Sharh Lum'at al-I'tiqad by Khalid Al-Mosleh
شرح لمعة الاعتقاد لخالد المصلح
Noocyada
إنكار صفة الكلام لله تعالى يؤدي إلى إنكار الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن أنيس، عن النبي ﷺ أن الله قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلًا بهمًا، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قُرُب: أنا الملك أنا الديان)، رواه الأئمة، واستشهد به البخاري.
وفي بعض الآثار: (أن موسى ﵇ ليلة رأى النار؛ فهالته ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعًا استئناسًا بالصوت، فقال: لبيك لبيك، أسمع صوتك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك وأمامك، وعن يمينك وعن شمالك)؛ فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى.
(قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى)] .
هذا تتمة للفصل الذي بدأنا فيه، والذي جعله المؤلف ﵀ لتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفة الكلام لله ﷿، وإثباتهم صفة الكلام لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وكماله، وذكرنا أن صفة الكلام صفة ثابتة له ﷿ بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة؛ فإن الأمة أجمعت على إثبات هذه الصفة للرب جل وعلا، بل إن الكتب كلها تثبت هذه الصفة، والرسل جميعهم جاءوا مخبرين بأن الله ﷿ أوحى إليهم وكلمهم، وأنه ﷾ بعثهم إلى الناس، وأنزل عليهم كتبًا تكلم بها، فهذه الصفة ثابتة أجمع عليها أهل الإيمان والإسلام على مَرِّ العصور.
ومن أنكر صفة الكلام فقد شابه أهل الكفر؛ وذلك أن الكفار أنكروا إرسال الله ﷿ الرسل، وسلكوا في ذلك طريقين: الأول: تكذيب أن يكلم الله جل وعلا أحدًا من رسله.
الثاني: أنهم قالوا: ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:٩١]، فسلكوا في تكذيب رسالات الرسل هذين المسلكين: إما تكذيب أن يبعث الله إلى الناس رسولًا: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ [يونس:٢]، ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾ [الأعراف:٦٣]، ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:٩١]؛ فهذه مسالكهم في إبطال الرسالة؛ ولذا قال العلماء: إن حقيقة إنكار صفة الكلام التطرق والتوصل إلى إنكار بعث الله ﷿ للرسل.
وتقدم لنا أن الله جل وعلا كلم موسى ﵇، وأن ما خص الله به موسى من الكلام فارق به سائر الأنبياء والرسل، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء:١٦٤]، وكما قال جل وعلا في خطابه لموسى: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ [الأعراف:١٤٤] .
ثم قال المؤلف ﵀ في الاستدلال على هذه الصفة: وروى عبد الله بن أنيس، عن النبي ﷺ أن الله قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة)، وذكر صفة حشر بني آدم، فذكر أربعة أوصاف: (عراة حفاة غرلًا بهمًا)، واللفظ الذي في الصحيح ذكر الأوصاف الثلاثة الأولى: (حفاة، عراة، غرلًا)، وأما الصفة الرابعة: (بهمًا)، فقد جاءت في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أنيس الذي ذكره المؤلف ﵀.
قالوا: (يا رسول الله! وما بهمًا؟ قال: ليس معهم شيء) .
قال: (فيناديهم بصوت)؛ وهذا هو محل الشاهد في الحديث، (يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك أنا الديان)، وهذا الحديث رواه جابر بن عبد الله ﵁ عن عبد الله بن أنيس، وهو الحديث الذي رحل جابر في طلبه من المدينة إلى الشام، لما بلغه أن رجلًا من أصحاب النبي ﷺ يحدث عن فصل القضاء والحكم بين الناس، فاشترى بعيرًا؛ فشد عليه رحله، ثم رحل إلى الشام، فطرق الباب على عبد الله بن أنيس، فقال: إنه قد بلغني أنك تحدث حديثًا عن رسول الله ﷺ لم أسمعه، فخشيت أن تموت أو أموت قبلك قبل أن أسمعه، فأخذه منه ﵁، وفيه ما ساقه المؤلف من حشر الخلائق.
قال المؤلف: (رواه الأئمة، واستشهد به البخاري) .
وأصل الحديث في الصحيحين من حيث ثبوت صفة الحشر، ونداء الله ﷿ للخلائق يوم المحشر في صحيح الإمام مسلم.
ثم قال ﵀: (وفي بعض الآثار)، أي: عن الأنبياء المتقدمين: (أن موسى ليلة رأى النار)، هذا الأثر رواه ابن أبي عاصم في كتاب الزهد بسنده إلى وهب بن منبه، ووهب بن منبه من الرواة الذين أكثروا النقل عن بني إسرائيل، قال الذهبي ﵀ في ترجمته: له غزارة علم في الإسرائيليات وصحائف أهل الكتاب.
يعني أن غالب ما عنده من العلم هو من الإسرائيليات وصحائف أهل الكتاب، وهذا من ذلك والله أعلم، وهو يروي عن ابن عباس، وأبي هريرة.
وهذا الأثر من روايته عن أهل الكتاب في الإسرائيليات أو من صحائف أهل الكتاب، يقول فيه: (إن موسى ليلة رأى النار هالته ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعًا استئناسًا بالصوت، فقال: لبيك لبيك)، أي: أجيبك إجابة بعد إجابة.
(أسمع صوتك، ولا أرى مكانك، فأين أنت؟)، وهذا فيه أنه سأل عن الله ﷿ (بأين) التي هي أعظم الكبائر عند أهل الكلام؛ مع أن النبي ﷺ سأل الجارية، فقال لها: (أين الله؟ وموسى في هذا الأثر الإسرائيلي قال: أين أنت؟ قال: أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك)، وهذا ليس فيه أن الله مخالط للخلق بل هذا لا ينافي ما تقدم مما نعتقده ودل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة: أن الله جل وعلا بائن من خلقه، ليس فيه شيء من خلقه ولا هو في شيء من خلقه، بل هو العلي جل وعلا مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، والإحاطة المذكورة هنا إنما هي إحاطة العلم والقرب، وليست إحاطة المخالطة والممازجة؛ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
(فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله.
قال: (كذلك أنت يا إلهي)، يعني: هكذا صفة الإله، (أفكلامك أسمع) يعني: هذا الكلام الذي أسمع، وهو النداء: يا موسى، (أكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى)، ولا شك أن الكلام الذي سمعه موسى ﵇ في تلك الليلة هو كلام رب العالمين؛ لا يماري في ذلك صاحب عقل سليم، وصاحب قلب من الشبه سليم؛ لأن الله جل وعلا قال في تلك الليلة: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ [طه:١٢]، وقال: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه:١٤]، ولا يمكن أن يكون هذا صادرًا عن غير الله جل وعلا؛ لأنه لا يجوز لمخلوق من خلق الله ﷿ أن يقول: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه:١٤]، فعلم بهذا أن الكلام الذي سمعه موسى ﵇ هو كلام رب العالمين، وهذا واضح جلي يدركه كل أحد يطلع على كلام الله ﷿، ويقرأ ما جاء في شأن هذه القصة من كلام الله ﷿، وما جاء في السنة النبوية من ذلك؛ لكن هؤلاء لما انحرفت قلوبهم وانصرفت عن الحق شبهوا فشبه عليهم، وخلطوا فاختلط عليهم الأمر، فكانوا كما قال الله ﷿: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة:١٧٦]، أي: لفي اختلاف ونزاع وتفرق واضطراب، كما قال الله جل وعلا: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق:٥]، أي: في أمر مضطرب مختلط فاسد، هكذا هي حال كل من خالف الكتاب، أو أعرض عنه، أو لم يقبل ما جاء فيه.
5 / 2