شرح دعاء السحر ***37]
Bogga 1
اللهم إني أسئلك من بهائك بأبهاه، وكل بهائك بهي، اللهم إني أسئلك ببهائك كله.
قول الداعي:(اللهم) أصله يا ألله. واعلم أن الإنسان هو الكون الجامع لجميع المراتب العينية والمثالية والحسية، منطو فيه العوالم الغيبية والشهادية وما فيها، كما قال الله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها. وقال مولينا ومولى الموحدين صلوات الله عليه على ما نقل:
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فهو مع الملك ملك، ومع الملكوت ملكوت، ومع الجبروت جبروت. وروي عنه وعن الصادق عليهما السلام: إعلم أن الصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه بيده وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صورة العالمين، وهي المختصر من اللوح المحفوظ، وهي الشاهد على كل غائب، وهي الطريق المستقيم إلى كل خير، والصراط الممدود بين الجنة والنار، انتهى. فهو خليفة الله على خلقه، مخلوق على صورته، متصرف في بلاده، مخلع بخلع اسمائه وصفاته، نافذ في خزائن ملكه وملكوته، منفوخ فيه الروح من الحضرة الإلهيه، ظاهره نسخة الملك والملكوت وباطنه خزانة الحي الذي لا يموت. ولما كان جامعا لجميع الصور الكونيه الإلهيه كان مربى بالإسم الأعظم، المحيط لجميع الأسماء والصفات، الحاكم على جميع الرسوم والتعينات. فالحضرة الإلهيه رب الإنسان الجامع الكامل. وينبغي له أن يدعو ربه بالإسم المناسب لمقامه والحافظ من منافراته. ولهذا أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم(قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ((الأعراف)) دون ساير الأسماء وصار مأمورا بالإستعاذه برب الناس في قوله تعالى: "قل أعوذ برب الناس" من شر الذي ينافر مرتبته وكمالاته، وهو الوسوسة في صدره من الموسوس القاطع لطريقه في سلوك المعرفه.
قال العارف الكامل كمال الدين عبدالرزاق الكاشاني: في تأويلاته. "الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود. فربه الذي أوجده فأفاض عليه كماله هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البدايه المعبر عنه ب(الله)، ولهذا قال تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}(ص:75) بالمتقابلتين كاللطف والقهر والجلال والجمال الشاملين لجميعها" انتهى بعين ألفاظه.
فالمتكفل لعوده من أسفل السافلين واسترجاعه من الهاوية المظلمة إلى دار كرامته ***38]
Bogga 37
وأمانه وإخراجه من الظلمات إلى النور، وحفظه من قطاع طريقه في السلوك هو الله، كما قال تعالى:{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}(البقرة:257). فالسالك في سلوكه بقدم المعرفة إلى الله بمنزلة مسافر يسافر في الطريق الموحش المظلم إلى حبيبه، والشيطان قاطع الطريق في هذا المسلك، والله تعالى هو الحافظ باسمه الجامع المحيط. فلا بد للداعي والسالك من التوسل والتضرع إلى حافظه ومربيه بقوله: اللهم أو يا الله. وهذا سر تصدر اكثر الأدعية به، وإن كان المتمسك بساير الأسماء الإلهية أيضا حسن بنظر آخر، وهو استهلاك التعينات الأسمائية والصفاتية في أحدية الجمع على ما سيجيء في سر الرجوع عن إثبات الأفضلية في فقرات الدعاء إلى قوله "وكل بهائك بهي" إلى غير ذلك.
"إني" لم يكن هذا في الحقيقه إثبات الأنانيه، لأن الأنانيه تنافي السؤال، والداعي يقول: إني أسئلك. وهذا نظير قوله تعالى:{أنتم الفقراء إلى الله} (فاطر:15)، مع أن أنتمية السوائيه مدار الإستغناء لا الفقر. فما كان منافيا لمقام السالك إلى الله تعالى إثبات الإستقلال والإستغناء كتسمية أنتم في قوله تعالى: "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم". وأما إثبات الأنانية في مقام التذلل وإظهار الفقر فليس مذموما، بل ليس من إثبات الأنانيه. نظير أنتم في قوله: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله}(فاطر:15). بل حفظ مقام المعبوديه والتوجه إلى الفقر والفاقه إن كان في الصحو الثاني فهو من أتم مراتب الإنسانيه. المشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله على ما حكى " كان أخي موسى عليه السلام عينه اليمنى عمياء وأخي عيسى عينه اليسرى عمياء وأنا ذو العينين " فحفظ مقام الكثرة في الوحده في الكثرة لم يتيسر لأحد من الأنبياء المرسلين إلا لخاتمهم بالأصاله وأوصيائه بالتبعيه، صلى الله عليهم أجمعين.
"أسئلك"، السؤال بلسان الإستعداد غير مردود ودعائه مقبول مستجاب، لأن الفاعل تام وفوق التمام والفيض كامل وفوق الكمال، وعدم ظهور الفيض وإفاضته من قبل نقصان الإستعداد. فإذا استعد القابل لقبوله فيفيض عليه من الخزائن التي لاتنتهي ولا تنفذ ومن المعادن التي لاتنتهي ولاتنقص. فينبغي للداعي أن يبالغ في تنزيه باطنه وتخلية قلبه من الأرجاس والملكات الرذيله يسري دعاء قاله إلى حاله وحاله إلى استعداده وعلنه إلى سره ليستجاب دعاه ويصل إلى مناه. فاجتهد لأن يكون سرك داعيا وباطنك طالبا حتى ينفتح على قلبك أبواب الملكوت. وينكشف على سرك أسرار الجبروت. ويجري فلك ***39]
Bogga 38
عقلك في بحار الخير والبركات حتى يصل إلى ساحل النجاة، وينجي من ورطة الهلكات ويطير بجناحيه إلى عالم الأنوار عن هذه القرية الظلمانية ودار البوار. وإياك وأن تجعل الغاية لهذه الصفات الحسنى والأمثال العليا التي بها تقوم السموات والأرضون، وبنورها تنورت العالمون الشهوات الدنيه الداثره الباليه والأغراض الحيوانيه والكمالات البهيميه والسبعيه. وعليك بطلب الكرامات الإلهيه والأنوار العقليه والكمالات اللائقه بالإنسان بما هو الإنسان والجنات التي عرضها كعرض السماوات والأرض. وهذه أيضا في بدو السلوك والسير، وإلا فحسنات الأبرار سيئات المقربين. فالعارف الكامل من جعل قلبه هيولي لكل صوره أورد عليه المحبوب فلا يطلب صوره وفعلية، وتجاوز عن الكونين وارتفع عن النشأتين، كما قال العارف الشيرازي:
در ضمير ما نمى كنجد به غير ازدوست كس هر دو عالم رابه دشمن ده كه مارا دوست بس
وقال في موضع آخر:
نيست در لوح دلم جز الف قامت دوست جكنم حرف دكر ياد نداد استادم
وهذا هو حقيقة الإخلاص الذي أشار إليه بقوله: " من أخلص لله أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ".
وفي الكافي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: " أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول " طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطى غيره ".
هذا، فتبا لعبد يدعي العبوديه ثم دعى سيده ومولاه بالأسماء والصفات التي قامت بها سماوات الأرواح وأراضي الأشباح، وكان مسئوله الشهوات النفسانيه والرذايل الحيوانيه والظلمات التي بعضها فوق بعض والرياسات الباطله وبسط اليد في البلاد والتسلط على العباد.
تو را زكنكره عرش مى زنند صفير ندانمت كه دراين دامكه جه افتاده است؟
وطوبى لعبد عبد الرب له وأخلص لله ولا ينظر إلا إليه ولا يكون مشتريا للشهوات الدنيوية أو للمقامات الاخروية.
غلام همت آنم كه زير جرخ كبود زهر جه رنك تعلق بذيرد آزاد است ***45]
Bogga 39
"من بهائك بأبهاه وكل بهائك بهي اللهم إني أسألك ببهائك كله".
من بهائك متعلق بأبهاه، وهو متعلق بأسئلك. أي أسئلك بأبهى من بهائك وكذلك ساير الفقرات.
واعلم أن السالك بقدم المعرفه إلى الله لا يصل إلى الغاية القصوى ولايستهلك في أحدية الجمع ولا يشاهد ربه المطلق إلا بعد تدرجه في السير إلى منازل ومدارج ومراحل ومعارج من الخلق إلى الحق المقيد، ويزيل القيد يسيرا يسيرا، وينتقل من نشأة إلى نشأة ومن منزل إلى منزل حتى ينتهي إلى الحق المطلق، كما هو المشار إليه في الكتاب الإلهي لطريقة شيخ الأنبياء عليه وعليهم الصلوة والسلام بقوله تعالى: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي. إلى قوله - وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين} (الأنعام 76-79). فتدرج من ظلمات عالم الطبيعة متدرجا مرتقيا إلى عالم الربوبية. فطلوع ربوبية النفس متجلية بصورة الزهرة. فارتقى عنها فرأى الأفول والغروب لها، فانتقل من هذا المنزل إلى منزل القلب الطالع قمر القلب من أفق وجوده، فرأى ربوبيته، فتدرج عن هذا المقام إلى طلوع شمس الروح. فلما أفلت بسطوع نور الحق وطلوع الشمس الحقيقي نفى الربوبية فيها وتوجه إلى فاطرها وخلص عن كل إسم ورسم وتعين ووسم، وأناخ راحلته عند الرب المطلق. فالعبور عن منازل الحواس والتخيلات والتعقلات، والتجاوز عن دار الغرور إلى غاية الغايات، والتحقق بنفي الصفات والرسوم والجهات عينا وعلما لا يمكن إلا بعد التدرج في الأوساط من البرازخ السافلة والعالية إلى عالم الآخره، ومنها إلى عالم الأسماء والصفات. من التي كانت أقل حيطة إلى أكثر حيطة، إلى الإلهية المطلقة ، إلى أحدية عين الجمع المستهلك فيها كل التجليات الخلقيه والأسمائية والصفاتية الفانية فيها التعينات العلميه والعينية. وأشار المولوى إلى هذا التدرج بقوله:
از جمادى مردم ونامى شدم وزنما مردم ز حيوان سر زدم
إلى قوله:
بس عدم كردم عدم جون ارغنون كويدم كانا اليه راجعون
وهذا هو الظلومية المشار إليها بقوله تعالى:{إنه كان ظلوما جهولا}. وهذا مقام " أو أدنى" أخيرة مقامات الإنسان. بل لم يكن هيهنا مقام ولا صاحب مقام. وهذا مقام الهيمان المشار إليه بقوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون}(ن: 1) على بعض الإحتمالات. فإذا بلغ ***46]
Bogga 45
السالك إلى الحضره الإلهيه ورأى بعين البصيره الحضره الواحديه وتجلى له ربه بالتجليات الأسمائيه والصفاتيه وتوجه إلى محيطية بعض الأسماء والصفات ومحاطية بعضها وفضيلة بعضها وأفضلية الأخرى بعضها وأفضلية الأخرى يسأل ربه باللسان المناسب لنشأته ويدعو بالدعاء اللائق بحضرته بأبهى الصفات وأجملها وأشرف الآيات وأكملها، فيسري من لسان حاله إلى قاله ومن سره إلى مقاله، فيقول:"أسئلك من بهائك بأبهاه" إلى غير ذلك. والسؤال في الحضره الإلهيه بطور يخالف طور السؤال في الحضرة الغيب المقيد، وهو يخالف السؤال في الشهاده، ومسؤلاتها أيضا متفاوته بمناسبة النشئآت، كما سيجئ في قوله عليه السلام: "اللهم إني أسئلك من مسائلك بأحبها إليك" هذا. وإذا تجاوزعن الحضرة الالهية إلى حضرة الأحدية الجمعية المستهلكة فيها الحضرات، الفانية فيها التعينات والتكثرات وتجلى عليه بالمالكية المطلقة. كما قال: {لمن الملك اليوم}(غافر:16) وحيث لم يكن في هذا اليوم خلق وأمر ولا إسم ورسم ورد أن لايجيبه إلا نفسه، فقال: {لله الواحد القهار}(غافر 16). ففي هذا المقام لم يكن سؤال ولا مسؤول ولا سائل. وهو السكر الذي هو هيمان ودهشة واضطراب بمشاهدة جمال المحبوب فجأة. فإذا أفاق بتوفيقات محبوبه عن هذا الهيمان والدهش وصحى عن المحو أمكنه التميز والتفرقة لتمكن الشهود فيه واستقامته واستقراره وحفظه الحضرات الخمس يرى أن الصفات التي يراها في الصحو الأول بعضها أبهى وبعضها بهي وبعضها أكمل وبعضها كامل، كلها من تجليات ذات أحدي محض ولمعات جمال نور حقيقي بحت. فلا يرى في هذا المقام أفضلية وأشرفية، بل يرى كلها شرف وبهاء وجمال وضياء، فيقول: "كل بهائك بهي وكل شرفك شريف" لم يكن أشرفية في البين، وتكون كلها أمواج بحر وجودك ولمعات نور ذاتك وكلها متحدة مع الكل وكلها مع الذات. فإثبات التفضيل في الصحو الأول ونفيها في الصحو بعد المحو مع ارجاع الكثرات إليه. هذا إذا كان النظر إلى التجليات الصفاتية والأسمائية. وأما إذا كان المنظور التجليات الخلقية والمظاهر الحسنى الفعلية فالعروج الى مقام التحقق بالمشية المطلقة المستهلكة فيها التعينات الفعلية لا يمكن الا التدرج في مراتب التعينات، فمن عالم الطبيعة يعرج الى عالم المثال والملكوت متدرجا في مراتبها، ومنهما الى عالم الأرواح المقدسة بمراتبها، ومنه إلى مقام المشية التي استهلك في عينها جميع
الموجودات الخاصة والتعينات الفعلية. وهذا هو مقام التدلي في قوله تعالى {دنى فتدلى}(النجم:8). فالمتدلي بذاته الذي لم ***47]
Bogga 46
يكن حيثيته إلا التدلي ولم يكن ذاتا يعرض لها التدلي والفقر الذي هو الفقر المطلق، وهو المشية المطلقة المعبر عنها بالفيض المقدس والرحمة الواسعة والاسم الأعظم والولاية المطلقة المحمدية أو المقام العلوي، وهو اللواء التي آدم ومن دونه تحتها والمشار اليه بقوله: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين أو بين الجسد والروح"، أي لا روح ولا جسد. وهو العروة الوثقى والحبل الممدود بين سماء الإلهية وأراضي الخلقية.وفي دعاء الندبة قوله عليه السلام: "أين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء. أين السبب المتصل بين الأرض والسماء".
وفي الكافي عن المفضل: "قال قلت لأبي عبدالله عليه السلام: كيف كنتم حيث كنتم في الأظلة فقال: يا مفضل، كنا عند ربنا ليس عنده أحد غيرنا في ظلة خضراء نسبحه ونقدسه ونهلله ونمجده. وما من ملك مقرب ولا ذي روح غيرنا، حتى بدا له في خلق الأشياء فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم. ثم أنهى علم ذلك إلينا". والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام بهذا المضمون كثيرة. فشهود هذا المقام أو التحقق به لا يتيسر إلا بعد التدرج في مراقي التعينات فقبل الوصول إلى هذا المقام يرى السالك بعض الأسماء الإلهية أبهى من بعض، كالعقول المجردة والملائكة المهيمنة، فيسأل بأبهى وأجمل وأكمل. فإذا وصل إلى مقام القرب المطلق وشهد الرحمة الواسعة والوجود المطلق والظل المنبسط والوجه الباقي، الفاني فيه كل الوجودات والمستهلك فيه كل العوالم من الأجساد المظلمة والأرواح المنورة، يرى أن نسبة المشية الى كلها على السواء فهي مع كل شيء {أينما تولوا فثم وجه الله} (البفرة:115) {وهو معكم}(الحديد:4) {ونحن أقرب إليه منكم}(الواقعة:85) {ونحن أقرب اليه من حبل الوريد}(ق:16). فعند ذلك ينفي الأفضلية ويقول:" كل بهائك بهي وكل جمالك جميل". وما ذكرنا مشترك بين جميع الفقرات وإن كان بعضها بالمقام الأول أنسب وبعضها بالثاني أليق.
وأما ما اختصت به هذه الفقرة: فالبهاء هو الحسن والحسن هو الوجود. فكل خير وبهاء وحسن وسناء فهي من بركات الوجود واظلاله حتى قالوا:" مسألة أن الوجود خير وبهاء بديهية".
فالوجود كله حسن وبهاء ونور وضياء. وكلما كان الوجود أقوى كان البهاء أتم ***48]
Bogga 47
وأبهى. فالهيولى لخسة وجودها ونقصان فعليتها دار الوحشة والظلمة ومركز الشرور ومنبع الدناءة ويدور عليها رحى الذميمة والكدورة.فهي لنقصان وجودها وضعف نوريتها كالمرأة الذميمة المشفقة عن استعلان قبحها، كما قال الشيخ والدنيا لوقوعها في نعال الوجود وأخيرة تنزلاته يدعى بأسفل السافلين وإن كانت بنظر أهلها بهية حسناء لذيذة، لأن كل حزب بما لديهم فرحون. فإذا ظهر سلطان الآخرة وانكشفت الحقيقة بارتفاع الحجب عن بصيرة القلب وتنبهت الأعين عن نوم الغفلة وبعثت الأنفس عن مراقد الجهالة وعرفت حالها ومرجعها ومآلها وانكشفت ذميمتها وقبحها وظلمتها ووحشتها.
روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يحشر بعض الناس على صور تحسن عندها القردة والخنازير". وهذا الكمال الحيواني والخير البهيمي والسبعي أيضا من بركات الوجود وخيراته ونوره وبهائه.
فكلما خلص الوجود من شوب الاعدام والفقدانات واختلاط الجهل والظلمات يصير بمقدار خلوصه بهيا حسنا. فالعالم المثال أبهى من ظلمات الطبيعة، وعالم الروحانيات والمقربين من المجردات أبهى منهما، والعالم الربوبي أبهى من الكل، لخلوصه عن شوب النقص وتقدسه عن اختلاط الأعدام وتنزهه عن الماهية ولواحقها، بل لا بهاء إلا منه، ولا حسن ولا ضياء إلا لديه، وهو كل البهاء وكله البهاء.
قال السيد المحقق الداماد قدس سره في القبسات على ما نقل:"وهو تعالى كل الوجود وكله الوجود وكل البهاء والكمال وهو كله البهاء والكمال وما سواه على الاطلاق لمعات نوره ورشحات وجوده وظلال ذاته". انتهى.
فهو تعالى بهاء بلا شوب الظلمة، كمال بلاغبار النقيصة، سناء بلا اختلاط الكدورة، لكونه وجودا بلا عدم وإنية بلا مهية، والعالم باعتبار كونه علاقة ومنتسبا إليه وظله المنبسط على الهياكل الظلمانية والرحمة الواسعة على الأرض الهيولائية، بهاء ونور وإشراق وظهور، {قل كل يعمل على شاكلته}(الإسراء:84)، وظل النور نور{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}(الفرقان:45) وباعتبار نفسه هلاك وظلمة ووحشة ونفرة، {كل شيء هالك إلا وجهه}(القصص:88). فالوجه الباقي بعد استهلاك التعينات وفناء المهيات، هو جهة الوجوب المتدلية إليه التي لم تكن مستقلة بالتقوم والتحقق ولا حكم لها بحيالها، فهي بهذا النظر هو. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله:
Bogga 48
***49]
"لو دليتم الى الأرض السفلى لهبطتم على الله". فهو هو المطلق والبهاء التام لا هوية ولا بهاء لغيره والعالم بجهته السوائية لم يكن له البهاء والهوية ولا الوجود والحقيقة، فهو خيال في خيال والكلي الطبيعي غير موجود. فإذا لم يكن موجودا فكيف يكون له البهاء والنور والشرف والظهور، بل هو النقصان والقصور والهلاك والدثور.
Bogga 49
***50]
إبانة
إن من الصفات الإلهية ما لها الحيطة التامة على سائر الصفات كالأئمة السبعة ومنها ما لم يكن كذلك وان كانت له المحيطية والمحاطية أيضا. وبهذا يمكن تحصيل الفرق بين صفة البهاء والجمال، فإن البهاء هو الضياء المأخوذ فيه الظهور والبروز دون الجمال. فالصفات الثبوتية كلها جمال وبعضها بهاء. والبهي من أسماء الذات باعتبار ومن أسماء الصفات بآخر ومن أسماء الأفعال باعتبار ثالث وإن كان بأسماء الصفات والأفعال أشبه. والجميل من أسماء الذات بوجه ومن أسماء الصفات بوجه دون أسماء الأفعال، وإن كان بأسماء الصفات أشبه وأنسب، وسيأتي ان شاء الله في شرح قوله (عليه السلام):"اللهم إني أسألك من قولك بأرضاه" ما يفيدك في هذا المقام أيضا.
في ذكر كلام بعض المشايخ
" نقل وكشف "
قال بعض أعاظم المشايخ من أهل السير والمعرفة رضوان الله عليه في كتابه الموسوم بأسرار الصلاة في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم بحسب أسرار الحروف بعد ذكر أخبار، منها ما روي في الكافي والتوحيد والمعاني عن العياشي عن أبي عبدالله عليه السلام: الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مجد الله. والقمي عن الباقر والصادق والرضا عليهم السلام مثله، ولكن بدل مجد الله ملك الله بهذه العبارة.
أقول: يعرف من هذه الأخبار وغيرها مما روي في الأبواب المختلفة أن عالم الحروف عالم في قبال العوالم كلها، وترتيبها أيضا مطابق مع ترتيبها. فالألف كأنه يدل على واجب الوجود، والباء على المخلوق الأول، وهو العقل الأول والنور الأول، وهوبعينه نور نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. ولذا عبر عنه ببهاء الله، لأن البهاء بمعنى الحسن والجمال. والمخلوق الأول إنما هو ظهور جمال الحق، بل التدقيق في معنى البهاء أنه عبارة عن النور مع هيبة ووقار، فهو المساوق لجامع الجمال والجلال انتهى ما رمناه من كلامه زيد في علو مقامه.
أقول: إن الصفات المتقابلة لاجتماعها في عين الوجود بنحو البساطة والتنزه عن الكثرة الكل منطو في الكل، وفي كل صفة جمال جلال، وفي كل جلال جمال، إلا أن بعض الصفات ظهور الجمال وبطون الجلال وبعضها بالعكس. فكل صفة كان الجمال فيها الظاهر فهي صفة الجمال وكل ما كان الجلال فيه الظاهر فهو صفة الجلال. والبهاء وإن كان النور مع هيبة ووقار وجامع للجمال والجلال إلا أن الهيبة فيه بمرتبة البطون والنور بمرتبة الظهور، فهو ***51]
Bogga 50
من صفات الجمال الباطن فيه الجلال. ولما كان الجمال ما تعلق باللطف بلا اعتبار الظهور وعدمه فيه كان البهاء محاطا به وهو محيط به . وما ذكر جار في مرتبة الفعل والتجلي العيني حذوا بالحذو. فالبهاء ظهور جمال الحق والجلال مختف فيه، والعقل ظهور جمال الحق، والشيطان ظهور جلاله، والجنة ومقاماتها ظهور الجمال وبطون الجلال، والنار ودركاتها بالعكس.
إن قلت: أليس قد ورد في بعض الأخبار من طريق أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم: بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تحت الباء تميز العابد عن المعبود. وظهور الوجود بالمشيئة فإنه الحق المخلوق به. وفي بعض الأخبار: خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها. فما وجه جعل الباء البهاء عالم العقل.
قلت: هذا أيضا صحيح بوجه، فإن العقل بوجه مقام المشيئة الإلهية لكونه ظهورها ومقام إجمال العوالم كما تحقق في محله أن شيئية الشيء بصورة تمامه وكماله.
Bogga 51
***61]
"اللهم إني أسئلك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل، اللهم إني أسئلك بجمالك كله.اللهم إني أسئلك من جلالك بأجله، وكل جلالك جليل. اللهم إني أسئلك بجلالك كله".
واعلم أن الوجود كلما كان أبسط وبالوحده أقرب كان اشتماله على الكثرات أكثر، وحيطته على المتضادات أتم. والمتفرقات في عالم الزمان مجتمعات في عالم الدهر، والمتضادات في وعاء الخارج ملائمات في وعاء الذهن، والمختلفات في النشأة الأولى متفقات في النشأة الآخرة. كل ذلك لأوسعية الأوعية وقربهن لعالم الوحدة والبساطة.
سمعت من أحد المشايخ من أرباب المعرفه رضوان الله عليه يقول: إن في الجنة شربة من الماء فيها كل اللذات من المسموعات بفنونها من أنواع الموسيقى والألحان المختلفه، ومن المبصرات بأجمعها من أقسام اللذات الأوجه الحسان وسايرها من الأشكال والألوان، ومن ساير الحواس على ذاك القياس حتى الوقاعات وساير الشهوات كل يمتاز عن الآخر.
وسمعت من أحد أهل النظر رحمه الله تعالى يقول: إن مقتضى تجسم الملكات وبروزها في النشأة الآخرة أن بعض الناس يحشر على صور مختلفه، فيكون خنزيرا وفارة وكلبا إلى غير ذلك في آن واحد. ومعلوم أن ذلك لسعة الوعاء وقربها من عالم الوحدة والتجرد وتنزهها عن تزاحم عالم الطبيعة والهيولى.فحقيقة الوجود المجردة عن كافة التعلقات وعين الوحدة وصرف النورية لما كانت بسيطة الحقيقة وعين الوحدة وصرف النورية بلا شوب ظلمة العدم وكدورة النقص فهي كل الأشياء وليست بشيء منها.
فالصفات المتقابلة موجودة في حضرتها بوجود واحد مقدس عن الكثرة العينية والعلمية منزه عن التعين الخارجي والذهني. فهي تعالى في ظهورها بطون وفي بطونها ظهور، في رحمتها غضب وفي غضبها رحمة. فهي اللطيف القاهر الضار النافع. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: سبحان من اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته واشتدت نقمته لأعدائه في سعة رحمته.
فهو تعالى بحسب مقام الإلهية مستجمع للصفات المتقابلة، كالرحمة والغضب، والبطون والظهور، والأولية والآخرية، والسخط والرضا، وخليفته لقربه اليه ودنوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بيديه اللطف والقهر، وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه. ولهذا اعترض على إبليس بقوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت ***62]
Bogga 61
بيدي}(ص:75). مع أنك مخلوق بيد واحدة. فكل صفة متعلق باللطف فهي صفة الجمال، وكل ما يتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال. فظهور العالم ونورانيته وبهائه من الجمال وانقهاره تحت سطوع نوره وسلطة كبريائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال.
جمالك في كل الحقايق ساير...وليس له إلا جلالك ساتر
وكل أنس وخلوة وصحبة من الجمال، وكل دهش وهيبة ووحشة من الجلال، فإذا تجلى على قلب السالك باللطف والمؤانسة تذكر الجمال ويقول:"اللهم اني أسألك من جمالك بأجمله" إلى آخره.وإذا تجلى عليه بالقهر والعظمة والكبرياء والسلطنة تذكر الجلال بقوله:"اللهم إني أسألك من جلالك بأجله" إلى آخره. فللأولياء والسالكين الى الله والمهاجرين إليه والمطيفين حول حريم كبريائه أحوال وأوقات وواردات ومشاهدات وخطورات واتصالات ومن محبوبهم ومعشوقهم تجليات وظهورات وألطاف وكرامات وإشارات وجذبات وجذوات، وفي كل وقت وحال تجلى لهم محبوبهم بمناسبة حالهم. وقد تكون التجليات على خلاف التنسيق والترتيب، اللطف أولا والقهر ثانيا واللطف ثالثا. ولهذا وقعت الفقرات في الأدعية على خلاف الترتيب، فإن الظاهر عنوان الباطن والدنيا مربوطة بالآخرة.
لمعه
في بيان اختلاف قلوب الأولياء
إن قلوب الأولياء والسالكين مرآت تجليات الحق ومحل ظهوره، كما قال تعالى:" يا موسى لا يسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن". إلا أن القلوب مختلفة في بروز التجليات فيها، فرب قلب عشقي ذوقي تجلى عليه ربه بالجمال والحسن والبهاء، وقلب خوفي تجلى عليه بالجلال والعظمة والكبرياء والهيبة، وقلب ذو وجهتين تجلى عليه بالجلال والجمال والصفات المتقابلة أو تجلى عليه بالاسم الأعظم الجامع. وهذا المقام مختص بخاتم الأنبياء وأوصيائه عليهم السلام. ولهذا خص الشيخ الأعرابي حكمته بالفردية لانفراده بمقام الجمعية الإلهية دون ساير الأولياء. فإن كل واحد منهم تجلى عليه ربه باسم مناسب بحاله: أما بصفة الجلال كشيخ الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فإنه عليه السلام لاستغراقه في بحر عشقه تعالى وهيمانه في نور جماله تجلى عليه ربه بالجمال من وراء الجلال، ولهذا اختص بالخلة وأصبحت حكمته مهيمنية، وكيحيى عليه السلام، فإن ***63]
Bogga 62
قلبه كان خاضعا خاشعا منقبضا. فتجلى عليه ربه بصفة الجلال من العظمة والكبرياء والقهر والسلطنة. ولهذا خصت حكمته بالجلالية. وإما تجلى عليه ربه بالجمال كعيسى عليه السلام، ولهذا قال في جواب يحيى عليه السلام حين اعترض عليه معاتبا حين رآه يضحك فقال:"كأنك قد أمنت مكر الله وعذابه؟" بقوله عليه السلام:"كأنك قد آيست من فضل الله ورحمته"، فأوحي إليهما: "أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي"، فيحيى عليه السلام بمناسبة قلبه ونشأته تجلى عليه ربه بالقهر والسلطنة، فاعترض بما اعترض، وعيسى عليه السلام بمقتضى نشأته ومقامه تجلى عليه باللطف والرحمة، فأجاب بما أجاب، ووحيه تعالى بأن أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي بمناسبة سبق الرحمة على الغضب وظهور المحبة الإلهية في مظاهر الجمال أولا كما ورد: يا من رحمته سبقت غضبه.
Bogga 63
***68]
اللهم إني أسئلك من عظمتك بأعظمها، وكل عظمتك عظيمة، اللهم إني أسئلك بعظمتك كلها.
ألم ينكشف على سر قلبك وبصيرة عقلك أن الموجودات بجملتها من سموات عوالم العقول والأرواح وأراضي سكنة الأجساد والأشباح من حضرة الرحموت التي وسعت كل شيء وأضائت بظلها ظلمات عالم المهيات وأنارت ببسط نورها غواسق هياكل القابلات. ولا طاقة لواحد من عوالم العقول المجردة والأنوار الأسفهبدية والمثل النورية والطبيعة السافلة أن يشاهد نور العظمة والجلال وأن ينظر إلى حضرة الكبرياء المتعال، فإن تجلى الغفار عليها بنور العظمة والهيبة لاندكت إنيات الكل في نور عظمته وقهره جل وعلا وتزلزلت أركان السموات العلى وخرت الموجودات لعظمته صعقا ويوم تجلي نور العظمة يهلك الكل في سطوع نور عظمته. وذلك يوم الرجوع التام وبروز الأحدية والمالكية المطلقة، فيقول: {لمن الملك اليوم}(غافر:16) فلم يكن من مجيب يجيبه لسطوع نور الجلال وظهور السلطنة المطلقة، فأجاب نفسه بقوله: {لله الواحد القهار}(غافر:16). والتوصيف بالوحدانية والقهارية دون التوصيف بالرحمانية والرحيمية، وذلك اليوم يوم حكومتهما وسلطنتهما، فيوم الرحمة يوم بسط الوجود وإفاضته. ولهذا وصف الله نفسه عند انفتاع الباب وفاتحة الكتاب بالرحمن الرحيم. ويوم العظمة والقهارية يوم قبضه ونزعه يصفها بالوحدانية والقهارية، وبالمالكية في خاتمة الدفتر فقال: {مالك يوم الدين}(الفاتحة:3). ولا بد من يوم تجلي الرب بالعظمة والمالكية وبلغت دولتها، فإن لكل اسم دولة لا بد من ظهورها وظهور دولة المعيد والمالك وأمثالها من الأسماء يوم الرجوع التام والنزع المطلق. ولا يختص هذا بالعوالم النازلة، بل جار في عالم المجردات من العقول المقدسة والملائكة المقربين. ولهذا ورد أن عزرائيل يصير بعد قبض أرواح جميع الموجودات مقبوضا بيده تعالى وقال تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب}(الأنبياء:21)، وقال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}(فجر:89)، وقال تعالى: {كما بدئكم تعودون}(الأعراف:7). إلى غير ذلك. والعظمة من صفات الجلال. وقد ذكرنا أن لكل صفة جلال جمالا. ولولا أن العظمة والقهر مختف فيهما اللطف والرحمة لما أفاق موسى عليه السلام ***69]
Bogga 68
من غشوته، ولما يتمكن قلب سالك شهودهما ولا عين عارف النظر إليهما، ولكن الرحمة وسعت كل شيء، وبعظمتك التي ملأت كل شيء. والعظيم من الأسماء الذاتيه باعتبار علوه وكبريائه. ومعلوم أن لا قدر للموجودات بالنسبة الى عظمة قدره، بل لا شبيه له في عظمته، وتواضع لعظمته العظماء، وعظمة كل عظيم من عظمته ومن الأسماء الصفتية باعتبار قهره وسلطنته على ملكوت الأشياء وكون مفاتيح الغيب والشهادة بيده. فهو تعالى عظيم ذاتا، عظيم صفة، عظيم فعلا. ومن عظمة فعله يعلم عظمة الاسم المربي له، ومن عظمته يعلم عظمة الذات التي هو من تجلياته بقدر الإستطاعة، وكفى في عظمة فعله أنه من المقرر أن عوالم الأشباح والأجساد بما فيها بالنسبة إلى الملكوت، كالآن في قبال الزمان، وهي بالنسبة إلى الجبروت كذلك، بل لانسبة بينهما. وما ثبت إلى الآن من النظام الشمسي يبلغ أربعة عشر مليونا، كل كنظام شمسنا بأفلاكها وكرواتها السياره حولها التابعة لها أو أعظم بكثير. حتى أن نظامنا الشمسي سيارة حول واحد منها، مع أن كرة نبتون أبعد السيارات عن شمسنا حسب ما استكشف يبلغ بعده (27465) مليون ميل حسب الآراء الحديثه. ولعل مالم يستكشف أكثر بكثير مما استكشف إلى الآن.
قال السيد الكبير هبة الدين الشهرستاني دام عمره وتوفيقه في كتاب ((الهيئه والإسلام)) في المسألة الرابعة عشر في تعدد العوالم والنظامات: وأما علماء الهيئة العصريه فقد ثبت لديهم أن سيارات شمسنا وأقمارها تكتسب الأنوار طرا من شمسنا، وأن سعة عالم شمسنا المحدود بمدار نبتون ألف وخمسمائة مليون فرسخا، فترى شمسنا العظيمه عند نبتون كنجمة صغيرة، ومقتضى ذلك اضمحلال نورها فيما بعد نبتون، وعلى هذا يستحيل أن تكتسب الكواكب الثابته أنوارها من شمسنا، إذ هي في منتهى البعد البعيد عن نبتون. ألا ترى أن بعض المذنبات يبتعد عن شمسنا أكثر من بعد نبتون منها عشر مرة وهو مع ذلك مجذوب لشمسنا لا تغلب عليه جاذبة كوكب آخر لكثرة ما بقى من البعد بينه وبين الكواكب الأخر. وحسبك أن النظارات التي تكبر الزحل من بعده البعيد في منظرنا أضعاف ما يبصر بألف مرة ولا تتمكن من تكبير الثوابت بما ترى بالبصر غاية الأمر تجليها وتظهر خافيها لكثرة البعد. قال فانديك في "أرواء الظمأ" إن أقرب الثوابت إلى نظام شمسنا بعيد عنا أكثر من بعدنا عن شمسنا بتسع مئة ألف مرة. وفي مجلة الهلال المصرية صفحة 478 من سنة 1909: إن أقرب الثوابت إلى أرضنا (دلفا) وهي بعد الدقة الأكيدة تتخذ فرقا في موقعها باختلاف المنظر السنوي بمقدار الثانية. فعلم أن بعدها عنا (000/000/000/000/20) ميلا أي عشرين مليون مليون ميلا وتوصل نورها إلينا في ***70]
Bogga 69
ثلاث سنين والنور يسير في الثانية مائة وتسعين ألف ميل انتهى. فما تقول قي ثابتة يصل نورها إلينا في مائة وثلاثة وستين مثل بعد الشعرى فينتهي نوره إلينا في خمسة آلاف سنة، انتهى. أقول: فما ظنك بالنجم من القدر الثامن والعشرين" انتهى كلام السيد بطوله.
وإيراده مع طوله يجلب توجه الداعي إلى عظمة ملك الله وكلماته { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}(الكهف:109) فإذا كان أسفل العوالم وأضيقها كذلك فكيف الحال في العوالم المتسعه العظيمه التي لم تكن العوالم الأجساد وما فيها بالنسبة إليها إلا كالقطرة بالنسبة إلى البحر المحيط بل لا نسبة بينهما وليست هذه العوالم في جنبها شيئا مذكورا.
Bogga 70
***75]
اللهم إني أسئلك من نورك بأنوره، وكل نورك نير، اللهم إني أسئلك بنورك كله.
واعلم أن من أجل ما يرد على السالك بقدم المعرفة إلى الله من عالم الملكوت، وأعظم ما يفاض على المهاجر من القرية الظالم أهلها من حضرت الجبروت، وأكرم خلعة ألبست عليه بعد خلع نعل الناسوت من الوادي المقدس والبقعة المباركة، وأحلى ما يذوقه من الشجرة المباركة في الجنة الفردوس بعد قلع الشجرة الملعونة من عالم الطبيعة انشراح صدره لأرواح المعانى وبطونها وسر الحقايق ومكنونها وانفتاح قلبه على تجريدها عن قشور التعينات وبعثها عن قبور المهيات المظلمات ورفضها عن غبار عالم الطبيعة وإرجاعها عن الدنيا إلى الآخرة وخلاصها عن ظلمة التعين إلى نورانية الإرسال ومن دركات النقص إلى درجات الكمال ومن هذه الشجرة المباركة والعين الصافية انفتاح أبواب التأويل على قلوب السالكين والدخول في مدينة العلماء الراسخين والسفر من طريق الحس إلى منازل الكتاب الأبهى، فإن للقرآن منازل ومراحل وظواهر وبواطن أدناها ما يكون في قشور الألفاظ وقبور التعينات. كما ورد أن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا. وهذا المنزل الأدنى رزق المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة، ولا يمس ساير مراتبة إلا المطهرون عن أرجاس عالم الطبيعة وحدثه، والمتوضئون بماء الحياة من العيون الصافية، والمتوسلون بأذيال أهل بيت العصمة والطهارة والمتصلون بالشجرة المباركة الميمونة، والمتمسكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والحبل المتين الذي لا نقض له حتى لا يكون تأويله أو تفسيره بالرأي ومن قبل نفسه، فإنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. فإذا انشرح صدره للإسلام وصار على هدى ونور من ربه علم أن النورلم يكن محصورا في هذه المصاديق المعرفية من الأعراض التي لا يظهر به إلا سطوح الأجسام الكثيفة ولا يظهرها إلا على العضو البصري مع الشرايط المقررة دون ساير المدارك ولم يبق نفسه في آنين، بل يظهر له أن العلم أيضا نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده. وحقيقة النور التي هي الظهور بذاتها والإظهار بغيرها متجلية فيه بالطريق الأتم والسبيل الأوضح والأقوم فنور العلم متجل في مجالى جميع المدارك بل من المرائي التي فوق المدارك من النفوس الكلية الإلهية والعقول المجردة القدسية والملائكة المنزهة المقدسة ويظهر به بواطن الأشياء كظواهرها وينفذ على تخوم الأرض وسحق السماء ويبقى نفسه
مر الليالي والأيام. بل يحيط بعض مراتبه على الزمان والزمانيات، وينطوي لديه المكان والمكانيات بل بعض مراتبه واجب به وعمت الأراضي والسماوات وهو أحاط بكل شئ علما. وعند ذلك قد ينكشف على ***76]
Bogga 75
قلب السالك بفضل الله وموهبته أن النور هو الوجود، وليس في الدار غيره نور وظهور، يا منور النور، يا جاعل الظلمات والنور، الله نور السماوات والأرض. ونورانية الأنوار العرفية والعلوم بمراتبها منه. وإلا فماهياتها ظلمات بعضها فوق بعض، وكدورات متراكمة بعضها في بعض، فنورانية عالم الملك والملكوت وظهور سرادقات القدس والجبروت بنوره، وهو النور المطلق والظهور الصرف بلا شوب ظلمة وكدورة، وساير مراتب الأنوار من نوره. وفي دعاء كميل: "وبنور وجهك الذي أضاء له كل شئ".
وفي الكافي عن القمي عن حسين بن عبدالله الصغير عن محمد بن إبراهيم جعفري عن أحمد بن علي بن محمد بن عبدالله بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبي عبدالله عليه السلام قال:"إن الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان، وخلق الأنوار، وخلق نور الأنوار الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار، وهو النور الذي خلق منه محمدا وعليا. فلم يزالا نورين (نيرين) أولين. إذ لا شيء كون قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبدالله وأبي طالب.
في نقل الكلام المنسوب إلى الشيخ محيي الدين
(نور)
قد نسب داوود بن محمود القيصري شارح نصوص الحكم ومحمد بن حمزة بن الفناري شارح مفتاح غيب الجمع والوجود للمحقق العارف محمد بن اسحاق القونوي في شرحيهما إلى الشيخ الكبير محيي الدين العربي الأندلسي: إن النور من أسماء الذات وقد جعل الإسم الذي دلالته على الذات أظهر، من أسماء الذات والذي دلالته على الصفات أو الأفعال أظهر منهما. قال ابن الفناري قلت: الشيخ الكبير بعد ما ضبطها بهذا الجدول (ثم كتب الجدول وذكر في الأسماء الذات النور) قال: وهذه الأسماء الحسنى منها ما يدل على ذاته جل جلاله، وقد يدل مع ذلك على صفاته أو أفعاله أو معا. فما كان دلالته على الذات أظهر جعلناه من أسماء الذات وهكذا فعلناه في أسماء الصفات وأسماء الأفعال من جهة الأظهر، لا أنه ليس له مدخل في غير جدولها كالرب، فإن معناه الثابت فهو للذات والمصلح فهو من أسماء الأفعال وبمعنى المالك فهو من أسماء الصفات.
وقال فيه أيضا: واعلم أنا ما قصدنا بها (أي الأسماء المذكورة في الجدول) حصر الأسماء ولا إنه ليس ثمة غيرها، بل سبقنا هذا الترتيب بينها. فمتى رأيت إسما من أسماء الحسنى فألحقه بالأظهر فيه إنتهى ما نسب إلى الشيخ.
أقول: كون النور من أسماء الصفات بل من أسماء الأفعال أظهر، لأنه في مفهومه مأخوذ مظهرية الغير، فإذا اعتبر في الغير الأسماء والصفات في الحضرة الإلهية كان من أسماء الصفات، وإذا اعتبر به مراتب الظهورات العينية كان من أسماء الأفعال، كما في قوله تعالى:{الله نور السماوات والأرض}(النور:35)، وقوله تعالى:{يهدي الله لنوره من يشاء}(النور:35). وقول سيد الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل: وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء، وفي دعاء السمات: وبنور وجهك الذي تجليت به للجبل فجعلته دكا وخر موسى صعقا. فهو تحت إسم الظاهر ورب الشهادة المطلقة أو الشهادة المقيدة، وكذلك الرب الذي عين الشيخ من أسماء الذات، فهو أيضا بأسماء الأفعال أشبه. ولأمثال هذه المقامات زيادة إيضاح وبيان لا يناسب وضع هذه الأوراق والصفحات مع ضيق المجال والأوقات وكثرة تهاجم البلايا وتراكم النقمات. اللهم أصلح العاقبة واقلع شجرة الظلمة.
Bogga 76
***82]
اللهم إنى أسألك من رحمتك بأوسعها، وكل رحمتك واسعة، اللهم إني أسألك برحمتك كلها.
الرحمة الرحمانية: مقام بسط الوجود، والرحمة الرحيمية: مقام بسط كمال الوجود. فبالرحمة الرحمانية ظهر الوجود، وبالرحمة الرحيمية يصل كل إلى كماله المعنوي وهدايته الباطنية. ولهذا ورد: يارحمن الدنيا وحيم الآخرة، والرحمن بجميع خلقه والرحيم وبالمؤمنين خاصة. فبحقيقة الرحمانية أفاض الوجود على الماهية المعدومة والهياكل الهالكة وبحقيقته الرحيمية أفاض الكمال عليها وطلوع دولتها فى النشأة الآخرة أكثر. وفى بعض الآثار: يارحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما. وذلك باعتبار إيجاد العشق الطبيعي في كل موجود للسير إلى كماله والتدرج إلى مقامه وفي النشأة الآخرة وبروز يوم الحصاد وإيصال كل إلى فعليته وكماله من النفوس الطاهرة الزكية وإيصالها إلى مقامات القرب والكرامات والجنات التي عرضها كعرض السماوات ومن النفوس المنكوسة السبعية والبهيمية والشيطانية وإيصالها إلى النيران ودركاتها وعقاربها وحياتها كل بحسب زرعه، فإن الوصول إلى هذه المراتب كمال بالنسبة إلى النفوس المنكوسة الشيطانية وإن كان نقصا بالنسبة إلى النفوس الزكية المستقيمة الإنسانية.
هذا وعلى طريقة الشيخ محي الدين الأعرابى فالأمر فى رحيميته فى الدارين واضح، فإن أرحم الراحمين يشفع عند المنتقم ويصير الدولة دولته والمنتقم تحت سلطنته وحكمه، والرحمانية والرحيمية، إما فعلية أوذاتيه. فهو تعالى ذو الرحمة الرحمانية والرحيمية الذاتيتين، وهى تجلى الذات على ذاته وظهور صفاته وأسمائه ولوازمها من الأعيان الثابته بالظهور العلمي والكشف التفصيلي فى عين العلم الإجمالي في الحضرة الواحدية، كما أنه تعالى ذوالرحمة الرحمانية والرحيمية الفعليتين، وهي تجلي الذات في ملابس الأفعال ببسط الفيض وكماله على الأعيان وإظهارها عينا طبقا للغاية الكاملة والنظام الأتم. وهذا أحد الوجوه في تكرار الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب التدويني للتطابق بينه وبين الكتاب التكويني، فإن الظاهر عنوان الباطن، واللفظ والعبارة عبارة عن تجلي المعنى والحقيقة في ملابس الأصوات والأشكال واكتسائه كسوة القشور والهيئات. فإن جعل الرحمن الرحيم في بسم الله صفة للفظ الجلالة كانا إشارة إلى الرحمانية والرحيمية الذاتيتين وكانا اللذان بعدهما إشارة إلى الفعلي منهما، والله في الحمدلله وهو الألوهيه الفعلية وجمع تفصيل الرحمن الرحيم الفعليين، والحمد عوالم المجردات والنفوس الاسفهبدية التي لم يكن حيثيته إلا الحمد وإظهار كمال ***83]
Bogga 82