المقدمة
الحمد لله رب العالمين، حمدا يكافيء نعمه، ويمتري مزيد فضله، ويوجب مواد إحسانه، وصلى الله على محمد عبده ونبيه ورسوله، وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، صلاة كما هو أهله، وعلى آله وصالحي أمته، سلام الله ورحمته وبركاته، ونسأل الله عونا على الخير كله، وتوفيقا إلى رضوانه، وأن يعصمنا من الزلل والخطأ فيما نرويه ونأثره من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه، وأن يختم لنا سعادة نستحق بها اللحوق بالصالحين من عبادة برحمته وفضله اللذين وسعا كل شيء، إنه أهل ذلك ووليه.
أما بعد:
Bogga 59
فإنا كنا ذكرنا في آخر كتابنا المؤلف في جمع ما حضرنا من الأخبار في "دلائل النبوة" أن أحدا ما يؤكد الاستدلال به على صحة نبوة الأنبياء اعتدال شمائلهم، وطهارة أخلاقهم، ودوام جريهم في سيرهم ومذاهبهم في أسباب الدين والدنيا على طريقة محمودة تدل ذواتهم عليها، على أنهم أمدوا في ذلك بقوة سماوية، لخروجهم - فيما يشاهدون عليه من لزوم هذه الطريقة - عما جبل عليه البشر من تلون الأخلاق، ودخول ما يمتد استعمالهم للمحمود منها في باب التكلف الذي لا يكاد يدوم، ولا يعرى صاحبه والآخذ نفسه به من تغير يلحقه.
ووعدنا إفراد كتاب يشتمل على ما يحضرنا من شمائل نبينا عليه السلام، بعد أن لم نخل "كتاب الدلائل" من أن ختمناه بخبرين في صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وجملة من شمائله وأخلاقه، أحدهما: خبر هند بن أبي هالة، والثاني: خبر روي عن عائشة، ليكون "كتاب الدلائل" منتظما لأسبابها، وجامعا ما يحل محل الأصول والتوابع منها.
وقد عزمنا على كتب هذا الكتاب في الشمائل، ورأينا أن نقدم قبل ذكرها أخبارا في نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتاريخ مولده، ومبعثه، ومبلغ سنة أيام حياته، وفي صفة ما يحل محل الحلية من بدنه، إذ كان من تقدمنا سلكوا في تأليف الأخبار في الشمائل هذه الطريقة، فتبركنا باتباعهم رحمهم الله، ونحن نسأل الله التوفيق لإتمام ما شرعنا به، وأن ينفعنا والناظرين فيه بما رزقنا من العلم بحوده وسعة فضله.
Bogga 60
وكان وقع إلينا هذا الخبر الذي ذكرناه عن عائشة من رواية أبي بكر بن أبي خيثمة، عن شيخ له سماه صبيح بن عبد الله الفرغاني، رواه هذا الشيخ عن عبد العزيز بن عبد المطلب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وفي الخبر تفسير ما ذكر من اللغات مختلطا أحدهما بالآخر، [فاشتبه] الوجه علينا في اختلاط هذا التفسير بالحديث، وغلب على القلب أنه من عند جعفر بن محمد، إذ كان وافر الحظ في العلوم والمعارف كلها، فكتبناه في "كتاب الدلائل" على الاختلاط الذي ذكرناه، وكنا لا نشك في أن أبا بكر بن [أبي] خيثمة في محله من الدين والثقة في الرواية لم يرو هذا الخبر إلا من حيث يجوز لمثله روايته وإيداعه كتابه، إذ كان هذا الخبر مثبتا له في كتاب "التاريخ"، فتتبعنا الحقيقة، فرأينا في رواية بعض ثقات المشايخ لهذا الحديث عنه وأنه قال في صبيح بن عبد الله: "مأمون ثقة"، وقال في عبد العزيز بن عبد الصمد: "إنه شيخ لقيه صبيح هذا في طريق مكة".
Bogga 61
ثم وقع إلينا كتاب في صفة النبي عليه السلام وسيره وأخلاقه منسوب إلى أبي البختري القاضي، وهو وهب بن وهب القرشي، ألف هذا الكتاب وصدره بهذا الخبر الذي ذكرناه عن عائشة، وساق الأخبار فيما سوى هذا الخبر على طول كتابه من غير ذكر الأسانيد.
فمن الأخبار التي رواها - وضم إلى الإسناد الذي ذكرناه لخبر عائشة من جعفر بن محمد وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أسانيد منها متصل، ومنها منقطع - أضاف جملة ما اقتصه في كتابه هذا إليهم وإلى غيرهم ممن لم يذكر أسماءهم، ثم ذكر [تفسير] المشكل من خبر عائشة مضافا إلى نفسه، مفصلا في مواضعه من الخبر، فافتتح كتابه بأن قال:
عن جعفر بن محمد، عن أبيه
وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ومحمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة.
Bogga 62
وعن ابن شهاب، وابن أخي الزهري عن عمه.
وعبد الملك بن عبد العزيز، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس وأسامة بن زيد الليثي.
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك وعمر بن محمد، عمن خبره، عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
Bogga 63
وعباد بن كثير البصري، عن بعض رواة عائشة، عن عائشة.
ومحمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله وغير جابر بن عبد الله.
قال أبو البختري: وقد حدثني في ذلك رجال ثقات غير هؤلاء الذين سميت ليسوا بدونهم في الفقه والعلم، وليس كل من سميت ساق القصة كلها، ولكن ساق بعض من القصة وجها، وبعض من القصة وجها، حتى اجتمع ذلك ما وصفت في هذا الباب عنهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، في بدنه وخلائقه.
قال: فاقتصرنا في كتابنا هذا على صفة صورته وخلائقه وأفعاله.
إلى أن قال: قالوا: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن، ولا بالمشذب الذاهب.
قال أبو البختري: والمشذب: الطويل نفسه، إلا أنه الطويل المخفف.
Bogga 64
ولم يكن بالقصير المتردد، وكان ينسبه إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة. ويقول صلى الله عليه وسلم: "جعل الخير كله في الربعة".
وكان - صلى الله عليه وسلم - في لونه ليس بالأمهق.
قال أبو البختري: الأمهق: الشديد البياض، الذي يضرب بياضه إلى الشهبة.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالآدم، كان أزهر اللون.
قال أبو البختري: والأزهر هو الناصع البياض، الذي لا يشوبه حمرة ولا صفرة ولا شيء من الألوان.
Bogga 65
وكان ابن عمر رضي الله عنه كثيرا مما ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعت عمه أبي طالب إياه في لونه حين يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ..... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فيقول كل من سمعه: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال أبو البختري: وقد نعته بعض من نعته بأنه مشرب حمرة، وقد صدق من نعته بذلك، وذلك إنما كان المشرب منه حمرة ما ظهر للشمس والرياح، فقد كان بياضه قد أشرب من ذلك حمرة، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر، لا يشك فيه أحد. فمن وصفه أنه أبيض أزهر فعنى ما تحت الثياب، ومن نعت ما ضحى للشمس والرياح بأنه أزهر مشرب حمرة فقد أصاب، ولونه الذي لا يشك فيه البياض الأزهر، وإنما الحمرة من قبل الشمس والرياح.
Bogga 66
وكأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، أطيب من المسك الأذفر.
Bogga 67
وكان صلى الله عليه وسلم رجل الشعرة حسنها، ليس بالسبط ولا الجعد القطط، كان إذا مشطه بالمشط يأتي كأنه حبك الرمل، أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا صفقتها الرياح، فإذا نكته بالمرجل أخذ بعضه بعضا -والمرجل: المشط- وحلق حتى يكون متحلقا كالخواتيم، وكان أول أمره قد سدل ناصيته بين عينيه كما تسدل نواصي الخيل، ثم جاءه جبريل بالفرق، ففرق.
وكان شعره فوق حاجبه، ومنهم من قال: "كان شعره يضرب منكبه"، وأكثر ذلك أنه كان إلى شحمه أذنيه.
Bogga 68
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جعل غدائر أربعا، تخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين تكتنفانها، وتخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين تكتنفانها، فتخرج أذناه بياضهما من تلك الغدائر كأنها توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره، [وكان صلى الله عليه وسلم ربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ].
قالوا: ولقد كان توفي صلى الله عليه وسلم وما في رأسه ولا لحيته عشرون شعرة بيضاء، فقال بعضهم: لقد كان تحصى سبع عشرة بيضاء في الرأس واللحية، ما يزيد ولا ينقص، وكان أكثر شيبه الذي في الرأس في فؤادي رأسه.
Bogga 69
قال أبو البختري: والفؤادان: حرفا الفرق.
وكان أكثر شيبه الذي في لحيته حول الذقن، وكان شيبه - صلى الله عليه وسلم - كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه، وكان إذا مس ذلك الشيب بالصفرة- وكان كثيرا ما يفعل- صار كأنه خيوط الذهب يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه.
Bogga 70
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأنورهم لونا، لم يصفه واصف قط بلغتنا صفته إلا شبه القمر ليلة البدر بوجهه صلى الله عليه وسلم، ولقد كان يقول من يقول منهم: لربما نظرنا إلى القمر ليلة البدر فنقول: هو أحسن في أعيننا من القمر، أزهر اللون، وجهه يتلألأ تلألؤ القمر، يعرف رضاه وسروره بوجهه، كان إذا رضي أو سر فكأن وجهه المرأة، وكأنما الجدر تلاحك وجهه، وإذا غضب تلون وجهه واحمرت عيناه.
قال: وكانوا يقولون: هو صلى الله عليه وسلم كما وصفه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه حين يقول:
أمين مصطفى للخير يدعو ....... كضوء البدر زايله الظلام
فيقولون: كان كذلك صلى الله عليه وسلم.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرا ينشد قول زهير بن أبي سلمى حين يقول لهرم بن سنان هو:
لو كنت من شيء سوى بشر ...... كنت المضيء لليلة البدر
فيقول عمر ومن سمع ذلك: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كذلك غيره.
Bogga 71
وكذلك قالت عمته عاتكه بنت عبد المطلب بعدما سار من مكة مهاجرا، فجزعت عليه بنو هاشم، فانبعثت تقول:
أعيني جودا بالدموع السواجم ..... على المصطفى كالبدر من آل هاشم
على المرتضى للبر والعدل والتقي ..... وللدين والدنيا مقيم المعالم
على الصادق الميمون ذي الحلم والنهى .... وذي الفضل والداعي لخير التراحم
فنعتته أيضا بشبه البدر، ولقد نعتته بهذا النعت ووفقت له بما ألقى الله منه في الصدور وإنها لعلى دين قومها.
قالوا: وكان ممن نعته أيضا بشبه البدر: عمه العباس بن عبد المطلب:
Bogga 72
نصرنا رسول الله كالبدر تسعة ....... وقد فر من قد فر عنه فأقشع
جنوت عليه حين لا يجنو امرؤ ...... على بكره والموت في القوم منقع
ورجع تداني الفضل والخير خلقة ..... .... بالقنا السمر توزع
وقولي إذا ما الفضل شد بسيفه ....... على القوم ثني يا بني فيرجع
وقد صار منا عاشر ثم طائحا ....... لما مسه في الله لا يتوجع
Bogga 73
قال أبو البختري: والتسعة الذين ذكر العباس في هذا الموطن، وهو يوم حنين: العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وقيس بن مخرمة بن المطلب، وزيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، والعاشر الذي قال: "وقد صار منا عاشر" هو أيمن بن عبيد أخو بني عوف بن الخزرج، وكان أخا لأسامة بن زيد الحب من أمه، أمهما أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن هناك دخل في بني هاشم وقال فيه العباس ما قال.
وقال أبو سفيان بن الحارث ابن عمه - صلى الله عليه وسلم -:
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ....... إذا تفرقت الأشياع في الأمم
يهدي إلى الحق ميمونا نقيبته ....... يجلو بضوء سناه داجي الظلم
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين، إذا طلع جبينه من بين الشعر، أو طلع في فلق الصبح، أو عند طفل الليل، أو اطلع وجهه على الناس، تراءوا عينيه كأنه ضوء السراج المتوقد
يتلألأ، وكانوا يقولون: إنه صلى الله عليه وسلم كما قال شاعره حسان بن ثابت:
Bogga 74
متى يبد في الداجي البهيم جبينه ...... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد ....... نظاما لحق أو نكالا لملحد
قالوا: وقد كان صلى الله عليه وسلم واسع الجبهة، أزج الحاجبين سابغها
قال أبو البختري: الأزج هما الحاجبان المقوسان للذان لا تعدو شعرة منهما شعرة في النبات والاستواء من غير فرق بينهما.
Bogga 75
وكان صلى الله عليه وسلم أبلج ما بين الحاجبين، حتى كأن ما بينهما الفضة المخلصة، بينهما عرق يدره الغضب، ولا يرى ذلك العرق إلا أن يدره الغضب.
قال أبو البختري: والأبلج: النقي ما بين الحاجبين من الشعر.
وكانت عيناه صلى الله عليه نجلاوين أدعجهما.
قال أبو البختري: والنجلاء: الواسعة الحسنة. والدعج: شدة سواد الحدقة، لا يكون الدعج في شيء من الأبيض إلا في سواد الحدقة.
Bogga 76
وكان في عينه صلى الله عليه وسلم تمزج من حمرة، وكان أهدب الأشفار، حتى تكاد تلتبس من كثرتها، أقنى العرنين.
قال أبو البختري: وأقنى العرنين: المستوى الأنف من أوله إلى آخره، وهو الأشم.
وكان صلى الله عليه وسلم مفلج الأسنان أشنبها.
Bogga 77
قال أبو البختري: والشنب: أن تكون الأسنان مفرقة، فيها طرائق مثل تفرق المشط، إلا أنها [تلألأ]، حديدة الأطراف، وهو الأشر الذي يكون أسفل الأسنان، كله ماء يقطر في تفتحه ذلك وطرائقه.
وكان صلى الله عليه وسلم يتبسم عن مثل البرد المتحدر من متون الغمام، فإذا افتر ضاحكا افتر عن مثل سنا البرق إذا تلألأ.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم.
وكان صلى الله عليه سهل الخدين صلتهما.
Bogga 78