Sharh Fath al-Majid by al-Ghunayman
شرح فتح المجيد للغنيمان
Noocyada
الخوف من الشرك وأسباب كونه عظيمًا
قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب الخوف من الشرك) وقول الله ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]].
قال الشارح ﵀: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك به) أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك، (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده.
انتهى.
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام:١]، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره التي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه قامت القيامة، كما قال ﷺ: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا شبيهًا لمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات].
قول المصنف ﵀: (باب الخوف من الشرك) يعني: خوف الإنسان أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ فإن الإنسان قد يظن أمرًا من الأمور حسنًا ومحبوبًا إلى الله جل وعلا، ويكون بخلاف ذلك، وذلك لقصور العلم؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيط بما جاء به الرسول ﷺ، وإنما عليه أن يستن بالأهم، فما كان أهم فعليه أن يبدأ به، وهو معرفة حق الله جل وعلا عليه، وهذا لا يتم حتى يعرف ضده، لأن الأشياء تتبين بأضدادها، ومن المعلوم أن الإنسان إذا ما عرف الأمور التي نهى الله جل وعلا عنها فإنه كثيرًا ما يقع فيها وهو لا يشعر، وأعظمها الشرك بالله جل وعلا، ووجه الخوف منه من جهتين: الجهة الأولى أن فيه خفاء، كما سيأتينا في الحديث أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة على صفاة صماء في ظلمة الليل، ويقصد بهذا شرك النيات، الشرك الذي يقع في النية والمقصد، وليس الشرك الذي يحدث بالفعل كالسجود والدعاء وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ظاهر جلي، فالإنسان إذا تعلم ما يجب عليه ما يكون عليه خفيًا، وإنما الخفي الذي يكون في النية؛ فإن النيات بحر لا ساحل له، والنية تحتاج إلى جهاد دائمًا، فالإنسان يعالج نيته دائمًا لتكون النية صالحة، وليكون مقصودًا بالعمل وجه الله جل وعلا، ولهذا قد يبدأ الإنسان بعمل يكون عملًا صالحًا ثم يحدث في أثنائه ما يغير ذلك، ثم يتغير في آخره إلى أن يكون صالحًا، حسب جهاد الإنسان نفسه ومكابدته ذلك، ولا بد من المجاهدة، فهذا من جهة.
الجهة الأخرى: كونه مخوفًا لأن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفره لمن مات عليه، وقد يكون هناك من مسائل الشرك الأكبر ما يخفى على بعض الناس، وقد وقع فيها من خواص الناس خلق كثير، فيظنون أنها توحيد وأنها طاعة وهي في الواقع شرك بالله جل وعلا، فقد قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨] وهذه الآية لا تتعارض مع قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر:٥٣]؛ لأن هذه التي في سورة الزمر في التائب من الذنوب، فكل تائب من أي ذنب كان سواءٌ أكان شركًا أم زنًا، أم سرقة، أم شرب خمر، أم ترك صلاة، أم غيرها من أنواع الذنوب، فالتائب من الذنب الله جل وعلا يتوب عليه، وهو المقصود بهذه الآية: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر:٥٣] أما آية سورة النساء: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨] في موضعين منها فإنها لمن مات على ذلك، فالإنسان الذي يفعل الشرك فيموت، أو يفعل المعاصي كلها فيموت إن كانت هذه المعاصي التي يفعلها غير شرك فهي تحت مشيئة الله جل وعلا، أي أنه إن شاء أن يغفرها بلا عذاب غفرها، وإن شاء أخذه بها فعذبه، هذا إذا كانت غير شرك، ثم بعد التعذيب تكون عاقبته إلى الجنة، أما إذا كانت شركًا فهو ميئوس منه، فيكون في النار خالدًا مخلدًا لا يناله من رحمة الله شيء؛ لأن الله جل وعلا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، وفي الآية الأخرى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة:٧٢]، فأخبر جل وعلا أن الجنة عليه حرام، فمن هنا جاء الخوف من الشرك، ويدل على هذا ما سيذكره من قول الله جل وعلا عن إبراهيم: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم:٣٥]، فإبراهيم الذي اتخذه الله خليلًا يدعو الله ويتضرع إليه أن يجعله في جانب بعيد عن عبادة الأصنام هو وبنيه، ومعلوم أن عبادة الأصنام من الشرك الأكبر، فهو يدعو ربه أن يجنبه الشرك الأكبر، ولهذا يقول إبراهيم التيمي ﵀: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم يعني: حيث إن إبراهيم ﵇ خاف الوقوع في الشرك فكيف بمن هو دونه بمنازل كثيرة جدًا في الإيمان والوفاء بعهد الله جل وعلا والقيام بأمره، فإنه يخاف عليه أكثر، ومن هذا القبيل ما سيذكره من أن الرسول ﷺ قال لأصحابه: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرجل يقوم يصلي فيزين صلاته من أجل نظر رجل)، وهذا مثال، وإلا فهذا يسري في جميع الأعمال، ولا سيما الأعمال الظاهرة التي ترى وتشاهد، مثل الصلاة والزكاة والصدقات والحج وغيرها، فإن هذا يحتاج إلى مجاهدة متواصلة مع العمل حتى يكون خالصًا وصافيًا لله جل وعلا، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا، فإذا كان الرسول ﷺ خاف على سادات الأمة وأولياء الله الذين هم صحابته خاف عليهم من الشرك الأصغر فكيف بمن هو بعيد جدًا عن مقامهم وعن أحوالهم وعن علمهم وعن إيمانهم؟ فيخاف عليه أكثر.
ولهذا ذكر هذا الباب لينبه على أن الإنسان يجب عليه أن يحذر من ذلك، يحذر من الوقوع في الشرك، أما الشرك الأكبر فالغالب أن المسلم لا يقع فيه إذا عرف الإسلام حقيقة، فالشرك الأكبر الغالب أنه لا يقع فيه إلا من باب الجهل أو المعاندة أو الهوى، وأما الشرك الأصغر فهو الذي قد لا يسلم منه إلا النادر، والشرك الأصغر وإن كان غير مخرج للإنسان من الدين الإسلامي فإذا وقع في الشرك الأصغر فهو مسلم، إلا أنه من أكبر الكبائر، أعني كونه يقع منه الرياء أو السمعة أكبر من أن يقع منه الزنى نسأل الله العافية، ولهذا قال كثير من العلماء: إنه لا يغفر وإن كان أصغر؛ لأنه داخل في عموم الآية في قوله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، فقيد الشرك بأنه غير مغفور لصاحبه، وليس معنى كونه غير مغفور له أنه يكون خالدًا في النار، لا.
ولكن معناه أنه لا بد أن يعذب على هذا الشرك الأصغر، ولأنه لا يكون به خارجًا من الدين الإسلامي لا يخلد في النار، وإنما الذي يخلد في النار من يكون غير مسلم، والإنسان يخرج بالشرك الأكبر عن الإسلام، فلا يكون مسلمًا به، أما الشرك الأصغر -وسيأتي ما هو الشرك الأصغر- فإنه لا يخرج به عن الدين الإسلامي، ولكن بعض العلماء يقول: إنه لا يغفر لصاحبه.
يعني أنه لا بد أن يعذب عليه، ثم بعد ذلك بعد ما يلقى جزاءه ويقوم به العذاب الذي يستحقه يخرج من النار إلى الجنة، وهو يكون غير داخل في قوله: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وإنما يدخل في هذا الاستثناء غير الشرك من سائر المعاصي، فدل هذا على عظم الشرك وإن كان أصغر، وإن كان في الواقع أن الإنسان على خطر وإن كان سالمًا من الشرك، فإذا وقع في الذنوب فإنه على خطر، والإنسان ضعيف، فكيف يقوم في عذاب الله؟ وعذاب الله جل وعلا لا يشبه العذاب في الدنيا والعذاب المعهود المعروف لنا، والنار ليست كالنار التي بين أيدينا؛ فإن الرسول ﷺ يقول: (فضلت نار جهنم على ناركم هذه بسبعين ضعفًا)، ولو كانت هي نفس نار الدنيا لكفت بشدة العذاب، فكيف إذا كانت مضاعفة عليها سبعين مرة بشدة الإحراق وشدة الحرارة، ولهذا يخبر الله جل وعلا عنها بما يكاد الإنسان -إذا صدق به وآمن به- أن يتقطع قلبه خوفًا منها، فعلى الإنسان أن يحذر جميع الذنوب، وأيضًا عليه أن يقوم على نفسه ويحاسبها ويتوب كل وقت، فعندما يأوي إلى فراشه يعلم أنه يموت في هذا الفراش، ويجوز أن يكون موتًا حقيقيًا، فعليه أن يحاسب نفسه ويتوب إلى الله جل وعلا، فربما لا يقوم من فراشه، فيحاسب نفسه قبل أن يلقى ربه فيجد الحساب، ويج
19 / 3