Sharh al-Tajrid al-Sarih li-Ahadith al-Jami' al-Sahih - Abdul Karim al-Khudair
شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - عبد الكريم الخضير
Noocyada
ـ[التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح]ـ
مؤلف الأصل: أحمد بن محمد بن عبد اللطيف الشرجي [شرجة: موضع بنواحي مكة] الزبيدي [زبيد إحدى بلاد اليمن، ولد بها واشتهر ومات بها] الحنفي (المتوفى: ٨٩٣هـ)
الشارح: عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن حمد الخضير
دروس مفرغة من موقع الشيخ الخضير
[الكتاب مرقم آليا، رقم الجزء هو رقم الدرس - ٢٦ درسا]
Bog aan la aqoon
التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (مقدمة عن السنة وكتبها وبعض شروحاتها)
الشيخ/ عبد الكريم الخضير
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفيه من خلقه، وخيرته من بريته، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن سنة النبي ﵊ عند عموم الأمة هي ثاني مصادر التشريع الإسلامي المعتبرة عند أهل العلم، ولم ينازع في ذلك إلا من أعمى الله قلبه من المبتدعة الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، كما جاء وصفهم في الحديث الصحيح، وقد قرن الله ﷾ طاعة رسوله ﵊ بطاعته ﷿، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [(٥٩) سورة النساء]، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [(٣٢) سورة آل عمران] وقال عز من قائل: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [(١٣٢) سورة آل عمران] وقال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [(٧١) سورة الأحزاب] وقال جل من قائل: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [(٣٦) سورة الأحزاب].
يقول الشاطبي في الموافقات في قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ﴾ [(٩٢) سورة المائدة] قال: "وسائرُ ما قرن الله فيه طاعة رسوله ﷺ بطاعته فهو دالٌ على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول ﷺ ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله".
1 / 1
وقال -جل وعلا-: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [(٦٥) سورة النساء] يقول العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: "أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتفِ في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاءه وحكمه، ولم يكتفِ منهم أيضًا منهم بذلك حتى يسلموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا".
الإمام الشافعي ﵀ في الرسالة يقول: "هذه الآية يعني قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [(٦٥) سورة النساء] هذه الآية نزلت فيما بلغنا -والله أعلم- في رجلٍ خاصم الزبير في أرضٍ، فقضى النبي ﷺ بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله ﷺ لا حكمًا منصوص في القرآن، والقرآن يدل -والله أعلم- على ما وصفت؛ لأنه لو كان قضاءٌ بالقرآن لكان حكمًا منصوصًا في كتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا الحكم لكتاب الله نصًا غير مشكل الأمر أنهم ليسوا بمؤمنين إذ ردوا حكمًا تنزيلي فلم يسلموا".
المقدم: الشيخ الخضير: كأنكم تشيرون أيضًا من خلال هذه النقول إلى وجود فرق بين القبول والرضا أيضًا بالنسبة للسنة، فلا يعني أيضًا مجرد القبول بحكم السنة الإيمان، لا بد مع القبول الرضا، لو وجد من قبل السنة ولكنه لم يرض بها فلا يحكم له بهذا الأمر.
أولًا: التحكيم، التحاكم إلى السنة، ثم القبول والرضا بما حكم به الرسول ﵊، بعد ذلكم التسليم والانقياد لما حكم به ﵊، لكن قد يقول قائل: أن الإنسان قد يجد في نفسه شيء من الحكم إذا كان ضد مصالحه، كما يوجد من كثيرٍ من يحكم عليهم عند القضاة إذا كان الحكم ليس في صالحهم فإنهم يجدون في أنفسهم ولا بد، المقصود أن لا يتحدث بما في نفسه، ولا يحمله هذا على أن يقدح في الحكم الشرعي.
1 / 2
أما وجود ذلك في نفسه فهذا أمرٌ جبلي، كل إنسان يود أن يكون الحكم لصالحه، ومن ذلكم ما يثار كثيرًا من قضايا تعدد الزوجات مثلًا، كثيرًا من النسوة تعرف أن هذا شرع الله، وهذا حكم الله، لكن لا ترض أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، وهي التي تقدر مصلحتها، لكن لا بد من الرضا والانقياد لحكم الله وحكم رسوله، لنعلم أن هذا شرع من الله ﷾، فلا بد من الرضا به سواءٌ كان في كتابه أو جاء على لسان رسوله ﵊ لا فرق.
المقدم: فضيلة الدكتور: في قولكم في المقدمة بأنها هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، هذا الترتيب فقط من أهل العلم بحيث جعلوا مصدر أول ومصدر ثاني ومصدر ثالث.
نعم، باعتبار أن المتكلم بكتاب الله ﷾ هو الله ﷿، فالقرآن يختلف عن السنة من وجوه منها: أنه متعبد بتلاوته، والسنة وإن كان يجب تحكيمها، ويجب الإيمان بها، ويجب العمل بمقتضاها، إلا أنه لا يتعبد بتلاوتها.
المقدم: لكن حجيتها مثل حجية القرآن؟
حجيتها مثل القرآن تمامًا.
المقدم: إنما مراد الفقهاء بالتقسيم لذات التقسيم؟
لذات التقسيم باعتبار القائل، وإلا فالسنة وحيٌ كما جاء عن الله ﷿: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [(٣ - ٤) سورة النجم] يقوله في حق نبيه ﵊، وثبت عنه ﵊ أنه قال: «عليكم بسنتي» وقال ﵊: «لا أوتين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتب الله اتبعناه» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي رافع.
وجاء عنه ﵊ أنه قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله ﷺ كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي نابٍ من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها» الحديث مخرج في السنن، سنن أبي داود والترمذي والحاكم عن المقدام بن معدي كرب.
1 / 3
على كل حال السنة بالنسبة للاحتجاج مثل القرآن سواءً بسواء، لا تختلف عنه، فما ثبت بالسنة يجب العمل به سواء قلنا: أنه مثل القرآن في القطعية في الثبوت أو دونه.
المقدم: اخترتم كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ما المراد بالجامع الصحيح هنا؟
الجامع الصحيح المراد به ما اشتهر عند الناس واستفاض لديهم من صحيح البخاري الذي سماه مؤلفه (الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه).
المقدم: لعلكم تتحدثون إذًا عن البخاري وعن صحيحه ما دام هذا الكتاب باختصار.
البخاري -رحمه الله تعالى- هو أمير المؤمنين في الحديث: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري، ولد -رحمه الله تعالى- سنة (١٩٤هـ) ببخارى، ومات أبوه وهو صغير، فكفلته أمه وأحسنت تربيته، وقد ظهر نبوغه من صغره وهو في الكتاب، فرزقه الله ﷾ قلبًا واعيًا وحافظة قوية، وذهنًا حادًا، ووفق لحفظ الحديث فأخذ منه بحظٍ كبير، ولما يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره وأئمة بلده فأخذ الحديث والعلم عنهم، وصار يراجعهم في بعض ما سمع منهم، وقد بلغ عدد شيوخه فيما روي عنه ثمانين وألف نفس (١٠٨٠) ليس فيهم إلا صاحب حديث، وقد بلغت محفوظاته ﵀ أنه يحفظ من الحديث الصحيح مائة ألف، ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يحدث هذا الكم الهائل من السنة، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعة.
وقد أثنى عليه جمعٌ من الحفاظ من أقرانه، فقد قال أبو حاتم الرازي: "لم تخرج خرسان قط أحفظ منه، ولا قدم إلى العراق أعلم منه"، وكذلك أثنى عليه الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن فقال: "رأيتُ علماء الحرمين والحجاز والشام والعراق، فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل" وروى الحاكم بسنده أن مسلمًا الإمام صاحب الصحيح جاء إلى البخاري فقبله بين عينيه، وقال: "دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".
1 / 4
وأما ثناء من جاء بعده فيكفي في ذلك قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في مقدمة الفتح، يقول: "لو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحرٌ لا ساحل له".
وعلى كل حال ترجمة الإمام البخاري مدونة ومسطرة ومفردة ومع غيره من الأئمة، صنفت في ترجمة المصنفات التي منها المجلد، ومنها المجلدان، ومنها ما يبلغ المئات من الصفحات في ثنايا الكتب، وألف عن كتابه الصحيح العشرات من المؤلفات والرسائل العلمية، كلٌ يتناوله من جهة، ولا يزال الصحيح بحاجة إلى خدمة، وإن كان مشروحًا من أكثر من ثمانين شرح فيما عده صاحب كشف الظنون، والشروح أضعاف هذا العدد الذي ذكره مما لم يطلع عليه وممن تأخر عنده.
الإمام البخاري له مصنفات غير الجامع الصحيح، التواريخ الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير) كتاب التفسير الكبير، وله الأدب المفرد، وله القراءة خلف الإمام، ورفع اليدين، وله غيرها من الكتب.
توفي ﵀ ليلة عيد الفطر سنة (٢٥٦) عن اثنتين وستين عامًا، بقرية يقال لها: خرتنك على فرسخين من سمرقند.
المقدم: كانوا يتكلمون العربية -فضيلة الدكتور- في بخارى قبل أن يتعلمها هو؟
نعلم أن الأعاجم لما دخلوا في الإسلام عنوا بلغة الإسلام، بلغة القرآن، فتعلموها وأتقنوها وضبطوها وحفظوها حتى برز أكثرهم وصنف فيها، بل أكثر المؤلفين والمصنفين في علوم العربية بفروعها العشرة منهم، ويكفينا من ذلكم سيبويه صاحب الكتاب ليس بعربي، وهو أشهر كتابٍ في العربية على الإطلاق، على كل حال معرفة الأعاجم للعربية أمرٌ مستفيض ظاهر معروف، ومؤلفتاهم كثيرة جدًا تغني عن الإفاضة عن هذا الموضوع.
1 / 5
صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أول كتاب صنف في الصحيح المجرد من غيره، فقد كان الأئمة قبل الإمام البخاري لا يقصرون كتبهم على الأحاديث الصحيحة، بل كانوا يجمعون بين الصحيح والحسن الضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين إلى معرفة هؤلاء بالرجال، ومقدرتهم على التمييز بين المقبول والمردود، وقد كانوا لا يهتمون بالتمييز فيما تقدم من الأزمان؛ لأنهم عندهم أن من ذكر الإسناد فقد برئ من العهدة، والمطلع على هذه الأسانيد يستطيع أن يميز، لكن لما دخلت العلوم، وكثر الداخلون في الإسلام، وقلت العناية بعلوم الشرع، احتاج الناس إلى من يميز لهم الصحيح من غيره، فجاء الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فصنف كتابه الصحيح، فرأى أن يخص الصحيح بجمع فألف كتابه المذكور، وفي هذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:
أول من صنف بالصحيحِ ... محمدٌ وخص بالترجيحِ
ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ ... أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ
الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- روي عنه أنه قال: "ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك" وهذا كان قبل وجود الصحيحين، وإلا لو رأى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- هذين الكتابين أعني صحيح البخاري وصحيح مسلم لما قال هذه المقالة، وشواهد الأحوال وواقع هذه الكتب يشهد بما ذكرنا ولذا فإن صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله ﷾ عند جماهير العلماء، وذهب بعض المغاربة إلى تفضيل صحيح مسلم، كما أشار الحافظ العراقي ﵀:
ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ ... أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ
1 / 6
ولعل مرد التفضيل وسببه أن صحيح مسلم ليس فيه بعد الخطبة إلا حديث السرد، فقد جرده الإمام مسلم ﵀ من الموقوفات، وفتاوى الصحابة والتابعين، كما نقل ذلك القاسم التجريبي عن ابن حزم، وهذا غير راجع إلى الأصحية، نعم إذا نظرنا إلى الصحيحين من هذه الحيثية وجدنا صحيح الإمام مسلم مجرد، ليس فيه إلا الحديث بعد الخطبة، حتى التراجم الإمام مسلم ما ترجم كتابه، بخلاف البخاري الذي يشتمل على آلاف التراجم، ويشتمل أيضًا على آلاف الموقوفات من أقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم.
المقصود بالتراجم الأبواب، باب ما جاء في كذا، باب حكم كذا، باب ... إلى آخره، هذه التراجم، الإمام مسلم جرد كتابه منها، وكون الإمام مسلم جرد كتابه من الموقوفات والمقطوعات من أقوال الصحابة والتابعين هذا غالبًا، وإلا يوجد فيه عدد يسير جدًا من الموقوفات، وفيه أيضًا بعض المعلقات، وإن كانت يسيرة جدًا.
من الموقوفات التي في صحيح مسلم، قول يحيى بن أبي كثير: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" هذا الموقوف أدخله الإمام مسلم ﵀ بين أحاديث مواقيت الصلاة، وأشكل على جمع من الشراح مناسبة لهذا الخبر وهذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير بين أحاديث مرفوعة في مواقيت الصلاة، ولعل الإمام مسلم ﵀ تعالى أعجبه سياق المتون والأسانيد، وأراد أن يلمح مثل هذا الضبط وهذا الإتقان لا يأتي براحة، لا يأتي مع الراحة، ولا يأتي مع الاسترخاء، بل لا بد من إتعاب الجسم، ولذا قال -رحمه الله تعالى-: "لا يستطاع العلم براحة الجسم، أو لا ينال العلم براحة الجسم" هذا الذي ذكروه وما نقل عن بعض المغاربة أن سبب التفضيل تجريد الإمام مسلم لكتابه من الموقوفات وأقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم، هذا غير راجع إلى الأصحية، المفاضلة بين الصحيحين في الأحاديث الأصول المرفوعة التي هي العمدة في الكتاب.
1 / 7
ممن فضل مسلم على البخاري أبو علي النيسابوري، وأشار إليه الحافظ العراقي فيما تقدم، روي عنه قال: "ما تحت أديم السماء كتابٌ أصح من كتاب مسلم" وكلامه كما أشار ابن حجر محتملٌ للمدعى أنه أصح من كتاب البخاري، وهو محتملٌ أيضًا لنفي الأصحية خاصة دون المساواة، كونه لا يوجد أصح منه لا ينفي أن يوجد مساوي له، كون صحيح مسلم لا يوجد كتاب على وجه الأرض أصح منه لا ينفي أن يوجد كتاب مساويٍ له في الأصحية، ويتأيد ذلك بحكاية التساوي قولًا ثالثًا في المسألة، فأبو علي إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، ولم ينفِ المساوي، هذا ما قرره ابن حجر وتبعه عليه الحافظ السخاوي.
لكن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [(١٢٥) سورة النساء] يقول: "فإن قيل: الآية نصٌ في دينٍ أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين له أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ " الآية نصٌ في دينٍ أحسن من دين الإسلام، لكن من أين لهذا المسلم أن يدعي أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ أجاب -رحمه الله تعالى- من وجوه: والوجه الأول هو الذي يعيننا هنا، فقال: "أحدها: أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيرًا ما يضمر بعرف الخطاب يفضل المذكور المجرور بمن مفضلًا عليه في الإثبات، فإنك إن قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلًا عليه، والأول مفضلًا، فإذا قلت: لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا أو ليس فيهم أفضل من هذا، أو ما عندي أعلم من زيد، أو ما في القوم أصدق من عمرو، أو ما فيهم خيرٌ منه، فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم، بل قد صار حقيقة عرفية، يعني هذه العبارة صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل، وتفضيل المجرور على الباقي، وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم، وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل من هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا، ثم ذكر ﵀ بعد ذلك بقية الوجوه.
1 / 8
مفاد كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- أن قولنا: لا يوجد أفضل من فلان أو ما على وجه الأرض أفضل من فلان أن الحقيقة العرفية تدل على تفضيل هذا المذكور على جميع من على وجه الأرض، فصار حقيقةً عرفية، وإن كان في الأصل اللغوي أنها تنفي الأفضل، ولا تنفي وجود المساوي، هذا كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-، يقول: "فإن هذا التأليف يدل على أنه الأفضل والأعلم والخير".
شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حينما ذكر هذا الكلام وهو كلامٌ جميل ونفيس، يرد عليه ما ذكره ابن القطاع في شرح ديوان المتنبي قال: "ذهب من لا يعرف معاني الكلام إلى أن مثل قوله ﷺ: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر» مقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالم أجمع، «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر» فمقتضاه أن يكون أبا ذر أصدق العالم أجمع، قال: "وليس المعنى كذلك، وإنما نفى أن يكون أحدٌ أعلى رتبةً في الصدق منه، ولم ينفِ أن يكون في الناس مثله في الصدق، ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذرٍ أصدق من كل من أقلت" والحديث مخرج في المسند والترمذي وابن ماجة، والحديث بمجموع طرقه حسن، حسنه الترمذي والسيوطي والألباني، وقال الحافظ: "إسناده جيد".
المقدم: كأني فهمت أن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لا يؤيد أن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري ولا حتى مساويًا له، وإنما يقول: أن هذه العبارة خاطئة، هل فهمي صحيح؟
شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لا يعرض للصحيحين، كلامه ليس له علاقة بالصحيحين في الآية، كلامه يوضح لنا كلام أبي علي النيسابوري، وأنا أبا علي النيسابوري يرى أن صحيح مسلم أفضل بهذه العبارة، ولا يعني أنه ينفي الأفضل بل يثبت المساوي لا، لا يعني هذا.
المقدم: فهم الآية حتى أن من قال: أنه أقر بأن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري لم ينفِ أن يكون متساويًا، لكن من فهم الآية ينفي أن يكون متساويًا.
نعم، إذا قلنا: الحقيقة العرفية لمثل هذا التركيب يجعل المذكور أفضل من غيره مطلقًا، نأتي إلى الحديث حديث: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء» لا يوجد على ظهر الأرض أصدق لهجةً من أبي ذر.
مثل ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾؟
1 / 9
مثل الآية ومثل قول أبي علي، مفهوم على مقتضى كلام شيخ الإسلام أن يكون أبا ذر أصدق العالم أجمع، جميع من وطئ على وجه الأرض أبو ذر أصدق منه، لكن هذا غير مراد بلا شك إذ الأنبياء أصدق، الصديق أصدق، يعني أثبت النبي ﵊ أثبت له الصديق، وسمي الصديق، واستحق هذا الوصف الذي هو وصف المبالغة لما اتصف به من هذا الوصف، لكن لعل الحديث جرى مجرى المبالغة في إثبات الصدق لأبي ذر، ولم تقصد حقيقة هذه المبالغة.
بالنسبة لعناية الأمة بالصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله ﷾، فلم يحظى كتابٌ من كتب الحديث بعناية الأمة مثل ما حظي بذلك هذا الكتاب للإمام البخاري ﵀، فقد عني به علماء الأمة شرحًا له واستنباطًا وبيانًا لمشكليه وإعرابه، وكلامًا على رجاله وتعاليقه، وقد تكاثرت شروحه حتى خال صاحب كشف الظنون إنها تنيف على ثمانين شرحًا، وذلك عدا ما ألف بعده، ودون ما لم يقف عليه من الشروح الكاملة والناقصة.
من أهم شروح الجامع الصحيح شرح الخطابي المسمى (أعلام الحديث) وشرح ابن بطال، وشرح الكرماني (الكواكب الدراري) وشرح الحافظ ابن رجب اسمه (فتح الباري) و(فتح الباري) للحافظ ابن حجر، و(عمدة القاري) للعيني، و(إرشاد الساري) للقسطلاني، وكلها مطبوعة، وهناك الشروح الكثيرة المخطوطة، وهناك أيضًا شروح المعاصرين مثل: (فيض الباري) لمحمد أنور الكشميري، وهناك (لامع الدراري) وغيرها من الشروح التي تفوق الحصر.
المقدم: القديمة مكتملة فضيلة الدكتور؟
هذه التي ذكرناها كلها مكتملة سوى شرح ابن رجب إلى الجنائز، وهو كتابٌ نفيس.
المقدم: نفس المسمى؟
نفس المسمى، اسمه (فتح الباري) وكتاب ابن حجر اسمه (فتح الباري) وقد اطلع عليه ابن حجر، ونقل منه في موضعين في الفتح، ونص عليه، ونص على أنه قال ابن رجب في شرح البخاري.
المقدم: والنفيس منهما تقول: فتح الباري لابن رجب؟
ابن رجب شرحٌ نفيس لو كان كاملًا لما عدل به غيره، لكن الكتاب ناقص والأمر يومئذٍ لله، وفتح الباري لابن حجر أيضًا كتابٌ لا يستغني عنه طالب علم، وإرشاد الساري للقسطلاني لا يستغني عنه من أراد ضبط ألفاظ الصحيح في متونه وأسانيده.
1 / 10
المقدم: ألحظ -عفوًا فضيلة الدكتور- لعلكم دائمًا تقولون: القسطلاّني ... هو اسمه هكذا؟
نعم، القسطلاني.
المقدم: لأن بعض الناس يضبطونها القسطلَاني.
لا، بتشديد اللام.
أيضًا الكتاب كما شرح اختصر، اختصره جمعٌ من أهل العلم لتقريبه على الطالبين بحذف الأسانيد والمكررات، فمن هذه المختصرات: مختصر الشيخ الإمام جمال الدين أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، المتوفى سنة (٦٥٦هـ) مختصر صحيح البخاري، وله أيضًا مختصر صحيح مسلم وهذا مطبوع، ومشهور ومتداول، وشرحه بنفسه أبو العباس القرطبي، شيخ صاحب التفسير أبو عبد الله.
من المختصرات: مختصر الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد بن أبي جمرة الأندلسي، المتوفى سنة (٦٩٥هـ) وهو نحو ثلاثمائة حديث، قد شرحهم مختصره في كتابٍ سماه: (بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها) والشرح نفيس، يعتمد عليه كثيرٌ من الشراح كابن حجر وغيره؛ لكنه لا يسلم من ملحوظات ليس هذا محلُّ بسطها، لكن يستفاد منها على كل حال.
من المختصرات: مختصر الشيخ بدر الدين حسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفى سنة (٧٧٩هـ) واسمه (إرشاد السامع والقاري المنتقى من صحيح البخاري)، ومن المختصرات: مختصر الزبيدي الذي نحن بصدد شرحه، وسيأتي الكلام عنه -إن شاء الله تعالى-.
المقدم: هناك موضوع يتساءل عنه الكثير فضيلة الدكتور، هذا يتبين حقيقة في تراجم الإمام البخاري، طريقة الإمام البخاري في التراجم أثبتت أن عند البخاري فقهٌ عجيب كما نص على ذلك كثير من الشراح، فإذا جاء يترجم أو يتحدث عن ترجمة للإمام البخاري قال: وهذا من فقه الإمام البخاري، الحديث عن فقه البخاري.
1 / 11
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كغيره من الأئمة المجتهدين ممن جمع بين الحديث والاستنباط، مثل مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، ولا يختلف معهم في المصادر، بل الجميع عمدتهم في الاستنباط الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند الحاجة إليه، إلا أنه يختلف عنهم من حيث طريقة تدوين الأحكام، فلم ينهج نهجهم في فرز الأحكام عن أصولها؛ ولكنه يترجم بها للحديث، ولذا قال جمعٌ من الحفاظ: "فقه البخاري في تراجمه" وسوف أولي هذا الجانب عناية تليق بمقام هذا الإمام أثناء شرح الكتاب، فأذكر تراجمه على حديث الواحد في المواضع المختلفة من صحيحه، وأربط بين الحديث وهذه التراجم، ليتضح للسامع مدى دقة هذا الإمام في الاستنباط، وأنه إمامٌ مجتهد إضافة إلى كونه شيخ الصناعة الحديثية وإمام المحدثين.
ومما يجدر التنبيه عليه أن أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة تنازعوا في نسبة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إلى مذاهبهم، فترجم ﵀ في طبقات الشافعية بدعوى أنه منهم، كما ترجم في طبقات الحنابلة، والمترجم يزعم أنه حنبلي، وزعم المالكية أنه مالكي، وادعى الحنفية أنه حنفي، وهذه الأقوال لا ثبات لها، يشير إلى ضعفها تعارضها، ولا شك أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إمامٌ مجتهد، من سبر كتابه وطريقته في استنباط الأحكام من الأحاديث، وقارن أقواله بأقوال الأئمة المجتهدين وجد أنه يخالفهم، فتجده مرةً يوافق الإمام أبا حنيفة، ومرةً يوافق الإمام مالك، ومرةً يوافق الشافعي، ومرةً يوافق الإمام أحمد وإسحاق وهكذا، المقصود أنه مجتهد مطلق، وليس له مذهب يتبعه -رحمه الله تعالى-.
1 / 12
والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عنده دقة متناهية في الاستنباط، وهذا هو الذي حير كثيرًا من الشراح، وجعل بعضهم يحكم عليه بأنه لم يحرر كتابه، ولم يبيض كتابه، بل جعله مسودات تحتاج إلى تبييض، هذا الكلام ليس بصحيح، منشأه عدم فهم مراد البخاري، فله ملاحظ دقيقة جدًا خفيت على كثيرٍ من الشراح، فجعل بعضهم أحيانًا يقول: ليس بين الحديث وبين الترجمة رابط، وبعضهم يقول: هذا الحديث يتبع الترجمة السابقة، وبعضهم يقول ... إلى غير ذلك من الأقوال، حتى جرؤ بعضهم أن قال: أن إيراد هذا الحديث تحت هذه الترجمة مجرد تعجرف، ونحن نولي -بإذن الله تعالى- هذه التراجم خلال شرح الكتاب فيما سيأتي -إن شاء الله تعالى- عناية تليق بمقام الكتاب -إن شاء الله تعالى-.
سبب اختيار الكتاب أنه مختصر، من أصح الكتب، وأولى منه الأصل (صحيح الإمام البخاري) لكن باعتبار أن من السامعين جمعٌ كبير ممن لا يحتمل سماع كثرة الأسانيد حدثنا فلان قال: حدثنا فلان من عامة الناس ممن يريدون النتيجة والفائدة بسرعة، آثرنا اختيار هذا المختصر، وإلا فالأصل أن الحديث يكون عن الكتاب الأصلي الذي هو البخاري.
هذا المختصر اسمه: (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) اختصره الزبيدي من صحيح الإمام البخاري بأقل من ربع حجمه، حذف الأحاديث المكررة والأسانيد فقال في مقدمته: "اعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير أبي عبد الله البخاري من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، فإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا: أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح".
يقول النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم: "وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث".
1 / 13
قال: "وقد رأيت جماعةً من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا، فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم".
الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أحيانًا يغرب في الاستنباط ويبعد، وإذا أراد الباحث قبل وجود هذه الفهارس وقبل وجود هذه الآلات التي يسرت على الناس أن يبحث عن حديثٍ ما فإنه يشق عليه أن يقف عليه؛ لأنه يقدر أنه في الباب الفلاني، والإمام البخاري لحظ في الحديث ملحظًا آخر فجعله في باب بعيد كل البعد عن هذا الباب أو عن جميع الكتاب، الكتاب الذي يدخل ضمن هذا الباب، فمثلًا حديث ضباعة بنت الزبير لما أرادت الحج وقالت: أريد الحج وأجدني شاكية، فقال لها النبي ﵊: «حجي واشترطي» موضوع الحديث عند عموم الناس وعند عموم المتعلمين موضوع الاشتراط في الحج، فالباحث حينما يريد أن يقف على هذا الحديث في الصحيح لا يمكن أن يتعدى كتاب الحج، فإذا بحث في كتاب الحج من أوله إلى آخره لن يجد هذا الحديث، حتى قال جمعٌ من أهل العلم: أن البخاري لم يخرج هذا الحديث، لكن الإمام البخاري أبعد في الاستنباط فخرج الحديث في كتاب النكاح، ولحظ فيه أن ضباعة تحت المقداد، وكانت ضباعة تحت المقداد -طيب- إذا كانت تحت المقداد والمقداد مولى، وهي قرشية هاشمية ابنة عم الرسول ﵊، فلحظ عدم الكفاءة، وعدم اشتراط الكفاءة في النسب، وترجم على الحديث بقوله -رحمه الله تعالى-: (باب الأكفاء في الدين).
نعم، قد يقول قائل: الأولى أن يذكر البخاري الحديث في كتاب الحج ويكرره مرةً ثانية في كتاب النكاح؛ لأن أولى ما يوضع فيه مثل هذا الحديث كتاب الحج، فإذا بحثنا في كتاب الحج وفي الفوات والإحصار ما وجدنا شيء، لكن لدقة الإمام -رحمه الله تعالى- في الاستنباط جعله في كتاب النكاح الذي يخفى استنباط هذا الحكم من هذا الحديث على كثيرٍ من المتعلمين بالنسبة لكتاب النكاح، لكن كتاب الحج الحديث مشهور ومستفيض يعرفه الخاص والعام قد لا تكون الحاجة إليه ماسة لإيراده في كتاب الحج مثل إيراده في كتاب النكاح من وجهة نظر الإمام البخاري.
1 / 14
وإن كان قد ينازع في هذا -رحمه الله تعالى-، فالإمام البخاري كما عرفنا يكرر الأحاديث مرات، وأحيانًا يكرر الحديث في عشرة مواضع في عشرين موضعًا، فلو أنه كرره هذا الحديث في الحج وفي النكاح لكان أولى.
الإمام البخاري عرفنا أن من طريقته أنه يكرر الأحاديث، فأحيانًا يقطع الحديث ويذكره في عشرين موضعًا، لكن لم يكن من عادته أن يكرر الحديث بلا فائدة، فلا يذكر الحديث بلفظه بسنده ومتنه من غير فرق إلا نادرًا، لا بد إذا كرر الحديث أن يشتمل هذا التكرار على فائدة زائدة غير ما ذكر في الباب السابق، وغير ما ذكر فيما تقدم أو فيما سيأتي، كرر أحاديث يسيرة نحو العشرين في مواضع من كتابه دون تغييرٍ لألفاظها وأسانيدها، بل جاءت بلفظها في متونها وأسانيدها، وهذا قليلٌ جدًا بالنسبة لحجم الكتاب.
يقول المختصِر: "لما كان الأمر كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب"، ثم ذكر المختصِر منهجه أنه إذا أتى الحديث المتكرر يقول: "أثبته في أول مرة" يثبت الحديث في أول موضع من مواضعه، البخاري قد يذكر الحديث في عشرين موضع يذكره المختصر في الموضع الأول، "وإن كان في الموضع الثاني زيادةٌ فيها فائدة ذكرتها وإلا فلا".
1 / 15
يقول: "وقد يأتي حديثٌ مختصر ويأتي بعد في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول، فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة، ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسندًا متصلًا، وأما ما كان مقطوعًا أو معلقًا فلا أتعرض له، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم مما ليس له تعلق بالحديث، ولا فيه ذكرُ النبي ﷺ فلا أذكره" يعني أن المختصر حذف الأسانيد وحذف المكررات وحذف المعلقات وحذف الموقوفات عن الصحابة والمقطوعات من أقوال من بعدهم، واقتصر على الأصول المرفوعة، ولا شك أن صنيعه هذا يقرب الكتاب على الطالبين لكنه يبقى أن الكتاب الأصل هو الأصل، وأن ما حذفه فيه فائدة كبيرة، وأن فقه الإمام البخاري أحيانًا لا يتبين إلا بذكر ما يذكر ﵀ بعد الترجمة من الأقوال الموقوفة من أقوال الصحابة والتابعين، فقد يرجح بها أحيانًا، يأتي ترجمته على سبيل التردد فلا يعرف مذهبه، والعلماء ذكروا استقراءً أن طريقة الإمام البخاري ومنهجه أنه إذا أيد الترجمة التي لم يجزم فيها بقول صحابي أو تابعي فإن قوله يكون هو اختيار الإمام -رحمه الله تعالى-، وقد نص على ذلك الشراح ابن حجر وغيره.
المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ كم عدد أحاديث التجريد الصحيح؟
أحاديث التجريد تبلغ (٢١٩٥) حديث، أحاديث البخاري من غير تكرار تبلغ (٢٦٠٢) حديث، فرق نعم أكثر من أربعمائة حديث.
المقدم: كيف حصل هذا؟ مع أنه مجرد إزالة المكرر، هل هذا يعني يحسب فيه الموقوفات والمعلقات وغيرها؟
1 / 16
لا لا، الكلام على المرفوع (٢٦٠٢) حديثًا هذه الأحاديث المرفوعة الأصول من غير تكرار، هذا الفرق، أولًا أن الشيخ المختصر فاته عدة أحاديث لم يتعرض لها تزيد على المائة، واعتنى بها وذكرها الشيخ المحدث عمر ضياء الدين الداغستاني في جزءٍ صغير طبع مستقلًا، (زوائد الزبيدي) يبقى أيضًا أكثر من ثلاثمائة حديث، سببها أن من عدَّ أحاديث البخاري من غير تكرار كالحافظ ابن حجر وبلغت عدتها عنده (٢٦٠٢) إنما يذكر التكرار عن الصحابي الواحد، لكن إذا كان الحديث ولو اتحد لفظه عن صحابيين فإنه حديثان، يعتبر حديثان، بينما المختصِر إذا تكرر ولو اختلف الصحابي حذفه، ولهذا قلَّ العدد بهذه النسبة، أظن أن هذا واضح، إذا اختلف الصحابي عده المحدثون حديثين، الحديث مختلف تمامًا، المختصِر ينظر إلى المتن بغض النظر عن الرواة وعن الصحابة، ولذا قل العدد، فربَّ حديثٍ عده ابن حجر مرتين واللفظ واحد، لكنه روي عن ابن عمر وابن عباس فهما حديثان عنده، لكن عند المختصِر واحد؛ لأنه ينظر إلى المتن، ولهذا قلَّ العدد.
المقدم: لكنه أحيانًا قد يحذف أحاديث فضيلة الدكتور كما ذكرتم عن حذفه لبعض الأحاديث ربما يتعلق بها أحيانًا ترجمة معينة، والحديث قد يذكر في موضع آخر؟
يحصل المختصِر لا يعتني بالتراجم، إنما يهمه متون الأحاديث المرفوعة، إن شاء الله في شرح كل حديث نذكر جميع التراجم التي ترجم بها البخاري على هذا الحديث لنقارن فقه الإمام بفقه غيره من الأئمة.
مؤلف المختصر: حصل خطأٌ كبير في نسبة الكتاب إلى الحسين بن المبارك الزبيدي، فطبع الكتاب مرارًا مفردًا ومشروحًا منسوبًا إلى الحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا جهلٌ ممن طبعه أول مرة، وقلده من جاء بعده، مع أن الشارح الشرقاوي وغيره قد نص بصريح العبارة في أول الشرح على أن مؤلف الأصل الحقيقي وذكره باسمه الصحيح، الشارح نص على المؤلف، ومع ذلك من طبع هذا الشرح أخطأ في اسم المؤلف، وقلده جميع من جاء بعده، الكتاب في الطبعات القديمة نسب إلى الحسين بن المبارك الزبيدي.
المقدم: شرح الشرقاوي على هذا المختصر؟
1 / 17
على المختصر نعم، شرح الشرقاوي، وهناك شرح آخر لصديق حسن خان، منشأ الوهم وسببه، لماذا أخطأوا في نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه؟ منشأ الوهم وسببه ورود اسم من نسب إليه الكتاب الحسين بن المبارك الزبيدي في سلسلة إسناد المؤلف، الكتاب معروف (مختصر الزبيدي) فجاء هذا الاسم الحسين بن المبارك الزبيدي في سلسلة إسناد مؤلف الكتاب الزبيدي إلى البخاري، فخلط وهذا زبيدي وهذا زبيدي مع أن المؤلف المختصر ما ذكر اسمه في أول الكتاب فنسبوه إليه، وإلا فبينهما مائتان واثنان وستون سنة، هذا توفي سنة (٦٣١هـ) الحسين بن المبارك، ومؤلف الكتاب الحقيقي أحمد بن محمد بن عبد اللطيف الشرجي الزبيدي، هذا توفي سنة (٨٩٣هـ) وهو منسوبٌ إلى شرجة موضع بنواحي مكة، والزبيدي نسبة إلى زبيد إحدى بلاد اليمن؛ لأنه ولد بها واشتهر ومات بها، وهو مولود سنة (٨١١هـ) وصحح السخاوي أنه ولد سنة اثني عشرة، وكان محدثًا فقهيًا حنفيًا أديبًا شاعرًا بارعًا، له أوصاف ذكرت في الضوء اللامع للسخاوي وغيره، ومات كما ذكرنا سنة (٨٩٣هـ).
والمختصر له شروح من أهمها شرح الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي المتوفى سنة (١٢٢٧هـ) واسمه (فتح المبدي في شرح مختصر الزبيدي) ومن شروحه (عون الباري لحل أدلة البخاري) لأبي الطيب صديق حسن الكنوجي البخاري المتوفى سنة (١٣٠٧هـ).
1 / 18
لعل من أجود طبعات الكتاب المطبوعة مع عون الباري، فإن تيسرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب الموجود على هامش نيل الأوطار المطبوعة في بولاق فبها ونعمت، وإلا فنشرت دار الرشيد بحلب سنة (١٤٠٤هـ)، طبعة جيدة ونفيسة، والشرح يعين الطالب لعله يراجع قبل الاستماع، طبع مرارًا مستقلًا قديمًا وحديثًا، ومن آخر طبعاته طبعة للشيخ علي حسن عبد الحميد مرقمة ومفهرسة، وذكرت فيها الأطراف لكن مع الأسف الشديد أنه حذف مقدمة المؤلف، وهذا عيب لا شك أن هذا عيب في هذه الطبعة، فالتصرف في كتب أهل العلم أمرٌ لا يقبله أحد، فالأصل أن يبقي الكتاب على وضع مؤلفه، فيذكر مقدمته ولعله يستدرك ذلك في طبعات لاحقة، وطبعة علي حسن هذا صدرت عن دار ابن القيم ودار ابن عفان، لا شك أن الكتب ينبغي أن تبقى على وضعها، والتصرف فيها المؤلف نفسه أراد أن يكون كتابه هكذا، ونحن نتصرف فيه ونحذف منه ما لم يرده، فلعل الشيخ علي يعيد النظر في طبعة لاحقة، ويذكر هذه المقدمة، أما المقدمة فهي مشتملة على منهج المختصر، وسنده إلى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-.
المقدم: نبدأ على بركة الله في قراءة خطبة الكتاب، والتي عنون لها المؤلف بقوله:
خطبة الكتاب:
قال ﵀: الحمد لله البارئ المصور الخلاق، الوهاب الفتاح الرزاق، المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق، وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق حتى فاق جميع البرايا في الآفاق، وعلى آله الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق، وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق، صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق.
1 / 19