Sharh Al-Qawa'id Al-Sab' Min Al-Tadmuriyyah
شرح القواعد السبع من التدمرية
Noocyada
شرح القواعد السبع من التدمرية [١]
الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ من الرسائل المهمة في باب الاعتقاد، وقد كتبها جوابًا لمن سأله من أهل تدمر، وقد تضمنت الكلام في أصلين شريفين من أخص أصول الديانة، وهما: توحيد الله تعالى وصفاته، ومقام الشرع والقدر. وقد تكلم ﵀ عن هذين الأصلين لبيان المنهج الحق والعقيدة الصحيحة التي كان عليها سلف الأمة في هذين الأصلين، والتي يجب أن يعتقدها كل مسلم، ولأن كثيرًا من الفرق الضالة قد ضلوا في هذين الأصلين، وخاضوا فيهما بغير علم، فضلوا وأضلوا، فقصد إلى الرد عليهم بالدلائل الواضحة البينة من الكتاب والسنة ومن كلام سلف الأمة، كما رد عليهم أيضًا بالدلائل العقلية البينة الواضحة.
1 / 1
مقدمة شرح القواعد السبع من التدمرية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه الرسالة لـ شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، وهي المسماة بـ (الرسالة التدمرية)، وسبب هذه التسمية بيِّنٌ من جهة النسبة، فإنها رسالة كتبها جوابًا لمن سأله من أهل تدمر -وهي بلدة في الشام-.
وقد تضمن ما ذكره في هذه الرسالة كلامًا في أصلين شريفين من أخص أصول الديانة؛ بل هما أخص أصول الديانة، وهما: توحيد الله ﷾ وصفاته، ومقام الشرع والقَدَر.
كما تضمنت هذه الرسالة قواعد وأصولًا في مقام الصفات، وطرق الرد على المخالفين.
وعندما تكلم عن الأصل الثاني ذكر القاعدة الشرعية في مقام الشرع ومقام القدر، والتحقيق الذي بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام في الجمع بين مقام الشرع والقَدَر.
ولك أن تقول: إن الجمع بين الشرع والقَدَر هو بمعنى قولك: التحقيق لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فإن شهود مقام القدر هو شهود لمقام ربوبية الله ﷾، وشهود مقام الشرع هو شهود لمقام عبودية الله ﷾، فمن حقق الجمع بين الشرع والقدر فقد حقق توحيد الله ﷾ في مقام ربوبيته، وفي مقام ألوهيته وعبوديته؛ لأن أخص أصول الشرع وأشرفها وأولاها هو أمره ﷾ بعبادته وحده لا شريك له، فإن الشرع إذا ذكر قصد به الأمر والنهي، وأخص الأمر الذي أمر الله به سائر العباد هو أمره ﷾ بإفراده بالعبادة، كما أن أخص النهي الذي نهى الله ﷾ عنه العباد هو نهيهم عن الإشراك به.
ولهذا إذا ذكر الشرع تضمن توحيد الألوهية، وإذا ذكر القدر فإن مقام القدر من أخص مقامات الربوبية.
1 / 2
ظهور المدارس الفقهية
قال المصنف ﵀: [بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، مفتي الأنام، أوحد عصره، وفريد دهره، ناصر السنة، وقامع البدعة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني ﵁ وأرضاه].
هذه الرسالة معروفة بأنها لـ شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وهو من علماء الحنابلة -من جهة الأصول الفقهية- هو وأهل بيته، فإنهم كانوا من شيوخ المذهب الحنبلي، وإن كان شيخ الإسلام عُرِف بعنايته بالتحقيق، وعدم التقيد بمسألة التقليد على المذهب الحنبلي أو غيره من المذاهب، ولذلك لا يعد حنبليًا على معنى التقليد.
ومن هنا نقول: إن من انتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة هم الغالب من أهل العلم بعد طبقة القرون الثلاثة الفاضلة، وقد ظهرت جملة من المدارس، وإن كان الذي استقر منها خمس مدارس، وهي:
١ - المدرسة الحنفية.
٢ - المدرسة المالكية.
٣ - المدرسة الشافعية.
٤ - المدرسة الحنبلية.
٥ - المدرسة الظاهرية.
فهذه المدارس الخمس من المدارس الفقهية المعروفة هي التي استقرت وبقيت، إلا أن كان المذهب الظاهري كان ضعيفًا، ثم نشره وبسطه أبو محمد ابن حزم.
وأصول هذه المدارس الخمس أصول سلفية، وأئمتها كلهم من الأئمة المعروفين بالتحقيق وصحة الاعتقاد، وإن كان قد أخذ على أبي حنيفة مسألة في الإيمان، وهي مسألة لا تعد من بدع العقائد الكبرى، وإنما هي -كما ذكر الإمام ابن تيمية وغيره- من بدع الأقوال، وكذلك داود بن علي الظاهري أخذت عليه مسائل يسيرة لفظية ليست من أصول الاعتقاد، وله كلمات تعقبه عليها جملة الإمام أحمد في بعض كلماته، لكن أصوله -أعني: داود بن علي الظاهري - هي أصول أهل السنة والجماعة.
فهؤلاء الأئمة أصولهم واحدة من حيث الاعتقاد، ثم اختلفوا من حيث المذاهب، وثمة قدر من الوفاق فيما بينهم، ولاسيما بين الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، فهؤلاء أكثر توافقًا من جهة الأصول، ثم يليهم الإمام أبو حنيفة، ثم داود بن علي؛ فإن له أصولًا اختص بها في بعض المسائل، وإن كان يقال: إن داود بن علي ﵀ لم يشرح سائر هذه الأصول شرحًا مستفيضًا، بمعنى أنه تكلم بجمل، ثم جاء أبو محمد ابن حزم وبسط هذه الجمل.
فلا يلزم أن يكون سائر ما أضافه ابن حزم إلى المذهب الظاهري منضبطًا في كلام داود بن علي، فإنه متقدم عنه كثيرًا، ولم يفصح بكثير من هذه التفصيلات.
ولا يقال عن مذهب من هذه المذاهب الخمسة: إنه أصح المذاهب، فإن هذا لا يقوله إلا مقلد متعصب لمذهبه.
وإنما الصواب أن يقال: إن هذه المذاهب الخمسة في كلام الفقهاء، أو حتى ما يضاف إلى أحد من الأئمة المتقدمين، وأخصهم أصحاب رسول الله ﵌، ومن بعدهم من التابعين ومن بعدهم، فإن أي قول من الأقوال الفقهية يضاف لإمام متقدم -سواء كان هذا الإمام أحد هؤلاء الخمسة، أو من قبلهم، أو من عاصرهم- فإنه يكون قولًا له وجهه، وينظر في دليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع، وأصول الاستدلال المعروفة.
إذًا: لا يصح الانتصار المطلق لمذهب من المذاهب الفقهية، وإن كان لا يُمنع من التأصيل على مذهب من هذه المذاهب الأربعة، وثمة فرق بين مسألة التأصيل على مذهب واحد، كما هو شأن المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة، وبين التقيد بسائر فروع المذهب وفتاواه ومحتملاته، وما إلى ذلك مما يفصله فقهاء المذاهب، فمن التزم بسائر الفروع فهذا لا ينبغي إلا أن يكون مقامًا لمقلد، سواء كان عاميًا أو مبتدئًا في العلم، فهذا هو الذي قد يسعه هذا المقام، وأما من بان له الدليل على خلاف مذهب فقهي -وهو أهل للنظر في الدليل- فإنه يلزمه أن يكون متبعًا لصريح الدليل أو ظاهره، أو ما دل عليه الدليل بحسب درجات الاستدلال.
فالمقصود: أن شيخ الإسلام ابن تيمية أصوله -في الجملة- حنبلية، مع أنه لم يتعصب أو يلتزم المذهب الحنبلي في جميع فروعه ومسائله.
وقد ضمن شيخ الإسلام هذه الرسالة أصولًا من أصول أهل السنة والجماعة، كما ضمنها أصولًا من أصول الرد على المخالفين.
وبالمناسبة: فإن ما كتبه علماء السنة والجماعة في الاعتقاد يقع على أحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون تقريرًا للمعتقد.
الوجه الثاني: أن يكون ردًا على المخالف.
وهذه الرسالة تضمنت هذا وهذا في مقام الشرع والقدر، وفي مقام التوحيد والصفات.
1 / 3
ظهور الفرق في الإسلام
قال المصنف ﵀: [الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد سألني من تعيَّنت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر].
لقد كان المصنف ﵀ في عصر اختلطت فيه كثير من المقالات، فإنك إذا نظرت -مثلًا-: إلى الجيل الأول وهم جيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ فإنك تجد أن خلافة أبي بكر ﵁ انتهت، ثم جاءت خلافة عمر ﵁، إلى أن قتل ولم يحدث في الإسلام بدعة.
ثم لما جاءت خلافة عثمان ﵁ لم تظهر البدع في أول خلافته، وإنما ظهرت جملة من الفتن، وكانت هذه الفتن التي ظهرت مقدمة لظهور شيء من البدع.
1 / 4
ظهور الخوارج
في آخر خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين ظهر الخوارج الذين حدَّث النبي ﵌ بشأنهم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من نحو عشرة أوجه، وجاء أيضًا في صحيح البخاري، فالحديث متفق عليه من غير وجه، وهو مخرج في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد قال الإمام أحمد: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه".
وقد ظهروا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان ابتداء إخباره ﵌ بظهورهم لما جاءه ذهب من اليمن فقسمه ﵊ بين أصحابه، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل! فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح: فقام عمر بن الخطاب - وقال: دعني أضرب عنقه، فقال النبي ﵊: لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال ﵊: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم، ثم نظر إليه النبي ﵌ وقد ولى الرجل، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئًا، ثم ينظر إلى قذذه فلا يجد فيه شيئًا، قد سبق الفرث والدم).
وفيه إخباره ﵌ بقتالهم ..
وما إلى ذلك.
وقد ظهر هؤلاء في خلافة علي بن أبي طالب وكفروا المسلمين بالكبائر؛ بل بما يرونه من الكبائر، فقد زعموا أن علي بن أبي طالب ﵁ أتى كبيرة فكفروه بها، وكلا المقدمتين باطلة؛ فإن عليًا لم يأت كبيرة، ثم لو فرض أنه أتى كبيرة من الكبائر فإن الكبيرة في الشريعة لا توجب كفر صاحبها.
ثم بعد ذلك حصل الاقتتال، وقاتلهم الصحابة بإمارة علي بن أبي طالب، وكان قتالهم -أعني: الخوارج- مشروعًا بالنص والإجماع، ليس لكفرهم، وإنما دفعًا لصولهم وعدوانهم على المسلمين بالدماء، فإنهم أهل سيف، وإلا فإن في أهل البدعة المخالفين للصحابة رضي الله تعالى عنهم من هو شر منهم من جهة البدع، ولكن الخوارج إنما شرع قتالهم وأجمع الصحابة على قتالهم لما عندهم من السيف والصول على المسلمين؛ فإن الذي عليه جمهور السلف- وهو ظاهر مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية وانتصر له انتصارًا واسعًا في منهاج السنة وغيره- أن الخوارج الأول الذين خرجوا على علي بن أبي طالب ليسوا كفارًا، وإنما هم من أهل البدع والبغي، وقتالهم من باب دفع صولهم وليس من باب كفرهم، وهذا هو ظاهر سنة علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة، فإنهم ما جروا في قتالهم على سنة قتال الكفار، فإنه من المعلوم أن قتال الكفار يشتمل على السبي، والإجهاز، وما إلى ذلك من الأمور المعروفة في الجهاد مع الكفار، فالصحابة لم يستعملوا هذه السنن عندما قاتلوهم، فدل ذلك على أن عليًا وغيره من الصحابة وإن أجمعوا على قتالهم إلا أنهم لا يرون كفرهم؛ ولكنهم من أهل البدع والعدوان والضلال، وقد ذمهم النبي ﵌، وذكر مروقهم من الدين، وما يتعلق بذلك من انحرافهم عن أصول الحق والسنة والجماعة.
1 / 5
ظهور الشيعة والقدرية والجبرية
ثم بعد ذلك ظهر التشيع، وكانت الشيعة على مقامات ثلاثة معروفة.
ثم بعد خلافة الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية، ظهر القول بنفي القدر.
ثم ظهرت مقالة الجبرية المقابلة لمقالة القدرية.
1 / 6
ظهور التعطيل والتشبيه في صفات الله ﷿
ثم بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم -أي: بعد وفاة سائر الصحابة- ظهر القول بنفي الصفات.
ثم ظهر القول بالتشبيه.
وهكذا تسلسلت البدع على هذا النحو.
والذي كان شائعًا زمن القرون الثلاثة الفاضلة أو من أدرك بقية عصر الصحابة، ثم القرن الذي بعده، والقرن الذي بعده -كان شائعًا امتياز السنة عن البدعة، بمعنى: أن أصحاب البدعة لم يكن أحد منهم ينتحل مذهب أهل السنة والجماعة؛ بل كان المعتزلة متحيزين ببدعتهم، لا ينتسبون إلى السنة والجماعة، وكانت الخوارج أيضًا لا تنتسب إلى طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ..
وهَلُمَّ جَرّا.
1 / 7
ظهور متكلمة الصفاتية
ثم لما جاء عبد الله بن سعيد بن كلاب، وجماعة من المتكلمين وبعض المتصوفة؛ كـ الحارث بن أسد المحاسبي؛ صار هؤلاء ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، مع إظهارهم لشيء من البدع؛ إما في مقام الصفات، أو في مقام القدر، أو غير ذلك، فحصل من هذا التاريخ الذي توافق فيه عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو أخص من تكلم في مسائل الصفات الفعلية وهو ينتسب إلى السنة والجماعة- حصل من كلام عبد الله بن سعيد ومن شاركه في هذا الكلام من متكلم أو متصوف ظهور قوم ينتسبون إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويعظمون جُمَلَهُمُ العامة، ويعظمون أسماء أئمتهم؛ ولكنهم وقعوا في كثير من البدع المخالفة لإجماع أئمة السنة والجماعة المتقدمين من الصحابة ومن بعدهم.
ولكن هؤلاء هم أقرب إلى السنة والجماعة من أهل البدع الذين لم يكن أحد منهم ينتسب إلى السنة والجماعة.
ولذلك يقول ابن تيمية ﵀: "أهل البدع المغلظة لا ينتحلون مذهب أهل السنة والجماعة".
فالغالب؛ بل الأصل العام في هذه البدع المغلظة أن أصحابها لا ينتسبون إلى السنة والجماعة وطريقة الأئمة، بل هم متحيزون ببدعهم، وعندهم من الطعن في أئمة السنة والجماعة ما هو معروف.
ولعله يُذْكَر ما شاع في التاريخ من موقف أئمة المعتزلة من الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة؛ حتى إنهم أفتوا بقتل أئمة السنة لما رأوا من السلطان ميلًا لهم إذ ذاك.
وهذا يبين لنا عدل أهل السنة والجماعة: أنهم يقضون بين الناس بالحق، ولا يقابلون الأمر بالأمر؛ فضلًا عن أن يبغوا على أحد، فإن السلطان كان موافقًا لمذهب أئمة السنة والجماعة في جملة الدولة الأموية والدولة العباسية فضلًا عما قبل ذلك، ومع ذلك لم ينقل أن أحدًا من أئمة السنة والجماعة قصد إلى قتل سائر المخالفين بالسيف، بخلاف المعتزلة عندما كان المأمون العباسي مائلًا إلى طريقتهم ومنتصرًا لها، ثم جاء بعده المعتصم العباسي، وأفتى من أفتى من أئمة المعتزلة بقتل الأئمة الذين لا يقولون بخلق القرآن.
أما عبد الله بن سعيد بن كلاب وبعض أفراد طبقته من متكلم أو متصوف، فقد انتسبوا لأهل السنة والجماعة، ولذلك فإن ابن كلاب إذا ذكر بعض المقالات يقول: وقول أهل السنة الذي نقول به.
وأحيانًا يذكر لأهل السنة قولين، وفي الحقيقة ليس لهم إلا قول واحد.
إذًا: هؤلاء انتسبوا لأهل السنة والجماعة، وأيضًا وافقوا أهل السنة والجماعة في مسائل لم تكن المعتزلة أو غيرها يوافقونهم فيها، ولكنهم مع موافقتهم لهم في بعض المسائل، ومع انتسابهم للسنة والجماعة، إلا أنهم خالفوا السنة في مسائل كثيرة، إما في الصفات، أو في القدر، أو في غير ذلك.
ثم جاء بعد ذلك إمامان مشهوران، وهما: أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي الحنفي، وقد كانا في عصر واحد؛ لكن الأشعري كان في بلاد العراق وما إليها، والماتريدي كان في بلاد ما وراء النهر.
وبعد رجوع الأشعري عن مذهب المعتزلة انتسب هذان الرجلان لأهل السنة والجماعة، وصارا من جنس عقيدة عبد الله بن سعيد بن كلاب.
فتحصل من هذا: أن أقوامًا يخالفون طريقة الأئمة المتقدمين في مسائل أصول الدين؛ في التوحيد، أو في الإلهيات ..
في الصفات، أو في القدر، أو في غير ذلك، ويوافقونهم في مسائل أخرى، وينتسبون إلى الأئمة؛ ولكنهم ليسوا على علم مفصل بكلام الأئمة، ولعل هذا أخص الأسباب في عدم تحقيقهم لأقوال السلف الأول، وهو أنهم لم يكونوا على علم مفصَّل بأقوالهم.
أضف إلى ذلك: أن الأشعري والماتريدي جاءا في عصر استقرت فيه المدارس الفقهية، وكثر الانتساب لأحد هذه المدارس: إما الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية، أو الحنبلية، أو ما إلى ذلك.
فلأجل هذا الجامع الفقهي بين العلماء في أكثر موارد التاريخ بعد عصر الأئمة، ولكون هؤلاء ينتسبون إلى السنة والجماعة؛ لم يكن هناك في كثير من الأحوال قدر من التمييز لما كان من الأقوال صوابًا، وما كان من الأقوال خطأً.
بمعنى: أن الفقهاء الذين ينتسبون للأئمة الأربعة، أتباع الإمام مالك، وأتباع أبي حنيفة، وأتباع الشافعي، وأتباع أحمد، من هؤلاء من هو على عقيدة إمامه على التحقيق؛ كـ أبي عمر ابن عبد البر من أصحاب مالك مثلًا، ومنهم من اختلط عليه الأمر، بمعنى: أنه تأثر بجمل من جمل الأئمة، وتأثر بجمل من جمل هؤلاء المتأخرين الذين اختلطت عندهم السنة بالبدعة.
فلهذا السبب صار عند هؤلاء -أتباع الأشعري، والماتريدي، فضلًا عن أتباع ابن كلاب، ومن يشارك هؤلاء من متكلم، أو متصوف، أو فقيه، أو مستعمل لطريقة أهل الحديث؛ كـ البيهقي مثلًا- صار عندهم أخطاء في مسائل، وصواب في مسائل، وتعظيم لطريقة أهل السنة والأئمة من جهة الانتساب والانتصار، والرد على أهل البدع المغلظة من أصول المخالفين المتقدمة.
لقد جاء الإمام ابن تيمية ﵀ في هذا العصر، وهو عصرٌ الشيوع والغلبة في كلام الفقهاء إذ ذاك لمثل هذا النوع؛ ولذلك حصل له مناظرات مع فقهاء وقضاة من الشافعية، والمالكية، والحنفية، ناظروه وتكلموا معه لأنهم كانوا على أصول أبي الحسن الأشعري، ولم يكونوا أيضًا محققين لأصول أبي الحسن الأشعري؛ بل كانوا مائلين إلى الطريقة المتأخرة التي ركَّبها أبو المعالي الجويني من أصحاب الأشعري، وطريقة الأشعري خير من طريقة متأخري أصحابه.
ومما سبق نعلم أن العصر الذي أدركه الإمام ابن تيمية ﵀ هو العصر الذي انتشرت وشاعت فيه المقالات التي ينتسب أصحابها للسنة والجماعة، وقد يصيبون في مقام، ولكنهم يخلطون ويخطئون ويخرجون عن السنة في مقامات كثيرة؛ سواء في مسائل الصفات، أو في مسائل القدر، أو غيرها.
ولذلك إذا قرأنا في كلام شيخ الإسلام لا نجد له تفصيلًا واسعًا في تتبع بعض المقالات، مثل مقالة الجبرية الغالية؛ لأن هذه المقالة حتى من كان يخالفه من معاصريه كانوا مخالفين لها، وإنما عُنِي ﵀ ببيان امتياز طريقة الأئمة المتقدمين عن بعض الطرق المتأخرة التي خلط أصحابها الحق بشيء من الباطل، فكان مقصوده هذا التمييز مع عنايته ﵀ بمقام العدل؛ ولذلك لم يكن يكفر المخالفين المنتسبين للسنة والجماعة، وإن كان عندهم بدع شديدة في بعض المسائل؛ كالعلو مثلًا، فإنه ناظر بعض المتكلمين في مسألة العلو، ومعلوم كلام السلف في هذه المسألة؛ ولكنه كان يلتزم بالأصل المعروف وهو: أن ثمة فرقًا بين المقالة وبين قائلها، وأنه لا يلزم من الحكم على المقالة أن يكون الحكم مطردًا على جهة التسلسل واللزوم فيمن قال هذه المقالة؛ بل لا بد من مقدمات، ومن قيام حجة ..
إلى غير ذلك.
1 / 8
شرح القواعد السبع من التدمرية [٢]
توحيد الله ﷾ هو اعتقاد وحدانيته في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وقد تكلم شيخ الإسلام ﵀ في هذه الرسالة عن توحيد الصفات، وتوحيد الشرع والقدر، وذكر الأسباب الداعية إلى الكلام عن هذين الأصلين.
2 / 1
الكلام على التوحيد وتقسيمه
قال المصنف ﵀: [أما بعد: فقد سألني من تعيَّنتْ إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر].
قوله ﵀: (من الكلام في التوحيد والصفات):
توحيد الله ﷾ هو اعتقاد وحدانيته ﷾ من جهة ربوبيته، ومن جهة ألوهيته وعبوديته.
ومن المعلوم أن المتقدمين من الأئمة -وأخصهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم- لم يستعملوا التقاسيم في زمنهم، وإنما ظهرت كثير من التقاسيم والتراتيب فيما بعد، وقد ظهر ترتيبان في تقسيم التوحيد:
فمنهم من يقول: إن التوحيد يتنوع إلى ثلاثة مقامات، ومنهم من يقول: ينقسم إلى ثلاثة أقسام.
والحقيقة: أن الأولى أن لا يعبر بلفظ (الانقسام)؛ لأن التوحيد واحد، بمعنى: أن من حقق توحيد الألوهية لزم أن يكون محققًا لتوحيد الربوبية، وكذلك من حقق توحيد الربوبية فإن تحقيقه إياه يستلزم أن يكون منقادًا للإيمان والإقرار بتوحيد الألوهية.
فإن قال قائل: المشركون الذين بُعِث النبي ﷺ فيهم قد ذكر الله في كتابه كثيرًا في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [العنكبوت:٦١] ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ﴾ [الزخرف:٨٧] فتجد أن الجواب أنهم يقولون: (الله)، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وذكر الإمام ابن تيمية أن إنكار الربوبية مطلقًا لم تذهب إليه أمة من الأمم.
هذا هو الذي يرد في كلام أهل العلم، وقبل ذلك هذا هو ظاهر كتاب الله ﷾ في ذكر المشركين وما يقرون به من مسألة خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسهم ولكن هل يلزم من ذلك أن هؤلاء المشركين كانوا محققين لتوحيد الربوبية؟
الجواب: لا؛ بل هناك فرق بين أن يقال: إن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين ببعض أصول الربوبية، وبين أن يقال: إنهم كانوا مقرين بالربوبية في الجملة.
إذًا: مشركو العرب وغيرهم من المشركين كانوا غير محققين للإيمان الصحيح بتوحيد الربوبية؛ فإن من المعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام وغيرها من المعبودات كانوا يسألونها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ولا شك أن تعلق العبد بغير الله في مسألة قضاء الحاجات وتفريج الكربات هو جمع بين شركين:
الأول: الشرك في الربوبية.
والثاني: الشرك في الألوهية.
أما الشرك في الألوهية فلأنه دعا غير الله، وصرف عبادة الدعاء لغير الله.
وأما الشرك في الربوبية فلأنه اعتقد أن هذا المعبود من الصنم أو غيره قادر على قضاء الحاجات، وكشف الضر، وتفريج الكربات؛ ومعلوم أن هذا هو مقام رب العالمين، كما قال إبراهيم ﵊ في براءته من عبودية المعبودات: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:٧٧]
أيضًا: استقسامهم بالأزلام، فإنهم كانوا يستقسمون بالأزلام ويمضون على إمضائها ويردون على ردها، ولما قدم النبي ﷺ أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت: فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال ﵊: (قاتلهم الله! أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط) رواه البخاري عن ابن عباس.
فالاستقسام بالأزلام على معنى الإمضاء والرد هو وجه من الشرك في ربوبية الله تعالى.
فالمقصود: أن ما ذكره الله في كتابه عن مشركي العرب أنهم يقرون بأن الله هو الخالق؛ هذا صحيح؛ لكن هذا الإقرار ليس على التحقيق التام والإيمان الصحيح بربوبية الباري جل وعلا، وإلا فإن من آمن على التحقيق بربوبية الباري ﷾ انقاد لعبوديته وحده لا شريك له.
ومعلوم أن مشركي العرب كان يعرض لهم في بعض الصور أنهم يقرون بتوحيد الألوهية، فهل يصح أن نقول: إنهم مقرون بتوحيد الألوهية؟
الجواب: لا؛ فقد ذكر الله عنهم هذا الإقرار في مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت:٦٥] فهذه حالة عارضة، ولكن الأصل في شأنهم هو أنهم مشركون.
إذًا: لا شك أن ثمة فرقًا في حال مشركي العرب وغيرهم بين مقام الربوبية، ومقام الألوهية، فإنهم ينكرون مقام الألوهية ويعجبون من شأنه ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [ص:٥] وأما مقام الربوبية فإن الأصل أنهم يقرون به في الجملة.
وهناك فرق بين قولنا: إنهم يقرون به في الجملة، وبين قولنا: إنهم محققون له، ومؤمنون به إيمانًا شرعيًا صحيحًا؛ فإن هذا لا يقع لمشرك، وإنما يقع للمسلمين من أتباع المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
إذًا: التوحيد شيء واحد، وعندما يذكر أهل العلم أن التوحيد ينقسم إلى: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ فإن هذا من باب التراتيب العلمية، وليس من باب البدع.
ومن أهل العلم من قال: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التوحيد العلمي: ويقصد به توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
القسم الثاني: التوحيد الطلبي: ويقصد به توحيد الألوهية.
وهذا الاصطلاح يستعمله ابن تيمية وجماعة من أهل العلم.
فهذا الترتيب من باب التراتيب العلمية، وهذه مسألة لا بد لطالب العلم أن يفقهها، حتى لا يُخْلَط عليه ما كان من البدعة وما كان من باب التراتيب العلمية.
فإذا قلنا: إنه ترتيب علمي، فمعنى ذلك: أن من تكلم به من أهل العلم قصدوا به الإيضاح والبيان، ولا يلزم أن يكون هذا الاصطلاح لازمًا لكل أحد، وإنما الذي يلزم سائر المكلفين هو العلم بحقيقة هذا التوحيد، سواء علمها على أن التوحيد يتنوع إلى: علمي، وإرادي، أو علمها على أن التوحيد: ألوهية، وربوبية، وأسماء وصفات، أو علمها على أن التوحيد هو: وحدانية الله ﷾ ربًا، ومعبودًا، ومعظَّمًا، ومنزَّهًا، ومفرَدًا بالعبادة ..
إلى غير ذلك من سلسلة المعاني الشرعية.
فالذي يلزم سائر المكلفين أن يعلموه ويعملوا به: أن يتبعوا المعنى الشرعي، سواء عُبر عنه بهذا الاصطلاح أو بغيره، ولذلك ينبغي أن يكون طالب العلم على فقه في هذا المقام، فلا يتعصب لتقسيم أو اصطلاح معين من اصطلاحات أهل العلم، وينفي غيره من الاصطلاحات الصحيحة، ولا يطعن في هذا الاصطلاح بدعوى البدعة وما إلى ذلك، فإن هذا ليس من باب البدع؛ بل هو من باب التراتيب العلمية والإيضاح والبيان، وقد كثرت هذه التراتيب في العصور العلمية المتأخرة، وإلا فإننا إذا نظرنا إلى عصر الصحابة لا نجد أن عندهم حاجة إلى هذه التراتيب.
ولو قال قائل: لِمَ لَمْ يستعمل الصحابة هذه التراتيب؟
فالجواب: لقوة فقههم، وشرف علمهم، وسلامة فطرتهم، وقلة الشُّبَهِ في زمنهم، لم تظهر مثل هذه التقاسيم والتراتيب التي تبين الحقائق وتفصل الأمور، حتى لا يقع ضعف، أو اختلاط، أو تقصير في تحقيق المعاني الشرعية.
2 / 2
توحيد الصفات
وقوله ﵀: (والصفات)، أي: صفات الله تعالى، وصفات الله تعالى من توحيده؛ حتى قال بعض أهل العلم: إن توحيد الربوبية هو توحيد الأسماء والصفات، ومن المعلوم أن أسماء الرب ﷾ وصفاته هي من مقام ربوبيته، وإنما ذكرها من ذكرها من أهل العلم على سبيل الاختصاص لأن قومًا ممن ينتسبون إلى الديانة والإسلام والقبلة حصل عندهم أغلاط وأخطاء في مقام صفات الله ﷾؛ إما بتعطيلها، أو تشبيهها بصفات المخلوقين، فلما ظهر هذا الغلط في تاريخ المسلمين بعد عصر الصحابة عني أئمة السنة وأئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين بذكر مسألة الصفات وتخصيصها؛ لما وقع فيها من الغلط بسبب تلك البدع التي ظهرت على يد المتكلمين والمتفلسفة.
2 / 3
توحيد الشرع والقدر
وقوله: (وفي الشرع والقدر):
المقصود بالشرع: الأمر والنهي.
وأخص الأمر: هو أمره ﷾ لعباده بأن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا شك أن هذا متضمنٌ لمقام ربوبيته ﷾.
وأخص النهي: هو النهي عن الشرك به، عن أن يكفروا أو يشركوا بربهم ﷾.
والقدر: هو قدر الله في خلقه.
وقولنا: (في خلقه) الخلق اسم عام، وليس خاصًا بالعباد من بني آدم؛ بل هو قدره سبحانه المطرد، فإن الله هو الخالق وما سواه مخلوق، والله ﷾ هو الباري وما سواه عالم مخلوق، وهو رب العالمين أجمعين من بني آدم، ومن الملائكة، والجن، والأحياء والأموات والجماد، وما إلى ذلك.
فقدره ﷾ مطرد في سائر خلقه، وهذا القدر له أصول ومعانٍ سيأتي -إن شاء الله تعالى- التعليق عليها فيما بعد.
وقد ذكر المصنف هذه المسألة لأن مقامًا في هذا الأصل -وهو القدر- حصل فيه غلط عند قوم من أهل القبلة، وهو ما يتعلق بأفعال العباد، وصلتها بقدر الله ﷾.
والقدر: هو قضاء الرب ﷾ على خلقه فيما يتعلق بحركاتهم وسكناتهم وأفعالهم ومآلهم ..
وما إلى ذلك.
2 / 4
معنى قول المصنف: (أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة)
قال المصنف ﵀: [لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال].
2 / 5
المقصود بأهل النظر
قوله: (ومع أن أهل النظر).
المقصود بأهل النظر: هم أصحاب النظر العقلي، وهذا هو الغالب على مصطلح النُّظَّار إذا ذكر، فإنه مصطلح متأخر، والغالب على هؤلاء الذين اختصوا بمسألة النظر أنهم من علماء الكلام، ولا يلزم من مصطلح النظر أن يكون نظرًا عقليًا على طريقة المتكلمين؛ بل يمكن أن يكون نظرًا شرعيًا صحيحًا على طريقة المرسلين، فإن النظر العقلي ليس هو النظر بعلم الكلام، ومعلوم أن دليل العقل ليس هو دليل علم الكلام فقط، فإن الله تعالى أمر عباده بالنظر، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف:١٨٥]
ولكن هل أمر الله ﷾ سائر المكلفين بالنظر من جهة معرفة وجوده ومعرفة ربوبيته؟
الجواب: لم يأمر الله ﷾ سائر العباد أن ينظروا إلى معرفة وجوده؛ لأن وجوده ﷾ وربوبيته فطرة فطر الله سبحانه الخلق عليها، ولكن من اختلطت فطرته بشيء من الضلال والشك فإن هذا يكون النظر في حقه مشروعًا؛ لدرء هذا الإشكال، وهذه الشبهة والظلمة التي طرأت عليه.
وأما إذا قصد بالنظر: التفكر في خلق السماوات والأرض على جهة التحقيق والتأمل والتدبر، فإن هذا لا شك أنه مشروع لسائر المكلفين، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:١٩٠] ولذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ يقول: "إن الله لم يأمر سائر المكلفين بالنظر"، ومقصوده بهذا النظر أي: من جهة معرفة الرب ربًا موجودًا، فإن هذا فطرة في قلوب بني آدم، ولهذا لم يأمر به الباري سائر المكلفين.
2 / 6
المقصود بأهل العلم
وأما (أهل العلم) فإن هذا الاسم إذا ذكر يراد به أهل علم الشريعة، وقد عُنِي طائفة من أهل العلم بتمييز هذا عن هذا؛ لأن علم الكلام الذي يستعمله جمهور النظار علم مبتدَع، وقد ظهر بعد عصر الصحابة.
2 / 7
تعريف علم الكلام وذم الأئمة له
لقد تكلم جماعة في تعريف علم الكلام وحدِّه، ومِن أخصِّ مَن تكلم في ذلك وشاع كلامه عند المعاصرين ابن خلدون صاحب المقدمة، فضلًا عن علماء الكلام أنفسهم؛ فإنهم يعرفون في مقدمة كتبهم هذا العلم، ويقولون: "هو معرفة العقائد الإيمانية بالحجج العقلية".
هذا هو التعريف الشائع في كلام النظار وبعض الأصوليين وغيرهم، وهذا التعريف غير صحيح؛ لأن هذا العلم لو كان من هذا الوجه فلا يمكن أن يكون معارضًا للشرع ومذمومًا هذا الذم الذي ذُكِرَ في كلام الأئمة المتقدمين الذين أدركوه، فإنه قد تواتر عن أئمة السنة والجماعة كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين -تواتر عنهم أنهم ذموا علم الكلام وذموا أصحابه.
ومعلوم أن الدليل العقلي لم يشتهر في كلام الأئمة ذمه، وكذا نجد أن الله تعالى في كتابه ذم مسألة العقل؛ بل ذكر في كتابه أن العقل موجب ومحرك للهداية في مثل قول الله ﷾ عن المشركين: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ﴾ [الملك:١٠] فدل على أن العقل لو حققوه لاستجابوا للحق، وفي مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف:١٧٩]
فالعقل ليس مذمومًا في القرآن، وإنما يذم العقل إذا استعمل على غير وجهه، ووضع في غير موضعه، أو عورضت به الشريعة، أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا هو الذي يذم.
أما علم الكلام فإنه قد تواتر عن الأئمة ذمه، واقرأ كتاب أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي فقد حكى روايات متواترة عن الأئمة في ذمه.
أما سبب ذم الأئمة لعلم الكلام: فهو فساد معانيه، وقد قال بعض المتأخرين كـ أبي حامد الغزالي: "إن الأئمة كـ الشافعي وغيره ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ المحدثة".
أي: التي لم يوجد ذكرها في القرآن والسنة، مع أن أبا حامد الغزالي وغيره يستعملون علم الكلام، وقد دافع الغزالي ﵀ عن استعماله، فقال: "ولما كان في زمننا هذا احتجنا لاستعماله؛ لدفع صول الفلاسفة وغيرهم على الإسلام"، ومثل لذلك بقوله: "مثل لبس ثياب الكفار؛ فإنها لا تجوز، ولكن إذا قصد من لبسها المصلحة والنكاية وما إلى ذلك بالكفار كان ذلك جائزًا وليس من باب التشبه".
وهذا المثل الذي ذكره أبو حامد ليس هذا مورده ولا موضعه؛ بل الصواب أن علم الكلام مذموم، وذلك لسببين:
السبب الأول: لما فيه من الألفاظ المحدثة؛ فإن العقائد الإسلامية ينبغي أن يعبر عنها بحروف وكلمات الكتاب، وكلمات الرسول ﵊، ولا يصح أن يلقن المسلمون ويعلموا العقائد بألفاظ كان يتكلم بها المتفلسفة، أو ولدت من الفلسفة، أو ما إلى ذلك؛ بل لا بد أن يتكلم بكلام الله وكلام رسوله، وما نطق به الصحابة، وما يقارب ذلك، أما أن تُهجر هذه الكلمات الشرعية ويؤخذ بكلمات مخترعة محدثة في الإسلام فهذا ليس منهجًا عدلًا ولا صوابًا.
السبب الثاني: أن هذا العلم تضمن معاني فاسدة، قال ابن تيمية ﵀ في غير موضع في درء التعارض وغيره: "وذم الأئمة لعلم الكلام من جهة فساد معناه أعظم من جهة ذمه لحدوث ألفاظه".
وقد تولد عن هذا العلم بدعة المعتزلة بتعطيل صفات الله ﷾، وما إلى ذلك من البدع المعروفة في تاريخ المسلمين التي انحرف من انحرف بها من أهل القبلة.
2 / 8
التعريف الصحيح لعلم الكلام
إذًا: الصحيح في تعريف علم الكلام أن يقال: هو علم حادث بعد عصر الصحابة، أحدثه قوم من النظار المائلين عن طريقة الأئمة من الفقهاء والمحدثين.
وهو مركب من ثلاث مواد:
الأولى: مادة فلسفية مفصلة.
الثاني: مادة من الكليات العقلية العامة.
الثالثة: مادة من الجمل الشرعية العامة.
وهذا من باب الضبط والعدل؛ لأن الحقائق العلمية لا بد أن يتكلم فيها بعلم وعدل؛ حتى مقام الرد على المخالف لا يجوز أن تبغي عليه بحكم، ولا يجوز أن تزيد على مقالته بغير ما قاله.
ومن الملاحظ أن المقام العقلي فيه مقام كلي، وأن المقام الشرعي فيه مقام مجمل، أي أن عندهم بعض الجمل الشرعية، ومن الجمل الشرعية التي يراعيها هذا العلم: قاعدة: (أن الله مستحق للكمال، منزه عن النقصان)، فهم يرون أنها قاعدة شرعية، والصحيح أنها شرعية وعقلية أيضًا؛ فإن تنزيه الله عن النقص معلوم بالعقل، وليس كما يقول البعض: إنه معلوم بالشرع وحده.
إذًا: هم قصدوا إلى جمل شرعية، وإلى كليات عقلية، ولكن جوهر هذا العلم الذي ينبني عليه ويقوم عليه من جهة التفصيل هي مقدمات لخصت من الفلسفة.
كيف دخلت الفلسفة على أهل الكلام؟
لقد كانت البلاد التي فتحت زمن عمر بن الخطاب ﵁ وما بعده -ولا سيما أعالي العراق- كانت بلادًا مليئةً بالثقافات الفلسفية، وقد بدأت الترجمة منذ زمن متقدم في دولة بني أمية، فلما ظهرت الترجمة لهذه العلوم دخلت هذه المولَّدات الفلسفية على المسلمين بما يسمى بـ (علم الكلام)؛ ولذلك تكلم أصحابه بالجوهر، والعَرَض، ومسائل معروفة هي مركبة في الجملة من كلام أرسطو طاليس وأمثاله من فلاسفة اليونان.
هذه المادة الفلسفية التي لخصت وأضيفت إليها كليات عقلية، وجمل شرعية، هي ما يسمى في الحقيقة بعلم الكلام؛ ولذلك فليس هذا العلم مجرد استدلال بالأدلة العقلية على العقائد الإيمانية؛ فإنه لما كان هذا العلم مبنيًا على هذه المواد الثلاث، ولا سيما المادة الفلسفية المأخوذة عن قوم من الفلاسفة الذين لم يكونوا على دين سماوي صحيح، فقد كان أرسطو طاليس قبل المسيح عيسى ابن مريم ﵊ بثلاثمائة سنة، وكان رجلًا ليس على ديانة شرعية، وإنما كان على فلسفة وإلحاد في تعطيل الباري ﷿ عن أسمائه وصفاته وغير ذلك؛ فلأجل هذا السبب نجد أن من انتحل هذا العلم -علم الكلام- قد عطلوا صفات الله ﷾ عن معانيها الشرعية، أو عطلوا ما هو منها، وهذا بحسب استعمال أصحاب هذا العلم له.
2 / 9
المقصود بأهل الإرادة والعبادة
قوله: (والإرادة والعبادة):
أهل الإرادة في الغالب إشارة إلى العُبَّاد والمتصوفة.
والإرادة مسألة نفسية قلبية، فإذا ذكر أهل الإرادات فهو اصطلاح يقصد به النُّسَّاك والمتصوفة، وهناك اصطلاحات في كلام شيخ الإسلام بنحوها، فأحيانًا يقول: "أهل الأحوال، المتفقِّرة، المتصوفة"، وهذه المصطلحات تأتي على هذا المعنى، أي: المائلون عن طرق أهل النظر والعقل إلى الطرق الإرادية النفسية السلوكية.
2 / 10
الأصول التي يعرف بها الحق من الباطل
قال المصنف ﵀: [لا سيما مع كثرة مَن خاض في ذلك بالحق تارةً وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات].
لقد خاضت طوائف أهل القبلة في هذين الأصلين، وقد خلط كثير من هؤلاء -بل أكثرهم- خلطوا الحق بالباطل في هذين الأصلين.
والصواب في هذا: هو ما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ، وما نطق به القرآن، وما جاءت به السنة؛ فإن هذه الأصول الثلاثة وهي: إجماع الصحابة، وما دل عليه الكتاب والسنة، هي الأصول التي يوزن ويُعْرَف بها الحق؛ فإن الحق لا يُعْرَف بفلان، وهذه من قواعد الإسلام وشريعة الديانة: أن الحق لا يعرف بفلان وفلان من الأئمة، فإن هذه لم تكن من طرق أئمة السنة والجماعة؛ أنهم يعرفون الحق بفلان أو فلان من الآحاد، وإنما الحق يُعْرَف من جهة كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإذا عُرِف الحق بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع؛ فإن هذا يكون من الحق اللازم من جهة الاتباع.
وأما إذا لم يكن هناك دليل صريح من الكتاب أو السنة، أو إجماع في المسألة، فإن النظر في هذه المسألة التي بهذه الصورة يكون من باب المحتمل، ومن باب الاجتهاد الذي يسع فيه الخلاف.
وأما إذا انضبط الدليل من النص والإجماع، فإن هذا يكون دينًا لازمًا لا تجوز مخالفته؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:١١٥].
2 / 11
شرح القواعد السبع من التدمرية [٣]
الكلام في التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، أي أنه مما أخبر الله تعالى ورسوله ﷺ به، فيجب تصديقه ويحرم تكذيبه، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب الذي يجب اتباعه والعمل به، وهذان الأصلان يتضمنان توحيد العبادة وتوحيد العلم والقول، والأصل في توحيد الصفات أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وينفى عنه سبحانه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله ﷺ.
3 / 1