Sharh Maqasid
شرح المقاصد في علم الكلام
Daabacaha
دار المعارف النعمانية
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
1401هـ - 1981م
Goobta Daabacaadda
باكستان
Noocyada
وعن الثالث بمنع الملازمة وإنما يتم لو كانت القدرة القديمة والحادثة متماثلتين ليلزم من كون الثانية مع الفعل لا قبله كون الأولى كذلك وقد إيجاب بأن الكلام إنما هو في تعلق القدرة والأزلي إنا هو نفس القدرة وكونها قديمة سابقة لا ينافي كون تعلقها مقارنا حادثا فلا يلزم من كون تعلق القدرة القديمة مع الفعل قدم الحادث أو حدوث القديم ولو حمل ما قال الآمدي أن القدرة القديمة وإن كانت متقدمة على جميع المقدورات فهي إنما تتعلق بالأفعال الممكنة والفعل في الأزل غير ممكن فلا تتعلق به في الأزل بل فيما لا يزال على هذا المعنى لم يرد عليه اعتراض المواقف بأن فيه التزام ما التزمه المعلل مع بيان سبب له في القدرة القديمة فليجز في الحادثة أيضا بسبب آخر وبأن الفعل في الأزل وإن امتنع لكنه أمكن فيما لا يزال في زمان سابق على الزمان الذي وجد فيه فجاز تعلق القدرة به فلو لزمت المقارنة لزم كون الفعل في الزمان السابق دون اللاحق نعم يرد أن الكلام في تعلق القدرة بالمعنى الذي يصحح قولنا فلان قادر على كذا متمكن من فعله وتركه وهو لا يتأخر عن نفس القدرة لا بالمعنى الذي إذا نسب إلى المقدور كان صدوره عن القادر وإذا نسب إلى القدرة كان إيجابها للمقدور وإذا نسب إلى القادر كان خلقه وإيجاده له فإن هذا مقارن بلا نزاع حادث في حق القديم أيضا ( قال ويتفرع على كون القدرة مع الفعل أن الممنوع ) أي الذي منع من فعل يصح صدوره عنه في الجملة لا يكون قادرا عليه حال المنع كالزمن الذي هو عاجز عن الفعل وأن القدرة الواحدة لا تتعلق بمقدورين سواء كانا ضدين أو مثلين أو مختلفين فإن ما نجده في نفوسنا عند صدور أحد المقدورين غير ما نجده عند صدور الآخر واعترض بأنه إن أريد المغايرة والاختلاف بحسب التعلق على ما قال الإمام أن مفهوم التمكن من هذا غير مفهوم التمكن من ذاك فغير قادح وإن أريد تغاير الحالتين بالذات والمفهوم أو كون القدرة اسما بمجموع التمكن المشترك مع ما به الاختلاف كان لفظ القدرة مقولا بالاشتراك ولم يقل به أحد وذهبت المعتزلة إلى أن الممنوع قادر والمنع لا ينافي القدرة وإنما ينافي المقدور سواء كان المنع بل ما به المنع عدميا كانتفاء الشرط وقوع المقدور أو وجوديا ضدا له كالسكون للحركة أو مولدا للضد كالثقل المولد للحركة السفلية المضادة للحركة العلوية واستدلوا بأنا نفرق بالضرورة بين المقيد الممنوع من المشي والزمن العاجز عنه وما ذاك إلا بوجود القدرة في المقيد دون العاجز وبأن المقيد لم يلحقه تغير في ذاته ولا صفاته ولم يطرأ عليه ضد من أضداد القدرة وقد كان قادرا حال المشي فكذا مع القيد لأن القدرة من صفات النفس وأجيب عن الأول بأن الفرق عندنا عائد إلى جري العادة بخلق القدرة في المقيد بارتفاع القيد بخلاف الزمن العاجز فإنه وإن كان ارتفاع العجز ممكنا لكن لم تجر العادة بذلك وعن الثاني بمنع عدم التغير في الصفة واتفقت المعتزلة على أن القدرة الواحدة تتعلق بالمتماثلات لكن على مرور الأوقات إذ يمتنع وقوع مثلين في محل واحد بقدرة واحدة في وقت واحد واختلفوا في تعلقها بالضدين فجوز أكثرهم تعلقها بهما على سبيل البدل إذ لو لم يكن القادر على الشيء قادرا على ضده لكان مضطرا إلى ذلك المقدور حيث لم يتمكن من تركه هف وتردد أبو هاشم فزعم تارة أن كلا من القدرة القائمة بالقلب والقدرة القائمة بالجوارح يتعلق بجميع أفعال محلها دون محل الأخرى بمعنى أن القائمة بالقلب تتعلق بالإرادات والاعتقادات مثلا دون الحركات والاعتمادات والقائمة بالجوارح على العكس وتارة أن كلا منهما يتعلق بالجميع إلا أنها لا تؤثر لا في أفعال محله مثلا القائمة بالقلب تتعلق بأفعال القلوب والجوارح لكن يمتنع اتحاد أفعال الجوارح بها لفقد الشرائط والقائمة بالجوارح بالعكس وتارة أن القائمة بالقلب تتعلق بجميع أفعال القلب والقائمة بالجوارح لا تتعلق بجميع أفعال الجوارح وتارة أن القائمة بالقلب تتعلق بأفعال القلوب والجوارح جميعا وإن لم تؤثر في أفعال الجوارح والقائمة بالجوارح لا تتعلق بأفعال القلب وإلى القولين الأخيرين أشار في المتن بقوله وتارة خص الحكمين بالقلبية وأراد بالحكمين التعلق بجميع أفعال محله خاصة والتعلق بجميع أفعال محله ومحل الأخرى وأورد الإمام الرازي كلاما حاصله أنه إن أريد بالقدرة القوة التي هي مبدأ الأفعال المختلفة سواء كملت جهات تأثيرها أو لم تكمل فلا شك في كونها قبل الفعل ومعه وبعده وفي جواز تعلقها بالضدين وإن أريد القوة التي كملت جهات تأثيرها فلا خفاء في كونها مع الفعل بالزمان لا قبله وفي امتناع تعلقها بالضدين بل بالمقدورين مطلقا ضرورة أن الشرائط المخصصة لهذا غير الشرائط المخصصة لذاك إلا أن الشيخ لما لم يقل بتأثير القدرة الحادثة بمعنى الإيجاد فسرنا التأثير والمبدائية بما يعم الكسب الذي هو شأن القوة الحادثة وذلك بحصول جميع الشرائط التي جرت العادة بحصول الفعل عندها فصار الحاصل أن القوة مع جميع جهات حصول الفعل بها لزوما أو معها عادة مقارنة وبدون ذلك سابقة ( قال المبحث الثالث ) الجمهور على أن العجز عرض ثابت مضاد للقدرة للقطع بأن في الزمن معنى لا يوجد في الممنوع مع اشتراكهما في عدم التمكن من الفعل وعند أبي هاشم هو عدم ملكة للقدرة وليس في الزمن صفة متحققة تضاد القدرة بل الفرق أن الزمن ليس بقادر والممنوع قادر بالفعل أو من شأنه القدرة بطريق جري العادة على ما سبق ويتفرع على كون العجز ضد القدرة ما ذهب إليه الشيخ الأشعري من أنه إنما يتعلق بالموجود كالقدرة لأن تعلق الصفة الموجودة بالمعدوم خيال محض فعجز الزمن يكون عن القعود الموجود لا عن القيام المعدوم ولا خفاء في أن هذا مكابرة وأن العجز على تقدير أن يكون وجوديا وإن لم يقم عليه دليل فلا امتناع في تعلقه بالمعدوم كالعلم والإرادة ولهذا أطبق العقلاء على أن عجز المتحدين لمعارضة القرآن إنما هو عن الإتيان بمثله لا عن السكوت وترك المعارضة والقول باشتراك لفظ العجز بين عدم القدرة فيكون عدميا يتعلق بالمعدوم دون الموجود وبين صفة تستعقب الفعل لا عن قدرة فيكون وجوديا يتعلق بالموجود دون المعدوم خلاف العرف واللغة ولو سلم فالكلام فيما هو المتعارف الشائع الاستعمال ( قال وفي تضاد النوم للقدرة تردد ) لا خفاء في جواز بعض الأفعال عن النائم وامتناع الأكثر واختلفوا فيما يصدر فذهب المعتزلة وبعض أصحابنا إلى أنه مقدور له وأن النوم لا يضاد القدرة ونفاه الأستاذ أبو إسحق ذهابا إلى التضاد كالعلم والإدراك وتوقف القاضي وبعض الأصحاب وللمعتزلة في القدرة تفريعات وتفاصيل لا نطول الكتاب بذكرها ( قال ويضادها الخلق ) يريد أن من الكيفيات النفسانية الخلق وفسر بملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير تقدم فكر وروية فغير الراسخ من صفات النفس لا يكون خلقا كغضب الحليم وكذا الراسخ الذي يكون مبدأ لأفعال الجوارح بسهولة كملكة الكتابة أو يكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء كالقدرة أو يفتقر في صدور الفعل عنه إلى فكر وروية كالبخيل إذا حاول الكرم وكالكريم إذا قصد بالعطاء الشهرة ولما كانت القدرة تصدر عنها الفعل لا بسهولة واستغناء عن روية وكانت نسبتها إلى طرفي الفعل والترك على السوية حكم بأنها تضاد الخلق مضادة مشهورة وهذا ما قال في التجريد أن القدرة تضاد الخلق لتضاد أحكامهما ( قال ومنها ) أي من الكيفيات النفسانية اللذة والألم وتصورهما بديهي كسائر الوجدانيات وقد يفسران قصدا إلى تعيين المسمى وتلخيصه فيقال اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والألم إدراك المنافي من حيث هو مناف والملائم للشيء كماله الخاص أعني الأمر اللائق كالتكيف بالحلاوة للذائقة وتعقل الأشياء على ما هي عليه للعاقلة وقيد بالحيثية لأن الشيء قد يكون ملائما من وجه دون وجه فإدراكه لا من جهة الملائمة لا يكون لذة كالصفراوي لا يلتذ بالحلوى والمراد بالإدراك الوصول إلى ذات الملائم لا إلى مجرد صورته فإن تخيل اللذيذ غير اللذة ولذا كان الأقرب ما قال ابن سينا أن اللذة إدراك ونيل الوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والألم إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك فذكر مع الإدراك النيل أعني الإصابة والوجدان لأن إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ونيله لا يكون إلا بحصول ذاته واللذة لا تتم بحصول ما يساوي اللذيذ بل إنما يتم بحصول ذاته وذكر الوصول لأن اللذة ليست هي إدراك اللذيذ فقط بل هي إدراك حصول اللذيذ للملتذ ووصوله إليه والفرق بين الكمال والخير هو أن حصول ما يناسب الشيء ويليق به من حيث اقتضائه براءة ما لذلك الشيء من القوة إلى الفعل كمال له ومن حيث كونه مؤثرا خير ثم المعتبر كماليته وخيريته بالقياس إلى المدرك لا في نفس الأمر لأنه قد يعتقد الكمالية والخيرية في شيء فيلتذ به وإن لم يكونا فيه وقد لا يعتقدهما فيما تحققتا فيه فلا يلتذ به ولهذا يحصل من شيء معين لذة أو ألم لزيد دون عمرو وبالعكس فكل من اللذة والألم نوع من الإدراك اعتبر فيه إضافة إلى ملائم أو مناف يختلف بالقياس إلى المدرك وإصابة ووجدان لذات الملائم أو المنافي من حيث هو كذلك لا للصورة الحاصلة منه وبقيد الحيثية يندفع ما يقال أن المريض قد يلتذ بالحلاوة مع أنها لا تلائمه بل يضره ويتنفر عن الأدوية وهي تلائمه وتنفعه وذكر الإمام بعد الاعتراف بأن اللذة والألم حقيقتان غنيتان عن التعريف أنا نجد من أنفسنا حالة نسميها باللذة ونعرف أن هناك إدراكا للملائم لكن لم يثبت لنا أن اللذة نفس إدراك الملائم أم غيره وبتقدير المغايرة هل هي معلولة له أم لا وبتقدير المعلولية هل يمكن حصولها بطريق آخر ثم قال والأقرب أن الألم ليس هو نفس إدراك المنافي ولا هو كاف في حصوله لأن التجارب الطبية قد شهدت بأن سوء المزاج الرطب غير مؤلم مع أن هناك إدراك أمر غير طبيعي وسنتكلم على ذلك وزعم محمد بن زكريا أن اللذة عبارة عن التبدل والخروج عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية وبه صرح جالينوس في مواضع من كلامه وهو معنى الخلاص عن الألم وذلك كالأكل للجوع والجماع لدغدغة المني وأوعيته وأبطله ابن سينا وغيره بأنه قد يحصل اللذة من غير سابقة ألم وحالة غير طبيعية كما في مصادفة مال ومطالعة جمال من غير طلب وشوق لا على التفصيل ولا على الإجمال بأن لم يخطر ذلك بباله قط لا جزئيا ولا كليا وكذا في إدراك الذايقة الحلاوة أول مرة وقد يحصل ذلك التبدل من غير لذة كا في حصول الصحة على التدريج وفي ورود المستلذات من الطعوم والروائح والأصوات وغيرها على من له غاية الشوق إلى ذلك وقد عرض له شاغل عن الشعور والإدراك قالوا وسبب السهو أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات فإن الألم واللذة لا يتمان إلا بإدراك والإدراك الحسي خصوصا اللمسي لا يحصل إلا بالانفعال عن الصند ولذلك متى استقرت الكيفية الموجبة لذلك لم يحصل الانفعال فلم يحصل الإدراك فلم تحصل لذة ولا ألم وبالجملة فلما لم تحصل اللذة إلا عند تبدل الحالة الغير الطبيعية ظنوا أنها نفسه ولا خفاء في إمكان معارضة هذا الكلام بالمثل ودفعها بما سبق من الوجهين ( قال ثم كل من اللذة والألم ينقسم إلى الحسي والعقلي حسب الإدراك ) فإنه ينقسم إليهما فينحصر فيهما عند أرباب البحث أما الحسي فظاهر كتكيف العضو الذايق بالحلاوة والقوة الغضبية بتصور غلبة ما والوهم بصورة شيء يرجوه إلى غير ذلك وأما العقلي فلأن للجوهر العاقل أيضا كمالا وهو أن يتمثل فيه ما يتعلقه من الواجب تعالى بقدر الاستطاعة ثم ما يتعلقه من صور معلولاته المترتبة أعني الوجود كله تمثلا مطابقا خاليا عن شوائب الظنون والأوهام بحيث يصير عقلا مستفادا على الإطلاق ولا شك أن هذا الكمال خير بالقياس إليه وأنه مدرك لهذا الكمال ولحصول هذا الكمال له فإذن هو ملتذ بذلك وهذه هي اللذة العقلية وأما الألم فهو أن يحصل له ضد هذا الكمال ويدرك حصوله من حيث هو ضد ثم إذا قايسنا بين اللذتين فالعقلية أكثر كمية وأقوى كيفية أما الأول فلأن عدد تفاصيل المعقولات أكثر بل يكاد لا يتناهى وأما الثاني فلأن العقل يصل إلى كنه المعقول والحس لا يدرك إلا ما يتعلق بظواهر الأجسام فتكون الكمالات العقلية أكثر وإدراكاتها أتم فكذا اللذات التابعة لهما وبحسب هذا يعرف حال الآلام عند التنبه لفقد الكمالات وأما أن العالم قد لا يلتذ بالإدراكات ولا يتألم بالجهالات فلعله لانتفاء بعض الشروط والقيود المعتبرة في كون الإدراك لذة و ألما فإن قيل الحسي من اللذة والألم ينبغي أن يعد في الكيفيات المحسوسة دون الكيفيات النفسانية قلنا المدرك بالحس هو الكيفية التي يلتذ بها أو يتألم كالحلاوة والمرارة مثلا وأما نفس اللذة والألم التي هي من جنس الإدراك والنيل فلا سبيل للحواس الظاهرة إلى إدراكها ( قال والحسي من الألم سيما اللمسي يسمى وجعا ) لا شك أن لفظ اللذة أو الألم بحسب اللغة إنما هو للحسي دون العقلي وأما بحسب العرف فالظاهر أنه بحسب الاشتراك المعنوي حيث يوجد الإدراك أعم من الأحساس والتعقل ولا يرد الاعتراض بأن المدقوق قد يتعقل أن فيه حرارة غير طبيعية ولا يتألم بذلك لأن الحاصل بهذا التعقل صورة الحرارة المطابقة فهو إدراك ملائم لا مناف وإنما المنافي هوية الحرارة الغريبة وليست بمدركة وإن كانت حاصلة لأنها صارت بمنزلة الطبيعة فلم يكن هناك انفعال وشعور فلم يكن ألم وقيل الاشتراك لفظي والتفسير إنما هو للحسي خاصة وأما الوجع فمختص بالحسي في العرف أيضا بل الأظهر اختصاصه باللمسي عل ما صرح به البعض وإن كان ظاهر كلام أئمة اللغة أنه يرادف الألم فلذا قلنا الحسي من الألم سيما اللمسي يسمى وجعا واتفقت كلمة الأطباء على أن كلا من تفرق الاتصال وسوء المزاج المختلف يقع سببا للوجع في الجملة وأن لا سبب له سواهما إما بحكم الاستقراء وإما بالاستدلال وإن كان ضعيفا وهو أن كمال العضو صحته وهي بالمزاج المعتدل والهيئة التي بها يتأتى الأفعال على ما يجب فالمنافي لهذا الكمال يكون مبطلا لاعتدل المزاج وهو سوء المزاج أو للهيئة وهو تفرق الاتصال وإنما اختلفوا في أن كلا منهما يصلح سببا بالذات كما يكون بالعرض وهو مذهب ابن سينا أو السبب بالذات هو تفرق الاتصال فقط وسوء المزاج إنما يكون سببا بواسطة ما يلزمه من تفرق الاتصال وهذا هو المشهور من مذهب جالينوس وكثير من الأطباء أو بالعكس أي السبب بالذات هو سوء المزاج فقط والتفرق إنما يكون سببا بواسطته وإلى هذا مال الإمام الرازي وجمع من المتأخرين وعلى كل من المذاهب احتجاجات واعتراضات أعرضنا عنها مخافة التطويل وتفاصيلها في شرح القانون واشترط ابن سينا في سوء المزاج المولم أن يكون حارا أو باردا لا رطبا أو يابسا وأن يكون مختلفا لا متفقا أما الأول فلأن الرطوبة واليبوسة من الكيفيات الانفعالية دون الفعلية وفيه بحث لأنه إن أريد أنهما ليستا فاعليتين والمولم بالذات فاعل فيشكل بجعل اليبوسة سببا لتفرق الاتصال وكليهما لكثير من الأمراض فليكونا سببين للوجع بذلك المعنى من غير توسط تفرق الاتصال فلا ينحصر السبب فيه وفي سوء المزاج الحار أو البارد وأما السبب بالذات بمعنى المؤثر بالطبع فلا دليل على كون الحار والبارد وتفرق الاتصال كذلك وإن أريد أن الوجع إحساس ما والإحساس انفعال والانفعال لا يكون إلا عن فاعل وهما ليسا من الكيفيات الفاعلة فيشكل بتصريح ابن سينا في مواضع من كتبه بل إطباق القوم على أنهما من الكيفيات المحسوسة بل أوائل الملموسات فعند خروجهما عن الاعتدال يكونان متنافيين فإدراكهما من حيث هما كذلك يكون ألما ثم ذكر ابن سينا أن سوء المزاج اليابس قد يكون مولما بالعرض لأنه قد يتبعه لشدة التقبيض تفرق الاتصال المؤلم بالذات واعترض بأن الرطب ايضا قد يستتبعه بواسطة التمديد اللازم لكثرة الرطوبة المحوجة إلى مكان أوسع وأجيب بأن ذلك إنما يكون في الرطوبة التي مع المادة فيكون الموجب هو المادة لا الرطوبة نفسها وأما الثاني فلأن سوء المزاج المتفق غير مولم ولذلك يسمى بالمتفق والمستوي حيث شابه المزاج الأصلي في عدم الإيلام وذلك لأنه عبارة عن الذي استقر في جوهر العضو وأبطل المقاومة وصار في حكم المزاج الأصلي فلا انفعال فيه للحاسة فلا إحساس فلا ألم وأيضا المنافاة إنما تتحقق بين شيئين فلا بد من بقاء المزاج الأصلي عند ورود الغريب ليتحقق إدراك كيفية منافية لكيفية العضو فيتحقق الألم وأيضا الدق أشد حرارة من الغب لأن الجسم الصلب لا يتسخن إلا عن حرارة قوية ولأنها تستعمل فيها من ذات أقوى مما يستعمل في الغب ولأنها تؤدي إلى ذوبان مفرط من الأعضاء حتى الصلبة منها وصاحب الدق لا يجد من الالتهاب ما يجده صاحب الغب وما ذاك إلا لكون سوء المزاج المتفق لا يحس به وأيضا المسحم في الشتاء يشمئز بدنه عن الماء الفاتر ويتأذى به ثم أنه بعد ذلك يستلذه ويستطيبه ثم إذا استعمل ماء حارا تأذى به ثم بعد ذلك يستلذه ثم إذا استعمل الماء الأول استبرده وتألم به وذلك لما ذكرنا واعلم أن سوء المزاج المختلف قد لا يوجع بل لا يدرك بالكلية وذلك إذا كان حدوثه بالتدريج فإن الحادث منه أولا يكون قليلا جدا فلا يشعر به وبمنافاته ثم في الزمان الثاني تكون الزيادة على تلك الحالة غير مشعور بها وكذا في كل زمان وهذا بخلاف ما يحدث دفعة فإنه لكثرته يكون مدركا ثم يستمر إدراكه ما دام مختلفا ( قال واعتراض الإمام ) إشارة إلى دفع الشبه التي أوردها الإمام على كون تفرق الاتصال سببا للوجع فمنها أن التفرق يرادف الانفصال وهو عدمي فلا يصلح علة للوجع لأنه وجودي وجوابه أن الانفصال المرادف للتفرق ليس هو عدم الاتصال بل حركة بعض الأجزاء عن البعض فلا يكون عدميا ولو سلم فلا محالة يلزمه كون هيئة العضو فاقدة كماله اللائق به وأمكن إدراكه من هذه الجهة فيكون موجعا بذاته بمعنى أنه ليس يتوسط سوء المزاج وإن كان يتوسط ما يلزمه من خروج الهيئة العضوية عن كمالها ولو سلم فالعدمي لا يلزم أن يكون معدوما ليمتنع كونه علة للوجود ولو سلم فالمراد بالسبب ههنا المعد إلى الفاعل لإعداد العضو لقبول الوجع لا المؤثر الموجد ولا امتناع في أن يكون التفرق العدمي بحيث متى حصل اقتضى الوجع كسوء المزاج ومنها أنه لو كان سببا للوجع لكان الإنسان دائما في الوجع لأنه دائما في تفرق الاتصال بواسطة الاغتذاء والتحلل لأن الاغتذاء والنمو إنما يكون بنفوذ الغذاء في الأعضاء والتحلل إنما يكون بالانفصال عن الأعضاء لا يقال هذا التفرق لكونه في غاية الصغر لا يؤلم أو لا يحس تألمه سيما وقد صار مألوفا بدوامه لأنا نقول كل تفرق وإن كان صغيرا لكن جملتها كثيرة جدا ولو كان التفرق حين ما كان مألوفا غير مؤلم لكان كل تفرق كذلك لأن حكم الأمثال واحد ومنها أن التفرق لو كان سببا بالذات لما تأخر عنه الأثر بحسب الزمان واللازم باطل لأن قطع العضو بآلة في غاية الحدة قطعا في غاية السرعة لا يحس منه بالألم إلا بعد لحظة ربما يحصل سوء المزاج وجوابهما أنا لا نعني بكون تفرق الاتصال سببا للوجع بالذات أنه نفسه تمام العلة بحيث لا يتخلف الوجع عنه أصلا بل نعني أن القدر المحسوس من التفرق فإذا كان في عضو خاص من التفات النفس إليه والشعور به من غير أن يصير مستمرا مألوفا وبشرط أن يدرك من جهة كونه منافيا لكيفية العضو فهو مؤلم بالذات بمعنى عدم التوقف على سوء المزاج وإن كان إيلامه بواسطة ما يلزمه من فقدان هيئة العضو كماله اللائق به وحينئذ يجوز أن لا يكون التفرق في الاغتذاء والتحلل قدر ما يدركه الحس أو يكون مألوفا لا يضر ولا يؤلم أو يكون إدراكه لا من جهة كونه منافيا وتفرقا بل من جهة كونه ملائما ونافعا للبدن ببقاء الصحة والقوة وبقاء البدن من الفضول وما ذكر من لزوم استواء التفرقات في الأحكام ظاهر الفساد كيف والتفرق الغذائي طبيعي دائم في أجزاء صغيرة مألوف يترتب عليه للبدن مصالح كثيرة وقطع العضو ليس كذلك وأما قطع العضو سريعا بآلة في غاية الحدة فإن كان مع التفات النفس والشعور فلا نسلم تأخر الألم وإن كان بدونه فلا إشكال ألا يرى أن من انصرف فكرته إلى أمر أهم شريف كالتأمل في مسألة علمية أو خسيس كاللعب بالنرد والشطرنج أو متوسط كالابتلاء بوجع أقوى أو الوقوع في معركة أو الاهتمام بمهم دنيوي ربما لا يدرك ألم الجوع والعطش وكثير من المؤذيات وكذا المستلذات ومنها أنه لو كان سببا لكانت الجراحة العظيمة أقوى إيلاما من لسعة العقرب لكون التفرق في الجراحة أكثر وجوابه أن ذلك إنما يلزم لو كان ألم لسعة العقرب أيضا لتفرق الاتصال وهو ليس بلازم لجواز أن يكون لما يحصل بواسطة السمية من سوء مزاج مختلف أقوى تأثيرا من الجراحة العظيمة ( قال ومنها ) أي من الكيفيات النفسانية الصحة والمرض أما الصحة فقد عرفها ابن سينا في أول القانون بأنها ملكة أو حالة يصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة وليست كلمة أو للترديد المنافي للتحديد بل للتنبيه على أن جنس الصحة هو الكيفية النفسانية سواء كانت راسخة أو غير راسخة ولا يختص بالراسخة كما زعم البعض على ما قال في الشفاء أنها ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مألوفة فأورد ما هو صحة بالاتفاق وهذا ما قيل أن جنسها هو المسمى بالحال أو الملكة وليس هناك شك في ذاتي للصحة ولا في عرضي على ما قال الإمام أنه لا يلزم من الشك في اندراج الصحة تحت الحال أو الملكة شك في شيء من مقومات الصحة بل في بعض عوارضها لأن المخالفة بين الحال والملكية إنما هي بعارض الرسوخ وعدمه وإنما قدم الملكة على الحال في الذكر مع أنها متأخرة عنه في الوجود حيث تكون الكيفية أولا حالا ثم تصير ملكة لأن الملكة لرسوخها أشرف من الحال ولأنها أغلب في الصحة وقال الإمام لأنها لم يقع اختلاف في كونها صحة بخلاف الحال ولأنها غاية الحال والغاية متقدمة في العلية وهذا التعريف يتناول صحة الإنسان وغيره من الحيوانات وما ذكر الإمام من أنه يتناول صحة النبات أيضا وهو ما إذا كان أفعاله من الجذب والهضم سليمة ليست بمستقيم لأن الحال والملكة إنما تكونان من الكيفيات النفسانية أي المختصة بذوات الأنفس الحيوانية على ما صرحوا به وعلى هذا يكون في تعريف الشفاء تكرارا اللهم إلا أن يراد بالملكة والحال الراسخ وغير الراسخ من مطلق الكيفية أو يراد بالأنفس أعم من الحيوانية والنباتية وكلاهما خلاف الاصطلاح وأما ما ذكره في موضع آخر من القانون أن الصحة هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث تصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سليمة فمبني على أن الصحة المبحوث عنها في الطب هي صحة الإنسان والمراد بصحة الأفعال وسلامتها خلوصها عن الآفة وكونها على المجرى الطبيعي على ما يناسب المعنى اللغوي فلا يكون تعريف صحة البدن والعضو بها تعريف الشيء بنفسه وهذا ما قال الإمام أن الصحة في الأفعال أمر محسوس وفي البدن غير محسوس وتعريف غير المحسوس بالمحسوس جائز وأما الاعتراض بأن قوله تصدر عنها الأفعال مشعر بأن المبدأ هي تلك الملكة أو الحال وقوله من الموضوع مشعر بأنه الموضوع أعني البدن أو العضو فأجيب عنه بوجهين
أحدهما أن الصحة مبدأ فاعلي والموضوع قابل والمعنى كيفية تصدر عنها الأفعال الكائنة من الموضوع الحاصلة فيه
Bogga 249