المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلمة الأولى
أحمده وأسأله التوفيق والسداد، وبعد:
فهذ اشرح جديد مفصل، لكتاب الإيضاح، تأليف العالم الإمام الخطيب القزويني، إمام البلاغة وشيخ البيان، المتوفى عام 739ه.
توخيت فيه عمق البحث، ودقة التحليل، والعناية ببسط المسائل، وحل المشكلات، وأومأت فيه إلى شتى المراجع والمصادر. ليكون جامعا لمسائل البلاغة ومصدرا للدراسات العالية فيها، ومرجعا للطلاب والدارسين والباحثين. والله يعلم مقدار ما أخذ مني من جهد وبحث ومراجعة، ومع ذلك فقد ثابرت على كتابته وإخراجه، لسد النقص الذي نلمسه في دراسات البلاغة.
وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1949، وها هي ذي الطبعة الثانية منقحة مهذبة. والله أسأله أن يجعله خالصا لوجهه، وأن ينفع به العلم والثقافة ولغة الكتاب العزيز. فهو وليي، نعم المولى ونعم النصير.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
محمد عبد المنعم خفاجي.
Bogga 3
مقدمات
نشأة البلاغة العربية ومراحل التأليف فيها
1-
كان القرن الثاني الهجري أول عصر شهد نشأة آراء كثيرة أصيلة ومترجمة حول البلاغة1 وعناصرها، بعد فساد الملكات، وقد أخذ العلماء في بحث أصول بلاغات العرب، وفي تدوين آرائهم في معنى كلمة البلاغة والفصاحة. وأهم ما يؤثر من ذلك: وصية بشر بن المعتمر -من زعماء المعتزلة وتوفي نحو عام 210ه- في البلاغة2، وتفسير ابن المقفع للبلاغة3، وتعريف العتابي لها4، ووصية5 أبي تمام للبحتري تدخل في هذا الباب، ويقول البحتري خير الكلام ما قل ودل ولم يمل6، وفي البيان للجاحظ تحديد البلاغة كما يراها حكيم الهند7، ويقسمها الكندي فيلسوف العرب المتوفى عام260ه إلى ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع بالعكس،
Bogga 4
ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها1، وذكر بزر جمهر حكيم الفرس فضائل الكلام ورذائلة في كلمة مترجمة رواها صاحب الموازنة2. إلى آخر هذه الكلمات والآراء.
2-
ثم ألفت بعد ذلك كتب تجمع كثيرا من الآراء والدراسات الموجزة حول البلاغة وبحوثها. ومن هذه الكتب: مجاز القرآن لأبي عبيدة م 207ه والفصاحة للدينوري م 280ه3 والتشبيه والتمثيل للفضل بن نوبخت4 وصناعة الكلام للجاحظ5، ونظم القرآن 6 والتمثيل 7 له أيضا، والبلاغة وقواعد الشعر للمبرد8.. وفي الكامل إشارات لمسائل كثيرة في البلاغة، وكذلك الرسالة العذراء لابن المدبر، والبلاغة للحراني"9"، وقواعد الشعر لثعلب، وقد نشرته عام 1948 بشروح كثيرة، والبلاغة والخطابة للمروزي 10 والمطابق والمجانس لابن الحرون 11 وتهذيب الفصاحة لأبي سعيد الأصفهاني12 وإعجاز القرآن في نظمه وتأليفه للواسطي المعتزلي م 306ه، وصنعة البلاغة للباحث، وللسيرافي م 368ه. ونظم القرآن لابن الأخشيد 13، وكذلك لابن أبي داود م 316ه 14 وكتاب الرد على من نفى المجاز في القرآن للحسن بن جعفر 15 ومن هذه الكتب أيضا المفصل في البيان، والفصاحة للمرزباني م 378ه.
على أن أهم الكتب التي تناولت بعض مسائل البلاغة بالبحث،
Bogga 5
أو التي ألفت فيها خاصة هي: كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ففي مقدمته بحوث موجزة طريفة تتصل بالبلاغة. وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وهو أهم ماألف في هذا الطور من كتب تتصل ببلاغات العرب نثرا وشعرا، وتتعرض لتحديد البلاغة بما حولها من آراء كانت ذائعة في عصر الجاحظ، وفيه كثير من بحوث البلاغة، فهو يعرف الاستعارة1 ويتكلم على السجع2 ويشير إلى التفصيل والتقسيم3 والاستطراد والكناية4 والأمثال5 والاحتراس6 والقلب7 والأسلوب الحكيم 8، والجاحظ أول من تكلم على المذهب الكلامي9 ويرى البلاغة في النظم لا في المعاني10 وهو ماذهب إليه ابن خلدون 11، والجاحظ يشيد بالإيجاز12، كما يدعو في البيان كثيرا إلى ترك الوحشي والسوقي، ويحث على الإفهام والوضوح، وعلى ترك التعمق والتهذيب في صناعة الكلام، إلى غير ذلك من شتى مادونه في البيان. ولا يضير الجاحظ أن كانت دراساته موجزة مفرقة كما يقول أبو هلال 13، فهي على كل حال ذات أثر كبير في نشأة البيان، وهي التي أوحت إلى كثير أن يعدوا الجاحظ الواضع الأول لعلم البيان. ومن الخطأ التهوين بأثر الجاحظ في البيان كما ذهب إليه بعض الباحثين المحدثين.
Bogga 6
3-
وقد بدأ التدوين في البلاغة على يد ابن المعتز الذي ألفه كتابه القيم "البديع"1 وثعلب الذي ألف كتابه "قواعد الشعر"، وبعد قليل ظهر نقد النثر كما ظهر نقد الشعر لقدامة بن جعفر المتوفى عام 337ه. ثم كتاب الصناعتين لأبي هلال المتوفى عام 395ه، ثم كتاب الموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، وإعجاز القرآن للباقلاني، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، والعمدة لابن رشيق وهما أكثر الكتب اتصالا بالبلاغة.
4-
ثم جاء بعد ذلك أبو بكر عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة العربية والمتوفى عام 471ه. فألف في البلاغة كتابين جليلين هما:
1-
أسرار البلاغة، وفيه دراسات واسعة تتناول بحوث علم البيان من تشبيه ومجاز واستعارة وفيه شرح للسرقات وبعض ألوان البديع.
2-
دلائل الإعجاز، وفيه بحوث كثيرة هي أصول علم المعاني. كماأنه تحدث فيه عن الكناية وعن التمثيل والمجاز والاستعارة والسرقات أيضا.
5 -
وبعد عصر الجرجاني بحث الزمخشري في تفسيره، والرازي في كتابه "نهاية الإعجاز"، وابن الأثير صاحب المثل2 السائر، وبدر الدين بن مالك صاحب المصباح، والتنوخي صاحب "الأقصى القريب"، وكثير من العلماء، في البلاغة والفصاحة.
ومن أهم هؤلاء العلماء في هذا الطور أبو يعقوب السكاكي المتوفى عام 626ه تلميذ الحاتمي3، الذي ألف كتابه "المفتاح"، وجعله
Bogga 7
أقساما، وخص البلاغة بالقسم الثالث منه، وقسمها إلى ثلاثة أقسام: المعاني -البيان- البديع. وبذلك تميزت علوم البلاغة ومباحث كل علم منها بالتفصيل.
والفلسفة والمنطق تغلب على السكاكي إلى حد كبير، من حيث كان يغلب الذوق والطبع على عبد القاهر.
وبذلك تنتهي مراحل التأليف والابتكار في بحوث البلاغة وتدوينها تدوينا كاملا.
6-
وجاء الخطيب القزويني المتوفى عام 739 فألف في البلاغة كتابيه: تلخيص1 المفتاح والإيضاح. وقد ألف الإيضاح ليكون كالشرح لتلخيص المفتاح وجمع فيه كثيرا من آراء عبد القاهر والسكاكي في شيء من التنظيم والشرح.
وعلى متن التلخيص كثرت الشروح والحواشي والتقارير وفي مقدمتها الأطول للعصام، والمطول2 للسعد وشروح التلخيص وسواها ... وهذه أهم كتب البلاغة وشروحها في هذا العهد. قوانين البلاغة لعبد اللطيف البغدادي م 629ه، والتبيان لابن الزملكاني م651ه، والمعيار للزنجاني م654ه، وبديع القرآن لابن أبي الأصبع م654ه، والفوائد الغياثية للعضد م 756ه وشرحها الكرماني م 786ه والتبيان لشرف الدين الطيبي م743ه، والطراز ليحيى ابن حمزة العلوي م 749ه، وعروس الأفراح للسبكي م 773ه ، والسمرقندية للسمرقندي وهي رسالة في الاستعارات، وتوفي السمرقندي عام 880ه.
Bogga 8
9-
شروح المفتاح للسكاكي.
أ- شرحه بتمامه المولى حسام.
ب- وشرح القسم الثالث منه: الشيرازي م 710ه في "مفتاح الفتاح"، والترمذي وهو معاصر للشيرازي، والخلخالي م 745ه، والسعد "712-791ه"، والسيد م 816ه في "المصباح" الذي ألفه عام 803 "1"ه، وعماد الدين الكاشي. وله رسالة في حل المتشابهات التي أوردها الخطيب على المفتاح، والأبهري سلطان شاه، وطاشكبري زاده م 962ه، وشيخ زاده م 951ه، والشربيني م 769ه، والخوارزمي، وقد فرغ منه عام 642ه، والفناري م834، وله على شرحي السعد والسيد تعليقات، وابن كمال باشام 940، وسواهم.
ج- واختصر القسم الثالث منه:
المعانيجي م 990ه، والقزويني 666-739ه، والأيجي م756ه في الفوائد الغياثية، وبدر الدين ابن مالك م 686ه في "المصباح في اختصار المفتاح" ونظم "المصباح" المراكشي، ثم شرحه وسماه "ضوء المصباح على ترجيز المصباح"، واختصر هذا المختصر ابن النحوية م 718ه، وسماه "ضوء الصباح"، ثم شرحه في مجلدين في كتاب أسفار المصباح عن ضوء المصباح، ولمحمد بن خضر "مصباح الزمان في شرح المصباح".
هذا وقد ألف السعد "المطول على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني" وانتهى من تأليفه عام 748ه، كما انتهى من تأليف مختصر المطول عام 756ه.. وفرع ابن يعقوب من تأليف شرحه على مختصر
Bogga 9
السعد في مكناسة في المحرم 1108ه.. وانتهى ابن السبكي من تأليف شرحه "عروس الأفراح" على مختصر السعد في جمادى الأولى عام 758ه.. وانتهى الدسوقي من كتابة شرحه على مختصر السعد في شوال عام 1210ه.
8-
يمتاز الإيضاح للخطيب القزويني بعدة ميزات ظاهرة: فهو أوفى كتاب في بحوث البلاغة، وهو أوضح الكتب المؤلفة فيها نظاما وأسلوبا، وهو كثير البحث والتعمق والاستنباط لأسرار البلاغة العربية، فوق أنه كتاب تطبيقي جميل في البلاغة، وينقد القزويني فيه كثيرا من آراء السكاكي، وإن كان يعتمد الخطيب فيه على عبد القاهر والسكاكي كثيرا. ومع ذلك فالخطيب يجمع في كتابه خلاصات لبحوث علماء البلاغة في شتى العصور حتى عصره، والكتاب بعد ذلك غزير المادة، كبير الفائدة في الأدب والنقد والبلاغة والبيان1.
وهناك مؤلفات جديدة ظهرت في البلاغة في عصر الحواشي، ومن بينها عقود الجمان للسيوطي. كما ظهرت في العصر الحديث عدة مؤلفات في البلاغة فيها لون من التهذيب والتنسيق وحسن الأخذ والاختيار.
وبذلك تنتهي مراحل التأليف في البلاغة منذ نشأتهاحتى الآن.
Bogga 10
الخطيب وأثره في البلاغة العربية:
والخطيب القزويني1 هو "جمال الدين أبو المعالي محمد بن عبد الرحمن، ابن خطيب دمشق" كما يقول جورجي زيدان، وبتفصيل أوسع هو "الشيخ الإمام العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين، أبو عبد الله، محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي" كما يقول تلاميذه أو هو نفسه في مقدمة كتابه "الإيضاح" فهو من أسرة علمية ودينية كبيرة، كان لها ولاشك أثرها في حياته وتفكيره وروحه.
ولد عام 666ه، وتعلم الفقه، وتولى القضاء، وانتقل إلى دمشق، وتولى الخطابة في مسجدها، ثم تولى القضاء بمصر، وتمكن نفوذه فيها أيام الملك الناصر، اكتسب مالا طائلا، ثم جاء إلى دمشق وتوفي فيها. وأشهر مؤلفاته تلخيص المفتاح، والإيضاح في المعاني والبيان2، وكانت وفاته عام 739ه، كمايقول صاحب الدرر الكامنة.
وتدل مؤلفات الخطيب في البلاغة على ثقافة بلاغية وأدبية واسعة وقراءة مستفيضة لأهم المؤلفات في البلاغة وفي مقدمتها: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر، والمفتاح للسكاكي.
ألف الخطيب مختصرا صغيرا للمفتاح في البلاغة، أو للقسم
Bogga 11
الثالث بعبارة أوضوح، وسماه "تلخيص المفتاح1" لخص فيه ذلك السفر القيم وقدم فيه وأخر، وحذف واختصر، وفيه بعض آراء له لم يرتضها جهابذة هذه الفنون، "ومن العجيب أن يسمي كتابه بهذا الاسم، وهو في رأي أحد الباحثين ليس بالتلخيص له وحده، بل أشبه بأن يكون تلخيصا لكتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر ولسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.. وروح التلخيص من الكتاب الأخير واضح كل الوضوح في مقدمته"2 وقد يكون في هذا الرأي لون من المبالغة، فمتن التلخيص ليس تلخيصا للأسرار ودلائل وسر الفصاحة في قليل ولا كثير، إنما هو تلخيص للقسم الثالث من المفتاح وحده، وما فيه من روح التأثر بعبد القاهر فمرجعه إلى المفتاح نفسه، الذي اعتمد فيه السكاكي على عبد القاهر إلى حد بعيد. وقد يستساغ ذلك في الإيضاح لا في "تلخيص المفتاح".
ثم ألف الخطيب كتابه الإيضاح في البلاغة على ترتيب التلخيص، وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، واعتمد على المفتاح والأسرار والدلائل وغير هذه المؤلفات في بحوثه ودراساته فيه، كما يشير إليه الخطيب نفسه في مقدمة الإيضاح. والكتاب "فيه أمهات مسائل هذه الفنون بعبارة واضحة فيها روح من أسلوب عبد القاهر الجامع بين التحقيق العلمي والرصانة الأدبية3.
Bogga 12
وعلى "تلخيص المفتاح للخطيب" كثير من الشروح والحواشي والتقارير ممايدل على مدى شهرته العلمية عند الباحثين. ولا يزال منهج الخطيب في البلاغة وفي تلخيصه بالذات هو المنهج العلمي في علوم البلاغة إلى عصرنا الراهن.
وكتاب الإيضاح عمل جليل في البلاغة سواء في ترتيبه وتقسيمه وتنظيم بحوثه، أم في استيعابه واستقصائه وتحليله، أم في جمعه واستمداده من شتى المصادر والمراجع، أم في أسلوبه الأدبي وروحه وكثرة تطبيقاته الأدبية، وهو أهم كتاب دراسي في البلاغة في العصر الحاضر.
وهذا شرح جديد للإيضاح، يتناول بالبحث والتحليل والدراسة والتعليق والشرح جميع مسائله وشواهده، ويشير إلى مصادره ومراجعه التي ألف منهاالخطيب هذا الكتاب. وهو عمل سيكون له أثره في البلاغة العربية، وفي خدمة الإيضاح وتذليل صعوبات البحث فيه بتوفيق الله.
ويمتاز هذا الشرح بدقة البحث. وطول المراجعة، وكثرة الشرح والتفصيل، والإلمام بكل رأي، وتحليل كل مذهب ما عليه وماله، وبعرض آراء جديدة في شتى بحوث البلاغة وعلومها.. كما يمتازا بمقدمته التي هي تأريخ للبلاغة ونشأتها وأطوار التأليف فيها، وغير ذلك مما يحتوي عليه من مميزات، وقد وضعنا للكتاب بعض العناوين المساعدة على فهمه وإيضاحه.
Bogga 13
ترجمة الخطيب
عن الدر الكامنة لابن حجر 1، والعقد المذهب لابن الملقن، وشذرات الذهب2.
هو قاضي القضاة أبو المعالي جلال الدين محمد بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن إمام الدين عمر القزويني الشافعي .
ولد بالموصل سنة 666 وسكن بلاد الروم، مع والده وأخيه واشتغل بالعلم وتفقه على والده وولي قضاء نيكسار من بلاد الروم ثم قدم دمشق وسمع من العز الفاروثي وطائفة وحدث وتفقه واشتغل في الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان، وكان فهما ذكيا مفوها ذا ذوق سليم حسن الإيراد والمحاضرة حلو العبارة فصيحا جميل الهيئة كبير الذهن جوادا أديبا حسن الخط، وناب عن أخيه الأكبر إمام الدين قاضي قضاة الشام إلى أن مات أخوه سنة 699 ثم ولي خطابة جامع دمشق فأقام بها مادة طويلة ثم طلبه الملك الناصر إلى القاهرة في سنة 724 وكان قدومه على البريد يوم الجمعة فاتفق أنه اجتمع بالناصر ساعة وصوله فأمر به أن يخطب بجامع القلعة فخطب مرتجلا مع ما هو عليه من التعب وأثر السفر فأعجب به السلطان وشكره وسأله عن حاله وكم عليه من الدين فذكر أن عليه ثلاثين ألف فأمر بوفائها عنه فشافهه بقضاء دمشق فباشرها والخطابة جميعا إلى أن ولاه قضاء الديار المصرية في سنة 727 فعم أمره جدا وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وحج مع السلطان فأعانه بمال وأحسن إلى المصريين والشاميين وكان لهم ذخرا وملجأ ولم يزل على
Bogga 14
حاله إلى أن أعيد إلى قضاء الشام بسبب أحوال أولاده وفرح به أهل الشام فأقام قليلا وتعلل وأصابه فالج فمات منه في سنة 739 عن 73 سنة فأسفوا عليه كثيرا وشيعه عالم عظيم، وللشعراء فيه مدائح كثيرة ومراث عددة وكان يرغب الناس في الاشتغال بأصول الفقه وفي المعاني والبيان. وتصنيفه المسمى تلخيص المفتاح مشهور ونظمه السيوطي وسماه عقود الجمان.. وله إيضاح التلخيص أيضا. وكان يعظم الأرجاني الشاعر ويقول أنه لم يكن للعجم نظيره واختصر ديوانه فسماه "السور المرجاني من شعر الأرجاني". وقال الذهبي: عظم شأنه لماولي قضاء الديار المصرية وبلغ من العز ما لا يوصف بحيث لاترد له شفاعة وربما رمي علي يد السلطان نفسه وكان فصيحا حلو العبارة، مليح الصورة، سمحا حليما كثيرة التحمل وسيرته تحتمل كراريس، وذكر اليوسفي في سيرة الملك الناصر محمد أن القاضي كان محسنا إلى الناس كثير التصدق والمكارم والبر لأرباب البيوت، قال: أنه لم يوجد لأحد من القضاة منزلة عند سلطان تركي نظير نزله جلال الدين، وكان الناصر يحتمل ما ينقل إليه من سيرة ولده حتى كان يقول لوالي البلد: أكبس فلانا ثم يرسل إليه يقول: لا تفعل، نبقى في حياء من والده ... فرحمه الله تعالى عليهم وغفرانه.
وترجم له السيوطي في بغية الوعاة "ص66"، فنسبه إلى أبي دلف العجلي، وذكر ما لايخرج عما سبق، ثم قال: ولا أعلمه نظم شيئا مع قوة باعه في الأدب، ومات في منتصف جمادى الأولى عام 739ه.
ويقول صاحب الدرر الكامنة: أن له ابنا اسمه محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني، وهو ابن القاضي جلال الدين خطيب جامع دمشق.. وقد ترجم له1.
Bogga 15
أول كتاب الإيضاح
تمهيد
...
أول كتاب الإيضاح للخطيب القزويني:
تمهيد:
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة خطيب الخطباء، مفتي المسلمين، جلال الدين: أبو عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن إمام الدين أبي حفص عمر، القزويني الشافعي. متع الله المسلمين بمحياه، وأحسن عقباه:
الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين.
أمابعد: فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها1، ترجمته 2 ب"الإيضاح" وجعلته علي ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح. وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له، فأوضحت مواضعه المشكلة، وفصلت معانيه المجملة وعمدت إلى ماخلاعنه المختصر، مماتضمنه "مفتاح العلوم3"، وإلى ماخلاعنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني4 رحمه الله -في كتابيه: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما5، فاستخرجت زبدة6 ذلك كله، وهذبتها ورتبتها، حتى استقر كل شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكرى، ولم أجده لغيري. فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم. وإليه أرغب في أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولى الفهم.
وهو حسبي ونعم الوكيل.
Bogga 16
مقدمة
1:
في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة:
وانحصار علم البلاغة في علمي2 المعاني والبيان للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة، لم أجد فيما بلغني منها. ما يصلح لتعريفها به، ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم 3، فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين، فنقول:
Bogga 17
.........................................................................
Bogga 18
كل واحدة منهما1 تقع صفة لمعنيين: أحدهما الكلام كمافي قولك قصيدة فصيحة أو بليغة، ورسالة فصيحة أو بليغة، والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ، وكاتب فصيح أو بليغ. والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال: كلمة فصيحة، ولايقال كلمة2
Bogga 19
بليغة1.
Bogga 20
الفصاحة1:
أما فصاحة المفرد2 فهي خلوصه3 من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي:
Bogga 21
فالتنافر1:
منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها، كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهعخع2.
Bogga 22