Sharh Fath al-Majid by al-Ghunayman
شرح فتح المجيد للغنيمان
Noocyada
مشركو قريش وإقرارهم بتوحيد الربوبية وبعض الأسماء والصفات
وهذان القسمان -توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات- ما كان أحد من الخلق ينكرهما إلا مكابر ومعاند، بل الكفار الذين هم جاهلون وبعث الرسول ﷺ لدعوتهم كانوا يقرون بهذا، وإذا أنكر شيء من ذلك فهو من باب المعاندة والجحود، كما أنكروا اسم الرحمن عنادًا وتكبرًا، كقوله جل وعلا: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد:٣٠]، وذلك أنهم أنكروا هذا الاسم اتباعًا لآبائهم وما كانت طريقتهم عليه في كتاباتهم، فلما أمر الرسول ﷺ بالكتابة بينه وبينهم يوم الحديبية قال للكاتب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قالوا: لا.
اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)، أما الرحمن فما نعرفه، فأنزل الله جل وعلا: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد:٣٠]، وهذا عناد وتكبر، وإلا فقد جاء في أشعارهم -من أشعار الجاهلية- إثبات ذلك.
وكذلك توحيد الربوبية فأمره ظاهر جدًا في كونهم يعرفون هذا، ويؤمنون به ويقرون به، وقد ذكر الله جل وعلا في القرآن آيات كثيرة تدل على هذا، بل جعل هذا جل وعلا دليلًا على وجوب توحيد الإلهية، وألزمهم بهذا، كما قال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة:٢١]، يعرفون أن الله هو الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، ولهذا قال في آخر الآية: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢] يعني: يعلمون أن الله هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل السماء بناء، والأرض فراشًا، وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم، يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم، يعلمون هذا تمامًا ويقرون به، وأنه لا أحد يشارك الله جل وعلا في ذلك، ولهذا قال: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢] يعني: لا تدعوا معه أحدًا في العبادة في دعوتكم، وفي العبادة التي تصدر منكم، وفي التأله في القصد والإرادة، وفي النية، لا تجعلوا له ندًا في ذلك وأنتم تعلمون أنه المتفرد بما ذكر.
وكذلك ورد في آيات كثيرة: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت:٦٣]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف:٨٧]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف:٩]، ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ [الزمر:٣٨]، يعلمون أن هذه التي يدعونها ما تملك مع الله شيئًا، ولا تنفع ولا تضر، وإنما يقولون: إننا نتوسل بها للتشفع، ويجعلونها وساطة بينهم وبين ربهم، ويقولون: تتوسط لنا فتسأل لنا ربنا، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك) وهم يحجون، وكانوا يخلصون في بعض العبادات مثل الحج والصدقة، يخلصونها لله، وأحيانًا الدعاء إذا وقعوا في الضر والشدائد، قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت:٦٥]، يعني: إذا ركبوا في البحر وعصفت بهم العواصف تركوا ما كانوا يعبدون واتجهوا إلى عبادة الله وحده، وإذا كانت معهم أصنام رموها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا يصلح أن ندعوها في مثل هذا المقام، ولكن إذا جاء الرخاء ونجاهم الله جل وعلا عادوا إلى شركهم اقتداء بآبائهم واتباعا لهم.
بل قد جاء أنهم يؤمنون بالحساب، ويؤمنون بالقدر أيضًا، كما قال عنترة في معلقته وهو جاهلي: يا عبل! أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها جاهلي يؤمن بالقضاء والقدر، وكذلك زهير بن أبي سلمى يقول في قصيدته المشهورة: فلا تكتمن الله ما في صدوركم فمهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب سيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم فهو يؤمن بالحساب، ويؤمن بأن الله يعلم، وبأن الله يدخر الأعمال، وهكذا جاء في أشعارهم كثيرًا من هذا.
2 / 3