُمَا، أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّضَ الْقَضَاءُ إلَى اثْنَيْنِ لَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا (ابْنُ الْحَاجِبِ) وَيَجُوزُ أَنْ يُنَصَّبَ فِي الْبَلَدِ قَاضِيَانِ أَوْ أَكْثَرُ كُلٌّ مُسْتَقِلٌّ أَوْ مُخْتَصٌّ بِنَاحِيَةٍ أَوْ نَوْعٍ، وَأَمَّا شُرُوطُ الْكَمَالِ فَذَكَرَ فِي النَّظْمِ مِنْهَا أَرْبَعَةً: الْأُولَى: الْجَزَالَةُ مَصْدَرُ جَزَلَ فَهُوَ جَزِيلٌ وَهُوَ الْعَاقِلُ الْأَصِيلُ الرَّأْيُ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ عِيَاضٌ: الْجَزَالَةُ الْوَقَارُ وَالْعَقْلُ وَالْقَطْعُ وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ وَمَعْنَى اُسْتُحْسِنَتْ اُسْتُحِبَّتْ قَالَ الشَّارِحُ: كَوْنُهُ جَزِيلًا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَات فِي خِصَالِهِ الْمُسْتَحَبَّةِ.
الثَّانِي: الْعِلْمُ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) نَصَّ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ اهـ.
1 / 12
وَقَالَ الشَّارِحُ: وَكَوْنُ الْعِلْمِ فِي الْقَاضِي مِنْ الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَبَّةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ زَرْقُونَ وَابْنُ رُشْدٍ خِلَافُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عِيَاضٌ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْمَازِرِيُّ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ اهـ.
وَكَوْنُهُ مِنْ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ هُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ (التَّوْضِيحُ) قَالَ عِيَاضٌ وَشَرْطُ الْعِلْمِ إذَا وُجِدَ لَازِمٌ فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا يَنْعَقِدُ لَهُ تَقْدِيمٌ مَعَ وُجُودِ الْعَالِمِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقَضَاءِ لَكِنْ رُخِّصَ فِيمَنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلْمِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ بَلَغَهَا وَمَعَ كُلِّ حَالٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَنَبَاهَةٌ وَفَهْمٌ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ أَمْرٌ اهـ.
وَفِي الشَّارِحِ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ ﵁ قَالَ: لَا نَرَى خِصَالَ الْقَضَاءِ تَجْتَمِعُ الْيَوْمَ فِي أَحَدٍ فَإِذَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْهَا خَصْلَتَانِ وُلِّيَ الْقَضَاءَ الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ (قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمٌ فَعَقْلٌ وَوَرَعٌ فَبِالْعَقْلِ يَسْأَلُ وَبِالْوَرَعِ يَقِفُ. الثَّالِثُ: الْوَرَعُ وَهُوَ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ وَالتَّوَقُّفُ فِي الْأُمُورِ وَالتَّثَبُّتُ فِيهَا.
الرَّابِعُ: عَلَى مَا ذَكَرَ النَّاظِمُ كَوْنُهُ جَامِعًا لِلْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ قَالَ الشَّارِحُ: وَمَا اقْتَضَاهُ الْمَنْقُولُ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ فِي قَوْلِهِمْ لَا يُوَلَّى الْيَوْمَ الْقَضَاءَ صَاحِبُ رَأْيٍ لَا حَدِيثَ عِنْدَهُ وَلَا صَاحِبُ حَدِيثٍ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي مِنْ الِاتِّصَافِ بِالْعِلْمِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُ النَّظَرُ بِهِ فِي النَّوَازِلِ، وَالْبَحْثُ عَنْ الدَّلَائِلِ وَالتَّرْجِيحُ عِنْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَقْوَالِ اهـ.
(تَنْبِيهٌ) زَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَبَّةِ كَوْنُهُ غَنِيًّا لَا دَيْنَ عَلَيْهِ بَلَدِيًّا مُعَرَّفَ النَّسَبِ غَيْرَ مَحْدُودٍ حَلِيمًا مُسْتَشِيرًا لَا يُبَالِي لَوْمَةَ لَائِمٍ سَلِيمًا مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ (قَالَ فِي التَّوْضِيحِ) اُسْتُحِبَّ الْغَنِيُّ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَمَقَالَةُ السُّوءِ تَكْثُرُ فِيهِ بِخِلَافِ الْغَنِيِّ (ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ) وَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِالْغِنَى عَنْ عَدَمِ الدَّيْنِ وَاسْتُحِبَّ كَوْنُهُ بَلَدِيًّا لِيَعْرِفَ النَّاسَ وَالشُّهُودَ وَالْمَقْبُولِينَ مِنْ الشُّهُودِ وَغَيْرِهِمْ (ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ) وَالْوُلَاةُ الْآنَ يُرَجِّحُونَ غَيْرَ الْبَلَدِ إذْ لَا يَخْلُو الْبَلَدِيُّ مِنْ أَعْدَاءٍ.
وَالْغَالِبُ وُجُودُ الْمُنَافَسَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ بَلَدِهِ وَكَوْنُهُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ مِنْ وَلَدِ لِعَانٍ أَوْ زِنًا يُطْعَنُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ كَبِيرُ هَيْبَةٍ وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ، أَيْ فِي زِنًا وَلَا غَيْرِهِ وَكَوْنُهُ حَلِيمًا أَيْ عَلَى الْخُصُومِ أَلَّا تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الشَّرْعِ فَيَكُونَ انْتِصَارُهُ لِغَيْرِهِ وَبِذَلِكَ تَتِمُّ مَهَابَتُهُ الَّتِي هِيَ إحْدَى صِفَاتِ الْكَمَالِ وَكَوْنُهُ مُسْتَشِيرًا أَيْ لِأُولِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ لَهُ لِحُصُولِ الصَّوَابِ (وَقَوْلُهُ لَا يُبَالِي لَوْمَةَ لَائِمٍ) الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا رَاجِعٌ إلَى الْوَصْفِ الْأَوَّلِ أَيْ الْعَدَالَةِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْ لَوْمَةِ اللَّائِمِ رَاجِعٌ إلَى الْفِسْقِ وَكَوْنُهُ سَلِيمًا مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ مِنْهَا رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ وَكَثِيرًا مَا يُؤْتَى عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ مِنْ جِهَةِ قُرَنَائِهِمْ السَّوْءِ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ قِيلَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ وَتَعْطِيلِ الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْأَيْمَانِ (ابْنُ الْحَاجِبِ) فَقَدْ عَزَلَ عُمَرُ زِيَادًا لِذَلِكَ (التَّوْضِيحُ) .
وَيُقَالُ: إنَّ عُمَرَ قَالَ لِزِيَادٍ لَمَّا عَزَلَهُ كَرِهْت أَنْ أَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى فَضْلِ عَقْلِك
وَحَيْثُ لَاقَ لِلْقَضَاءِ يَقْعُدُ ... وَفِي الْبِلَادِ يُسْتَحَبُّ الْمَسْجِدُ
يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ حَيْثُ يَلِيقُ ذَلِكَ وَيَصْلُحُ لَهُ كَانَ فِي بَادِيَةٍ أَوْ حَاضِرَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي حَاضِرَةٍ اُسْتُحِبَّ جُلُوسُهُ فِي الْمَسْجِدِ (قَالَ الشَّارِحُ) نَقَلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِجُلُوسِهِ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ حَيْثُ أَحَبَّ وَفِي الْبِلَادِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْقُعُودُ فِي الْمَسْجِدِ
1 / 13
وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: قَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ وَإِذَا جَلَسَ فِيهِ رَضِيَ بِالدُّونِ مِنْ الْمَجْلِسِ وَوَصَلَ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالضَّعِيفَةُ اهـ.
الْمُدَوَّنَةُ قَالَ مَالِكٌ الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَقِّ وَهُوَ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ لِأَنَّهُ يَرْضَى فِيهِ بِالدُّونِ مِنْ الْمَجْلِسِ وَتَصِلُ إلَيْهِ الْمَرْأَةُ وَالضَّعِيفُ (وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ) يَجْلِسُ بِرِحَابِ الْمَسْجِدِ، وَهَذَا أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ ﷺ «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ رَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ» اهـ. مِنْ الْمَوَّاقِ (وَفِي الْمُقَرِّبِ) قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَضْرِبَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَسْوَاطَ الْيَسِيرَةَ (قَالَ الشَّارِحُ) وَمِمَّا يَلْحَقُ بِذَلِكَ مَحَلُّ سُكْنَاهُ مِنْ الْمِصْرِ وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ ابْنِ شَعْبَانَ مِنْ الْعَدْلِ كَوْنُ مَنْزِلِ الْقَاضِي بِوَسَطِ مِصْرِهِ (قَالَ الشَّارِحُ) وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَيْتِ أُمُورٌ.
(أَحَدُهَا) فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ إذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمُسْتَحْسَنُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ وَأَنْ يَكُونَ مُرَبِّعًا أَوْ مُحْتَبِيًا قَالَهُ الْمُتَيْطِيُّ وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ قُعُودٌ لِخَصْمَيْنِ عِنْدَهُ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَانَا قَوِيَّيْنِ أَوْ ضَعِيفَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا قَوِيٌّ وَالْآخَرُ ضَعِيفٌ، وَالْمَشْهُورُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي التَّقْرِيبِ فِي الْمَجْلِسِ (ثَانِيهَا) وَقْتُ قُعُودِهِ، وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا يَسْتَغْرِقُ الْجُلُوسُ لِلْحُكْمِ أَوْقَاتِهِ كُلَّهَا حَتَّى يَكُونَ كَالْمُسْتَأْجَرِ.
(قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ) قَالُوا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لِجُلُوسِهِ سَاعَةً يَعْرِفُهَا النَّاسُ فَيَأْتُونَهُ فِيهَا، وَحَكَى ابْنُ يُونُسَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَلَا يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَلَا بِالْأَسْحَارِ مَا عَلِمْنَا مَنْ فَعَلَهُ إلَّا لِأَمْرٍ يَحْدُثُ بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهَا وَيَنْهَى وَيُرْسِلَ الشُّرْطِيَّ أَمَّا الْحُكْمُ فَلَا وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَعِنْدَ خُرُوجِ الْحَاجِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَاتِ الَّتِي عَلَى النَّاسِ فِيهَا تَضْيِيقٌ.
(ثَالِثُهَا) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَةِ الِاعْتِدَالِ وَلَا يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ تُشَوِّشُ فَهْمَهُ مِنْ غَضَبٍ وَنَحْوِهِ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ وَالنَّوْمِ وَالْكَسَلِ وَالْحُزْنِ وَالْجَزَعِ.
(قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ) مَا يَنْبَغِي
1 / 14
لِلْقَاضِي أَنْ يَتَضَاحَكَ مَعَ النَّاسِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ عَبُوسَةٌ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ وَأَنْ يَلْزَمَ التَّوَاضُعَ وَالنُّسُكَ فِي غَيْرِ وَهَنٍ وَلَا ضَعْفٍ وَلَا تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْحَقِّ (رَابِعُهَا) أَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا فِيهِ إخْلَالٌ بِالْمَرْتَبَةِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ إلَّا مَا خَفَّ وَعَنْ طَلَبِ الْعَوَارِيّ وَالْتِمَاسِ الْحَوَائِجِ وَقَبُولِ الْهَدَايَا مِنْ أَحَدٍ وَعَنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ إلَّا لِلْوَلِيمَةِ وَحْدَهَا لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَدِيثِ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَهُ عِيَادَةُ الْمَرْضَى وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّاسِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ إذَا بَدَءُوهُ وَيَتَأَكَّدُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي إخْبَارِهِ بِأَحْوَالِهِ وَتَعْرِيفِهِ بِسِيرَتِهِ لِيَجْتَنِبَ بِذَلِكَ مَا يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ اهـ. مِنْ الشَّارِحِ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ ثُمَّ قَالَ
[فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ]
ِ
تَمْيِيزُ حَالِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى ... عَلَيْهِ جُمْلَةَ الْقَضَاءِ جَمَعَا
فَالْمُدَّعِي مَنْ قَوْلُهُ مُجَرَّدٌ ... مِنْ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ بِصِدْقٍ يَشْهَدُ
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ قَدْ عَضَّدَا ... مَقَالَهُ عُرْفٌ أَوْ أَصْلٌ شَهِدَا
(الْأَرْكَانُ) جَمْعُ رُكْنٍ وَهِيَ أَجْزَاءُ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِ بَعْضِهَا وَالْقَضَاءُ الْحُكْمُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَأَرْكَانُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ النَّاظِمُ ثَلَاثَةٌ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالدَّعْوَى وَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّرْجَمَةِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ وَمَا يُطْلَبُ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَحَلُّ الْحُكْمِ إذَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي بَلَدٍ وَمَنْ يُقَدَّمُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْخُصُومِ وَمَنْ يُقَدَّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ.
وَحُكْمُ مَا إذَا جَهِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُدَّعِي مُقَدِّمًا جَمِيعَ ذَلِكَ بِفَذْلَكَةٍ قَرِيبَةٍ وَهِيَ أَنَّ تَمْيِيزَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، عَلَيْهِ يُبْنَى جَمِيعُ مَسَائِلِ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ إذَا عُرِفَتْ أَرْكَانُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ فَقَدْ عُرِفَتْ حَقِيقَتُهَا. وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ رُكْنَانِ فَإِذَا تَمَيَّزَ لِلْقَاضِي كُلٌّ مِنْهُمَا مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالدَّعْوَى فَقَدْ عَرَفَ الطَّالِبَ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَمَنْ يُطَالَبُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْيَمِينِ وَالدَّعْوَى الَّتِي يُطَالَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِجَوَابِهَا وَغَيْرُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالُوا وَذَلِكَ كَالطَّبِيبِ وَالْمَرِيضِ فَإِنَّ الطَّبِيبَ إذَا عَرَفَ عِلَّةَ الْمَرِيضِ سَهُلَ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الدَّوَاءِ الْمُوَافِقِ لِذَلِكَ الْمَرَضِ وَإِذَا جَهِلَ الْعِلَّةَ لَا يَهْتَدِي إلَى دَوَاءٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مَنْ عَرَفَ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ عَرَفَ وَجْهَ الْقَضَاءِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عِنْدَ النَّاظِمِ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ.
فَقَوْلُهُ: (تَمْيِيزُ حَالِ) مُرَادُهُ تَمْيِيزُ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَفْظَةُ (حَالِ) مَقْحَمَةٌ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِتْيَانِ بِهَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ لِحَالِهِمَا مِنْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا دَاعِيًا وَالْآخَرُ مَدْعُوًّا أَوْ طَالِبًا وَالْآخَرُ مَطْلُوبًا أَتَى بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ إشَارَةً إلَى ذَلِكَ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ مُيِّزَ حَالُهُ وَوَصْفُهُ فَقَدْ مُيِّزَ وَعُرِفَ (وَتَمْيِيزٌ) مُبْتَدَأٌ وَجُمْلَةُ (جَمَعَ جُمْلَةَ الْقَضَاءِ) خَبَرُهُ وَفَاعِلُ (جَمَعَ) ضَمِيرُ تَمْيِيزٍ وَهُوَ الرَّابِطُ لِجُمْلَةِ الْخَبَرِ بِالْمُبْتَدَأِ.
وَالْقَضَاءُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ جُمْلَةُ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِهَا فَقَالَ فَالْمُدَّعِي مِنْ قَوْلِهِ مُجَرَّدٌ. الْبَيْتَيْنِ يَعْنِي أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ شُهِدَ لَهُ بِصِدْقِهِ بِمَعْنَى أَنَّ دَعْوَاهُ مُخَالِفَةٌ لِلْأَصْلِ وَالْعُرْفِ مَعًا فَلَمْ يُوَافِقْهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ قَدْ عَضَّدَ قَوْلَهُ أَيْ قَوَّاهُ إمَّا أَصْلٌ أَوْ عُرْفٌ فَأَحَدُهُمَا كَافٍ (فَمِثَالُ شَهَادَةِ الْأَصْلِ) مَنْ ادَّعَى دَيْنًا قِبَلِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَهُ وَادَّعَى بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ أَوْ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ شَخْصٍ لَيْسَ فِي حَوْزِهِ فَأَنْكَرَهُ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَالْمُدَّعِي لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَلِلْحُرِّيَّةِ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَالْأَصْلُ الْحُرِّيَّةُ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ الْأَصْلُ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَمُدَّعِي عِمَارَةِ ذِمَّةِ غَيْرِهِ وَمِلْكِيَّةِ مَنْ لَيْسَ تَحْتَ يَدِهِ مُدَّعٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عُرْفٌ وَلَا أَصْلٌ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ وَإِلَّا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَرِئَ.
(وَمِثَالُ شَهَادَةِ الْعُرْفِ) اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ، وَادَّعَاهُ الرَّجُلُ فَهِيَ مُدَّعًى عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ لَهَا وَالزَّوْجُ مُدَّعٍ لَمْ يَشْهَدْ
1 / 15
لَهُ عُرْفٌ وَكَذَلِكَ مَنْ ادَّعَى الْأَشْبَهَ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ وَعَلَى هَذَا فَقِسْ.
(قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي فِي كُلِّيَّاتِهِ الْفِقْهِيَّةِ): (كُلُّ مَنْ عَضَّدَ قَوْلَهُ عُرْفٌ أَوْ أَصْلٌ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ أَحَدَهُمَا فَهُوَ مُدَّعٍ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ سَبَبًا وَالْمُدَّعِي أَضْعَفُهُمَا) اهـ. وَهُوَ كَبَيْتَيْ النَّاظِمِ وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْغَلَ ذِمَّةً بَرِيَّةً أَوْ يُبَرِّئَ ذِمَّةً مَشْغُولَةً أَوْ ادَّعَى غَيْرَ الْعُرْفِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَكْسُهُ اهـ.
(وَاعْلَمْ) أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمُدَّعِيَ هُوَ الْمَقْضِيُّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ الْمَعْدُودِينَ فِي أَرْكَانِ الْقَضَاءِ السِّتِّ عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ فِي تَبْصِرَتِهِ حَيْثُ قَالَ وَأَرْكَانُ الْقَضَاءِ سِتَّةٌ الْقَاضِي وَالْمَقْضِيُّ بِهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ فِيهِ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ (فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ) فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَآدَابِ الْقَاضِي وَاسْتِخْلَافِهِ وَذِكْرِ التَّحْكِيمِ وَفِي الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَمَا هُوَ غَيْرُ شَرْطٍ لَكِنْ عَدَمُهَا يُوجِبُ الْعَزْلَ وَمَا هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ.
وَيُسْتَحَبُّ الْعَزْلُ عِنْدَ عَدَمِهَا وَفِي الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لِلْقَاضِي فِي سِيرَتِهِ وَالْآدَابِ الَّتِي لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا وَمَا جَرَى عَمَلُ الْحُكَّامِ مِنْ الْأَخْذِ بِهِ وَفِي سِيرَتِهِ فِي الْأَحْكَامِ كَأَنْ لَا يَحْكُمَ حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنْ قَدْ فَهِمَ وَيَكْشِفَ عَنْ حَقِيقَةِ الْقَضِيَّةِ فِي الْبَاطِنِ لِيَسْتَعِينَ بِذَلِكَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْحَقِّ وَلَا يُفْتِي فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَيُحْضِرُ الْعُدُولَ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ لِيَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِ الْخَصْمِ إنْ أَقَرَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ وَيُحْضِرُ أَهْلَ الْعِلْمِ لِلْمُشَاوَرَةِ وَفِيمَا يَبْتَدِئُ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَالنَّظَرِ فِي الشُّهُودِ.
وَيَفْحَصُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَالْكَشْفِ عَنْ الْمَحْبُوسِينَ وَفِي الْأَوْصِيَاءِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَفِي سِيرَتِهِ مَعَ الْخُصُومِ كَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ وَالتَّكَلُّمِ وَتَلْقِينِ حُجَّةٍ عَمِيَ عَنْهَا وَتَقْدِيمِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ فِي الْخُصُومِ وَتَقْدِيمِ الْمُدَّعِي لِيَبْدَأَ بِالْكَلَامِ.
وَفِي اسْتِخْلَافِ الْقَاضِي وَالتَّحْكِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
(وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي) وَهُوَ الْمَقْضِيُّ بِهِ فَهُوَ الْحُكْمُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﷿ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَسُنَّةُ نَبِيِّهِ ﷺ الَّتِي صَحِبَهَا عَمَلٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي السُّنَّةِ نَظَرَ فِي أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَقَضَى بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا قَضَى بِمَا صَحِبَهُ الْعَمَلُ أَوْ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إجْمَاعًا قَضَى بِاجْتِهَادِهِ بَعْدَ مَشُورَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
(وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الْمَقْضِيُّ لَهُ فَهُوَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَفِي حُكْمِهِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ
(وَأَمَّا الرُّكْنُ الرَّابِعُ) وَهُوَ الْمَقْضِيُّ فِيهِ فَهُوَ جَمِيعُ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا قَدِمَ عَلَيْهِ وَهُنَا ذَكَرُوا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِيهِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
(وَأَمَّا الرُّكْنُ الْخَامِسُ) وَهُوَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَهُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ إمَّا بِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الدَّفْعِ وَالْإِعْذَارِ إنْ كَانَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ.
(وَأَمَّا الرُّكْنُ السَّادِسُ) وَهُوَ كَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَشْيَاءَ كَمَعْرِفَةِ مَا هُوَ حُكْمٌ وَمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ فَلَا يُتَعَقَّبُ مَا هُوَ حُكْمٌ وَيُتَعَقَّبُ مَا لَيْسَ بِحُكْمٍ وَمَعْرِفَةِ مَا يَفْتَقِرُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ وَمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَفِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ وَمَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا عَادَةُ الْحُكَّامِ فِي التَّسْجِيلَاتِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْن الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ وَفِي تَنْفِيذِهِ حُكْمَ نَفْسِهِ وَحُكْمَ غَيْرِهِ وَفِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي التَّسْجِيلَاتِ مِنْ التَّبْصِرَةِ بِاخْتِصَارِ كَثِيرٍ
وَقَوْلُهُ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ صَوَابُهُ كُلُّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَكَذَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَقِيلَ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ ادَّعَى ... وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ عَلَيْهِ يُدَّعَى
لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمُدَّعِي مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ وَلَا عُرْفٌ وَأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ شَهِدَ لَهُ أَحَدُهُمَا ذَكَرَ هُنَا تَعْرِيفًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَقَالَ كَانَ كَذَا فَهُوَ الْمُدَّعِي وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَاهُ وَقَالَ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا التَّعْرِيفُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كُلُّ مَنْ قَالَ
1 / 16
كَانَ كَذَا فَهُوَ مُدَّعٍ وَكُلُّ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ا. هـ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ جَارٍ فِي غَالِبِ الصُّوَرِ وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ الْمُثْبِتُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالنَّافِي مُدَّعِيًا وَذَلِكَ كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ مَعَهَا أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا وَادَّعَى هُوَ الْإِنْفَاقَ فَعَلَى التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ الزَّوْجُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ لَهُ وَالزَّوْجَةُ مُدَّعِيَةٌ إذْ لَا يَشْهَدُ لَهَا عُرْفٌ وَلَا أَصْلٌ وَلَا يَجْرِي عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُثْبِتٌ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالزَّوْجَةُ نَافِيَةٌ وَهِيَ مُدَّعِيَةٌ.
(وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ) كُلُّ طَالِبٍ فَهُوَ مُدَّعٍ وَكُلُّ مَطْلُوبٍ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا فِي الْغَالِبِ فَقَطْ وَقَدْ يَكُونُ الطَّالِبُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَالْمَطْلُوبُ مُدَّعِيًا، وَذَلِكَ كَالْيَتِيمِ إذَا بَلَغَ وَطَلَبَ مِنْ وَصِيِّهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ الَّذِي تَحْتَ يَدَيْهِ فَزَعَمَ الْوَصِيُّ أَنَّهُ دَفَعَهُ لَهُ وَأَنْكَرَ الْيَتِيمُ فَعَلَى التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ الْوَصِيُّ مُدَّعٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عُرْفٌ وَلَا أَصْلٌ وَالْيَتِيمُ مُدَّعًى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ لَهُ الْأَصْلُ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِشْهَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦] الْآيَةَ.
وَكَذَا عَلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي لِأَنَّ الْوَصِيَّ مُثْبِتٌ وَالْيَتِيمُ نَافٍ وَلَا يَجْرِي عَلَى الثَّالِثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّ مَطْلُوبٌ وَهُوَ مُدَّعٍ وَالْيَتِيمُ طَالِبٌ وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ التَّعْرِيفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. وَذَلِكَ كَمَا إذَا خَلَا الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ وَادَّعَى عَدَمَ الْمَسِيسِ وَادَّعَتْهُ الزَّوْجَةُ فَالزَّوْجُ مُدَّعٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عُرْفٌ وَلَا أَصْلٌ.
وَالزَّوْجَةُ مُدَّعًى عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا فَالزَّوْجُ مُدَّعٍ وَهُوَ نَافٍ مَطْلُوبٌ وَالزَّوْجَةُ مُدَّعًى عَلَيْهَا وَهِيَ مُثْبِتَةٌ طَالِبَةٌ فَلَمْ يَصْدُقْ عَلَى الْمِثَالِ إلَّا الْحَدُّ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَقَدْ أَشْبَعَ فِي التَّبْصِرَةِ الْكَلَامَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَكْثَرَ مِنْ الْأَمْثِلَةِ فَعَلَيْكَ بِهِ.
(تَنْبِيهٌ) هَذَا كُلُّهُ إنْ قُلْنَا إنَّ مَنْ شَهِدَ لَهُ عُرْفٌ أَوْ أَصْلٌ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّهُ مُدَّعٍ قَامَ لَهُ شَاهِدٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّارِحُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَ قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي (وَالْقَوْلُ عَلَى الْمَشْهُورِ قَوْلُ الْمُدَّعِي) الْبَيْتَ وَيَنْبَنِي عَلَى كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ لِقَوْلِهِ ﵊ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَيَمِينُهُ يَمِينُ مُنْكِرٍ أَوْ إمَّا عَلَى كَوْنِهِ مُدَّعِيًا قَامَ لَهُ شَاهِدٌ فَيَمِينُهُ لِكَمَالِ النِّصَابِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَيَأْتِي لِلنَّظْمِ فِي بَابِ الْيَمِينِ تَقْسِيمُهَا إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هَذَانِ اثْنَانِ مِنْهَا أَعْنِي يَمِينَ الْمُنْكِرِ وَالْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ.
(وَمَنْ يَقُولُ) مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ جُمْلَةُ يَقُولُ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ وَفَاعِلُ يَقُولُ يَعُودُ عَلَى مَنْ وَهُوَ الرَّابِطُ لِلصِّلَةِ وَجُمْلَةُ قَدْ كَانَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَحْكِيَّةٌ لِلْقَوْلِ.
وَجُمْلَةُ ادَّعَى خَبَرُ مَنْ الْمَوْصُولَةِ (وَلَمْ يَكُنْ) مُبْتَدَأٌ أَيْ هَذَا اللَّفْظُ (وَلِمَنْ) خَبَرُهُ وَمَنْ مَوْصُولَةٌ صِلَتُهَا يُدَّعَى عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْمُدَّعَى فِيهِ لَهُ شَرْطَانِ ... تَحَقُّقُ الدَّعْوَى مَعَ الْبَيَانِ
ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ الرُّكْنَ الثَّالِثَ مِنْ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْمُدَّعَى فِيهِ أَيْ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَحَقُّقُ الدَّعْوَى وَهُوَ شَامِلٌ لِتَحَقُّقِ عِمَارَةِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْهِ مِائَةٌ مَثَلًا وَاحْتَرَزُوا بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ أَوْ أَتَحَقَّقُ عِمَارَةَ ذِمَّةِ فُلَانٍ بِشَيْءٍ أَجْهَلُ مَبْلَغَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ. الشَّرْطُ الثَّانِي: بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُ بِهِ قِبَلَ خَصْمِهِ مَا ادَّعَاهُ كَأَنْ
1 / 17
يَقُولَ بِعْت لَهُ أَوْ سَلَّفْته أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ مِنْ قِمَارٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا عِبْرَةَ بِهِ شَرْعًا فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُدَّعِي فَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ جَهِلَ أَوْ غَفَلَ عَنْهُ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ لِئَلَّا يَكُونَ ثَمَنَ مَبِيعٍ غَيْرَ جَائِزٍ كَالْخَمْرِ (قَالَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ) فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ قَالَ وَكَذَا شَيْءٌ وَإِلَّا لَمْ يُسْمَعْ كَأَظُنُّ وَكَفَاهُ بِعْت وَتَزَوَّجْت وَحُمِلَ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِلَّا فَلْيَسْأَلْهُ الْحَاكِمُ عَنْ السَّبَبِ ثُمَّ قَالَ وَلِمُدَّعًى عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ السَّبَبِ وَقَبْلَ نِسْيَانِهِ بِلَا يَمِينٍ ا. هـ.
فَسُؤَالُ الْحَاكِمِ عَنْ السَّبَبِ إنَّمَا هُوَ إذَا غَفَلَ الْمَطْلُوبُ أَوْ جَهِلَ كَمَا تَقَدَّمَ. (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ) يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ مِنْ أَيْنَ وَجَبَ لَك مَا ادَّعَيْتَهُ فَإِنْ قَالَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ ضَمَانٍ أَوْ تَعَدٍّ أَوْ شُبْهَةٍ لَمْ يُكَلَّفْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَقُولَ لِلْمَطْلُوبِ أَجِبْهُ فَإِنْ أَبِي أَنْ يُجِيبَهُ جَوَابًا مُفَسِّرًا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ دَعْنِي أَتَثَبَّتْ وَأَتَفَكَّرْ فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ اهـ. وَيَأْتِي حُكْمُ مَا إذَا أَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ أَوْ لَمْ يُجِبْ رَأْسًا عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَمَنْ أَبَى إقْرَارًا أَوْ إنْكَارًا
الْبَيْتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ لَا يُقَالُ إنَّ الْعِلْمَ وَالتَّحْقِيقَ مُتَرَادِفَانِ أَوْ كَالْمُتَرَادَفِينَ فَالْإِتْيَانُ بِقَوْلٍ مَعْلُومٍ يُغْنِي عَنْ قَوْلِهِ مُحَقَّقٍ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَعْلُومُ رَاجِعٌ إلَى تَصَوُّرِ الْمُدَّعَى فِيهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَفِي ذِهْنِ الْقَاضِي. وَالْمُحَقَّقُ رَاجِعٌ إلَى جَزْمِ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّصْدِيقِ فَقَدْ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ لِمَعْنًى غَيْرِ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ الْآخَرُ فَلِاشْتِرَاطِ الْعِلْمِ لَا يُسْمَعُ: لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلِاشْتِرَاطِ التَّحْقِيقِ لَا يُسْمَعُ: أَشُكُّ أَنَّ لِي عَلَيْك كَذَا وَأَظُنُّ وَمَا أَشْبَهَهُ اهـ.
(قَالَ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ) وَأَصْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لِابْنِ شَاسٍ قَالَ أَوَّلًا وَالدَّعْوَى الْمَسْمُوعَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُحَقَّقَةً فَلَوْ قَالَ لِي عَلَيْك شَيْءٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ اُنْظُرْ تَمَامَ كَلَامِهِ إنْ شِئْت وَمَسْأَلَةُ مَا إذَا لَمْ تُحَقَّقْ الدَّعْوَى كَأَظُنُّ أَوْ أَحْسَبُ أَنَّ لِي عَلَيْكَ كَذَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ يَمِينِ التُّهْمَةِ، وَتَوَجُّهُهَا لَهُ عَلَى كُلٍّ وَعَدَمُ تَوَجُّهِهَا ثَالِثُهَا عَلَى الْمُتَّهَمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَرَابِعُهَا إنْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ أَقْوَالٌ وَإِذَا لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى إذَا اخْتَلَّ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ أَمَّا التَّحَقُّقُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُوجِبُ يَمِينَ التُّهْمَةِ أَوْ عَلِمَ الْمُدَّعَى فِيهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا تُسْمَعَ إذَا اخْتَلَّا مَعًا كَقَوْلِهِ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْهِ شَيْئًا.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَوْلُ النَّاظِمِ
تَحَقُّقُ الدَّعْوَى مَعَ الْبَيَانِ
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّحَقُّقِ أَمْرَيْنِ: تَحَقُّقُ عِمَارَةِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ وَمَعْرِفَةُ الْمُدَّعَى فِيهِ وَبِالْبَيَانِ بَيَانَ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ تَرَتَّبَ الْحَقُّ وَعَلَى هَذَا قَرَّرْنَاهُ أَوَّلًا وَهُوَ ظَاهِرُ تَقْرِيرِ الشَّارِحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالتَّحَقُّقِ أَمْرًا وَاحِدًا وَهُوَ الْجَزْمُ بِعِمَارَةِ ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ فَقَطْ وَبِالْبَيَانِ أَمْرَيْنِ بَيَانَ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعَى فِيهِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ وَكَشْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَبَيَانَ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ تَرَتَّبَ الْحَقُّ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ مَعْنًى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ فِي هَذَا الْبَيْتِ ذَكَرَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي بَيَانِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِهَا وَزَادَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ فَمَجْمُوعُهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ وَلَفْظُهُ فِي شَرْطِ الدَّعْوَى وَلِلدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: (الْأَوَّلُ) أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً فَلَوْ قَالَ لِي عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ اهـ.
(قُلْت) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فِي شَرْحِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: (الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَوْ أَقَرَّ بِهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ فَإِنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ هِبَةً وَقُلْنَا إنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ فَيُلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْمُخَالِفِ الشَّاذِّ عِنْدَنَا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ عَنْهَا مَا لَمْ تُقْبَضْ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْ هَذَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَقَالَ رَجَعْت عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مُطَالَبَتُهُ بِشَيْءٍ وَلَا فَائِدَةَ فِي إلْزَامِهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ إذَا رَجَعَ عَنْهُ وَكَذَا فِي دَعْوَى الْعِدَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا وَالْوَصَايَا الَّتِي لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا.
(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ أَوْ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَمِثَالُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: الْمَطْلُوبُ كُنْت اسْتَحْلَفْتنِي فَاحْلِفْ لِي أَنَّك لَمْ تَسْتَحْلِفْنِي عَلَى هَذَا الْحَقِّ فِيمَا مَضَى لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَهُ يَمِينًا ثَانِيَةً حَتَّى يَحْلِفَ وَبِهَذَا
1 / 18
الْقَضَاءُ اهـ.
وَفِي هَذَا قَالَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَلَهُ يَمِينُهُ أَنَّهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ أَوَّلًا قَالَ وَكَذَا أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِفِسْقِ شُهُودِهِ وَاحْتَرَزُوا بِالْغَرَضِ الصَّحِيحِ مِنْ الدَّعْوَى مِنْ عُشْرِ سِمْسِمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِحَاكِمٍ سَمَاعُ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا نَفْعٌ شَرْعِيٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُكْتَفَى عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِوَجْهَيْهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي قَبْلَهُ.
(الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مُحَقَّقَةً فَلَوْ قَالَ: أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَيْهِ أَلْفًا، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ: أَظُنُّ أَنِّي قَدْ قَضَيْته لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى لِتَعَذُّرِ الْحُكْمِ بِالْمَجْهُولِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا (الشَّرْطُ الْخَامِسُ) أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى مِمَّا لَا تَشْهَدُ الْعَادَةُ بِكَذِبِهَا كَدَعْوَى الْحَاضِرِ الْأَجْنَبِيِّ مِلْكَ دَارٍ بِيَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يَرَاهُ يَهْدِمُ وَيَبْنِي وَيُؤَجِّرُ طُولَ الزَّمَانِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيعِ رَهْبَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا وَلَا يَدَّعِي أَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ ثُمَّ قَامَ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاهُ، فَهَذَا لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ بَيِّنَتِهِ لِتَكْذِيبِ الْعُرْفِ.
(الثَّالِثُ) تَقَدَّمَ أَنَّ النَّاظِمَ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بَعْضَ شُرُوطِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى بَقِيَّتِهَا وَأَمَّا الدَّعْوَى نَفْسُهَا فَهِيَ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ طَلَبٌ مُعَيَّنٌ أَوْ فِي ذِمَّةِ الْمُعَيَّنِ أَوْ ادِّعَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بِطَلَبِ الْمُعَيَّنِ كَدَعْوَى أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ هَذِهِ السِّلْعَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِلْكٌ لَهُ وَغُصِبَ مِنْهُ أَوْ سُرِقَ لَهُ وَمَا فِي ذِمَّةِ الْمُعَيَّنِ كَالدَّيْنِ وَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ الْمُعَيَّنُ الْمُدَّعِي عِمَارَةَ ذِمَّتِهِ إمَّا مُعَيَّنٌ بِالشَّخْصِ كَزَيْدٍ أَوْ بِالصِّفَةِ كَدَعْوَى الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ الْقَتْلِ عَلَى جَمَاعَةٍ أَوْ إنَّهُمْ أَتْلَفُوا لَهُ مَالًا، وَادِّعَاءُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا إمَّا مُعَيَّنٌ، كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ أَوْ رِدَّةَ زَوْجِهَا، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ تَطْلُبَ حَوْزَ نَفْسِهَا وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ أَوْ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُعَيَّنِ، كَدَعْوَى الْمَرْأَةِ الْمَسِيسَ وَدَعْوَى الْمَقْتُولِ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ خَطَأً، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى الدَّعْوَى فِي الْمِثَالَيْنِ طَلَبُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ كَمَالُ الصَّدَاقِ وَالدِّيَةِ، وَالتَّعْيِينُ أَيْضًا إمَّا بِالشَّخْصِ، كَالزَّوْجِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ أَوْ بِالصِّفَةِ كَالْعَاقِلَةِ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) جَعَلَ النَّاظِمُ الْمُدَّعِيَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمُدَّعَى فِيهِ أَرْكَانًا لِلْقَضَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَعَدَّ فِي التَّبْصِرَةِ أَرْكَانَ الْقَضَاءِ سِتَّةً كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ قَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ وَلَمْ يَعُدَّ مِنْهَا وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ، وَالظَّاهِرُ انْدِرَاجُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَانْدِرَاجُ الْمُدَّعَى فِيهِ فِي الْمَقْضِيِّ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ النَّاظِمُ تَحَقُّقَ الدَّعْوَى وَالْبَيَانِ شَرْطَيْنِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ وَجَعَلَهُمَا ابْنُ فَرْحُونٍ شَرْطَيْنِ فِي الدَّعْوَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْمُدَّعِي مُطَالَبٌ بِالْبَيِّنَةِ ... وَحَالَةُ الْعُمُوم فِيهِ بَيِّنَهْ
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ ... فِي عَجْزِ مُدَّعٍ عَنْ التَّبْيِينِ
الْأَصْلُ فِيمَا ذَكَرَ قَوْلُهُ ﵊
«الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.» فَقَوْلُ النَّاظِمِ:
1 / 19
وَالْمُدَّعِي مُطَالَبٌ بِالْبَيِّنَةِ) هُوَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ الْحَدِيثِ الْكَرِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي " ثُمَّ أَفَادَ بِقَوْلِهِ:
وَحَالَةُ الْعُمُومِ فِيهِ بَيِّنَهْ
أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُطَالَبٌ بِالْبَيِّنَةِ كَيْفَ كَانَ صَالِحًا أَوْ فَاسِقًا تَقِيًّا أَوْ فَاجِرًا.
(قَالَ الْمَازِرِيُّ) جَعَلَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَهِيَ لِكُلِّ مُدَّعٍ عُمُومًا، وَقَوْلُ النَّاظِمِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَأَفَادَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: (فِي عَجْزِ مُدَّعٍ) أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يُطَالَبُ بِالْيَمِينِ فِي حَالَةِ عَجْزِ الْمُدَّعِي عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَأَمَّا إنْ أَقَامَهَا فَإِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. (وَاعْلَمْ) أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ مُقَيَّدٌ بِإِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا إنْ أَقَرَّ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا إلَى الْيَمِينِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: أَقَرَّ الْخَصْمُ فَارْتَفَعَ النِّزَاعُ.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ خُلْطَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي، وَبِهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا (ابْنُ عَرَفَةَ) قَطَعَ ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ أَصْبَغَ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَكَافَّةِ أَصْحَابِهِ الْحُكْمُ بِالْخُلْطَةِ وَمِثْلُهُ لِابْنِ حَارِثٍ وَنَقَلَ ابْنُ زَرْقُونَ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ: لَا تُعْتَبَرُ الْخُلْطَةُ (ابْنُ عَرَفَةَ) وَمَضَى عَمَلُ الْقُضَاةِ عِنْدَنَا عَلَيْهِ وَنَقَلَ لِي شَيْخُنَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْكُمُ بِهَا إلَّا إنْ طَلَبَهَا مِنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اهـ.
(وَقَالَ الْمُتَيْطِيُّ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ خُلْطَةٍ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ لُبَابَةَ وَغَيْرُهُ. (وَقَالَ ابْنُ الْهِنْدِيِّ) كَانَ بَعْضُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَتَوَسَّطُ فِي مِثْلِ هَذَا إنْ ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى أَشْكَالِهِمْ بِمَا يُوجِبُ الْيَمِينَ أَوْجَبَهَا دُونَ إثْبَاتِ الْخُلْطَةِ وَإِنْ ادَّعَى عَلَى الرَّجُلِ الْعَدْلِ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَكْلِهِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْيَمِينَ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخُلْطَةِ.
(قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ): هَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا الْأَنْدَلُسِيُّونَ مَذْهَبَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ خُلْطَةً وَيُوجِبُونَ الْيَمِينَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ الْيَوْمَ اهـ. وَفِي هَذِهِ النَّظَائِرِ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ غَازِيٍّ فِي بَابِ الْجِهَادِ مِنْ تَكْمِيلِ التَّقْيِيدِ
1 / 20
قَدْ خُولِفَ الْمَذْهَبُ بِالْأَنْدَلُسِ ... فِي سِتَّةٍ مِنْهُنَّ سَهْمُ الْفَرَسْ
وَغَرْسُ الْأَشْجَارِ لَدَى الْمَسَاجِدِ ... وَالْحُكْمُ بِالْيَمِينِ قُلْ وَالشَّاهِدِ
وَخُلْطَةٌ وَالْأَرْضُ بِالْجُزْءِ تَلِي ... وَرَفْعُ تَكْبِيرِ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْمِكْنَاسِيُّ فِي آخِرِ مَجَالِسِهِ: أَنَّ أَهْلَ الْأَنْدَلُسِ خَالَفُوا مَذْهَبَ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً وَعَدَّهَا، فَانْظُرْهَا فِيهِ إنْ شِئْت
1 / 21