سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة
حوار بين التقليد والتجديد
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
توماس كون .. ونسبية المعرفة
جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي
ليس بالبلاغة وحدها تبنى الحضارات
غربة العلم والمستقبل في حياتنا
الأيديولوجيا والتاريخ البديل
الأيديولوجيا والوعي التاريخي الزائف
القرن الأمريكي: البداية والنهاية
سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة
حوار بين التقليد والتجديد
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
توماس كون .. ونسبية المعرفة
جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي
ليس بالبلاغة وحدها تبنى الحضارات
غربة العلم والمستقبل في حياتنا
الأيديولوجيا والتاريخ البديل
الأيديولوجيا والوعي التاريخي الزائف
القرن الأمريكي: البداية والنهاية
الشك الخلاق
الشك الخلاق
في حوار مع السلف
تأليف
شوقي جلال
سنوات العمر وحصاد الهشيم
نشأت في أحضان الحركة الوطنية لاستقلال ونهضة مصر، التي استعانت بالكفاح المسلح حينا، واستطاعت على مدى قرن من الزمان وحتى منتصف القرن العشرين أن تعيد لمصر وعيها بذاتها بعد غياب امتد قرونا بفعل قوى الكولورونالية والأمبريالية ابتداء من الفرس ومرورا بالرومان والعرب والمماليك والأتراك.
ومع انتصاف القرن العشرين شهدت مصر تحولا سياسيا قسريا يحمل ظاهريا بعض شعارات الحركة الوطنية، وإن أنكرها واستنكرها في الممارسة العملية بدلا من أن يكون امتدادا لإيجابياتها بشأن الديمقراطية ونظام حكم المؤسسات والفصل بين السلطات، وترسخ مطلب الحريات وحقوق وواجب الإنسان المصري العام في المشاركة المنظمة مؤسسيا لإدارة شئون مجتمعه وبناء مستقبله.
البداية لي مع عام 1931م .. مصر في وعي جيلي إرادة وعزم صادقان على النهوض/التحرر من الاستعمار/العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والفساد والحفاء/التحديث الاجتماعي واللحاق بالحداثة الأوروبية فنا وأدبا وعلما وإنجازات مادية (تكنولوجيا) .. ومصر قوة إنتاجية واعدة يحفظها حلم مؤسس على تاريخ حضاري سالف وواقع واعد وإن ضاقت ساحته بصراع المتناقضات، ورؤى مبشرة في المستقبل يليق بمكانة مصر .. مصر فجر الضمير والمجد الحضاري التليد.
نشأت في واقع حضاري ثوري أسهم في تأسيسه نضال أجيال ثلاث قبل جيلي، استيقظت بداية على ضوء مدافع الغرب وأفاقت وتململت تدعو وتحفز، تبشر وتنذر، واستهلت مشروع التحديث إلى أن خطت أول الطريق في عهد «محمد علي» الذي أشرت في كتبي إلى أنه كان مناسبة لا سببا .. ومن هنا مصر ثقافة جديدة .. مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقل نقدي جديد .. ثقافة الوعي بالذاتية التاريخية بعد جهود متوالية من الغزاة على مدى أكثر من ألفي عام لطمس هذه الذاتية والانسلاخ عنها .. استعادت مصر اسمها وتاريخها على يدي الأزهري رفاعة الطهطاوي، واستعادت ذاتيتها الوطنية على أيدي فلاحي مصر العسكريين أحمد عرابي ورفاقه.
تربيت مثل ما تربى جيلي على قيم الحرية والتحرير والتغيير .. ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية .. كتب من كتب «لماذا أنا ملحد» مثل أدهم، أو لماذا أنا مسلم؟ مثل عبد المتعال الصعيدي. وانتقدهما من انتقدهما دون أن يفسد النقد للود قضية .. وكانت مصر قبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب .. ولم يكن الجوار بعد ناهضا ولا مناهضا أو مزاحما .. مصر هي الكلمة ومصر هي الفعل.
وشهدت مصر التي عشتها وملأت علي وجداني وعقلي الكثير من أعلام الفكر والأدب والعلوم والفنون والرياضة .. كانوا النجوم الهادية مثل: مشرفة، الذي ذاع عنه باعتزاز مصري أنه نظير أينشتاين، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، ومختار النحات العظيم، ورءوف صروف، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وروز اليوسف، وهدى شعراوي، ومي، وسيد درويش، وداود حسني، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم .. ولمعت أسماء رياضيين دوليين في السباحة وكرة القدم والشيش .. هؤلاء وغيرهم نجوم سواطع تهدينا إلى الطريق، وتحفزنا للاقتداء بهم باسم مصر ومن أجل مصر ..
وتعلمت في مدرسة ثانوية خيرية؛ أي للفقراء، ولكن استمعت فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفا على شاشة مسرح المدرسة، وتربيت كما تربى أقراني على كتب مثل تاريخ الأديان في العالم دون حساسية أو انحياز ومجلات ثقافية مثل: مجلتي، الرسالة، الثقافة، الكتاب، الكاتب، المقتطف، والفصول .. ولن أنسى مجلة تنويرية أسبوعية ساخرة هي البعكوكة، واسعة الانتشار وأحد شخصياتها الأسبوعية الناقدة الشيخ بعجر الذي نقرأ على لسانه نقدا ساخرا للمتنطعين باسم الدين.
وشاهدت مصر الغنية بالمتاحف العلمية نهضة مواكبة من المدارس الفكرية والعلمية. جاءت نشأة جامعة القاهرة بعضا من الجهد النضالي والتحدي ضد الاستعمار، وضمت الجامعة أسماء أعلام أسهموا بجهد متميز وتاريخي: شفيق غربال، وإبراهيم حسن، وأحمد أمين، في الأدب والتراث: يوسف مراد مؤسس مدرسة علم النفس التكاملي، مصطفى زيور مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، وعبد العزيز القوصي في علم النفس التربوي .. وغيرهم وغيرهم في العلوم والفنون والآداب.
ونشطت في مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومي واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، وإذا كانت جهود الترجمة في العصر الحديث بدأت على يدي رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، فحري أن نذكر بقدر كبير من الزهو لجنة التأليف والترجمة والنشر التي رأسها أحمد أمين وقدمت ثروة من الإنجازات بالغة الأهمية بمقاييس العصر، وكانت نموذجا احتذته مجتمعات عربية أخرى. وكم شعرت بالفخار عند زيارتي للجنة التأليف والترجمة والنشر في الرباط بالمغرب، وقال لي رئيسها: إننا هنا نقتدي بمصر.
تحدد طموحي، مثل أقراني وأبناء جيلي في النضال من أجل مصر الحرة .. الواعية في اعتزاز بتاريخها .. الجادة في سعيها لبناء مجدها الحضاري العصري اعتمادا على سواعد وعقول أبنائها والعمل على إنتاج وجودها الحديث المادي والفكري إبداعا ذاتيا، وانتماء نقديا إلى العالم المتقدم .. وكان طموحي أن أكون مثل من أشربت نفسي بعلمهم وثقافتهم وقيمهم وأن أسهم إيجابيا في بناء مصر الحرة/المستقلة/المنتجة ..
وسعيت على الرغم من تعدد السبل إلى أن أكون إيجابيا في جهدي لذلك بمداومة الفكر والتفكير دون قيود غير العقل الناقد، والاطلاع على كل جديد من غير انحياز أو عقد، وأن أتابع فكر وجهود الساعين إلى ذلك من خلال التنظيمات والأحزاب .. واستطعت الانتصار على قيود ومحاذير الفقر بالاعتماد على نفسي. ولكن العقبة الأخطر في الطريق هي سنوات الاعتقال السياسي المتقطعة على فترات دون محاكمة وبلغ مجموعها اثنتي عشرة سنة، بدأت عام 1948م وحتى نهايتها 1965م. وحاولت أن أنتصر على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذع والشتائم المهينة الجارحة، ولما أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر .. مصر العقل الجديد ..
وبدأت الكتابة أول الأمر وأنا طالب بالجامعة، في سلسلة «كتابي» التي يصدرها حلمي مراد .. وأول موضوع كتبته عام 1953م بعنوان «مذكرات الولد الشقي» وهو تلخيص لمذكرات شارلس داروين. ولكنني لم أره بسبب الاعتقال.
ورأيت لكي أتجنب خيوط المنع والحظر أن أتكلم بلسان غيري مع إضافة رأيي في مقدمة وهوامش. ومن هنا اتخذت الترجمة وسيلة لكي أبدأ مشروعي «تغيير العقل المصري العربي». وصدر لي عام 1957م عن دار النديم كتابان هما: «السفر بين الكواكب» وهو أول كتاب علمي مترجم عن علوم ورحلات الفضاء، والذي صدر بمناسبة إطلاق الكلبة لايكا إلى الفضاء. والكتاب الثاني «بافلوف، حياته وأعماله» وهو أيضا أول كتاب علمي مترجم عن هذا العالم الروسي الفذ الذي كنت أعتزم أن أرصد له جهدي في دراستي الجامعية العليا. ثم انقطعت عن الكتابة والترجمة الثانية سنوات سبع بسبب الاعتقالات السياسية، وعلى الرغم من كل ما عانيته في المعتقلات تطوعت وأنا المستقل سياسيا غير المنخرط في أي تنظيم، بعد هزيمة 1967م لكي أحمل السلاح دفاعا عن بلدي مصر، ولكن جهات الأمن السياسي استدعتني وحذرتني وطالبتني صراحة: «إنت لأ .. تقعد في البيت».
وواصلت جهدي في التحدث بلسان الآخرين. وقدمت ترجمة لرواية «المسيح يصلب من جديد» تأليف نيقوس كازانتزاكيس، الذي عشقت كتاباته وشعرت بنوع من التماهي معه. وتوالت الترجمات التي لا يعنيني كميتها التي تجاوزت الستين، ولكن يعنيني أنها مختاراتي من بين قراءاتي وملتزمة جميعها بمشروعي من الانتقال إلى العقل العلمي والتحول عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل.
وبدأت التأليف في تكامل مع مشروع الترجمة. وصدر لي أول كتاب عام 1990م بعنوان «نهاية الماركسية!» وهدفي منه نقد الثقافة العربية في تعامل النص الشلاتي أو الأرثوذكسي مع الفكر العالمي، متخذا الحديث المتواتر عن سقوط الماركسية مثالا، مع فصل بعنوان «هل سقطت الليبرالية؟» وأتبعت هذا بكتاب عنوانه «التراث والتاريخ» وهو رؤيا نقدية لأخطاء ثقافية شائعة في حياتنا وحاكمة لنا عن العقيدة والموروث الثقافي وفهم التاريخ.
وصدر كتابي الثالث بعنوان «العقل الأمريكي يفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات»، وهو دراسة أكاديمية تعطي بانوراما لتطور العقل الأمريكي السائد على مدى 160 عاما ابتداء من الآباء المؤسسين لتصحيح صورة أمريكا المدعاة في حياتنا، ومجابهة الحقيقة، وأؤكد فيه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع العملي نشأة وتطورا؛ وأن الفكر هو منتج الفعل الاجتماعي في تطور جدلي مطرد، مستشهدا بتطور الفكر/الفعل الأمريكيين في مجالات الفلسفة/العلم/الآداب والفنون موثقا بنصوص لأئمة الفكر الأمريكيين.
وبلغ مجموع مؤلفاتي أربعة عشر عنوانا، آخرها «الشك الخلاق في حوار مع السلف»، وأعكف منذ سنوات على إصدار دراسة عن انتحار الحضارات .. كيف سقطت بفعل أبنائها وأولهم رجال الدين، حين تكون لهم السلطة دون العقل؛ أي لأسباب داخلية أولا وليست خارجية فقط. وذلك في ضوء ما نشاهده اليوم من جماعات تدمر وتنتحر وتنحر من حولها باسم إحياء حضارة تفككت وسقطت وتأخر تأبينها قرونا.
قضايانا الملحة عديدة ومتكاملة؛ ومن هذه القضايا التي عرضتها في كتبي:
أولا:
إعادة بناء الإنسان المصري الذي تعمد الغزاة والحكام المستبدون سلخه عن تاريخه وعن هويته. ولذلك لا تتوفر نظرية جدلية متكاملة لتاريخ مصر منذ القدم، والتي حولها صبحي وحيدة والدكتور حسين فوزي سندباد مصري، ومحمد العزب. ويلزم الإجابة على سؤال: ماذا أصاب الإنسان المصري على مدى التاريخ حتى أصبح على هذه الحال من السلبية واللامبالاة؟ حتى لا نردد ما قاله المقريزي وغيره: «قال الرخاء أنا ذاهب إلى مصر، فقال الذل وأنا معك.»
ثم إننا نعيش الآن في عصر أو حضارة الإنسان العام المشارك إيجابيا، عن علم وقدره في إدارة شئون أمته مع مسئوليته عن الإنسان والبيئة في العالم. ويتناقص هذا مع الظروف التاريخية وحياة الاستبداد والقهر التي صاغت الإنسان المصري وباتت موروثا اجتماعيا وثقافة نافذة.
وحري أن نتخلى عن الالتزام بإنجاز ما أسميه المعادلة المستحيلة؛ ألا وهي نزعة المواءمة أو الجمع بين حضارة العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي النقدي وبين الموروث الثقافي المتحجر الذي انتهى عصره . وإن أولى معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما تتجلى بداية في سقوط هيبة السلف والفكر السلفي وعبادة السلف في أذهان العامة؛ ومن ثم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمي النقدي؛ لذلك نؤكد دائما أن لا نهضة لمصر إلا بنهضة الفلاح المصري في قرى ونجوع الشمال والجنوب. هذا الفلاح هو مصر، الذي ظل يحمل على فوديه رسما نزعم سخرية أنه عصفور .. وهو حورس الحامي.
ثانيا:
اتساقا مع هذا نحن بحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين الاستبداد والإبداع .. الاستبداد يصنع روبوتا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هي صانعة الإنسان .. الحرية كما يقول فيلسوف العلم دانييل دنيت هي القوة الحافزة للتطور الخلاق للحياة منذ نشأتها حتى بلغت مرحليا أعلى صورها في صورة الجهاز العصبي للإنسان.
ثالثا:
المثقفون المصريون مسئولون أولا وأساسا عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفا تابعا للسلطة الحاكمة وقد نشأ وتربى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافة نقدية فاصلة بينه وبين ذوي السلطان - أي سلطة دينية أو سياسية أو عقائدية - لكي تتهيأ له فرصة الرؤى في عقل نقدي ينير بها الطريق إلى المستقبل.
رابعا:
سبق أن ذكرت في كتابي «أركيولوجيا العقل العربي» أن التراث الثقافي الذي عاش ممتدا في الزمان التاريخي الاجتماعي، وإن أخذ مسميات دينية لاحقة هو التراث الهرمي في مصر .. تراث هرمي مثلث المعظمات؛ لا يزال يقسم باسمه المصريون معظما ثلاثا، ويحمل هذا التراث صفات وخصائص البيئة والذهنية المصرية، وأراه تراث تحوت أو توت رب الحكمة والقلم في الديانة المصرية وإن حمل حينا اسما إغريقيا .. وأرى أن هذا التراث الحاكم للثقافة الشعبية السائدة التي امتدت مع حالة الركود الاجتماعي قرونا. وهذه الثقافة التي تصوغ ذهنية المصري هي التي تجهض إرادة وفعالية الإنسان لحساب قوة مفارقة لها القدسية والفعالية.
ويستلزم هذا تحولا حقيقيا وموضوعيا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير .. من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة. وهذا هو ما سينقلنا طبيعيا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي .. الحركة مع التناقض .. الفعالية بين النحن والآخر .. الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام؛ دائنا التاريخي؟ إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضين؛ إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدل مشترك مطرد لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضين «نحن والآخر»، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر؛ ولهذا نشأ الحوار الذي هو صراع في إطار الوحدة، أو حركة في إطار التناقض .. إن الصورة لا تكتمل ولا نفهمها إلا في دلالاتها الحركية؛ أي وجود النقيضين وإلا بدت مواتا .. وهل الحياة إلا حركة بين نقائض؟
ويكتمل ما سبق بالحديث عما اصطلحنا على تسميته أزمة الترجمة في العالم العربي. وسبق أن تناولت هذا تفصيلا في ضوء إحصاءات ذات دلالة سواء في كتابي «الترجمة في العالم العربي» أو في تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة 2003م. وتؤكد الدراسة أن الترجمة متدنية أشد التدني، وطالبنا بما سبق أن طالب به عميد الأدب العربي طه حسين من إنشاء مؤسسة عربية للترجمة. ولكن على الرغم من محاولات الإنقاذ وستر العورة وإنشاء مراكز ترجمة في عدد من البلاد العربية، مع رصد أموال ضخمة في بلدان الخليج إلا أنها تؤكد جميعا تشتت الجهود دون هدف استراتيجي جامع واضح مشترك.
وهذا ما أكده أيضا التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية؛ إذ أوضح تقرير عام 2007م أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي المتطرف. وأشار إلى أن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم وعن الاهتمام بالقراءة وبالبحث.
والرأي عندي أن واقع حال الترجمة، بعيدا عن الشكليات والأرقام الصماء، ليس أزمة بل هو موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة والإبداع. والتجديد قرين الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود الذاتي. ولا يستقيم الحديث عن الترجمة دون الحديث عن الفعل الإبداعي المجتمعي والفضول المعرفي .. الفعل والفكر الاجتماعيان في اقتران جدلي تطوري .. وهذا غير وارد في ثقافتنا، ثقافة الإقصاء والاكتفاء الذاتي بالموروث .. ولا يستقيم كذلك دون الحديث عن الإنسان، وتغيير الواقع بإرادة ذاتية، وبالانخراط كقوة فاعلة إيجابيا في الفعل والفكر العالميين؛ أي الانخراط في الحداثة إبداعا ذاتيا تكامليا في تطور مرحلي .. أعني الوحدة مع الصراع في العالم الحديث؛ فهذا شرط التغيير الجذري الحضاري نحو واقع مصري يبدعه الإنسان المصري ..
والآن وقد تجاوزت التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظرة مودع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحو غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث. مصر لم تعد مجتمعا بل تجمعا سكنيا. وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعا سكنيا لغرائز منفلتة .. أفتقد مصر الحلم الحافز/مصر الوعي الموحد تاريخيا/مصر الوطن والمواطنة/مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية .. مصر المستقبل .. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب ..
ولكن تحت الرماد جذوة نار قد تتأجج ويشتد لهيبها .. ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل .. هكذا علمنا التاريخ .. ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.
شوقي جلال
إهداء
إلى كل من تؤرقهم هموم واقع مهيض، وغربة الزمان، وخوف من ضياع الوطن ..
وإلى كل من يسوءهم العيش في زمان بلا تاريخ؛ فالتاريخ فعالية التغيير بإرادة الذات الجمعية وليس بالوكالة ..
وإلى من يؤمنون بأن الهوية الثقافية فعالية إبداعية متجددة دوما، ويحفزهم الطموح إلى التساؤل والشك والبحث العقلاني عن طريق النهوض إبداعا وتجديدا ذاتيا للفكر والعمل، وإيمانا بشمولية حضارة الإنسان على صعيد كوكبي ..
إلى من لا يقنعون بالبقاء؛ وإنما ينشدون الوجود؛ فالبقاء اطراد عشوائي، والوجود مشروع إرادي ذاتي، وإنجاز عملا وفكرا ..
شوقي جلال
القاهرة 2013م
مقدمة
«اليقين وسادة الكسالى.»
مونتيني: مفكر فرنسي 1650م «اليقين وسادة الكسالى» مقولة المفكر الفرنسي مونتيني في القرن ال 16 التي بشر بها وأطلقها دعوة لإفاقة أوروبا من سباتها الذي عاشته قرونا أسيرة يقين برعاية الكنيسة ورجال الدين .. يقين أقال العقل، وأعاق الحركة نحو التغيير؛ إذ اليقين استسلام. ومن ثم فقد كانت مقولته أشبه بنوبة صحيان عند الجيش؛ أو لنقل دعوة للاستيقاظ والعمل الجاد والتفكير النقدي في واقع الحال لعقد العزم على الخطو قدما إلى مستقبل جديد يبنيه أبناء أوروبا بفكرهم وإرادتهم وتفاعلهم بعد قطيعة معرفية مع فترة الجمود واليقين.. أي دعوة إلى تفعيل إرادة التغيير .. لكي يستعيد الأوروبي إنسانيته كائنا فاعلا مبدعا يعيش لحاضره ومستقبله لا لماض ولى.
ذلك أن الإنسان العاقل المبدع والمجدد هو من يشك ويتساءل ويعمل. ولهذا ليس غريبا أن نقرأ للفيلسوف والعالم «دانييل دانيت» قوله: «النوع الإنساني هو من اكتشف الشك؛ يتساءل عن المستقبل .. يراجع تقديراته وحساباته .. ويدفعنا الشك إلى البحث عن علاج .. عن التماس وسيلة للحقيقة .. لهذا اخترعنا الثقافة.»
والإنسان الحكيم هو من لا يعتبر موروثه التاريخي معطى مسلما به لا يأتيه الباطل أبدا؛ وذخيرته إلى الأبد أيا كان الزمان والمكان؛ بل يراه خطابا لأهل زمانه، قابلا للنقد والتصويب والإضافة الإبداعية؛ ليكون عونا ودعما للحركة على طريق المستقبل، ولا يعتبر أمر حاضره موكولا لإرادة خارجة عن ذاته. والإنسان الحكيم هو من يعتبر الحاضر والمستقبل شأنه هو، صناعته هو، بإرادته الفاعلة وفكره النقدي المبرأ من كل صور الانحياز لأية سلطة خارج سلطة العقل العلمي.
نعم إنه يعود إلى ذاته التي هي امتداد تاريخي جدلي، يعود بفكره النقدي إلى أعماق الذات والتاريخ لا لكي يستقر مع الماضي، ولا لكي يناجي السلف؛ وإنما لأن الرؤية النقدية للماضي استزادة معرفية تعزز مع معرفة الحاضر الحركة إلى المستقبل واستكشاف كيف آل حاله إلى ما هو عليه إيجابا وسلبا؛ إذ خبرات الماضي دالة على الفعل والفكر في التطبيق وجودا وعدما.
ومن ثم فإن الدراسة العلمية النقدية لمسيرة التاريخ مرورا إلى الحاضر واستشرافا للمستقبل هي شك وبحث وتساؤل عن كيف نبني عقلا جديدا يدعم المسيرة الحضارية، ويحفز إلى النهوض تأسيسا على منطق الواقع دون تهويم أو تخبيل نحلق معه في الفراغ .. حتى لا تمضي القرون كما هي حالنا الآن، ونحن ندور في حلقة مفرغة.
هذه الدائرة الخبيثة المفرغة، التي يشهد عليها واقع تحجر مع الفشل والتأزم هي التي توجب على الإنسان الحكيم أن يحاسب نفسه، وأداته الشك فيما اطمأن إليه خطأ، وبالسؤال عن نفسه وعن قومه وموروثه الفكري؛ أعني مسئولية هذا كله عن حالة الركود والفشل: لماذا غاب العقل والإرادة والفعل المجتمعي عن الإنجاز والمنافسة حتى أصبحنا فريسة سهلة لكل طامع؟
عشنا قرونا أسرى يقين عزز الكسل والتواكل، وشل الفكر إلا عن ترديد أقوال السلف، أو ثرثرة في ترهات وخزعبلات، وغياب مشترك لكل من العقل أو الفعل والواقع والفكر. عقلنا الذي نحتكم إليه هو عقل الماضي بينما الواقع الذي نعيشه تجاوز الماضي وفارق عقل السلف.
إن قوام الوجود الاجتماعي الناهض هو تزامن هذه العناصر الأربعة: العقل، الفعل، الفكر، الواقع؛ أي أن يجري تفاعلها الجدلي معا في إطار زماني مشترك ودينامي لضمان أهلية الحركة إلى المستقبل. ومع نظرة الشك المنهجي لفاعلية هذه العناصر يتجه العقل إلى نقد الموروث؛ أي نقد ذاته أو لنقل نقد محتواه أو برنامجه «السوفت وير» الذي اغتذى عليه في نشأته، واكتشاف نقاط الخلل والاختلال والمفارقة، واستبيان أسباب وعوامل القصور والاغتراب والعجز. عن تفسير ظواهر الواقع ظنا - والظن هنا إثم - أن التفسير كامن في خطاب السلف.
إذا تأملنا حياة الأشخاص والمجتمعات نجد أنها عند التهيؤ للتغيير أو النهضة يعود الإنسان/المجتمع إلى الاستعانة بالشك، يراجع جهده وواقعه الفكري والعملي ويرده الشك إلى الواقع إذا كان يفكر في ضوء مقالات طواها التاريخ، ويبين له أن السابق قد مضى زمانه معرفيا وأن ارتباطنا به نسب تاريخي، أن السابق الموسوم بالجاهلية، ليس عماء مطلقا وإنما فقد صلاحيته المرحلية؛ إذ لا شيء أبدي مطلق.
تتلمذت البشرية عصورا على أيادي عرافين وكهنة ورجال دين يلقنون الناس ما سموه الفضائل الذهبية: اليقين أم الفضائل والشك رذيلة، الطاعة فضيلة بينما الخروج عن السياق العام رذيلة، والإبداع من أشر الأمور؛ فالمحدث بدعة .. وتعطل الفكر والفعل على السواء .. وكما يقول ابن خلدون: «حيث لا يتقدم العلم، ولا تتقدم المعرفة فإنهما يتراجعان حكما.» ولم نصنع تاريخا إلا غيرنا واقعنا بإرادتنا؛ لأن التاريخ ليس امتدادا زمنيا فارغا، بل التاريخ تغيير وتجديد .. وبقي لنا الموروث المتراجع، اكتفينا به وانكفأنا عليه . وظننا البقاء على قيد الحياة هو الوجود المنشود حتى وإن عشنا عالة على الآخر، بينما الوجود مشروع يتحقق بفضل الإرادة والفعل والفكر.
ويعيش مجتمع اليقين على التلقين، تلقين واستظهار الموروث، ويؤكد أن الحاكم هو الأمير الراعي، له الأمر، والناس رعية عليها الطاعة، ولا يعرف معنى الشعب مصدرا للسلطات وله حق المشاركة في إدارة شئون البلاد .. إنه المجتمع الأبوي. ثم إن اليقين قناعة بكلمة الراعي وبالموروث؛ فهما مصدر العلم النافع؛ ومن ثم الكف عن السعي إلى معرفة وإبداع جديدين، وتسود قاعدة العزوف عن المعرفة المستحدثة. ومجتمع اليقين والتلقين والطاعة لا يعرف «رذيلة» الحرية والديمقراطية وهما أساس الدولة العصرية؛ ولهذا لا غرابة في أن يردد البعض أن الدولة المدنية كفر صريح.
إذا تأملنا شعوب العالم عند عقد العزم على النهوض من كبوتها كيف استهلت مسيرتها بالشك/النقد/التنوير، مع قراءة كتاب الحاضر وتحدياته. وحشد الجهود فكرا وعملا لإنجاز طموحاتها .. الشك المنهجي الخلاق في الموروث؛ أي عدة العقل وأداته، واستعادة إبداعية لما يدعم حركة المجتمع. هكذا أوروبا في عصر التنوير الذي هو عصر الخروج من جاهلية العصور الوسطى وتجاوز موروث فقد صلاحيته، وتمهيد الطريق للعقل العلمي. وهكذا اليابان والصين وغيرهما، نجد في اليابان مفكرا مثل «توميتاجا-ناكاموتو» يطبق منهج النزعة النقدية التاريخية في دراسة الدين، وكشف عن جوهر الصراع على السلطة باسم الدين. وهناك من قال: «محاولة شفاء الروماتيزم بقرع الطبل، سيهلك الطبل دون أن يشفى المريض» وقال «ميورا باين»: «المعرفة الصحيحة مصدرها الطبيعة لا كتب السلف.» وشهدت اليابان مثلما شهدت الصين صراعا بين سلفيين ومحدثين وانتهوا إلى ما سموه «عصر العقل والواقع».
فهل آن الأوان ونحن نتطلع إلى العالم الذي سبقنا بمراحل، ونأمل في الانتماء إلى حضارة العصر بجهدنا وفكرنا أن نعيد للشك اعتباره، وللعقل العلمي الناقد دوره، وللعقل الحضاري قدره وأولويته .. قد يستلزم التنوير المنشود مراجعة المفاهيم السائدة في ثقافتنا التي تصوغ منهجنا وسلوكنا في الحياة وثبت انتهاء فترة صلاحيتها لعجزها عن حل مشكلاتنا. وطبيعي أن يمتد نطاق البحث ليشمل مفاهيم أو منهج التدين لا الدين؛ أعني الطريقة التي اعتاد عليها البعض لإظهار أنهم سدنة الدين فقتلوا الدين بمعناه الحضاري وأحيوا التخلف؛ ومن ثم ندرك أن التدين غير الدين في براءته وصفائه وشفافيته. ولكن المتنطعين غرقوا من المظاهر والادعاء بأنهم أفهم للدين .. وليس من حق أحد أن يقول أنا الدين. إن مشكلات الحياة تقتضي إعمال عقل واجتهاد إبداعيين حتى لا تكون كارثة باسم الدين.
حوار بين التقليد والتجديد
«اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيما.»
كونفوشيوس: الحكيم الصيني الأبرز في القرن السادس ق.م.
الحوار مع الآخر يعني في نظرنا حوارا مع آخر مغاير قوميا وثقافيا واجتماعيا وفكريا .. إلخ، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك دائما؛ إذ قد يكون الآخر هو الذات نفسها، تاريخا وثقافة وأداء .. ذلك أن الذات المجتمعية عملية لها وجودها التاريخي متعدد المراحل، في تفاعل حيوي مع الواقع والسياق المحلي والإقليمي والعالمي، تفاعل بين ثقافات واقتصاد وعلاقات، بل وقوى قسر وهيمنة. إنها الذات كامتداد تاريخي فاعل أو كما نسميه امتدادا أو فعلا حضاريا وليست هي كامتداد معرفي ثقافي، ذلك لأن الثقافة والمعرفة كلتيهما منتج العقل الحضاري المتطور زمانا ومكانا. ومن هنا يمكن وصف الذات المجتمعية بأنها موقف وخطاب أو محصلة موقف.
لذلك فإن الذات المجتمعية في وضعها الأمثل فاعلة مؤثرة ومتفاعلة؛ ومن ثم متغيرة في تطور تكاملي. ويجري الحوار دائما كنوع من المونولوج بين واقع راهن له مقتضياته من حيث الفعل الإبداعي والمنتج المعرفي والثقافي وبين الذات المجتمعية في حاضرها وموروثها، بين ضرورات الانطلاق من قيود ومحددات حضارة الماضي إلى قيود ومحددات حضارة جديدة. إنه حوار بين السابق والراهن وصولا إلى مستقبل لاحق رهن الوعي والإدراك والإنجاز الإبداعي. إنه فعل التكيف والمواكبة حفاظا على البقاء وتأكيدا لدينامية الوجود، وخوفا من الجمود والركود الذي يعني العيش بغير زمن أو تاريخ؛ حيث الزمن والتاريخ هما الفعالية المجتمعية الإبداعية.
هنا تواجه الذات نفسها وتدخل في توتر بين السكون والتغيير، بين إيثار الحاضر المألوف أو تأكيد قوة الدفع للتجديد في مواكبة وتحد ومنافسة مع ماضيها وواقعها ومع سياقها الإقليمي والعالمي، وهو سياق متغير أبدا ويفرض تحديات جديدة باطراد.
ويتلخص هذا المشهد في عبارة التفاعل الثقافي المتوتر على أصعدة متباينة ومحتويات متنوعة، حوار بين ثقافة الماضي التي ترسخت مرحليا ولفترة من الزمن ونسميها التقليد، وثقافة جديدة هي وليدة فعل مجتمعي ابتكاري جديد، ووعي بتحديات السياق الإقليمي والعالمي. وأن ما نشير إليه باعتباره حوارا مع الذات ماضيها وحاضرها ورؤيتها للمستقبل هو ما نعنيه بالحوار بين التقليد والتجديد، وهو حوار مطرد ومتصل أبدا مع اطراد فعالية المجتمع، ولا ينقطع ويتوقف إلا حين يصاب المجتمع بداء الركود ومن ثم التخلف. ويعني الحوار بين التقليد والتجديد أيضا مراجعة الذات لنفسها، لحصادها ومتاعها الموروث ومدى ملاءمته ليكون قوة دفع على طريق التغيير والتكيف الحضاري والبناء في ضوء فهم عقلاني نقدي للذات. إذن الموروث من حيث هو وعاء ثقافي يشبه المياه الجوفية المتجددة أبدا بفضل الفعل الإبداعي المتجدد أبدا، وليس ينبوعا محدودا جف عطاؤه مع جمود أصحابه.
لذلك فإن الحوار بين التقليد والتجديد ليس قاصرا على مرحلة تاريخية بعينها ولا ثقافة تقليدية بذاتها، وإنما هو مبدأ مطرد. وليس غريبا أن تنبه الفقهاء والحكماء من السلف في عصور النهضة والتغيير الإبداعي إلى هذه الحقيقة وعمدوا إلى تأكيدها وإن نسيها الخلف في عصور الردة والتخلف. مثال ذلك أن قال الفقهاء قديما: «النص متناه، وقضايا الحياة نهر دافق غير متناه»، وهو ما يعني توترا مطردا بين حرفية النص ودينامية الحياة. وتتمثل حكمة هذا القول في استحالة حصر الحياة وقضاياها داخل إطار نص نظنه قابلا للصدق في كل زمان ومكان. وبديهي أن حصر قضايا الحياة في نص مضى زمانه، أو نص غريب عن مكانه، ينطوي على تناقض مع طبيعة الحياة، ويمثل محاولة عقيمة لفرض الجمود على الحركة. وطبيعي أن الجمود أو الالتزام بحرفية الموروث وأبديته في سياق التفاعل داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات إنما يعني شللا محليا .. شلل في الفكر وشلل لفعالية الإنسان/المجتمع؛ وبالتالي العجز الكامل عن التكيف وعن مواكبة التغيير ؛ مما يفضي بالمجتمع إلى تسليم أو لنقل الاستسلام للآخر القادر على التطوير المطرد.
ولعل من المفيد أن أوضح قبل الاستطراد أن فكرة العودة إلى الموروث الأصيل لها ما يبررها أثناء الاستعمار ومعركة الاستقلال؛ إذ إن الغازي عادة يسعى إلى تجريد المجتمع من ثقافته/هويته؛ لذا فإن دعامة المقاومة كردة فعل هي الحفاظ على الأصل والتشبث به وتأكيد الذات المستقلة .. إنه الأنا القومي الوطني الثقافي .. وثقافة الاستعمار هي الآخر العدو. ولكن ثقافة الاستعمار تحمل ضمنا دلالة مكانة وامتياز؛ لأنها ثقافة التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يفتقر إليه البلد الثائر. وهنا نجد الموقف من ثقافة الاستعمار موقفا ينطوي على نقيضين: رفض وقبول؛ ولهذا يخطئ البلد الذي يقف عند غاية قوامها الرفض فقط والعودة إلى الأصل، وإنما يتكامل مع الرفض موقف هو حشد القوى المعنوية والمادية للمجتمع من أجل التطوير والنهضة والتقدم واستيعاب روح العصر، وهي اليوم العلم والتكنولوجيا.
لذلك نقول: اتصف عصر الاستعمار وما بعد الاستعمار بأنه عصر المواجهات الثقافية بين الموروث والوافد، وعصر المراجعة النقدية المنهجية للموروث والمستحدث محليا وعالميا في ضوء مقتضيات التطوير. وتباينت مواقف الشعوب في تعاملها مع الجانبين. تولدت لدى بعض البلدان روح المراجعة النقدية قبولا ورفضا إزاء الوافد والموروث لتأكيد الذات في سعيها لإعادة بناء نفسها وتعبئة قواها لمواجهة تحديات النهضة والتقدم، ورأى هذا الفريق أن الهوية عملية أو فعل تاريخي يكتمل مرحليا بفضل الفعالية. وتولدت لدى البعض الآخر روح الانطواء والانكفاء أو لنقل الانتصار للموروث عبر الهرب من المواجهة .. والانتصار للماضي عبر الهرب من المستقبل أو على حساب المستقبل. ونلحظ أن هذه الشعوب أكدت ذاتها بالابتعاد عن فعل التحدي القائم على النهضة والتطوير وتوطين روح وأسس وقواعد وإمكانات العلم والتكنولوجيا وإن قنعت بالتحدي كلاما ومفاخرة انطلاقا وتأسيسا على إنجازات ومفاخر الماضي. ورأى هذا الفريق أن الهوية جوهر كامل، اكتمل في مرحلة ما هي مرحلة أيديولوجية تعود إلى الماضي. وينطوي هذا المذهب على نفي للفعالية ، فعالية الإنسان المطردة والمتصلة في تطور ارتقائي على مدى مراحل التاريخ، وينطوي على نفي لمؤثرات السياق الاجتماعي أو البيئة المحلية أو العالمية.
ويزداد توتر الجدل بين الموروث والمستحدث حدة وخطرا حين يحمل الموروث - اعتسافا - صفة المقدس لفرض الالتزام القسري بالنص وتعميم تأويلاته في شئون وقضايا الحياة المتغيرة بطبيعتها. ويسود وهم المطابقة أو الخلط بين ما هو من شئون الدين (العبادات) وما هو من شئون الفعل الحياتي المنوط بالعقل العلماني؛ أي التفكير عقلا في شئون الدنيا.
ولقد عاشت شعوب في ثقافة لها قوة دمج طاغية ومتماهية مع الدلالة الدينية والقيم الأخلاقية باسم التراث الديني الذي يتسع خطأ ليشمل السياسي والاقتصادي .. إلخ، ويمثل محتوى الوعي الاجتماعي أو أيديولوجيا معنى الحياة. وهذا هو حال الشعوب التي تعثرت خطاها على طريق النهضة وإن علا صوتها باسم المقدس، فظلموا المقدس وظلموا أنفسهم وعاشوا خارج الزمان، بل وبغير مكان؛ إذ أصبحت بلادهم قسمة بين أصحاب القوة والنفوذ.
نجد هذا واضحا جليا في تجارب الشعوب شرقا وغربا، حاضرا وماضيا .. هكذا كانت أوروبا على مدى مرحلة امتدت بضع قرون.
وجدير بالذكر أن الصراع بين التقليد والتجديد امتد طويلا باسم المقدس في أوروبا قبل النهضة وما بعدها. ومن ذلك مثلا الصراع حول استثمار المال بالوكالة؛ أي حق إيداع مال بفائدة الاستثمار لصالح صاحبه، وهي الفائدة التي اصطلح فقهاء المسيحية على أنها ربا وأن الربا حرام. وهذه قضية تشبه تماما الصراع السجالي داخل المجتمعات الإسلامية على مدى أكثر من قرنين دون حسم. أصر كبار رجال الكنيسة في تحالف مع رجال الإقطاع وملاك الأراضي في أوروبا على تحريم استثمار المال بالوكالة مقابل فائدة باعتبارها ربا. وحدث هذا وقت ذروة النشاط التجاري بين آسيا وأوروبا عبر المنطقة الإسلامية. ونشط اليهود وأصبحوا هم ملوك الصيارفة واستثمروا التحريم المسيحي واستحوذوا على الأموال والتمويل. وأحس نشطاء المسيحيين بالخطر، وأن موقف الحرفيين الجامدين من فقهاء الكنيسة ورجال الإقطاع إنما يستهدف مصالحهم هم المالية ويعيق أوروبا عن التقدم على طريق النهضة البازغة. وانبثق عن الصراع ورواد العلمانية رجال دين تطهيريون هم قادة المذهب البروتستانتي، وتقدموا بتأويل جديد يجيز استثمار المال بالوكالة وقرنوا ذلك بتفسيرات جديدة عن علاقة المال بالعمل والزمن مما يبيح لصاحب المال حق الاستثمار بفائدة. ومن عجب أنهم اعتمدوا هنا على تفسير إسلامي سبق أن قدمه ابن رشد في الأندلس في فصل «القراض» من كتابه «بداية المجتهد»؛ بما يعني أن العلمانية التي قرنها بعض الإسلامويين خطأ بالكفر إنما عادت على أيدي رجال دين تطهريين متشددين وأن مرجعيتها إسلامية.
وشهدت اليابان كما شهدت الصين من بعدها صراعا وسجالا نظريا، كاد أن يصل إلى حد الاقتتال بين التقليد والتجديد. وحفز إليه في كل مرة، مثلما حدث في أوروبا، توفر مقتضيات تطوير المجتمع على طريق الرأسمالية الصناعية. وصل الصراع إلى حد تكفير من يخالف النص في أبسط شئون الحياة الدنيا؛ كأن يتناول طعامه بغير العصى التقليدية.
وظهر من قال: «لقد جفت ينابيع التقليد.» وقال المصلح الاجتماعي «طاي تشن» في القرن 18 في الصين مثلا: «كتب التقليد لا طائل منها ما لم تعالج أمراض المجتمع.» وراج تساؤل: «أيهما أحب إليك، كونفوشيوس أم الحقيقة؟» واصطلحوا أخيرا على إجابة مشتركة: «كان كونفوشيوس محبا للحقيقة ساعيا إليها؛ ومن ثم حيث الحقيقة يكون كونفوشيوس.» وأعادوا إلى الحياة مقولة كونفوشيوس: «اعرف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو حكيما.» وأخذت اليابان - كما أخذت الصين - سبيلها إلى النهوض في إطار تجديد للفكر التقليدي، وظهرت تأويلات جديدة مناسبة للعصر ودافعة لحركة التقدم.
وطبيعي أننا لسنا استثناء من القاعدة، فإن الحوار بين التقليد والتجديد مستمر أبدا يجري عنيفا صاخبا حينا خاصة في فترات عقد العزم على النهوض؛ ونراه يصمت أحيانا أو تخرسه قوى التقليد بحكم سطوة تحالف السياسة والموروث معا وغياب العقل النقدي قرين قوة الدفع الاجتماعي للنهوض. وتدافع قوى التقليد عن مكانها ومكانتها بإدانة محاولات النهوض محتمية زيفا بعباءة النص والإجماع والتزام الأصولية ورفض الآخر .. تعلن قدسية النص ووجوب الالتزام بما اصطلح على تسميته إجماع الفقهاء.
وينبري بين الحين والآخر من يتحدث باسم الإسلام كأن يقول: أنت تسأل والإسلام يجيب. ونسي هؤلاء أو تناسوا: أولا، ليس من حق أحد أبدا أن يقول: «أنا الإسلام»؛ ذلك أن الوحيد صاحب هذا الحق تاريخيا كان الرسول. ولتكن لهؤلاء أسوة في «علي بن أبي طالب» الذي قال: «القرآن حمال أوجه.» لذلك أحرى بهم أن يقول كل منهم «أفهم الإسلام هكذا».
والفهم له قواعده وقوانينه وحدوده وملابساته .. وحيث المصلحة مصلحة المجتمع، فثم شرع الله .. والمصالح متباينة ومتطورة. ثانيا، حجة الإجماع صحيحة في زمانها ومكانها. إن الإجماع إجماع بشر هم فقهاء عصرهم، لهم قضاياهم ومشكلاتهم، اجتهدوا لها سواء أصابوا أم أخطئوا. وليس صحيحا أبدا أن ينسحب إجماع زمان ما أو مكان ما ليفرض صدقه زيفا على كل زمان ومكان؛ فهذا نقيض منطق الحياة. وأحرى بنا أن نقول: «نحن فقهاء عصرنا». إن الاحتماء بالمقدس دفاعا عن مصالح أنانية لطائفة أو شريحة دون المجتمع ظلم للدين وللمجتمع. ومثل هؤلاء يتحملون وزر إعاقة حركة تطوير المجتمع وتعطيل قدرته على التحدي. وإن واقع حياتنا شاهد على ذلك.
الدين وحق المجتمع في التطوير
نحن نؤمن بأن الأديان نشأت لخير البشرية، بمعنى تنظيم المجتمعات في عصرها تأسيسا على قيم تشكل قاعدة ثقافية للسلوك الإنساني على نحو يكفل تماسك النسيج الاجتماعي ويؤمن حركة المجتمع واطراد بقائه. ونؤمن كذلك بأن النص الديني، كما يقول الفقهاء، نص متناه، وأن نص الحياة، أو لنقل نهر أحداث ووقائع الحياة، غير متناه؛ فهناك الجديد والمتنوع والمتعدد دائما الذي يقتضي وجوبا إعمال العقل العصري فيما يختص بشئون الدنيا دون إخلال بقيم إنسانية راسخة ومتعارف عليها بين جميع الأديان.
ويتجلى هذا الجديد المتنوع والمتعدد في العلاقات والتنظيمات الاجتماعية وفي المؤسسات ومحتوى وشروط ونطاق مصطلحات متطورة مثل العدالة والحكم والولاية والسلطة والمرجعية الحاكمة والإنسان ودوره، وطبيعة التنظيم الاقتصادي والسياسي والعلمي .. إلخ، وأن هذا الجديد كله يلتقي مع الأديان في الهدف تأسيسا على القيم الإنسانية، وهي خير الناس وخير المجتمع؛ مما يكفل لهم - حسب منطق كل عصر - إمكانية الترقي والنهضة والانتصار على التحديات وبناء مجتمع عادل تنتفي فيه المظالم.
والنص الديني لا يصادر حق المجتمع في تطوير نفسه وإبداع إطاره الفكري، وانتخاب آلياته ، واختيار الشكل الأمثل والأنسب لتنظيم العلاقات بين الناس وتحديد معنى الإنسان وهويته ودوره، وهي معان وأدوار متغيرة متطورة دوما.
حق المواطنة
قديما كانت العشيرة أو الأسرة الكبيرة أو القبيلة هي الأمة ووحدة البناء الاجتماعي، وكان بقاؤها يعتمد على التجانس والتلاحم على أساس رابطة الدم أو العرق أو العقيدة؛ ولهذا يصدعها ويفسد وجودها خروج الفرد على رأي الجماعة؛ ومن ثم تعتبره فاسقا مارقا، وتنظر إلى التمايز والتنوع نظرة تجريم وتحريم. ومثل هذه البنية الصغيرة تتلاءم من حيث شكل السلطة الفردية والعلاقات الاجتماعية مع طبيعة الإنتاج في العصور القديمة. ولكن المجتمعات تطورت وتغيرت وانتقلت عبر مراحل من القبيلة إلى الأمة المدنية ثم إلى الأمة القومية، إلى الوطن الذي ضم جماعات متباينة ربما في العرق أو الدين أو الجنس .. إلخ. وأضحت بنية الأمة القومية؛ الدولة في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، وحدة ضمن وجود شبكي عالمي شديد التعقد والتداخل من حيث طبيعة النظم والمؤسسات والاعتمادية المتبادلة، واقتضى هذا إطارا فكريا جديدا تتعامل الإنسانية على هديه ويختلف جذريا عن جميع الأطر الفكرية التي سادت منذ نصف قرن ناهيك عن أطر فكرية مضت عليها قرون.
وأصبح الناس جميعا سواء من حيث المواطنة القومية والعالمية، ومن حيث الدور والواجب والمسئولية. وتجد المساواة تعبيرها الواضح في مشاركة الجميع دون تفرقة على أساس من دين أو عرق أو جنس في الإسهام الحضاري في تنظيم المجتمع والانتماء إلى مؤسساته على اختلاف التراتيبات الهرمية في المجتمع، وأيضا في تحمل مسئولية هذا التنظيم. والناس جميعا، على قدم المساواة، شركاء في السعي العقلاني لتأكيد الذاتية الاجتماعية الواحدة والمتلاحمة في إطار التنافس على الصعيد القومي والإقليمي والعالمي، وفي إطار استثمار مصادر الطبيعة وبناء الثروة الاجتماعية والانتفاع بها.. وإن هذا واجب وحق مشترك للجميع كمواطنين دون تفرقة على أساس غير أساس صدق المواطنة وكفاءة الأداء. وحق/واجب المواطنة يعني أن الناس جميعا على قدم المساواة في الاختيار الحر للسلطات دون تمييز أو تفرقة، وأنهم بحريتهم واختيارهم شركاء ورقباء؛ فاختيارهم ليس بيعة وإنما عهد ومسئولية ورقابة ومحاسبة.
ولكن نسمع من يتحدث عن الدين الإسلامي والمساواة بين المصريين أو أبناء المجتمع مسلمين ومسيحيين.. إلخ، ونراه يلجأ أولا إلى كلمات وعبارات قالها العرب عند دخولهم غزاة لبلدان حضارات وأديان أخرى؛ إذ اعتادوا وصف أبناء هذه المجتمعات ممن لم يدينوا بالإسلام بأنهم ذميون. وينسى أن المواطنة ليست منحة أو منة يتكرم فريق من أبناء المجتمع أو فريق وافد إلى المجتمع، بمنحها أو إغداقها على فريق آخر، وينسى أن مقولة «أهل الذمة» أضحت في ذمة التاريخ بإيجابياتها - إن وجدت - وسلبياتها أو مبرراتها. ويتناسى أن أحد قادة الإسلامويين أعلن صراحة منذ عهد قريب أن أقباط مصر - وهم مصريون أصلاء وليسوا وافدين - ليس لهم مكان داخل جيش مصر!
ويتناسى المتحدث أن عديدين من المصريين الأكفاء لا يجدون سبيلا لشغل مناصب قيادية بسبب الانتماء الديني! فهل يستقيم هذا مثلا مع مقولة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» التي يسوقها البعض للإشارة إلى الموقف الديمقراطي للإسلامويين؟ وهل تعني أن المواطنين أمام القانون سواء .. وإن كانت قد صدرت في زمن وفي مجتمع لا يعرف الدستور والقانون؟! أي هل يستقيم المعنى التاريخي بظروفه مع حق المواطنة بالمعنى العلمي والذي لا يمس قواعد وقيم الدين، بل يؤسس قاعدة دينية هي أن يكون المجتمع بنية متراصة متماسكة لخير المجموع ولمواجهة عدو مشترك هو التخلف الذي جعل أرضنا مستباحة لإسرائيل، وجعل بلدنا ذليلة في يد طاغية مستبد، وأفضى إلى الحال التي نعاني منها حتى أصبحت «أمة الإسلام» أمثولة للتخلف بين شعوب العالم بسبب الإصرار على مقولات مثل تلك التي يرددها البعض باسم الدين، والدين الحق منها براء.
وهل يقبل مثل هذا المتحدث أن يعامل المسلمون في فرنسا أو إنجلترا أو غيرها على أساس منهج التعامل مع أهل الذمة؟ إنه سيدافع وسيدفع بحجج علمانية يرفض هو وإخوانه سماعها على ألسنتنا هنا! وإذا شاء الإسلامويون أن يضعوا معنى عصريا لهذه العبارة فأجدر بهم أولا أن ينتقدوا تطبيقها في العصور السابقة، وأن يقتدوا بالإسلامويين المقيمين في الغرب إذ يدافعون عن العلمانية نهجا صحيحا للحياة وأن يقرءوا رأي المفكر الإسلامي الأكبر محمد خاتمي إذ يقرر: «تجوز ولاية غير المسلم على المسلم بأسلوب ديمقراطي»، وهذه ثورة في الفكر الإسلامي.
شعار «الإسلام هو الحل»
ونجد من يردد أن شعار «الإسلام هو الحل» يشتمل على البرنامج الأمثل، وإن بدا مجتزأ .. ولست أدري كيف لشعار مجتزأ مبتور أن يكون برنامجا يرسم خطوات حركة المجتمع ورؤيته المستقبلية؟ أو كيف يكون لجماعة تطمح إلى الحكم برنامج غير معلن ومجهول للجماهير؟ ثم إن الحديث عن برنامج عمل لنظام حكم يطرح نفسه بديلا لا يستقيم إلا إذا اقترن بدراسة علمية تحليلية عن الواقع المحلي والعالمي، وبنظرة علمية نقدية لنظم الحكم التي وصفت نفسها بأنها إسلامية، الآن وفي الماضي، وبيان أسباب فشلها، وأن يطرح البرنامج رؤيته التصحيحية البديلة مع بيان معالم الطريق. وهذه للأمانة أزمة جميع الأحزاب والتنظيمات.
إن العديد من المجتمعات الإسلامية على تباينها وعلى مدى قرون التخلف عرفت العديد من الحكام والولاة والسلاطين الذين نصبوا أنفسهم خلفاء وأمراء للمؤمنين ودفعوا ببلادهم إلى مهاوي الانحطاط والتفكك. وتعج بلدان العالم الإسلامي الآن بحكام يعلن كل منهم أنه أمير المؤمنين وراعي المسلمين والحرمين. ويقتضي واجب كل من يتصدى للمساهمة في إدارة شئون البلاد أن يقدم رؤية نقدية تكشف حقيقة الوضع وأسباب الفشل، ويعرض الجديد الذي يجدد الأمل في النهضة.
قضايا الاقتصاد
إننا مع احترامنا وتقديسنا للدين الإسلامي، بل للأديان جميعها، نسأل كيف يمثل الشعار المجتزأ حلا لقضايا مجتمع تعقدت بنيته وعلاقاته مع التطور الحضاري للمجتمعات؟ الاقتصاد مثلا .. يقال إن هناك زكاة الركاز! ولم يسأل أحد سؤالا بسيطا: لماذا لم يطبق أحد من حكام المسلمين على مدى قرون طويلة هذا النص؟ هل هذا خروج منهم عن قواعد الإسلام، وحرصوا على الاستئثار بأموال الركاز «مثل النفط وكل ما في باطن الأرض» لصالحهم ولتكون أمواله بعض الذمة المالية للحاكم وأسرته دون المجتمع؟ وهل تبقى المجتمعات أسيرة تخلفها ومظالمها إلى حين يقتنع الحكام بهذه القاعدة وهم في حماية قاعدة أخرى ترى أن الحاكم الظالم خير من الفتنة والانقلاب عليه؟ وهل اقتصاد المجتمعات الآن بنفس بساطة مجتمعات القبيلة قديما بحيث تصلحه وتنظمه قاعدة زكاة الركاز؟ وإن رفض الوالي أو عصى فأمره موكول إلى الله يحاسبه في الآخرة.
إن القول بأن زكاة الركاز، والزكاة عموما، هي الحل الإسلامي لأزمتنا الاقتصادية يشبه القول بأن الحل الإسلامي للفقراء والمحتاجين هو أن يقدم الأغنياء الصدقات بدلا من التنمية وحق المواطن في نصيب عادل من ثروة أمته التي يسهم في إنتاجها. وطبيعي أن مسئولية توفير موارد تنمية المجتمع وتحديد مصارفها، التي أصبحت علما متكاملا له علماؤه ونظرياته، ليست مقصورة على المسلمين وحدهم وإنما على المواطنين جميعا دون اعتبار لدين أو جنس وإلا ظهر من يطالب بنظام الجزية، وهذه ردة وتخلف.
ثم إن الحديث المرسل المطلق عن زكاة الركاز يعني أن قضية المجتمع تنحصر في نقص السيولة وفاء بحاجات المعيشة وليست مسألة تعبئة موارد وتحديد علاقات التعامل وتنظيم المصارف وتوفير الفائض وفاء بحاجات التنمية وفقا لاختيار جمهور المواطنين بعامة وعلى مسئوليتهم وليس اختيار ومسئولية ولي الأمر وبطانته. ولم يعد الاقتصاد القومي محليا بل طرفا ضمن شبكة عالمية عناصرها الشركات المتعدية للقوميات، وهذه بينها صراع الجبابرة وخطط لاحتكار براءات الاختراع وإلغاء الحدود والقيود القومية .. وهذه شئون دنيوية خالصة لم يرد بها نص. ولم يعد الاقتصاد اقتصاد ركاز ونعم الله في الأرض، بل الاقتصاد إنتاج المجتمع للثروة وخلق الثروة.
إن فرض الزكاة جاء باعتباره حقا معلوما للسائل والمحروم، يقدمه الموسرون إلى من يرونهم مستحقين لها. وكان هذا في مجتمع بسيط غير معقد لا يعرف نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها ووظائفها من جمع ضرائب وتحصيل جمارك وتحمل مسئوليات تنمية اجتماعية وإقامة بنية أساسية وطرق وكبار ومؤسسات تعليمية وصحية .. إلخ، ولهذا ينصب حديثنا لا على حق السائل والمحروم؛ فهذا واجب، وإنما ينصب على آلية إنجاز الهدف. إن تعبئة موارد الدولة المالية تجري عبر آلية توجه المال إلى مصارفه الاجتماعية لا على سبيل الصدقات وبشكل شخصي، وإنما آلية اجتماعية خاضعة للرقابة والمحاسبة لبناء خدمات تعليمية ومؤسسات وغيرها. ومن ثم نسأل : هل الأفضل أن نعطي السائل صدقة؟ أم نهيئ له عملا وخدمات تعليمية وصحية .. إلخ، كمصارف لما تحصله الدولة من أموال؟ وبعبارة أخرى: هل نعطيه سمكة أم نعلمه الصيد؟ .. الغرض قائم واجب النفاذ وإن اختلفت آلية الإنجاز.
الإسلام والعلم والتعليم والثورة المعلوماتية
وتقتضي أمانة الحوار أن نعترف بأن قضية المجتمع ليست اقتصادا فحسب على الرغم من قصور فهم الإسلامويين لمعناه ونطاقه. ولكن ما الحل الذي نص عليه الإسلام لقضية التعليم وبرامجه بمراحله المختلفة ومناخ وأسس تربية الإبداع وإحداث ثورة تعليمية تفي بمقتضيات حضارة العصر؟ وما الحل الذي نص عليه الإسلام العقيدة لقضية البحث العلمي والتطوير وإنشاء قاعدة بحث وتشجيع حرية الابتكار والتطبيق وإنشاء قاعدة معلومات وشحذ روح النهم المعرفي؟ لم يرد نص ديني يحدثنا عن كل هذا أو عن كيفية بناء مجتمع المؤسسات العلمية أو ما يسميه الباحثون الآن مجتمع العلم الكبير كمؤسسة متشابكة محليا وعالميا ومتطورة وملتزمة وملزمة. لم يحدثنا نص عن إنشاء منظمة علم وثقافة في المجتمع تكون أداته لتحويل طاقات المجتمع وقدراته العلمية والتقانية إلى مخرجات ثقافية وتعليمية وحربية واقتصادية .. إلخ، والعمل في ترابط بالشبكة العالمية.
لم يعرف عصر صدر الإسلام مسألة تنظيم البحث العلمي أو بناء مجتمع العلم الكبير كمؤسسات وحرية الإبداع العلمي والفكري والمنافسة والسبق الإبداعي على الصعيد العالمي. ونظلم أنفسنا ونظلم الدين (العقيدة) إذا ألزمناه بأن يقدم نصا نعيد على هديه بناء مجتمعنا ليكون مجتمع مؤسسات علمية ومراكز بحث وأن يكفل حرية الإبداع واستيعاب علوم العصر على أساس عقلاني نقدي دون قيود حظر أو تحريم.
إن هذا الزعم يشبه رطان من يفسرون «ما فرطنا في الكتاب من شيء» بأنها تعني أن القرآن حوى كل الاكتشافات العلمية التي عرفتها وسوف تعرفها البشرية إلى أبد الآبدين .. وهذا هراء ليس من الدين. لقد اجتاز العالم عتبة عصر جديد هو عصر الثورة المعلوماتية الذي يقتضي ثورة في التعليم والبحث العلمي والعلاقات الاجتماعية وهيكل المجتمعات ومؤسساته وبناء الإنسان ووضع صيغة لنظرة تاريخية مستقبلية علمية. وهو ما لم يرد به نص موروث منذ عصر صدر الإسلام، وليس هناك حل إسلامي لجميع البلدان يوضح لها كيفية تجاوز مراحل التطور الاجتماعي وصولا إلى حضارة العصر. وليس في هذا الإنجاز نقض لدين ما من حيث هو خطاب روحي، أو قيمي داعم للنهوض.
رطان أسلمة العلوم
ونسمع من يقول: الإسلام هو الحل .. في قضية الصحة والطب، ولكنني أذكر الإسلامويين بمقولة عالم الاجتماع المسلم ابن خلدون الذي قال: جاء الإسلام ليعلم الناس الدين وليس الطب والزراعة. إننا نجترئ على الحقيقة والواقع إذا قلنا إن الإسلام هو الحل لعلاج أمراض القلب والذبحة واضطراب الهرمونات والكبد .. إلخ، إلا إذا ذهبنا مذهب البعض، وكما يشيع على ألسنة العامة، أن نطرح العلم جانبا ونلتزم العلاج بالقرآن ونغلق المستشفيات وكليات الطب والمعامل.
وقد يكون المقصود هو كما يريد الإسلامويون الدعوة إلى أسلمة العلوم، وهذه دعوة يائسة وغوغائية؛ إذ كيف نؤسلم علم الرياضيات؟! وهل نعود إلى الخوارزمي والبيروني؟ وكيف نؤسلم نظريتي النسبية العامة والخاصة، أو نظرية الكم أو نظرية التطور أو أركيولوجيا الحضارات؟
إننا لو قضينا عشرات القرون في ظل شعارات مبهمة وملتوية لن نحصد غير الوهم .. حصادنا منذ قرون. أفهم أن نتنافس من أجل صياغة القضية، قضية تخلفنا ومظالمنا، على نحو علمي موضوعي صحيح، وتكون لنا نظريتنا عن تطور مجتمعاتنا وفكرنا وتراثنا .. إلخ. حري أن تواتينا الجرأة ونقرر أن المجتمعات الإسلامية على اختلاف مواقعها الجغرافية هي مجتمعات متخلفة، وبينها وبين حضارة العصر هوة مهولة ومروعة. وليس مطلوبا أسلمة العلوم، بل علمية عقل المسلمين؛ أن يلتزم المسلمون بالفكر العلمي ثقافة، وبالعلم منهج بحث وتطبيق في شئون الحياة، وأن تكون لنا مراكز علمية وإبداعات علمية وعلماء.
إن الدين؛ القيم والأخلاق دون الشكليات الفارغة والرطان الأجوف، ليس ضد العلم الذي هو إعمال العقل والفهم المنهجي النسقي للظواهر .. ظواهر الطبيعة والمجتمع. ولكن الشعارات المعماة والمبتسرة ابتغاء مصالح سياسية «دنيوية» هي ضرب من التجهيل والتضليل للعامة، وتخليد لواقع متخلف، ونعرف أن الدين الإسلامي ضد الجهل والجاهلية وضد الضلال والضالين المغضوب عليهم.
أجدر بنا أن نكف عن شعار مبتسر مثل «الإسلام هو الحل» أو عن شعار غوغائي مثل «أسلمة العلوم»، وأن ندعو إلى نهضة المجتمعات الإسلامية في مجال العلوم المختلفة .. الدين فطرة .. قواعده بسيطة يلتزم بها العامة والخاصة، وإن الأخذ بأسباب النهضة العلمية ليس خروجا عنها، وإنما العلم والإبداع العلمي والتكنولوجي سبيلنا لامتلاك ناصية حضارة العصر أو اللحاق بركب التقدم. إذا تحقق لنا هذا سوف يشير علماء العصر إلى علماء المجتمعات الإسلامية ويقولون هؤلاء قوة دفع حضاري ومصدر زاد علمي ننهل منه.
الديمقراطية والشورى
ونظلم أنفسنا والإسلام والفكر العلمي حين نزعم أن الشورى هي الحل الإسلامي العصري شأن الديمقراطية؛ ذلك لأن الديمقراطية عملية تطويرية تاريخية بدأت قرينة مجتمع نشأ حديثا مع حضارة عصر التصنيع وآخذة في التطور ليغتني محتواها مع مر العقود والثراء الحضاري. ولقد كانت الشورى آلية ملائمة لإدارة شئون المجتمع في عصر مضى يحكمه الشيخ أو الولي ومعه من يختارهم هو من أهل الحل والعقد دون حق الإلزام. ولكن التنظيم الديمقراطي آلية مستحدثة ومتطورة وإن تعددت صورها وفقا لظروف كل مجتمع.
ونظلم الدين إذا زعمنا أنه نظم ونص على - وأعود لأقول نظم ونص على - حقوق المواطنين من العامة وواجباتهم دون تمييز إزاء المشاركة في صنع القرار والمحاسبة وإقالة أو تنصيب الحاكم وتنظيم شئون إدارة المجتمع، وتشكيل الأحزاب والنقابات وتوصيف السلطات والمؤسسات الاجتماعية وأساليب حسم الخلافات والتزام المستويات الاجتماعية المختلفة بهذا كله .. إلخ؛ أي ما نسميه الديمقراطية وهي نظام أو آلية متطورة أبدا وليست وصفة كاملة منتهية. هذا عن الواقع المحلي ناهيك عن المنظمات الدولية وعلاقاتها والمنظمات غير الحكومية وما قد يستجد من تشكيلات غير مسبوقة.
الافتراء على الدين باسم الدين
الفكر الإنساني يرفض الآن كل مقولة عن وجود نسق فكري كامل وتام وناجز يحسم كل مشكلات البشر على اختلاف الزمان والمكان، ومغلق دون أي فكر جديد. وإن الإسلامويين بادعاءاتهم هذه يورطون الإسلام الدين في غير ما تطرق إليه، ويتجاوزونه من حيث لا يدرون، بل يضعون الفكر الإسلامي، لا الدين، في موضع التقصير؛ لأن الدين القيم أجل وأعظم من مزاعمهم حين نلتزم به قيما هادية. وأجدر بنا لكي نكون صادقين مع شعبنا الذي عانى الكثير وعرف مذلة التخلف بسبب المقولات الساذجة، ولا أقول المغرضة، أن نتخلى عن أخلاقيات المراوغة في الحوار، وأن نكون على مستوى المسئولية ولا ننطق في شئون الدنيا إلا حقا وعلى هدى فكر علمي موضوعي رصين وأصيل.
المجتمع العلمي هو الحل
مأساتنا ليست أننا ابتعدنا عن الإسلام. وإنما أن مجتمعاتنا عزفت عن المعرفة العلمية والبحث العلمي، وعاطلة عن العمل والإنتاج، وتعيش عيالا على الآخرين، ينتجون العلم والتكنولوجيا، ويتطورون ونحن غارقون في نشوة الاستهلاك السفيه الذي لا يشبع ولا يغني .. والإنتاج لا يكون إلا بامتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا وحرية الإبداع .. نحن عاطلون عن العمل الاجتماعي الذي يفي بمقتضيات الظرف الوجودي لعصرنا الراهن، عصر العلم والتكنولوجيا وثورة المعلومات والمشحون بالتحديات على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي تعزيزا لحق البقاء. إن العمل والإنتاج على مستوى حضارة العصر؛ أي العلم والتكنولوجيا، هو سبيلنا لتحقيق الذاتية الاجتماعية، هويتنا، التي نبحث عنها عبثا في كتب الأقدمين، وهو سبيلنا لبناء الإنسان وتغيير المجتمع وحسم حالة اختلال الأنا القومية واختلال التوازن الحضاري بيننا وبين المجتمعات المتقدمة. وهو ما لا يتعارض مع قواعد كل الديانات .. هذا وإلا سنقضي قرونا أخرى أسرى أوهام من يحرثون البحر.
الفعل/الفكر العربي ولغز النهضة1
في البدء كان الفعل .. وانبثق عنه الفكر.
حين صدر لي عام 2002م كتاب «الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل» ظن كثيرون أنني اخترت عنوانا يعبر عن نزعة تشاؤمية. بيد أنني كنت ولا أزال، أرى أنه عنوان متفائل؛ ذلك لأن التفاؤل عندي ليس كما يرى المتطيرون منحة تنبني على مبررات طوباوية، وإنما أرى التفاؤل أملا ينبني على جهد إنساني وليد إرادة وسعي نضالي منهجي واضح المقصد والهدف، أعني أنه ثمرة فعل إنساني مجتمعي عقلاني وليس شيئا مجانيا.
لهذا فإن عبارة سوسيولوجيا الفشل تعني أن الفشل راجع لأسباب اجتماعية تدخل في نطاق مسئولية الإنسان /المجتمع؛ وأن الإنسان قادر بإرادته وفعله وفكره، ومنهجه العلمي في الفعل والفكر، أن يصحح الخطأ ويزيل الأسباب إذا عرف نفسه كوجود تاريخي؛ أي وجود له امتداد في الزمان، وعرف عصره، ومقتضيات هذا العصر وتحدياته؛ وتكيف اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا .. إلخ للاستجابة نحوها .. ويصبح البحث عن الأسباب أكثر إلحاحا حين يتواتر الفشل بينما الآخرون انعقدت لهم وبجهدهم أسباب السبق والنجاح دون أن نقارن أو نسأل كيف ولماذا؟ ورضينا بالبقاء قانعين بالاكتفاء والانكفاء على الذات ثقافة وتراثا.
ويعني الفشل أن المجتمع عاطل من المعرفة الكاملة والصحيحة نسبيا ومرحليا لتوجيه مسارات حركته وطاقاته وأنشطته الاجتماعية بصورة فعالة في الاتجاه الصحيح للتطوير .. أي للتكيف مع حضارة العصر بهدف البقاء والعطاء والارتقاء والمنافسة. وطبيعي أنه في حالة غياب هذه المعرفة/الفكر في صورة نسقية شاملة، وغياب التكامل بين الفعل المجتمعي وثيق الصلة بالنهضة ومن ثم غياب الفكر النهضوي. هنا يغدو واقع المجتمع أو نشاطه ضربا من الشواش/المحاولة والخطأ مع نسبة عالية من الإخفاق، وحركة غير مطردة، وغير سوية ولا مستوية مختلة التوازن، عاجزة عن كفالة أسباب البقاء ناهيك عن المنافسة والتطوير ..
قضيتنا المحورية هي أزمة الفكر الاجتماعي العربي التي هي في جوهرها أزمة فعل التحول الاجتماعي الحضاري، أو أزمة إنتاج المجتمع لوجوده على مستوى منافس لحضارة العصر. والقضية ليست جديدة بل قديمة معادة ومكررة تواترت على ألسنة المصلحين الاجتماعيين: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ولكنني استكمالا وتوضيحا للرؤية، أطرح مع السؤال أسئلة أخرى: كيف تقدم غيرنا وقد كانوا في السابق أسوأ حالا؟ وكيف نتقدم نحن؟ ما هي شروط وآلية ومعايير التقدم؟ ثم كيف تكون ثقافتنا الاجتماعية حافزة لفعل التقدم والتحدي والمنافسة، حافزة لفعل الإبداع والتجديد والتغيير؟ وما هو الخطأ في أسلوب تناولنا للقضية بحيث مضت قرون وتعاقبت أجيال وتفاقمت الحال، وأزمن الفشل، وضاعت من أقدامنا الطريق وبقي السؤال مجرد سؤال ولا فعل؟
أحاول الخروج من السياق التقليدي في النظر إلى عصر ذهبي مضى، والزعم أن الفشل مرجعه أننا تنكبنا طريق السلف. فالحضارات أطوار تراكمية صاعدة ، وليست امتدادا متجانسا. والحضارة فعل ذاتي بالأصالة وليس بالنيابة .. وإن ما صنعه السلف لا يغني عن جهد الخلف، وليس السلف بإنجازاتهم قدوة للمحاكاة بل قدوة لمنهج وثقافة الفعل وصناعة الوجود ومواجهة التحدي.
وأحاول الخروج أيضا عن مقولة التحديث محاكاة للغرب فإن الحداثة معيار متجدد، والتحديث متعدد الآليات، وفعل ذاتي أصيل، والتحديث ثقافة حافزة للفعل والمنافسة نتعلم أسسه ومنهجه، ونستوعب خبراته على صعيد عالمي ولا نستورده .. إنه صناعة لا حيازة، وفعل ابتكاري متجدد وليس مظهرا للمحاكاة .. والتحديث ثقافة تغيير وتكييف.
القضية هي التطوير .. تطوير الإنسان/المجتمع .. تحول حضاري ومشاركة؛ أي فكر وفعل إبداعيان وليس تنمية. التحول الحضاري امتداد وتعزيز رأسي صاعد أو كيفي يفضي إلى نشوء أنماط وأشكال جديدة، ويحقق إنجازات وفق معايير المنافسة لحضارة العصر، كما يفضي إلى نشوء فكر ورؤية جديدين. والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري-القيمي في تكامل، استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان/المجتمع.
وهذا تعريف يتسم بالدينامية إذ يدمج الإنسان كأحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان.
تطوير المجتمع موقف من الحياة ونمط سلوكي في الاستجابة لتحديات الوجود، وفهم للذات ولدورها واستحقاقاتها الوجودية والمعرفية بشأن الواقع الراهن والمستقبل المنشود الذي يصنعه المجتمع بإرادته. وقد تكون التحديات رؤى وتخيلات من ثقافة موروثة حال انفصال الكلمة/الفكر عن الواقع، وقد تكون التحديات واقعا ماديا نشطا محليا وعالميا مثل واقع العلم والتكنولوجيا.
والتطوير الاجتماعي، أو النهضة، نمط من أنماط التكيف الذي هو آلية بقاء وتعزيز الوجود والهوية في إطار المنافسة وصراع الوجود. ويمثل التكيف هنا حلقة في سلسلة تاريخية ممتدة تجسد قدرة بشرية تتميز بالمرونة بدينامية الاستجابة إزاء التحديات الداخلية والخارجية مما يكفل للمجتمع مرونة ومناعة على الصعيدين الفكري والمادي، وقدرة على البقاء والعطاء.
والتطوير الاجتماعي، حركة هادفة وصاعدة للمجتمع من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى وأغنى للطاقة والفعالية والكيف أو الحالة الإنتاجية والتعقد والفهم والإبداع وفرص الاختيار والسيطرة والاستمتاع والإنجاز في إطار معايير حضارة العصر.
ويقتضي تطوير المجتمع في ضوء حضارة عصر الصناعة والمعلوماتية إطلاق وتوجيه مسارات طاقات جميع أبناء المجتمع عبر مزيد من التنظيم الاجتماعي المعقد بهدف تعزيز الطاقة الإنتاجية وتعظيم المخرجات؛ ولهذا تمثل عملية التطوير فكرا نقديا للموروث ومستقبلي التوجه والمسار، وتمثل أيضا إبداعا اجتماعيا ذاتي المنطق؛ وبذا لا تكون عملية التطوير محصلة عوامل خارجية محضة، وإن أفادت بها، وإنما تحمل خصوصيات ثقافة وتاريخ المجتمع، وتحمل طبيعة الوعي الاجتماعي بالتحديات وقبول لهذه التحديات والصراع ضدها.
ويمثل العلم، روح حضارة العصر، إنجازا فكريا نظريا وإنجازا ماديا ثقافيا في تلاحم وتطور مطرد. وأصبح العلم والتكنولوجيا هما قصبا السبق وفرس الرهان، وأساس التغيير والإنجاز والتمايز أو التفاضل بين المجتمعات وعماد البقاء والصراع. ولعل من أهم أدوات التطوير الاجتماعي مع العلم والتكنولوجيا رأس المال الموظف اجتماعيا نحو الهدف، والتنظيم المؤسسي لأنشطة المجتمع وما تتمتع به من حريات، والبنية الأساسية والسياسية والاجتماعية والتعليم والمهارات أو الخبرات الفنية ووقت الفراغ .. إلخ.
وجميع هذه الأدوات غايتها بناء الإنسان؛ أي تعظيم رأس المال البشري للمجتمع؛ كما وأنها ثمرة المجتمع. أعني أنها تشكل عملية مجتمعية مطردة في سياق صراع الوجود. وحتى لا نقع في خطيئة الشكليات والمظهريات يتعين النظر إلى ما وراء أدوات التطوير؛ أي إلى الإنسان/المجتمع المبدع لهذه الأدوات وخالق التكنولوجيا والفكر، مع التماس الشروط اللازمة للنجاح .. النجاح في بناء إنسان جديد.
وأعود إلى سؤالي الأساسي: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ المشكلة المأساة أننا عند محاولة الإجابة ظللنا أسرى التأمل النظري المجرد للمجتمع والواقع العالمي، وبقي السؤال سؤالا دون إجابة. لم ننظر إلى واقع حال المجتمع، والمجتمعات في وجودها التاريخي، ولم نقارن بين الوجود الحركي الدينامي المتغير وبين البقاء الساكن الراكد ونعرف أو نفكر في أسباب هذا وذاك ونصوغ فكرا علميا عن تطور المجتمعات وعن دور الإنسان العام صاحب الإرادة والمشاركة الفعالة وفق مقتضى حضارة العصر ونحدد معنى الفعالية .. فعالية الإنسان/المجتمع .. ولم نفكر في قانون صراع الوجود وأسبابه الطبيعية وأن المنافسة/الصراع هما قانون الوجود .. وغاب عن الأذهان معنى وضرورة التكيف كفعالية وإنتاج اجتماعي، وإنما قنعنا بالنظر المجرد في إطار الموروث المفارق زمانا ومكانا .. وحين يقع المجتمع أسير النظر المجرد، مع تعطل الفعل الإنتاجي الإبداعي الاجتماعي فإنه عمليا يقع أسير الفكر التقليدي الموروث، ويكون الوجود الاجتماعي عنده مجرد امتداد سكوني نمطي للماضي.
هذا على عكس تأمل الواقع في تغيره بفعل الإنسان نشأة وتكوينا وصيرورة، وتأمل الممارسة العملية والعمل الاجتماعي في مواجهة التحديات. ذلك لأن هذا الواقع الحي المتغير بفعالية الذات هو أساس ومعين التفكير الإبداعي .. تجديد الفكر وأدوات وأسلوب ممارسات العمل إزاء ظواهر الوجود؛ ولهذا السبب ترانا دائما نبدأ فكريا من جديد .. تمضي العقود وربما القرون، ونعيد الأسئلة ذاتها، ونعيد تأملها من خلال إطار فكري تقليدي. يحدث هذا مرارا لا لشيء إلا لأننا لم نتغير؛ أعني لأننا لا نعمل؛ إذ العمل الاجتماعي هو القوة الدافعة للتغيير، وقوة لتركيز الانتباه والفهم واستخلاص الفكر الجديد أي الإبداع.
وعشنا قرونا بغير مشروع وجودي، وقنعنا بالبقاء. والوجود غير البقاء .. البقاء اطراد عشوائي بينما الوجود مشروع راهن ومستقبلي، وفعل إرادي عقلاني، والفعل المجتمعي؛ أي العمل الاجتماعي هو أساس توليد الفكر المجتمعي المتجدد .. فكر جديد لصناعة مشروع الوجود .. ولكن الشعور أو الظن بأننا خير الأمم بمعايير الحياة الدنيا وتجلياتها وأنشطتها الحضارية يعني نهاية الفعل المجتمعي الذي هو قوة التغيير الهادف، ومن ثم نهاية لعملية توليد فكر جديد.
ولكن النشاط الإنتاجي للمجتمع ارتقاء مطرد، إنه عمل اجتماعي هادف متوحد بالفكر، حيث الفعل والفكر وجهان متلازمان للعمل الاجتماعي وبينهما تغذية متبادلة تحفز نحو مزيد من التطور. وإذا تعطل الفعل تعطل وانحسر الفكر، ويظل النشاط الفكري حدثا فارغا لأنه غير ذي محتوى؛ أي بغير رصيد واقعي، وبغير معنى علمي. صفوة القول: «قضيتنا فعل حضاري جديد، يولد فكرا عصريا، يضع أقدامنا على طريق النهضة العربية.»
توماس كون .. ونسبية المعرفة
فلسفة العلم بدون تاريخ العلم خواء،
وتاريخ العلم بدون فلسفة العلم عماء. «كانط»
القرن العشرون الذي أفل منذ عقد، هو بمعنى من المعاني الوجه المقابل للقرن التاسع عشر، على نحو يؤذن بعالم جديد تماما في فكر وفلسفة إنسان القرن الحادي والعشرين. كان القرن التاسع عشر قرن العقل واليقين؛ أما القرن العشرون فهو قرن الشك والاحتمال. وكان القرن التاسع عشر قرن الإيمان بالنظريات والمذاهب، بل وواحدية النظرية أو المذهب، أما القرن العشرون فهو قرن التمرد والثورة التعددية. وكان القرن التاسع عشر قرن الثقة في الاستقرار وانتصار الإنسان، أما القرن العشرون فهو قرن الأزمات والصدمات. وكان القرن التاسع عشر قرن الذات-الجوهر الفاعلة المتعالية على السياق والتاريخ؛ أما القرن العشرون فهو قرن الذات-الموضوع رهن السياق ووليد التاريخ. بدا القرن التاسع عشر تتويجا لفكر التنوير، عصر العقل وتأكيد الذات واستقلال الأنا عن الموضوع؛ وهو ما لخصه شعار فلسفة «ديكارت» أنا أفكر، لينطلق من الأنا الديكارتي والإيمان بالوجود. ومن ثم كان القرن التاسع عشر قرن استقلال الفكر والعقل والثقافة والحقيقة؛ أما القرن العشرون فهو قرن تاريخ وسوسيولوجية الفكر والعقل والثقافة، الحقيقة أنه قرن البنية التي تشكل فيها الذات والموضوع نسيجا واحدا في بعدي التاريخ والمجتمع.
وأهل القرن العشرون بأزمة عصفت بكل دعائم الثقة، وبكل أركان اليقين، وبكل مبررات استقلال الذات أو الموضوع. وثار العقل على نفسه في سياق من الأحداث الاجتماعية المأساوية وبقوة دفع التطورات والإنجازات العلمية الطبيعية منها والإنسانية. وتغيرت مقومات الفكر بل وأسس الثقافة ذاتها.
وفي ضوء الثورة الكاسحة التي شملت الفيزياء الكلاسيكية امتدت إلى علوم طبيعية أخرى وانعكست على الفكر الفلسفي والعلوم الاجتماعية، بات مشروعا أن يسأل عالم مثل «هيزنبرج»: ما هو محتوى الحقيقة أو الصدق للفيزياء الكلاسيكية أو الحديثة؟ لقد غيرت نظرية النسبية صورة الكون بعد أن غيرت مفهوم الزمان والخصائص الهندسية للمكان. وأثبتت النظرية النسبية أن أساس العلوم المضبوطة الذي كان يعتبر أمرا بديهيا يمكن أن يتغير بعد أن أحاطت الشكوك بجوهر الفيزياء الكلاسيكية. لقد انتفى الاعتقاد بأن مسار الحدث موضوعي ومستقل عن المشاهد.
ولوحظ كما يقول هيزنبرج أن النظريات الحديثة لن تأتي وليدة أفكار ثورية أضيفت من خارج العلوم المضبوطة، بل على العكس لقد شقت طريقها عنوة في البحوث التي كانت تحاول في دأب إنجاز برنامج الفيزياء الكلاسيكية؛ أي إن هذه النظريات نبعت من داخل طبيعتها هي. ومن ثم برز السؤال كيف حدث ويحدث التحول الثوري من الداخل؟ وكيف يتطور العلم في التاريخ؟ أو ما هي الدينامية الباطنية لحركات العلم في التاريخ؟ وما معنى فهم العالم أو الطبيعة ومعنى الحقيقة العلمية؟ وماذا عن العلوم لو نظرنا إليها تاريخيا؟
1
والعلاقة بين المعرفة العلمية والثقافية. ما معايير العلم وكيف نمايز بين العلم واللاعلم؟ كيف نشأت المعرفة العلمية وما وظيفتها في المجتمع وحركتها في التاريخ؟
هكذا فرضت إشكالية الأسس الأبستمولوجية للعلم نفسها في ضوء جديد حددته، وألقت أضواء على أزمة العلوم الطبيعية وما انطوت عليه من مشكلات فلسفية معرفية ومنطقية. هذا علاوة على الأضواء الكاشفة لإنجازات العلوم بعامة بما في ذلك العلوم الإنسانية مثل علوم اللغات والأنثروبولوجيا وسيكولوجيا الإدراك وسوسيولوجيا المعرفة ودراسات الثقافات المقارنة. وقد أسهمت جميعا في تفسير العديد من المفاهيم السائدة وتوضيح العملية المعرفية، وعدلت من أسلوب تناول الظواهر، وغيرت صورة العالم تغيرا جذريا. نضيف إلى هذا الحوار المضطرم بين هذه العلوم جميعا حول محور العملية المعرفية والذات والموضوع. وعلاقة المعرفة العملية بنسق الموضوعات والمناظرة.
واحتلت مشكلة تطور العلم في التاريخ مكان الصدارة منذ مطلع القرن العشرين ولا تزال. وبرزت أسماء لعلماء مرموقين؛ وتعددت أو تضاربت الآراء، وانعقدت مؤتمرات دولية لمناقشة القضايا المتعقلة بتطور العلم في التاريخ. وتضافرت جهود علماء الطبيعة ومؤرخي العلم لصوغ اتجاه جديد للبحث النظري التاريخي يمكن أن نسميه منطق التطور العلمي، وموضوعه دراسة ميكانيزمات إنتاج وحركة العلم، وتحليل تطور بنية العلم، ومناهج تحصيل المعارف الجديدة، واكتشاف قوانين التقدم العلمي ومعاييره، وأشكال وصيغ التقدم، وعلاقة العلم بالتراث الثقافي ونسق الفكر المشترك «الأبسيتمي» وعلاقة التقدم العلمي بالتقدم الاجتماعي والارتقاء الحضاري، والعلم والتنبؤ بالمستقبل؛ والعلم والسياسات القومية؛ والعلم والإبداع في ضوء العلوم المختلفة، والعلم والتعليم .. إلخ، والعلم وما قبل العلم أي معايير الحكم على معرفة بأنها علمية ولاعلمية. وحين بدا أن العلم أو إنجازات العلم تشكل خطرا يتهدد الإنسان بل والوجود الحضاري فرض السؤال نفسه: هل مسيرة العلم عشوائية أم يمكن للإنسان أن يحكم قبضته على مسيرة العلم تخطيطا وتوجيها ضمانا لسداد وصواب تطوره؟ وبرزت أهمية فهم قوانين العلم كعملية تاريخية ممتدة وكقوة اجتماعية فاعلة، سواء من زاوية معرفية أو من زاوية التوجيه العملي لمسار العلم.
وتعددت مدارس الفكر، وتعقدت مناهج التناول مع تعقد فروع المعرفة واتساع نطاقها وازدياد تخصصها وغزارة إنجازاتها وعمق إشكالياتها. ومؤرخ العلم لا بد وأن يضع في الحسبان كل فروع المعرفة، ويبحث العلاقات المتداخلة بينها، المتواترة والمركبة. هل يدرس العلم كفرع معرفي، أم العلم كظاهرة اجتماعية ونشاط له تاريخ؟ وهل هناك علم عام ينصب عليه البحث وتستقى منه معطياتنا؟ وهل يدرس العالم الفرد أم العلماء كقوة اجتماعية؟ وماذا عن الجوانب النفسية للعلماء المبدعين وأسباب تميزهم؟ وكيف عبروا عن أنفسهم، ودور البيئة والتراث في هذا كله؟ وهل يدرس التسلسل المنطقي لحركة العلم وترابط الوقائع العلمية وتقديم تفسير منطقي للاكتشافات؟
وشاعت مع الحرب العالمية عبارة
Big Science
أو النشاط العلمي المكثف والمنظم والجمعي. وظهر اتجاه جديد متميز لدراسة مظاهر اطراد التقدم العلمي وأدائه كمحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة وحسم تلك الإشكاليات. وعرف هذا الاتجاه باسم علم العلم
Scientology or Science of Science
ويسميه البعض حكمة العلم
Scientosophy
أو الدراسة التسجيلية للعلم
Scien togoraphy
وكانت قد توافرت مادة دراسية وافية عن العلم وتاريخه وحركته وتنظيمه وتخطيطه تصلح أساسا لموضوع علم العلم الذي وضع لبناته الأولى العالم البريطاني المبرز جون برنال في كتابه «الوظيفة الاجتماعية للعلم» ثم كتاب «العلم في التاريخ». وهذا لا ينفي محاولات سابقة منذ القرن السابع عشر، حاولت أن تلقي نظرة شاملة إلى العلم ولكنها تأملية خالصة.
ويعتبر علم العلم نسقا مركبا يتألف من أفرع وجوانب كثيرة: البنية المنطقية للعلم، منطق تطور العلم، وسوسيولوجيا العلم، تنظيم العلم، اقتصاد العلم وطبيعة الإبداع وسيكولوجيا النشاط العلمي، ونظرية تنظيم العلم أو إدارة العلم باعتباره مؤسسة اجتماعية .. إلخ. وتجري دراسة هذه الجوانب جميعها في وحدة متكاملة مع بيان تأثير كل منها في الآخر . ويهدف هذا المنهج في البحث إلى الكشف عن أداء وتطور العلم كنسق خاص والإفادة بهذه النتائج في النظرية والتطبيق.
وعلى الرغم من أن الاهتمام ببحث موضوع المعرفة بعامة، والمعرفة العلمية بخاصة باعتبارها ظاهرة متطورة تاريخيا ليس بالبحث الجديد، فإن الجديد هو تباين وجهات النظر، وتعدد مناهج البحث والنشاط المحموم إلى حد الصراع والتطاحن في هذا الصدد؛ مما يكشف عن اهتمام وحاجة ملحة، وإدراك لأهمية دراسة هذه الظاهرة في إطارها الثقافي الاجتماعي التاريخي مع الاستفادة بإنجازات العلوم الإنسانية التي دفعت إلى تغيير مسار التفكير الفلسفي والدخول في مواجهة مع فلسفة اتخذت لنفسها اسم «الفلسفة العلمية» ونعني بها الوضعية المنطقية.
فقد شهد العلم تطورات دفعت مفكرين عديدين إلى أن ينحوا نحوا آخر جديدا غير وضعي في تناول فلسفة العلم. والجدير بالذكر هنا أن الفلسفة الوضعية نزعت إلى إغفال تاريخ العلم باعتباره غير ذي صلة بفلسفة العلم، وبناء على الاعتقاد بأنه «لا منطق للاكتشاف» وأن عمليات ملاءمة الاكتشاف العلمي والتقدم العلمي هي موضوع تختص بدراسته علوم أخرى مثل علم النفس أو علم الاجتماع أو غيرهما، حيث إن فلسفة العلم مقتصرة على منطق البحث فحسب، وأن عالم المنطق مهمته تحديد اللغة ضمانا لدقة وتطابق الاصطلاحات، وأن ما يعنيه هو البنية المنطقية لكل القضايا الممكنة التي تزعم أنها قوانين علمية.
واعتاد فلاسفة التجريبية المنطقية النظر إلى تاريخ العلم باعتباره أساسا مسجلا لعمليات إزاحة تدريجية للخرافة والهوى وغير ذلك من معوقات التقدم العلمي. وتتمثل عمليات الإزاحة في إضافات متزايدة باطراد وتوليف للمعارف لتندرج كل فئة من المعارف العلمية الجديدة في إطار البحث العلمي الخاص بها .. وهذا هو التفسير المألوف لتاريخ العلم، والذي أطلق عليه توماس كون وغيره «مفهوم التطور عن طريق التراكم» الذي يتصدى له في كتابه هذا.
وبرزت خلال حركة التمرد على فلسفة العلم هذه آراء زعمت أنها جديدة وراديكالية ليس فقط من حيث مذهبها بشأن العلم وتطوره وبنيته بل وأيضا من حيث تصوراتها للطرق الملائمة لحل مشكلات فلسفة العلم وبيان هذه المشكلات ذاتها.
ومن هذه الدراسات المتمردة كتاب «بنية الثورات العلمية» تأليف «توماس كون» العالم الأمريكي الذي تخصص في تاريخ العلم. وصادف كتابه استجابة واسعة، وأثار جدلا ساخنا لم يهدأ بعد، واحتل الصدارة في جداول عدة مؤتمرات دولية معنية بتاريخ العلم. وصدرت دراسات عديدة تركزت على نظريته ما بين تأييد أو معارضة لها أو توضيح لآثارها وانعكاساتها على مناهج بحث لفروع علمية متباينة وبخاصة العلوم الاجتماعية.
لب نظرية «كون» فكرة النموذج الإرشادي
. وقد أخذ المصطلح عنده أكثر من معنى؛ إذ اضطر إلى تحديده بدقة أكبر عند الرد على منتقديه. والنموذج الإرشادي أو الإطار الفكري هو تلك النظريات المعتمدة كنموذج لدى مجتمع من الباحثين العلميين في عصر بذاته، علاوة على طرق البحث المميزة لتحديد وحل المشكلات العلمية وأساليب فهم الوقائع التجريبية. ويركز «كون» على الطبيعة الجمعية للنشاط العلمي مؤكدا أن العالم الفرد لا يمكن اعتباره ذاتا كافية للنشاط العلمي. وانتهى «كون» إلى نتائج بعيدة المدى ذات طبيعة أبستمولوجية ومنهجية. ولا يرى «كون» أن هناك نقلات منطقية بين النماذج الإرشادية المنفصلة إذ يشبهها بعوالم مختلفة يعيش فيها الباحثون.
والنماذج الإرشادية غير قياسية؛ إذ ثمة انقطاع أو قطيعة بين المفاهيم النظرية الأساسية المختلفة في العلم. ومن ثم فإن حركة العلم، أو لنقل النظريات العلمية أو النماذج الإرشادية الجديدة، ليست نتيجة منطقية ولا تجريبية للنظريات السابقة عليها.. إنها لا قياسية وحقائقها نسبية، وفي كل حقبة علمية أو مع كل ثورة علمية تكون السيادة لنموذج إرشادي له الغلبة. والنماذج الإرشادية في تاريخ العلم الواحد مختلفة عن بعضها اختلافا أساسيا، وتحل محل بعضها البعض على مدى مسار التطور التاريخي للمعرفة العلمية.
ويرفض «كون» رأي الوضعية المنطقية في اعتبار بنية النظريات العلمية نسقا من العلاقات الشكلية الخالصة لأبنية لغوية؛ إذ يرى أن نسق النظرية غارق أو منغمس في مخططات معرفية هادفة تحدد كلا من طابع ومسارات كل تطور جديد للنظرية، وكذا أسلوب تحديد التجارب وتفسيرها. وهو هنا متأثر بفكر وفلسفة «وورف» الذي استخلص بالاشتراك مع «إدوار سابير» من نتائج دراساتهما للغات ، مجموعة من القوانين على أساس عرقي، وانتهيا إلى ما يعرف باسم فرض النسبية اللغوية.
وحسب هذا الفرض فإن العالم الذي ندركه ونفسره قائم لاشعوريا على أساس معايير لغوية محددة. ونحن نحلل أو نجزئ الواقع إلى عناصر وفقا لقواعد تصنيف «وهي قواعد مجسدة في وحدات قاموسية أي مفردات اللغة» ووفقا للأبنية النحوية الأصيلة في اللغة موضوع البحث. وحيث إنه لا توجد لغتان متماثلتان فإن بالإمكان القول إن المجتمعات المختلفة موجودة في عوالم مختلفة. فنحن نحلل الطبيعة وفق خطوط حددتها لنا لغتنا الوطنية وهو ما يعني أساسا أن تنظيمها يتم على أساس أنساق اللغة الموجودة في الأذهان. وهكذا ندخل في مبدأ جديد من النسبية يقضي بأن جميع المشاهدين لا يسترشدون بنفس الدلائل أو الشواهد الفيزيقية وصولا إلى نفس صورة الكون ما لم تكن خلفياتهم اللغوية متماثلة. وحسب فرض النسبية اللغوية فإن الصور اللغوية المختلفة عن العالم يمكن أن تصنع أبنية فئوية مختلفة؛ ومن ثم تؤثر على معايير التفكير، كما تؤثر بالوساطة على معايير سلوك مجتمع معين.
ولقد استطاع «كون» أن يلفت الأنظار في دراسته عن نظرية العلم وتاريخه ومناهج بحثه إلى سلسلة كاملة من المشكلات التي كانت في الظل، ولكنها واقعية وجوهرية لفهم بنية ووظائف المعرفة العلمية التاريخية الفعلية لتطوير العلم.
ولكن «كون» بقدر ما أثار من اهتمام ودوي، أثار شكوكا وانتقادات. وانصب اتهامه بالذاتية أو النسبية الذاتية بسبب مشكلة الانتقال من نموذج إرشادي إلى آخر؛ أي الثورة العلمية التي تعني في رأيه الانتقال إلى عالم مغاير إدراكيا ومفاهيميا غير العالم الذي يعمل فيه الباحث. لقد تغير العالم لمجرد إبدال النموذج الإرشادي. إن الباحث العلمي عقب إبدال النموذج الإرشادي؛ أي عقب الثورة العلمية، يرى العالم في صورة مختلفة؛ بل إن ما كان بديهيا لم يعد جزءا من خبرته حتى وإن استخدم ذات المصطلحات القديمة. ذلك أن الصيغ والقواعد والمصطلحات تأخذ معنى كيفيا جديدا في إطار الصورة الكلية الجديدة ذات الدلالة المغايرة. معنى هذا أن الإبدال أو التحول أو الثورة ليست لها أسباب منطقية أو تجريبية. ويرى «كون» في هذا دليلا على وجود عناصر لا عقلية في تاريخ العلم.
وإذا كانت الانتقادات تركزت أساسا على مفهوم «كون» لمعنى الثورة العلمية؛ أي الانتقال من إطار فكري أو نموذج إرشادي إلى آخر، وما ينطوي عليه هذا الفهم من إيحاء بوجود عناصر لاعقلية ونفي للارتقاء الحضاري العلمي على نحو متتابع، فإننا سنجد من بين منتقديه من يحاول أن يدفع بهذا الجانب اللاعقلي إلى أبعد مما ذهب إليه «كون».
وناقش كتاب كثيرون المشكلات الفلسفية لفكرة تغيير النماذج الإرشادية، ودلالة ذلك بالنسبة لجدوى الحوار بين المجتمعات العلمية التي تلتزم بنماذج إرشادية متباينة، وأيضا إمكانية فهمنا نحن المعاصرين للمجتمعات البدائية. وعني هؤلاء المفكرون أساسا بفكرة «النسبية» المترتبة على رأي «كون» من أن النماذج الإرشادية يمكن النظر إليها باعتبارها تستجيب إلى عوالم مختلفة ومن ثم يتعذر التفاهم بينهم، ويستحيل حسم الخلاف باللجوء إلى أية لغة خارج النموذج الإرشادي، بمعنى أن الحوار بين الثقافات هو حوار طرشان.
يلزم عن هذا أن لا سبيل للوقوف خارج الحوار بين أنصار نموذجين إرشاديين والاهتداء إلى حجج «عقلانية» ومعايير برهانية تجريبية تكشف عن صواب صورة ما للعالم وخطأ الأخرى؛ إذ لكي يكون الحوار مجديا بين طرفين لا بد وأن يدور داخل ذات الإطار بلغته ومفاهيمه. وواقع الحال أننا مع إيماننا بالدور الحاكم للإطار الفكري في الحياة العامة إلا أنه ليس دورا حاكما أبديا داخل الحياة العلمية، وليس قدرا إلا إذا كان ذلك استنادا إلى أحكام قيمية على نحو ما نجد في ظل الجمود العقائدي الذي يخرجنا من دائرة العلم. وإذا كان الخلاف ينشب داخل المجموعة العلمية إزاء ظواهر معينة تشذ عن الإطار الحاكم، فإنها ظواهر طبيعية أو واقعية ليست مبتدعة ولا مصطنعة، ومصدرها العالم أو الطبيعة؛ ومن ثم فإنه لا بد - استطرادا مع نظرية «كون»، ولكن التزاما بنهج مغاير - أن يكون المرجع والحكم هنا الإشارة إلى العالم الخارجي، مصدر الظاهرة، وإقامة البرهان التجريبي لحسم الخلاف.
ولكن هذا لا يمنع أن نشاهد في الحياة العامة من يرفض الإقرار بالظاهرة الجديدة، ويستعصي عليه بحثها، ويسعى إلى تطويعها قسرا لإطار فكري موروث أو قياس انعقد عليه الإجماع، حسب ما يرى «كون»، بيد أن الأمر هنا لا يتعلق بظاهرة طبيعية يختص ببحثها العلم الطبيعي بمنهجه البرهاني التجريبي، بل ظاهرة إنسانية اجتماعية أو ثقافية لها منطق متميز. وهذا لا يعني أيضا الاحتفاظ بالإطار الفكري أو النموذج الإرشادي القديم له ذات القدر من الصواب والإنتاجية أو الفعالية العلمية بشأن النموذج الإرشادي الجديد .. ذلك أن من شاء أن يظل على إيمانه بأن الأرض مسطحة له حقه في هذا، ولكن اعتقاده لن يكون ندا ولا كفؤا لنظرية كروية الأرض. ثم إن الأمر هنا ليس اعتسافا، ولا اختيارا إراديا بل رهن بمرجع تحتكم إليه وتدعمه أجهزة البحث التي هي جزء لا يتجزأ من عناصر البرهان التجريبي.
ولهذا نقول إن نظرية «كون» كانت مؤثرة، ولها صداها في مجال العلوم الاجتماعية الثقافية، على عكس الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية. فإن زاوية رؤية الإنسان للعالم من حوله نتاج ثقافي اجتماعي موروث. وتظل هذه الرؤية باقية في جوار مع رؤية علمية مغايرة. وتتألف هذه الرؤية في شمولها من عناصر تضم اللغة وقواعدها ودورها في صياغة صورة العالم وبنيته، ولبنات هذه البنية؛ ولهذا أثار بعض النقاد موضوع العلاقة بين لغة الحياة اليومية ولغة العلم في الحياه وتجاور الاثنين معا. ويقرر هؤلاء أن إطار ما نشهده في التجربة العلمية يحدده محتوى النظرية، غير أن أبنية الإدراك الأساسية مثل تفسير العالم في ضوء اللغة الطبيعية للحياة اليومية، تتشكل عند المستوى قبل العلمي. فالإنسان العام لا يزال من الوجهة الاجتماعية هو الإنسان بمكوناته الإدراكية ووسائل تعبيره؛ إذ لا يزال يدرك حسيا أن الشمس تدور حوله، ولا يزال يقول، وتفرض عليه لغته قول: أشرقت الشمس، وإن كانت لغة العلم وصورة العالم في العلم غير ذلك. وهذا من شأنه أن يثير قضية التواصل بين العلم ولغة العلم والعلماء وبين الحياة اليومية واللغة الطبيعية والإنسان العام أو الحس المشترك .. أو حدود التواصل بين العلمي في الحياة العامة.
وأن أخطر ما وجهه المفكرون من نقد لنظرية «كون» يتعلق بتعريفه للمنهج العلمي ومعاييره الخاصة بالتمييز بين العلم وغير العلم على نحو أوقعه في تناقضات منطقية في تطبيقه لهذه المفاهيم. ذلك أن «كون» يساوي بين مناهج بحث الأقدمين والمحدثين حتى وإن تعارضت، وعلى الرغم مما يراه انقطاعا بين النظريات في التاريخ. ومنهج كون هذا يفضي، كما يرى منتقدوه، إلى نسبية المعرفة. فكل معرفة صحيحة قياسا إلى نسقها وبالنسبة إلى نموذجها الإرشادي. ويفضي هذا المنهج أيضا إلى التهوين من شأن التحليل العقلي كمعيار حاسم في البحث العلمي. وبهذا نفتقد الدليل العقلي الذي نمايز به بين العلم وغير العلم، مثلما نفتقد معايير قياس التقدم العلمي. وما دام الرأي عند «كون» أن نظريات أرسطو وبطليموس ونيوتن وأينشتين جميعها نظريات علمية على قدم المساواة، فليس غريبا أن يظل الباب مفتوحا، ولو نظريا حسب منهج «كون»، لاحتمال عودة نظرية قديمة لتحل محل أخرى جديدة طالما أننا لا نملك المعيار.
ورأى البعض في هذا نوعا من التشاؤم الأبستمولوجي أو اللاأدرية الأبستمولوجية التي تفضي إلى التشاؤم. فالنظريات جميعا سواء، ولا أمل أو معيار للتقدم المعرفي للإنسانية. ولا بأس، التزاما بهذا الرأي أن يستصوب البعض الردة إلى نظريات سابقة.
إن قضية التعارض بين النظريات الجديدة والقديمة، أو الانقطاع بينهما، هي قضية تتعلق بنظرية المعرفة مثلما تتعلق بقضايا منهج البحث العلمي. وهذان هما جوهر العلم الحديث، ومعيار التميز بين ما هو علمي وما هو غير أو قبل علمي، وهما بالتالي أحد معايير التقدم العلمي ومن ثم الحضاري.
إن الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية، قد تكون واحدة عند الأقدمين والمحدثين، والاهتمام بهذه أو تلك قد يكون واحدا عند هؤلاء وأولئك. ولكن الفارق الجوهري هو فارق معرفي من حيث محتوى المعرفة ومنهج البحث الذي يقره العلم الحديث، والذي يسبغ صفته على الباحث بحكم الالتزام به، وبدونه تسقط عنه صفة العلمية.
ولهذا فإن النظريات التي أشار إليها «كون» عند المقارنة بينها وبين النظريات الحديثة هي، في رأي منتقديه، نظريات غير علمية. والأمر جدا مختلف عند الحديث عن نظريات بطليموس وغيره من الأقدمين السابقين على المنهج العلمي الحديث أو عند الحديث عن نظريات علمية حديثة غير كاملة. فالأولى غير علمية تماما، والثانية، إذا ما توافرت فيها شروط المنهج، تكون خطوة على الطريق نحو نظرية كاملة تحدث تغييرا شاملا في مجال بحثها؛ أعني ثورة بالمعنى الذي ذكره «توماس كون». معنى هذا أن نمايز بين سعي الإنسان إلى المعرفة، وأن نضع إنجازاته في إطار عصره وسياقه الاجتماعي وبنيته الفكرية، وبين البحث العلمي في عصر المنهج القائم على البرهان التجريبي. وهذا السعي أو البحث مشروع أو ظاهرة اجتماعية متطورة تدريجيا على مدى التاريخ، ولها شروطها التي تمايز بين مراحلها.
ثم إن هناك اتصالا بين النظريات ولكنه في اتجاه واحد وليس اتجاهين؛ بمعنى أن الباحث المحدث يستطيع مع التزامه بالنظرية المعاصرة أن يفهم نظرية أرسطو أو بطليموس ويدرك مواطن الخطأ فيها وأسبابه، بينما من يعيش بنظرية أرسطو أو يفكر بطريقة الأقدمين فقط يستعصي عليه فهم النظرية الحديثة أو التحاور مع أصحابها. وهو ما يصدق أيضا على حوارنا في قضايانا الحياتية.
2
وماذا عن النظريات التي تثبت صحتها مثل «ميكانيكا نيوتن» ثم حلت محلها نظريات أخرى أكثر نجاحا «النظرية النسبية وميكانيكا الكم»؟ يقول «لأنساتا كيتا» أستاذ فلسفة العلوم في سيراليون: من الخطأ القول إن نموذج البحث في إحدى النظريتين الأخيرتين حل محل نموذج البحث في النظرية الأولى كبديل عنها؛ إذ يمكن الجمع بين النماذج الثلاثة والفارق هو فارق في المدى والدرجة بمعنى أن ميكانيكا نويتن أكثر دقة من ناحية المسافات والسرعات النهائية.
ويضيف إلى ذلك بوليكاروف
3
قائلا: إن التعديل في إحدى النظريات يحدث بوسائل مختلفة، ويتناول أجزاء مختلفة أو يجري على مستويات متباينة. مستوى المعنى الفيزيقي، أو مستوى الأداة الرياضية، أو مستوى الأساس المنطقي، أو مستوى التفسير الفلسفي. ثم إنه لا بد من النظر في طبيعة التحول؛ فقد تكون النظرية الجديدة استيعابا للقديمة وأكثر منها شمولا بحيث تغدو حالة خاصة بالنسبة إليها. إنها لا تثبت زيف القديمة بل تضيف .. وإن الانتقال إلى مستوى أعمق يقضي بأن ندرس الاختلافات بين مفهومين ونعتبره اختلافا جوهريا إذا ما انصب على الفكرة الرئيسية والمبدأ الأساسي أو المسلمة، والنسق المفاهيمي والمشكلات والمناهج؛ أي عندما نعيد النظر في الأسس الفيزيقية والمنطقية والفلسفية لمفهوم ما، ويفضي بنا هذا إلى تغيير في أداة الاستقراء مع نتائج أو تفسيرات جديدة ومن ثم نظرية مغايرة.
هذا نزر يسير من اعتراضات كثيرة انصبت على كتاب «توماس كون» «بنية الثورات العلمية» وهي اعتراضات لم تهدمه ولكنها اتخذته منطلقا لإضافات غنية ولأبحاث أكثر ثراء.
جيدنز: سيرة فكر في سياق كوكبي
«بعيدا عن اليسار واليمين» و«الطريق الثالث» و«الوسطية» .. إلخ، عبارات تواترت تاريخيا مثلما تواترت في عالمنا المعاصر على مدى القرن العشرين بين مختلف التيارات الفكرية والأيديولوجية. وجاءت الصيغ المتباينة إجمالا دعوة أو إعلان البراءة من التطرف أو يأسا من المواقف الحادة أو القاطعة وتوخيا للاعتدال. وواقع الحال أن دعاتها إما أنهم يتخذون من مقولتهم قناعا يخفي النوايا، ويدعون الناس إلى التخلي عن مواقف محددة أو انحيازات هنا أو هناك ومن ثم يسهل، بحكم عنصرة القوة، توجيههم إلى حيث يشاء الداعية، وقد تأتي الدعوة تعبيرا عن أزمة في الفكر ووسائل الإنجاز، وتجسيدا لحيرة يعانيها أهل الرأي خاصة حين تجف ينابيع الرصيد الفكري، ويتغير الواقع، ولا تجد أحداث الحاضر في الأطر الفكرية الجاهزة أو التقليدية تفسيرا وحلولا لمشكلات طارئة وملحة؛ أي حين تكون البشرية - واقعا وفكرا - على أعتاب تحول جذري جديد، وبحاجة إلى إطار فكري جديد تعمل على هديه.
ويمثل فكر «أنطوني جيدنز» تجسيدا لهذا الوضع المأزوم. وتأتي مؤلفاته التي تجاوزت الثلاثين كتابا، وكذا ندواته ومحاضراته تعبيرا عن تنويعات على لحن واحد: دعوة إلى الانصراف عن اليمين وعن اليسار، التماسا لطريق ثالث. وحري النظر إلى فكر جيدنز في إطار السياق الذي أنبت هذا الفكر، لنعرف العدو الحقيقي الذي يهاجمه، ونستكشف الوجهة التي يدفع الناس إليها، وعناصر القوة أو الضعف أو التناقض أو التردد. ونلتمس هذا في سياقين أو بعدين: سياق كوكبي وسياق محلي بريطاني.
وبداية أقرر أن كتاباته تعبير عن هم غربي لن يجد فيها القارئ العربي صدى لهمومه وقضاياه، هذا على عكس ما روج له المثقفون العرب من أنهم والبشرية جمعاء وجدوا سبيل الخلاص في «طريقه الثالث» كأنه تضمن حلولا لمشكلات الجنوب، أو أنه الطريق الثالث الأوحد والوحيد، على الرغم من أن الطرق الثالثة كثيرة الآن في الجنوب والشمال: بل يوجد في بريطانيا ذاتها «حزب الطريق الثالث» الذي أسس عام 1990م وهو بطبيعة الحال غير حزب العمال الذي يعمل له جيدنز مفكرا ومنظرا. ولكن أهمية كتاباته تأتي من كونه كتابا كاشفا عن واقع حال الفكر الغربي: التاريخ التطور - الأزمة - الخصائص. وتتمثل قيمتها بالنسبة إلى القارئ العربي - الذي عاش ردحا طويلا من الزمن أسير الإطار الفكري الغربي، ويراه مسلمة وحقا وحقيقة - في أنه يكشف أن الحقيقة ليست هذا الفكر، وأن الفكر الغربي شأن كل الأطر الفكرية في حقيقة مطلقة، بل وجه لواقع نسبي في الزمان والمكان. وتكشف كذلك عن خاصية ذات وجهين، سلبي وإيجابي، في فكر الغرب: الوجه الإيجابي هو فعل التداول والحوار الحر المنتج بشأن قضايا المجتمع بين أهل الرأي. والجانب السلبي هو أن الغرب يعيش أزمة فكر، ولكنها أزمة تضعه على طريق تحول جذري، أو هي مخاض ميلاد الجديد .. وتتهيأ إمكانات التحول وتجاوز الأزمة لتشملنا.
ولكن هذا لا ينفي خصوصية مشكلاتنا وخصوصية فعلنا الغائب أيضا، ومن ثم ليس علينا أن نكون مجرد صدى، بل فعلا إبداعيا نشطا أصيلا نفكر لأنفسنا في سياقين محلي وكوكبي، ونهتدي إلى طريقنا، وإن اشترك في بعض عناصره مع طرق أخرى.
السياق الكوكبي إلى الجذور
النصف الثاني من القرن العشرين حقبة درامية بكل أبعادها، مؤلفة من فصلين، الحركة والتحول فيهما بين نقيضين تامي التناقض في الفكر والطموحات والآليات والسياسيات. وامتد أثر هذا إلى الجذور عمقا، وتجاوز الحدود القومية إلى آفاق كوكبية.
المشهد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، قطبان أيديولوجيان يبسطان هيمنتهما وبينهما صراع ومنافسة أو حرب صامتة وصفت بالباردة، بعد أن خمد أوار حرب ساخنة مأسوية النتائج والدلالة. والمشهد الثاني في العقد الأخير، قطب واحد أوحد جبار متكبر له المشيئة، إلى حين. البداية فكر متماسك ويقين هنا وهناك أمل في التحرر وإصلاح ما فسد ومراجعة إنجازات العقل. والنهاية شك وسيولة فكرية وافتراس شرس بالمستضعفين من البشرية. البداية تجديد العهد في الاحتكام إلى العقل الذي اهتز عرشه إثر حربين عالميتين وتجديد الثقة بالنظرية. والنهاية سقوط الإيمان باليقين والعقل وبالأنساق الفكرية المطلقة. البداية جهد للتنمية والإعمار وإعادة البناء في إطار نظريتين متصارعتين: معها النظم الحاكمة باسم الاشتراكية، مثلما سقطت الاشتراكية ومجتمع المساواة، والليبرالية ومجتمع الرفاه. والنهاية أزمة هنا وهناك؛ سقطت الليبرالية وارتدت أو تحولت إلى ما يسمى بالليبرالية الجديدة ودولة الحد الأدنى من حيث الرعاية أو الرفاه الاجتماعية، ودولة الحد الأدنى أيضا من حيث القوانين المنظمة لحركة ودور ونشاط رأس المال. البداية عالم يثق في النظم والقوانين على الصعيدين المحلي والدولي، والنهاية عالم شارد مغترب مضطرب أو كما يصفه جيدنز «عالم منفلت».
وهكذا يعيش العالم الآن أزمة عميقة الجذور تجسدها حالة السيولة الفكرية أو الشواش الفكري: جفت ينابيع التقليد بكل معانيه وأزمانه، وتداعت أركان النظام والنظريات المطلقة والأنساق الفكرية الجامدة، وتعيش الإنسانية بغير رؤية نظرية مرجعية هادية تتصف بالدينامية السريعة تسترشد بها في حركتها. وتجاوز البعض وأعلن سقوط الأنساق الفكرية جميعها مطلقة أو نسبية، وارتد البعض الآخر بعد أن أصبح خاوي الوفاض من أي جديد يهديه، ارتد إلى متاع فكري أصولي موروث يستعين به على خواء حياته، وهو في الحالتين غريب ومغترب، عاطل من آلية الفكر والفعل اللذين يربطانه بالواقع؛ ذلك أن الإنسان/المجتمع يتحرك لزوما في تطوره الاجتماعي والتاريخي والإنتاجي، وبحكم وعيه بنفسه وبوجوده وفق إطار أو نسق ثقافي/فكري مرحلي أو نسبي، يحقق له التكيف الفردي والاجتماعي وفق مستوى حضارة العصر، ويهيئ له قوة دفع لحركته المستقبلية التنافسية. ويمثل هذا النسق مرجعيته المرحلية في تشخيص وتحليل الظواهر من حوله. إنه يتحرك لزوما من نسق إلى نسق، وليس في حالة سيولة تفقده الهداية والرشاد. وطبيعي أن لحظة الانتقال هي لحظة آلام مخاض التغيير، وكانت دائما لحظة محدودة الحدود، محلية الطابع.. أما الآن فالتغيير عالمي النطاق والظواهر المطروحة كوكبية الوجود .. والأخطار الماثلة ماحقة للإنسان كنوع بشري .. المستقبل المأمول محفوف بالأخطار واحتمالات تخلف البعض وهيمنة البعض الآخر، بحكم إنجازات العلم والتقانة، قرين الفعالية الاجتماعية هي احتمالات هيمنة شاملة على المستقبل بعيد المدى .. الاحتكار تجاوز الاقتصاد إلى احتكار المصير الإنساني جملة.
وفي ظل حالة السيولة والشواش الفكري يلتمس الإنسان/المجتمع طريقا للخلاص هنا وهناك، ولكن في إطار من الشك وعدم اليقين. ويتجلى هذا واضحا في العديد من النزاعات الفكرية الموسومة بالبعدية أو بالجديدة أو بالنهاية أو شبيه: مثل ما بعد المودرنز وما بعد الحداثة، وما بعد توافق واشنطن .. إلخ، أو الليبرالية الجديدة واليسار الجديد والاشتراكية الديمقراطية الجديدة، أو الكينزية الجديدة وحزب العمال الجديد .. أو نهاية التاريخ ونهاية الاشتراكية .. أو شبه إقطاعي وشبه رأسمالي .. وجميعها مسميات تعني انصرافا عن ماض، ومستقبلا غائما، وأملا في جديد غير محدد المعالم والطريق.
الفصل الأول دراما النصف الثاني من القرن العشرين؛ انتصار لحركة التحرر الوطني سياسيا «أو هكذا!» ووعد بانتصار الحريات وأمل في التنمية والرخاء عن اليسار واليمين. والفصل الثاني أزمة وردفة وتبعية الضعفاء للأقوياء، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء داخل المجتمعات وفيما بين المجتمعات. الفصل الأول رفض قاطع لأن تكون آلية السوق هي الحاكمة لمصائر الشعوب والمجتمعات لما يمثله هذا من أخطار مدمرة. والفصل الثاني دعوة الليبرالية الجديدة لأن تكون الحاكمية لآلية السوق المتحررة من كل القوانين والضوابط. الفصل الأول إيمان عميق بأن القوى العاملة خاصة البروليتاريا لا تزال على طريق الصعود وأنها الأمل في التغيير.
الفصل الثاني انحسار دور البروليتاريا أو ذوي الياقات الزرقاء وظهور قوى عاملة كبيرة وفاعلة من بين ذوي الياقات البيضاء. بل تغير كيفي في قوى الإنتاج وأدوات وإدارة الإنتاج. والمفارقة الصارخة أنه في عصر فيض المعلومات وأدوات المعرفة تتفاقم أزمة السيولة الفكرية وتتفاقم حالة افتقاد النسق المرجعي.
وشهد الفصل الثاني تغيرا مفصليا في مسار تطور ودور وفعالية المجتمعات وفي علاقة القوى بينها، وهو التغير الموسوم بالعولمة، وإن كانت الكلمة غير محددة المعنى والمدلول شأن كلمات أخرى كثيرة تزخر بها حياتنا الثقافية. تغير المشهد العالمي، ودفع هذا التغير بجميع الأطر الفكرية إلى الخلف بعد أن أفلت الواقع الحياتي من بين محدداتها ومعاييرها.
وإذا كانت العولمة لها ركائزها وتجالياتها العلمية والتقانية وتجالياتها الوظيفية للمجتمعات وللوعي الإنساني، إلا أن لها أيضا تجليات ونتائج وظيفية تمثل الركيزة لقوى الليبرالية الجديدة. أولى هذه النتائج هي حركة نقل الأموال والمضاربات السريعة في العالم. وثانيتها أنها دعمت طرازا جديدا من النظام الشمولي الكوكبي على عكس كل ما يشاع عن سقوط الشمولية؛ إذ إن الشمولية ليست نظاما مستبدا سياسيا، بل هي، وكما حدد جيدنز، قوة أو نظام أو قطب له هيمنة على مجالات الاقتصاد والثقافة والإعلام والقوة العسكرية والعلاقات الدولية.
ولكن العولمة تتعدد وتتباين معانيها مع تباين مقاصد المتحدثين عنها والداعين إليها أو إلى مناهضتها. فهي حينا زعم بأن الكوكب قرية واحدة تهاوت فيها الحدود القومية مع إعلان وفاة أو نهاية الدولة - الأمة - القومية. والعولمة أيضا تدويل للحياة الاقتصادية والسياسية سقطت معه الحواجز الحمائية، وهي الحدود المفتوحة للشركات المتعدية القومية لدخول استثماراتها المالية ومنتجاتها، وتكريس للاستسلام لآليات السوق الحرة المتحررة من الضوابط والقوانين الاجتماعية. ويرى البعض الآخر العولمة في ضوء التحولات العلمية التقانية وتجلياتها، من حيث حالة التماس والاتصال المباشر بين الناس أفرادا وجماعات على صعيد الكوكب، وتأثيراتها السلوكية والثقافية الممتدة إلى أعماق الوعي الباطني للإنسان، وتدفق حر آني للمعلومات له انعكاساته على وعي الفرد وثقافة المجتمع والعلاقات بين الحكام والمحكومين. ويراها هؤلاء خلفا جديدا لاقتصاد جديد هو اقتصاد المعرفة وما له من تجليات نافذة إلى كل جوانب الحياة.
وتتجلى أيضا حالة الشواش الفكري لدى اليسار واليمين من خلال توجهات وكتابات الكثيرين من المفكرين الضالعين في عملية التغيير أو التجديد أو لنقل محاولات الترميم، إذا صح هذا الوصف، أو الالتفاف على الواقع والحديث بلغة مقبولة ظاهريا للتعبير عن أهداف تقليدية مضمرة.
ولنقرأ معا ما قالته «سوزان جورج» في كلمتها تحت عنوان «موجز تاريخ الليبرالية الجديدة» أمام مؤتمر «السيادة الاقتصادية في عالم معولم»، الذي عقد في 24-29 مارس 1999م، حيث تجمل في حديثها تشخيصا لواقع حال العالم في المشهدين الأول والثاني، وتقول: «عقب الحرب العالمية الثانية، كان كل مفكر اقتصادي أو سياسي إما كينزي المذهب وإما ديمقراطيا اشتراكيا، وإما اشتراكيا ديمقراطيا مسيحيا، وإما يمثل لونا من ألوان الطيف الماركسية. أما فكرة أن السوق ستكون صاحبة الدور الرئيسي في اتخاذ القرارات الاجتماعية والسياسية؛ أو فكرة أن الدولة سوف تتنازل طوعا عن دورها في الاقتصاد؛ أو أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى ستكون لها حرية كاملة، وأن النقابات سيأفل دورها وأن المواطنين سيتمتعون بحماية أقل كثيرا مما كانت عليه الحال عقب الحرب العالمية الثانية .. هذه الأفكار لو قيلت لبدا صاحبها مجنونا.»
وتضيف: أصدر الباحث الكبير «كارل بولاني» رائعته «التحول العظيم» عام 1944م. والكتاب نقد شرس لضراوة مجتمع القرن ال 19 الصناعي المرتكز على السوق الحرة. وله مقولة نبوءة؛ إذ قال إن «السماح لآلية السوق بأن تكون المدير الأوحد الموجه لمصير البشرية وللبيئة العالمية .. يعني تدمير المجتمع. وإنما الأولوية للمجتمع على النظام الاقتصادي.»
وتستطرد قائلة: «الآن النقطة المحورية في الليبرالية الجديدة السائدة تتمثل في: آلية السوق هي التي توجه قدر ومصير البشر. الاقتصاد؛ بمعنى الشركات العملاقة وحركة الأموال والمضاربات، هو المحدد لقوانين المجتمع وليس العكس.»
وأبرز فلاسفة الفكر الاقتصادي لليبرالية الجديدة وزعيمهم «فريدريك فون هاييك»، ومن تلامذته «ميلتون فريدمان»، صاحب مقولة «المجتمع العالمي قرية». والسيدة الحديدية «مارجريت تاتشر» رئيسة وزراء بريطانيا في السابق، والملقبة باسم السيدة «تينا -
Tina » وهي الأحرف الأولى من مقولتها المشهورة: «لا بديل»
There is no Alternative ؛ أي لا بديل عن الرأسمالية في صيغة الليبرالية الجديدة والسوق الحرة الطليقة، وكأن الليبرالية الجديدة قانون طبيعي أو قوة طبيعة مثل الجاذبية، ولا سبيل أمام البشر للفكاك منها، والتي وصفها «فوكوياما» بعبارة: نهاية التاريخ.
وكان «ريجان» في الولايات المتحدة و«مارجريت تاتشر» في بريطانيا أكبر زعيمين يعملان في تناسق على إنجاز سياسات الليبرالية الجديدة.
وتعتمد هذه السياسات، كما صرحت تاتشر، على «الداروينية الاجتماعية التي ترى الصراع محور ومبرر الوجود بين الأمم والمؤسسات والأفراد، وأن المنافسة تفرق بين الذئاب والخراف ، وبين الرجال والعيال، وبين الصالح والطالح. المنافسة آليتنا لتدبير الموارد الطبيعية أو البشرية أو المالية مع أكبر قدر من الفعالية والكفاءة.»
وتستطرد تاتشر، المتحدثة باسم الليبرالية الجديدة فتقول: «مهمتنا بلوغ المجد في سياق اللامساواة، وأن نرى كيف أن المواهب والقدرات تجد متنفسا وتعبيرا لها من أجل فائدة الجميع. لا نعبأ بالمتخلفين في مارثون المنافسة .. الناس غير متساوين بالطبيعة؛ وهذا خير .. لا فضل للضعفاء ذوي الحظ السيئ في التعليم؛ ومن ثم فإن ما يصيبهم يستحقونه، لأن الخطأ خطؤهم وليس خطأ المجتمع.»
ولنتذكر هذه القيم لليبرالية الجديدة عن اللامساواة وعن المنافسة والفعالية والكفاءة لدى الأفراد .. إلخ. ذلك أن جيدنز حين نعرض لمقولاته نراه يؤكدها ولكن في ثوب لغوي مغاير.
وبعد رونالد ريجان وجورج بوش جاء بيل كلينتون رئيسا للإدارة الأمريكية، وهو الذي قال في خطاب له «الزملاء الأمريكيون، لقد اهتدينا إلى طريق ثالث.» وكان مستشاره هو أنطوني جيدنز. وبعد حزب المحافظين برئاسة مارجريت تاتشر ثم جون ميجور جاء توني بلير رئيسا لوزراء بريطانيا بصحبة معلمه الروحي أنطوني جيدنز. وهكذا وكأن القدر ألقى على أنطوني جيدنز مهمة اكتشاف مخرج في ضوء «لا بديل عن الرأسمالية وصيغة الليبرالية الجديدة وسقوط النظام الحاكم باسم الاشتراكية.» وتهيأت بذلك فرص صنعت من جيدنز نجما ساطعا في سماء الفكر العالمي، دعمته أجهزة الإعلام، بحيث طبقت شهرته الآفاق دون سواه. ويرى البعض أن جيدنز هو الرابع بين مؤسسي علم الاجتماع السياسي بعد ماركس ودور كاييم وفيبر. وأثارت كتبه حوارات ساخنة داخل الغرب ولا تزال. وتباينت الآراء بحدة في تطرفها يمينا ويسارا، كأن فكره مناسبة ليترسخ اليمين واليسار من خلال الحوار.
كان هذا هو السياق الكوكبي الذي انبثق عنه فكر جيدنز. ولكن ماذا عن السياق المحلي البريطاني حتى تبين لنا أبعاد المواجهة وحقيقة الخصوم الذين يتصدى لهم جيدنز حين يدعو إلى التخلي عن اليسار و«عن اليمين»، ثم إلى أي جهة يدفع بالقارئ.
السياق المحلي
بات توني بلير زعيما لحزب العمال وأنطوني جيدنز هو المفكر والمنظر الاجتماعي والسياسي للحزب نفسه . والمعروف أن هذا الحزب من سلالة الاشتراكية الديمقراطية التي بدأت جذورها كطريق وسط أو ثالث في أواخر القرن ال 19. وكانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الأصل أحزابا ماركسية. وأسس الرعيل الأول اتحاد الديمقراطيين الاشتراكيين
Social Democrats (SFD)-Federation
ليمثل الطبقة العاملة في بادئ الأمر. وانحل هذا الاتحاد وتشكلت بديلا عنه لجنة تمثل العمال عام 1900م وتحولت هذه فيما بعد إلى حزب العمال البريطاني. واتخذ الحزب في البداية - تحت رعاية وتوجيه سيدني ويب «1859-1947م» وزوجته بياترس ويب «1858-1947م» - نهجا عرف باسم الفابية. وهذه سياسة متمايزة عن النهج الماركسي، تتمثل عناصرها في التحول أو التطور التدريجي نحو الاشتراكية واتخاذ الطريق البرلماني وليس التحول الثوري العنيف.
مع حالة النمو والانتعاش في أوروبا الغربية بفضل مشروع مارشال لإعادة التعمير وتنشيط التجارة تراجع التيار اليساري داخل حزب العمال البريطاني. ورأى الحزب إمكان الإصلاح والتطوير في إطار التوافق مع الرأسمالية والاعتماد على الداخل. واتجه الحزب إلى التأكيد من جديد على نظام دولة الرفاه الذي بدأ قبل الحرب ثم أوقف بسببها. وأصدر عالم الاقتصاد والاجتماع البريطاني وليم هنري بيفريدج «1879-1963م» تقريره عام 1942م تحت عنوان «تقرير عن الضمان الاجتماعي والخدمات المتحدة»، أعلن فيه صراحة الحرب ضد الفقر والجهل والمرض والفساد السياسي والبطالة. وأن دولة الرفاه هي الأداة المنوط بها هذه المسئولية. والجدير ملاحظته هنا أن هذا التقرير، تحديدا ينتقده جيدنز في معرض رفضه المتكرر لدولة الرفاه باعتبارها اليمين؛ إذ يرى جيدنز أن هذا التقرير يركز على مسائل سلبية تماما. يقول جيدنز: حري بنا اليوم أن نتحدث عن «الرفاه الإيجابي». الذي يسهم فيه الأفراد والإدارات .. وأن يكون الرفاه أداته لخلق الثروات.
واتجه اليسار الأوروبي بعامة إلى العمل داخل إطار التوافق مع الرأسمالية. وعزز هذا الاتجاه أن اليسار الأوروبي فقد الثقة تدريجيا في النظام السوفيتي كنموذج رائد، خاصة بعد أحداث المجر في الخمسينيات وقمع القوات السوفيتية للتمرد داخل المجر. ثم بعد ذلك غزو القوات السوفيتية لتشيكوسلوفاكيا عام 1968م، هذا علاوة على افتضاح الوجه الاستبدادي للستالينية وأثارها الاجتماعية والفكرية.
ولكن خلال الربع الأخير من القرن العشرين؛ أي خلال الفصل أو المشهد الثاني لواقع حال العالم، تزايد السخط داخل حزب العمال، وقال جيمس كالاهان عبارته المشهورة: «لم يعد بالإمكان التزام النهج القديم» وشهدت بريطانيا أحداث «شتاء السخط أو الغضب» عام 1979م. وصعدت التاتشرية وسياسة الليبرالية الجديدة مقترنة بالعصا الغليظة ضد العمال، وسحقت إضراباتهم وفككت نقاباتهم.
واشتدت معاناة الحركة العمالية البريطانية بعد أن منيت بالهزيمة عام 1981-1982م، حين حاول طوني بن مقرطة وردكلة «إضفاء طابع ديمقراطي وراديكالي على الحزب» عن طريق منح القواعد سلطات أكثر. وتولى زعامة الحزب من بعده نيل كينوك
Niel Kinnock ، الذي أعاد الحزب إلى وضع غير منحاز لليسار. ومهد كينوك بذلك الأرض لزعامة توني بلير ولأمركة حزب العمال الجديد. ويقول عنه «دانييل سنجر» أصبح بلير في حاجة إلى تسويق النموذج الأمريكي داخل الحزب وداخل بريطانيا تحت اسم «الطريق الثالث» أو «لا يمين ولا يسار» ويضيف وكما عبر معلمه الروحي أنطوني جيدنز بقوله: «زلزلت التاتشرية أركان المجتمع البريطاني.» ولكن مع استعادة الحوار السياسي .. ومع المزيد من التفكير الحر .. يمكن أن تغدو بريطانيا الشرارة التي تنطلق منها عملية إبداعية بين الولايات المتحدة والقارات الأوروبية.
وهكذا تغير حزب العمال فكرا مثلما تغير اسما وبنية؛ إذ أصبح مع توني بلير حزب العمال الجديد، ليؤكد التمايز عن تاريخه. واختفت صورة العامل من قيادته لتحل صورة رجل المال والأعمال. والجدير بالذكر هو ما أورده دانييل بن سعيد في ورقة تحت عنوان «وسط جديد باسم الطريق الثالث»، قال: «لاحظت صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون أنه عند انعقاد مؤتمر حزب العمال الأخير لم تعد طرقات منطقة بلاك بول تزخر بعمال المناجم في سترات العمل «الأفرول»، بل ازدحمت برجال الأعمال الكبار وكبار المحامين والمستشارين والإداريين، وكل منهم يرتدي سترات الاحتفالات الرسمية، ويحمل هاتفه النقال. وأن أبرز الشخصيات القريبة من توني بلير من أغنى أغنياء بريطانيا، والنخبة الاجتماعية من أرقى درجات السلم الاجتماعي أصحاب ومديري البنوك والمؤسسات الصناعية والمالية الكبرى.»
الطريق الثالث وأصولية السوق
نذر جيدنز جهده لإطلاق هذه الشرارة. وتمثل جهوده الفكرية محاولة في هذا الاتجاه. والتمس بجهوده صوغ معادلة بين واقع حال يسار مهزوم مأزوم، ويمين مأزوم ولكنه متربع على قمة السلطة ويؤكد أنه نهاية التاريخ ولا بديل عنه. أزمة اليسار ليست في انتشاره؛ فالتيارات اليسارية كثيرة هنا وهناك في الغرب تحت مسميات لأحزاب ومنظمات أهلية عديدة، ولكن المشكلة التي تواجه اليسار - بكل ألوان الطيف - هي القدرة على تقديم إطار فكري جديد بديل يحوز الثقة ويبدو متماسكا ومواكبا للتطور الكوكبي. وتتمثل أزمة اليمين أيضا في سقوط أطره الفكرية الموسومة بالتقليدية بل والجديدة التي مضت أو قضت من دون أن يشير إليها أو يلحظها أحد. ونذكر هنا كمثال توافق واشنطن الذي ولد ميتا مع ما أثاره من أزمات مدمرة.
ونشير في هذا الصدد إلى ما قاله جوزيف ستيجليتز
Stiglitz Joseph
في ورقة له تحت عنوان «نحو توافق جديد للطريق الثالث».
في 9 مايو 2001م والجدير بالذكر أن ستيجليتز هو أستاذ الاقتصاد بجامعة ستانفورد، وشعل منصب رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون، وشغل قبل ذلك منصب الاقتصادي الأول في البنك الدولي، وكان رائد إنجاز توافق واشنطن ثم رائدا بعد ذلك لمحاولة إنجاز ما يعرف باسم «ما بعد توافق واشنطن»
Washington Consensus .
ويعبر حديثه عن الأزمة والحيرة إذ يقول: «إن من كانوا يحلمون بأن يحقق توافق واشنطن نجاحا وهيمنة هم أنفسهم الدين يعملون من أجل - ما بعد توافق واشنطن - ويوضح أن أيديولوجية اليمين تجسدت في «توافق واشنطن» المعبر عن النزعة الأصولية للسوق لدى الليبرالية الجديدة، ويضيف: «ولم تكن هذه النزعة أكثر نجاحا من الاشتراكية، وإن مضت أخطاؤها من دون أن يشير إليها أحد.» ويستطرد قائلا: «وحققت بلدان شرق آسيا نجاحات مذهلة حين التزمت سياسة مخالفة لما يفرضه توافق واشنطن واقتصاد السوق الحرة المسمى الليبرالية الجديدة .. خاصة أن أزمة 1997م التي عانت منها البلدان حدثت من جراء نصائح صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية .. لقد حان الوقت لتأسيس توافق «طريق ثالث» جديد ينبذ نظرة الليبرالية الجديدة التي انبثقت عن توافق واشنطن، ويعمل من أجل نظرة متوازنة بين السوق والحكم، ولا يخلط بين الوسيلة «الخصخصة والتحرير» والغايات».
صعد نجم أنطوني جيدنز واقترن اسمه بالطريق الثالث أو الاشتراكية الديمقراطية في ثوب جديد، كما يحلو له أحيانا أن يسميه. ويمثل الطريق الثالث مشروعه الفكري، ويتميز جيدنز بأن له قاموسه اللغوي ومفاهيمه المميزة مما يوجب الإلمام بمختلف جوانب فكره ومدلولات مصطلحاته قبل الحكم عليه. ويستهل جيدنز مشروعه الفكري «الطريق الثالث» برؤية تشخيصية لواقع حال العالم الجديد بعد التقليدي، الذي بدا في رأيه منذ عقدين اثنين أو أكثر قليلا. يصف العالم فيقول: «نحن نعيش في عالم مخرب مدمر بشكل جذري ويحتاج بالتالي إلى أدوية وعلاجات جذرية راديكالية.»
ويقول في إحدى محاضراته: «ونحن نودع القرن العشرين أرى أننا لسنا إزاء عالم على قدر عال من التنظيم والقدرة على التنبؤ وخاضع ليسطرتنا، بل على العكس؛ إذ إننا إزاء عالم شارد مضطرب، أو إن شئت فقل عالم منفلت؛ ومن ثم فبدلا من الحديث عن زيادة الدمج الكوكبي حري بنا أن نناقش التحولات الأساسية التي طرأت على أسلوب عالمنا واستبيان حقيقتها. إن هذه التحولات لا تتضمن فقط تحولات في وعينا الباطني وفي هويتنا.»
وينظر إلى الواقع الجديد نظرة شك: ويرى المستقبل أكثر إثارة للشك في النفس؛ إذ يقول: «نحن في مستهل زلزلة للمجتمع العالمي من أساسه .. ونحن لا نعرف إلى أين سيمضي بنا»؛ ولهذا يرى في ضوء هذه الأزمة وحالة الشك والغموض الحاجة إلى إنشاء موقع وسط راديكالي مبني على الاعتراف بأن الحاضر في حالة فيض وعملية دفق، وأن نشرع في إعادة تجميع الاهتمامات التقليدية التي يمكن للوسط الراديكالي أن يحفزها ويحركها.»
ويمهد الأرض لمشروع الطريق الثالث بانتقاد اليسار-التقليد، ويصفه ب «الشبح الذي ثار قلقه وقلق الغرب، وهو الاشتراكية بكل ألوان طيفها، وقد عاد إلى عالمه السفلي واختفى ..» وفي عبارة أخرى متكررة يقول: «إن الاشتراكية التي طننت أنها ستدفن الرأسمالية دفنتها الرأسمالية .. التي أصبحت هي المطلق ولا بديل عنها.» ويقول في تبرير ذلك: «لا يسع أي امرئ إلا أن يخلص إلى نتيجة مفادها أن العالم في آخر القرن العشرين لم يتحول على نحو ما تنبأ له مؤسسو الاشتراكية وقتما التمسوا توجيه حركة التاريخ .. لقد اعتقدوا أننا كبشرية كلما زادت معرفتنا بالواقع الاجتماعي والمادي، زادت قدرتنا على التحكم فيهما وفاء لمصالحنا .. ويمكن للبشر أن يصبحوا سادة مصيرهم ولكن جاءت الأحداث غير مصدقة لهذا.»
وينتقد اليسار الذي يقرر أن القوى العاملة المطحونة هي القوة المحركة للتاريخ نحو غاية مرسومة، فيقول: «ينبغي التخلي عن فكرة أن ثمة قوى منوط بها إنجاز أهداف مرسومة للتاريخ بما في ذلك الفكرة الميتافيزيقية التي تزعم أن التاريخ صنعة المعوزون.» بيد أننا إذا أبدلنا كلمة «المعوزون» بعبارة «المنتجون المظلومون أصحاب المصالح المهضومة» سوف يتغير المعنى ويتجلى تناقضه حين يقرر في حديثه عن أسباب العنف الاجتماعي: «إن العنف ينشأ ببساطة في أغلب الأحيان من صدام المصالح والصراع من أجل السلطة. ومن ثم نرى أن هناك كثيرا من الأوضاع المادية التي يتعين تغييرها بكل صرامة، والنضال ضدها والحد منها.» وطبيعي حين يدور الصراع سوف تتعدد الرؤى ومناهج العمل ويظهر يسار ويمين.
ونحن لا يسعنا إلا أن نقرر أنه على حق؛ إذ ينتقد نظم الحكم الاشتراكية ويصفها بالبيروقراطية، وينتقد المفكرين الاشتراكيين لهذه النظم بالجمود، وأن الواقع وقضاياه تجاوز الأطر الفكرية لليسار ولليمين «التقليديين». ولكن لنا أن نتساءل، هل سقوط النظم الإدارية أو نظم الحكم يعني سقوط التوجه الفكري جملة نحو عدالة اجتماعية أو تغيير علاقات المجتمع؟ وهل نقده لرؤية الاشتراكيين عن أن المعرفة ستجعل البشرية سيدة مصيرها .. هل هذا النقد منصب على المعرفة واستخدامها وتوظيفها بشكل مطلق أم على قوى صاحبة مصالح تستثمر المعارف تحقيقا لمصالحها من دون بقية المجتمع؟ وهذا من شأنه أن يولد صراعا وحراكا اجتماعيا تتباين وتتصارع بشأنه الرؤى والأفكار يمينا ويسارا.. أو محافظون وراديكاليون دعاة تغيير.
والجدير ملاحظته أنه في نقده للاشتراكية والإعراب عن سعادته بعودة الشبح إلى عالمه السفلي يرى أن الاشتراكية غرست قيما وأفكارا تجسد أماني ومعاني ترسخت في وجدان الناس. لذلك يتعين - حسب رأيه - مع محاولة إعادة هيكلة فكر الغرب ونهجه في الحياة؛ أن يضفي الطريق الثالث معاني جديدة على تلك القيم والأفكار حتى يتحرك الناس معه؛ أي ينتحل القيم التي غرستها الاشتراكية. وهذه هي إحدى المهام الأساسية في كتابات جيدنز.
ولكن جيدنز بقدر وضوحه وقسوته الشديدين في نقده لليسار بكل صوره ومشاربه نجده غامضا في نقده لليمين، ليس اليمين عنده هو الليبرالية الجديدة، ولا العولمة بمعنى السوق الكوكبية للمضاربات والحدود المفتوحة للشركات متعدية القومية، ولا العنف الموجه ضد الشعوب الرافضة للهيمنة، ولكن اليمين موضوع النقد والهجوم هو دولة الرفاه الكينزية التقليدية، ثم بعض أساليب الحداثة الغربية في الإنتاج؛ إذ تراه - عن حق - يرفض ما اصطلح على تسميته النزعة الإنتاجية
، والتي تعني أنانية المصالح في السعي إلى أقصى قدر من الربح من خلال المزيد من الإنتاج من دون اعتبار لتدمير الطبيعة. أي إنه يرفض هنا الإنتاجية لأسباب أيكولوجية وليس لأسباب إضافية تتعلق بالاستقرار والعدالة الاجتماعية. ويطالب بديلا عن ذلك بالإنتاجية
؛ أي الإنتاج في مصالحة مع الطبيعة. ويفيض في نقده وهجومه ضد دولة الرفاه، التي تمثل عنده التقليد الكينزي حيث يطالب اليمين - أي الليبرالية الجديدة - بتغييرها، بينما يطالب اليسار - الاشتراكي الديمقراطي - بالمحافظة عليها.
وهكذا تحول اليمين إلى راديكالي يدعو إلى التغير، بينما تحول اليسار إلى محافظ. ويقرر أن الليبرالية الجديدة تولد وتنشط عمليات راديكالية من أجل التغيير تحفزها عمليات التوسع الدءوب لأسواق دون توقف. ويقول: «الليبرالية الجديدة إحدى القوى الرئيسية التي اكتسحت التقليد ..» ويؤكد مرارا في كتاب «الطريق الثالث» أننا نعيش في عالم «لا بديل فيه عن الرأسمالية .. أي الليبرالية الجديدة .. النموذج الأمريكي.» ويدعو إلى «الإفادة من ثقافة مقاولي المشروعات لما تتصف به من دينامية في السوق ومخاطرة في العمل وروح المسئولية لمشروعات الأعمال.»
ويقرر كذلك أن دولة الرفاه خلقت مجتمع متعطلين متواكلين على الإعانات الاجتماعية، والمطلوب اقتصاديات دينامية «رأسمالية» وأشخاص يتحلون بروح المخاطرة وإعادة التأهيل، وكأنه يقول للمتعطل «لا تبتئس من البطالة وإنما كن نشطا مخاطرا لإعادة تأهيل نفسك، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك، إنها الداروينية الاجتماعية الجديدة التي أسلفنا الحديث عنها بلغة مارجريت تاتشر، ولكن بلغة جديدة، أو لنقل إنها الليبرالية الجديدة وراء قناع إنساني.» ونراه يقول صراحة في كتابه «الطريق الثالث ومنتقدوه»: «يسلم كتاب الطريق الثالث بإطار العمل السياسي لليبرالية الجديدة، خاصة ما يتعلق منه بالسوق الكوكبية؛ إذ إن الطريق الثالث يأخذ العولمة مأخذ التسليم. وأن الشيء المؤكد أنه أغفل الصراع ضد مظاهرة التفاوت في الدخل والثروة والسلطة.»
ولكن حديث جيدنز عن الرأسمالية يتسم بالتردد، ويتراوح ما بين التأييد والمناهضة والدعوة إلى إصلاحها. ولعل هذا صدى لحالة الشك العميقة في نفسه والتي صرح بها مرارا خاصة عند النظر إلى المستقبل. مثال ذلك أنه في الإجابة عن سؤال دولة الرفاه المقترحة قال: «الأشكال التقليدية غير مقبولة ولا صالحة .. وليست عندي إجابة بسيطة عن سؤالك هذا؛ لأننا جميعا مشغولون بالبحث عن الإجابة في هذه اللحظة.»
ويسأل في المدخل «بعيدا عن اليسار واليمين»: إذا كانت الاشتراكية وهنت وضعفت، هل معنى هذا أن يهيمن النظام الرأسمالي من دون تحديات؟ ويجيب: «لا أظن ذلك؛ إذ إن الأسواق الرأسمالية الطليقة التي لا يكبح جماحها شيء لا تزال تفرز نتائج مدمرة .. ويظل نقدها أمرا مهما.» ويقول في كتاب «تجليات الحداثة»: «لا تزال الرأسمالية يقينا نظاما طبقيا. وأن صراع الحركات العمالية لا يزال وثيق الصلة بما يمكن أن نسميه «ما بعد الرأسمالية». ولكن يجب ألا ينحصر تفكيرنا في الحركة العمالية وحدها كقوة دينامية في الحداثة.» «ص 158-162». ويقول في معرض حوار معه: «لا أزال أعتقد أن الرأسمالية حياتها محدودة متناهية، هذا على الرغم من أنه ليس بوسع أحد أن يرى بديلا عن الرأسمالية أو عن مجتمع السوق الآن. لا أحد في حدود علمي لديه بديل متماسك. هذه ليست ذروة التاريخ، ولا يمكن أن تكون نهاية التاريخ: أن نعيش في عالم يهيمن عليه التقلب الاقتصادي وبورصة سوق الأوراق المالية، لا يمكن في رأيي أن يكون النهاية المرغوبة للحياة. لا بد من أن هناك سبلا ممكنة لكي نعيش حياة تنأى بنفسها عن هذا .. لم يعد هناك أي نقد اشتراكي للرأسمالية، ولكن لا يزال علينا أن ننظر للرأسمالية نظرة ناقدة.»
ويوجز تصوره عن مشروعه الفكري «الطريق الثالث» في إجابته عن سؤال: ما الذي يميز الطريق الثالث عن الطرق السياسية الأخرى؟ إذ قال: «تعترف سياسة الطريق الثالث بأن القضايا التي تتجاوز حدود التقسيم بين يمين ويسار في السياسة أكبر مما كان في السابق. إنها تعمل في عالم أصبحت فيه آراء اليسار القديم بالية، وآراء اليمين الجديد قاصرة ومتناقضة .. وقاعدة الوسط لم تعد ساحة للتوافق بينهما. وإنما ساحة لقوة سياسية جديدة .. توصف بالوسط النشط الراديكالي.»
ويضيف قائلا: «وحري ألا نخلط «الطريق الثالث» بالاستخدامات الأخرى السابقة؛ إذ تشير سياسة الطريق الثالث إلى إطار للتفكير وإلى صوغ سياسة هدفها ملاءمة الديمقراطية الاشتراكية مع عالم تغير تغيرا أساسيا على مدى العشرين أو الثلاثين عاما الأخيرة. إنه الطريق الثالث، بمعنى أنه محاولة لتجاوز كل من الأسلوب القديم للديمقراطية الاشتراكية، وأيضا الليبرالية الجديدة .. إنه استجابة جديدة برجماتية إزاء القضايا السياسية اليوم.»
وهكذا يظل كتاب «بعيدا عن اليمين واليسار» وكتاب «الطريق الثالث» وغيرهما من كتب أنطوني جيدنز تنويعات على لحن واحد ضمن مشروع فكري أو محاولة اجتهادية وليست بنية لنظرية متكاملة. إنها جميعا تدخل ضمن ما قاله جيدنز نفسه: «محاولة لاستحداث فلسفة سياسية ليسار الوسط، بحيث تتجاوب مع التغيرات الكبرى والجارية التي تغير العالم.» ويمثل الطريق الثالث، كما يرى البعض، ظاهرة مصاحبة أو عرضية في سياق تاريخي معين وقابل للتغيير وفي إطار الحوار الجاد المتاسا لنهج عمل وبنية نظرية نسقية تخرج بالإنسانية - مع اعتبارات ظروف الزمان والمكان - من عالم الشواش الفكري السائد.
وإذا كان يحدثنا جيدنز عن الثقة النشطة وعن العنصر الإنساني الإيجابي الفاعل والمحب للمخاطرة وعن ديمقراطية الحوار؛ فطبيعي أن يتجلى هذا بوضوح في مجال الفكر الاجتماعي السياسي. وطبيعي أيضا، وقد أكد جيدنز صراع المصالح، أن تتباين تيارات الفكر وينشأ يمين ويسار يتجاوزان السابق من حيث الفكر والقضايا وأسلوب العمل، ويستوعبان عالمنا الجديد: يمينا ويسارا بفكر جديد ومنهج عمل جديد لقضايا جديدة، ويتصفان بالاستجابية الفورية التي يحدثنا عنها جيدنز، استجابية فورية إزاء واقع عالمي سريع التغيير يستلزم أعلى قدر من الدينامية في الفعل وفي الفكر، وأوسع نطاق من التعاون داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات.
معنى هذا أن يكون فكر جيدنز شرارة لانطلاق فكر إنساني تنويري جديد للشمال وللجنوب بعيدا عن تراث المركزية الغربية.
ليس بالبلاغة وحدها تبنى الحضارات
اعتدنا منذ قرون أن نردد عبارة: الإنسان حيوان عاقل؛ أي إن الجوهر المميز للإنسان هو العقل أو الفكر أو المنطق واللغة. وجرفنا هذا الفهم إلى الشكل الظاهري دون تحليل للنشوء التطويري للعقل؛ وارتباطه الوثيق بالفعل - العمل المجتمعي - الذي هو أيضا فعل مجتمعي له نشوءه التاريخي التكويني .. ونجد من المجتمعات من منها أقرت ثنائية الفعل/الفكر؛ بينما أخرى، ونحن منهم، اعتمدنا اللغة/الكلام أو البلاغة خاصيتنا المميزة على المجتمعات الأخرى. وساد قديما تقسيم الناس إلى قسمين: «العاملون بالمخ/الفكر وهم النخبة؛ والعاملون اليدويون وهم العامة والمسحوقون أو المنبوذون ..» وسادت ثقافة تعظيم الفكر واحتقار الفعل والعمل كأن لا علاقة بين الاثنين.
ونلمس هذا في ثقافتنا الحياتية حيث الاعتقاد بأن نطق اسم الشيء يعنى وجوده، ونعرف اسم الشيء وصفاته نظريا بينما لا نعايشه أو نعامله. وتعج ثقافتنا بأسماء مجردة نعاملها كأنها موجودات حقيقية فاعلة.
ومع مستهل حضارة عصر الصناعة، وفي ضوء التطور العلمي والصراع ضد جمود التقليد تأكد مفهوم «الهومو سابينس» أو الإنسان العاقل. وجاء هذا الفهم دعما لاستقلال الفرد وحقه في التفكير المستقل، ومسئوليته عن الفعل. ويمثل هذا التيار عدد من المفكرين من بينهم الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت» ومقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود»؛ بمعنى أن الفكر هو جوهر الوجود الإنساني وعلته. وسادت ثنائية الذات الفاعلة المستقلة بنفسها والموضوع (الطبيعة) التي هي وجود منفصل وساحة التطبيق أو الفعل في سلبية؛ أي إن الطبيعة هي المادة الخام الخاملة.
ومع تطور العلوم في جميع مجالاتها الطبيعية والإنسانية بدا واضحا أن هذه الثنائية غير صحيحة؛ إذ لا وجود لذات مستقلة ولا موضوع منفصل مثلما لا توجد طبيعة دون وجود «الذات»، وأن الوجود فعل وفكر متكاملين.
وتقول في هذا الباحثة بجامعة مانشستر «كيكوك لي»: لكي نفهم نوع الكائن المسمى هومو سابينس «الإنسان العاقل» لا يكفي أن نقنع بتصور النوع كما تصوره ديكارت بأنه في جوهره كائن مفكر يستخدم الرمز-اللغة. ذلك أن مثل هذا الفهم يحكي لنا فقط نصف القصة؛ إذ إنه يغفل قسمتين أخريين بالغتي الأهمية: إنه كائن يسير على قدمين وقد تحررت يداه، وتطور الإبهامان، وتهيأت اليدان لوظائف جديدة متطورة من خلال الفعل، وفي تفاعل مطرد مع قشرة المخ. وبدأت اليدان والمخ من خلال تفاعلها مع الطبيعة في تحويل الأشياء إلى أدوات أو أهداف ومشغولات فنية، وهذا نشاط ليس فرديا، بل نشاط مجتمعي لأهداف مجتمعية ويحقق هدفين: إشباع الحاجات اللازمة للبقاء، وتحقيق الذات والحرية معا.
وهنا نجد أن التعريف الصحيح للإنسان ليس فقط أنه كائن مفكر، بل وبالأولى «كائن صانع» «هومو فابر
Homo Fabr ». وهذا جوهر حقيقي. وإن الفعل الإنتاجي أداة لتحقيق الذات ودعم حرية الذات على نحو ما كان حال الإنسان منذ المهد في إنتاج الأدوات والمشغولات الفنية. وهكذا تجاوزت «كيكوك لي» موقف الكوجيتو الديكارتي. وجوهر الهومو فابر هو التحكم في الطبيعة ومعالجتها وفاء لغايات بشرية. وهنا القصدية في الأدوات تعني الفعل والفكر معا، وقد تطور معناها مع التاريخ إلى ما نسميه التكنولوجيا التي هي حصاد الفعل والفكر مجسدين في واحد لضمان بقاء الإنسان وحريته وتحقيق ذاته وهي غايات متطورة أيضا.
وتأكدت أهمية هذا المعنى مع تقدم العلوم. وأصبح من حقنا القول إن الإنسان الصانع أو الهومو فابر هو جوهر الحداثة في عصرنا الراهن بفضل طاقاته المجتمعية النشطة في مجال العلم والتكنولوجيا. وهذا التكامل بين الفعل والفكر يجري تاريخيا عبر قشرة المخ في صورة تغذية وتغذية مرتدة متبادلة في تطور مشترك، ولعل هذا التكامل بين الفعل والفكر هو ما جعل مفكرا مثل «سورين ريس» يقول: «التفكير في حقيقته حرفة تقنية، وأن هذا البعد التقني هو ما يجعل بالإمكان إبداع أعمال فكرية عظيمة.»
لذلك فإن المجتمع من حيث هو جماع طاقة بشرية موحدة مدعومة بالعلم والتكنولوجيا، يمثل رصيدا نشطا من الفعل والفكر معا. ومع استمرار النشاط الموحد تطرد مسيرة الحياة المتقدمة. وإذا غاب الفعل جمد الفكر. وجوهر الفعل المجتمعي المجسد في التكنولوجيا هو الحفز المتجدد للفكر من خلال مشكلات التعامل مع الطبيعة؛ أي إن الفعل يحفز البشر إلى التفكير المتجدد في العالم؛ ومن ثم نطور الفكر المجتمعي ونجدد قضايا الحياة، ولهذا فإن من لا ينتج تكنولوجيا مدعومة بالبحث العلمي؛ أي الجمع بين الفعل والفكر معا إبداعا ذاتيا ينصرف فكره إلى ما هو مجرد فقط، ويغيب عنه العالم بقوانين حركته وصيرورته. وقد يمتلك المجتمع الآلة - التكنولوجيا - ولكن يراها مجرد أداة، ويغفل عن حقيقتها أنها دمج أو نتاج تكامل بين الفعل المجتمعي والفكر المستقلين.
لذلك فإن القناعة بمجرد حيازة التكنولوجيا في العالم الثالث تمثل عبئا لا ميزة؛ وتعني تبعية وعبودية للتكنولوجيا ولمبدعيها وأخلاقياتهم. إنهم يملكونها أداة لخدمة دون إدراك لدورها كتجسيد لفكر وإبداع مجتمع آخر يمثل القوة .. قوة الإنسان الصانع «الهومو فابر» وصورة العالم لديه.
وحيازة التكنولوجيا دون العلم إبداعا ذاتيا يعني فقدان السيادة عليها؛ ويعني في التحليل النهائي غياب الواقع وقوانين صيرورته والعيش معه كوجود خامل موجود لخدمتنا باعتبارنا مركز الكون .. وليس غريبا أن من يكف عن الفعل يهيم مع عالم المجردات .. يعيش مع عمل فارغ من الفكر دون العالم بما فيه من قوانين ودون فعل التحكم فيه .. عالم سكوني، وفكر سكوني يتجاوزهما الواقع النشط .. وثقافة سكونية تمجد الماضي وأقصى طموحاتها عود على بدء.
والإيمان العملي بالفعل المجتمعي قرين الفكر في تفاعل مطرد يعني انفتاح باب الأمل والفرص في التغيير والحرية؛ وفي القدرة على التطوير وحل المشكلات على أساس من حصاد فكري متراكم ومتطور هو متاع العقل المجتمعي وحامل خصوصيته، والذي تتجلى فيه هوية المجتمع باعتبارها تجسيد الفعل المتطور. ولذا فهي هوية متطورة تتزايد ثراء وليست شيئا انتقائيا مرحليا خارج الزمان والمكان، ولا هي من نسيج خيال في غيابات التاريخ. وغياب الفعل المجتمعي استسلام للقدرية وجوهرها غياب الإرادة والمسئولية.
ومثل هذا الواقع تعبير عن موروث ثقافي يشكل إطارا فلسفيا من حيث الفهم الانطولوجي للوجود، وقدرة وحدود المعرفة عن الإنسان؛ أي الإطار الأبستمولوجي. ولكن هذا الإطار الموروث ليس قدرا ولا شيئا جبليا وإنما قابل للتغيير المشروط إراديا. ونحن، وعلى عكس الإطار الموروث، نرى ضرورة الجمع بين الإنسان الصانع والإنسان العاقل، الفعل والفكر، في نظرة تاريخية متطورة وعلى أساس منهج علمي مشروط بالتحديث الحضاري الذي هو تحديث فكر وواقع حياتي إنتاجي واجتماعي يتسق مع مقتضيات حضارة العصر وتحدياتها. وهذا إنجاز حققته مجتمعات أخرى.
وسوف يتبين لنا واضحا أن العجز عن حل المشكلات المتراكمة راجع لأسباب اجتماعية وثقافية وعملية تدخل في نطاق مسئولية الإنسان/المجتمع. وسوف يتأكد لنا أن الإنسان قادر بإرادته وبفعله وبفكره ومنهجه العلمي في الفعل وفي الفكر، أن يصحح أخطاء الماضي ويزيل أسباب التخلف إذا عرف نفسه كوجود تاريخي، وعرف عصره ومقتضياته وتحدياته، وتكيف اجتماعيا للاستجابة نحوها .. أي حين نعرف أن الإنسان جماع تاريخي متطور للفعل والفكر؛ إذ الفعل تغيير وحفز للإبداع .. والكلمة مقطوعة الصلة بالفعل الإنتاجي للوجود جمود وركود مهما كانت بلاغتها.
غربة العلم والمستقبل في حياتنا
لأي هدف نجد في حياتنا؟ هل نتحلى بجرأة العودة بشكل منهجي علمي إلى الذات والمراجعة النقدية للدور والفعل والفكر - إن وجدت - في التاريخ وفي الواقع الحالي؛ استشرافا لمستقبل ما؟ ما المؤشرات في حياتنا ذات المصداقية التي تؤكد، أو تشير من بعيد، إلى أننا نستوعب روح العصر، وهي العلم، وأننا على الطريق نحو مستقبل مرسوم بإرادتنا؟ ما الفكر وما الفعل الاجتماعيان اللذان يكفلان لنا المنافسة والتحدي في الماراثون الحضاري، خصوصا بعد أن تكثف الزمان والمكان عالميا بحكم ثورة الاتصالات، وأصبح العالم كله يسابق ويصارع بروح العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي في ساحة محدودة ومكشوفة توصف بالقرية، بعد أن كانت - حتى بضعة عقود - عالما فسيحا غير متناهي الأبعاد، يضم شعوبا لا يعرف بعضها عن بعض كثيرا أو قليلا.
إنني، عند النظر إلى المجتمعات، أمايز بين حالين: الوجود والبقاء .. الوجود مشروع إرادي قائم على الفكر والفعل الاجتماعيين معا، تأسيسا على أعلى مستوى لإنجازات حضارة العصر. والبقاء هو حياة الاطراد العشوائي .. اطراد عاطل من فعل الإبداع والتجديد .. امتداد متجانس في المكان بغير زمان، حيث لا تغيير.
ولهذا قلت فيما سبق: المجتمعات - أو لنقل الثقافات الاجتماعية - صنفان، والتصنيف ليس قدرا أبديا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار. أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف. ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث .. والمعرفة عندها، أو قل العلم الأسمى، لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد وأقوال الأولين، والأمل عود على بدء .. ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد .. الزمان امتداد متجانس، فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم فهو بداية التاريخ وغايته.
وثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار وعي عقلاني وعزم على التغيير والتجديد، وفهم لمجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقاء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارجها، وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب، تأسيسا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
والآن، وقد أصبح العلم والتكنولوجيا - بعد أن بلغا مرحليا ذروة تاريخية فاصلة - أداة صناعة الوجود وبناء المستقبل، وموضوع الصراع والمنافسة والتعاون في آن بين شعوب العالم؛ وأصبحا كذلك محور المراجعة الذاتية لمن شاء الحفاظ على موضع الصدارة أو اكتساب القدرة على اللحاق في الماراثون الحضاري، وتأسيس حياة إنسانية كريمة للشعوب تمثل دعامة ومضمون الانتماء .. ومن هنا أصبح لزاما أن نرى أنفسنا بعقل نقدي في مرآة الآخر المتقدم والمهيمن بفضل امتلاكه ناصية روح العصر .. العلم والتكنولوجيا.
ولكن لماذا العلم؟ لماذا الفهم المعرفي العلمي؟ ولماذا الإنجاز البحثي العلمي ضرورة حياة؟ ولماذا الثقافة العلمية كثقافة عامة؟ لماذا محو الأمية العلمية؟ وهذا هو ما نراه السؤال الأكثر إلحاحا ودلالة في مجتمعات عجزت عن أن تمحو بالكامل الأمية الأبجدية لشعوبها، فضلا عن ضرورة محو الأمية العلمية والأمية الحاسوبية أو الرقمية.
ليس العلم مجرد اكتساب معلومات علمية أو حيازة ذهنية لمعلومات وحيازة مادية لتكنولوجيا، ولكن العلم الذي يمثل الآن روح العصر، هو منهج في فهم ودراسة الواقع اعتمادا على العقل الناقد بهدف التدخل التجريبي للتغيير. والعلم هنا أبنية معرفية نسقية .. العلم ظاهرة اجتماعية ثقافية، وذلك باعتباره نسقا معرفيا متحدا مع بنية وأنشطة المجتمع. إنه ليس معارف متفرقة بل منهج موظف في خدمة بنية المجتمع يعمل على تماسكها واطراد تقدمها، ومواجهة تحدياتها ورسم معالم مستقبلها؛ ولهذا هو مؤسسة اجتماعية وعنصر حضاري؛ أي ركيزة البناء الحضاري.
وروح العصر هي المعرفة العلمية النسقية التي هي نمط خاص من علاقة الوجود الإنساني بالطبيعة وبالنفس وبالمجتمع .. علاقة النظر والنظرية .. صياغة قوانين وقواعد تكشف عن اطراد الظاهرة وتحولاتها، والإجابة عن السبب والكيف والقدرة على التنبؤ والإفادة العملية بذلك في الحياة الاجتماعية. والتفكير العلمي والمنهجي، أو ثقافة العلم، هي ثقافة نهمة إلى المعرفة أو مغامرة المعرفة. التفكير العلمي مدفوع بقوته الذاتية وبإنجازاته إلى المزيد. إنه نقيض ثقافة الاكتفاء الذاتي أو ثقافة الحقيقة المطلقة واليقين التي تقتل الفضول المعرفي وتعتمد التفكير الاختزالي برد الظاهرة إلى علل خارجها؛ ومن ثم يستحيل على المرء والمجتمع التحكم في شئون حياته. وثقافة العلم هي ثقافة التغيير؛ تغيير العالم عن وعي وإرادة وليس مجرد فهمه أو تأمله أو فك طلاسمه أو النظر إلى الظواهر باعتبارها إعجازا. لذلك هي ثقافة قوة الإنسان وتمكينه والثقة بالنفس، والقدرة على البحث والابتكار والتحدي والتغيير ورسم المستقبل. وثقافة العلم هي ثقافة الإيمان بقيمة الإنسانية، وبناء الإنسان؛ لذا هي ثقافة الديمقراطية.
والعلم أداة تحقيق الذات عن وعي ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وإدارة الدفاع عن النفس وكفالة الأمن والانتصار في صراع الوجود .. هي أداتنا للتعبير عن الهوية وتأكيد أصالتها بعيدا عن تهويمات أيديولوجية؛ لأن الهوية في جوهرها فعل الذات الواعية .. فعل إنجاز «النحن» المجتمعية في الاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر، وبذا تدعم الانتماء وترسخ عوامل تلاحم بنية المجتمع.
السؤال الأبدي الذي نكرره، أجيال وراء أجيال: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا ؟ والإجابة يسيرة .. السبب غربة العلم في حياتنا وغربة المستقبل أو غيابه عن إرادتنا.
نعاني أعراضا مزمنة هي بيت الداء حضاريا .. نجملها فيما يلي:
غياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وأن التنوع إثراء للفكر وازدهار حضاري .. وهي قيمة يجري غرسها من خلال التنشئة الاجتماعية والتنشئة التعليمية في المدرسة لتصنع مناخا عاما.
غياب سياسة علم وتعليم تحقق للمجتمع - بفضل ومن خلال مواطنيه - أهلية الاندماج والتكامل مع الشبكة العالمية للإنجاز العلمي والتكنولوجي وامتلاك قدرة تحقيق المصير والأمن القومي وإرادة الفعل.
هجرة الباحثين العلميين إلى الخارج، حيث يجدون ذواتهم في الفرص المتاحة للتعبير عن قدراتهم واستثمارها بدلا من حياة الغربة في الوطن.
غياب الحداثة كرؤية وهدف مرسوم ومن ثم غياب آليات التحديث في كل أنشطة المجتمع، وغياب الإيمان بأن التحديث في صورته المتكاملة؛ أعني حضارة الصناعة ومجتمع المعرفة، هما السبيل لعلاج أمراضنا. ولكن تعيش المجتمعات العربية أسيرة اقتصاد الريع، وهو نقيض حضارة الصناعة ومجتمع المعرفة؛ إذ غير خافية طبيعة الرابطة العضوية المكثفة بين الإنتاج الصناعي والبحث العلمي، وإنتاج المعرفة ومقتضيات ذلك سياسيا واجتماعيا وتعليميا .. إلخ.
تعاني المجتمعات العربية من غياب التمويل اللازم للبحث العلمي والتطوير، وتكفي الإشارة إلى أن ما تخصصه في هذا المجال لا يزيد على 0,5 في المائة من إجمالي الناتج القومي، بينما هو في البلدان الناهضة والمتقدمة يتراوح بين 2,5 في المائة و3 في المائة. وغير خاف أن طبيعة البحث العلمي الآن شديدة التعقد فضلا عن أنه يمثل شراكة كوكبية تعبر عنه علاقات عضوية بين الأكاديميات والجامعات وبين العلماء كأفراد أو المؤتمرات أو النشرات العلمية.
غياب علاقات التفاعل مع العالم الخارجي المتقدم، وهي آلية الاطلاع على الجديد والمساهمة في الإنجاز والمشاركة العضوية والتطوير لنوعية المنتج وتطوير الفكر.
غياب التعاون العلمي بين البلدان العربية على الرغم من إدراك المسئولين لأهمية هذا التعاون، وسبق انعقاد مؤتمر في الرباط العام 1976م برعاية ألكسو، وقرر المسئولون اعتماد 500 مليون دولار لأغراض البحث والتعاون ولكن لم يتحقق شيء.
غياب الإحصائيات الموثقة عما يمكن أن نسميه النشاط العلمي العربي .. بل وغياب الإحصائيات الموثقة عن الأنشطة الاجتماعية، وغياب حق الحصول على المعلومات إن وجدت، بينما هي قاعدة البحث العلمي الجاد وأساس لتحديد صورة الواقع ورسم صورة المستقبل.
ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية في عديد من المجتمعات العربية وشيوع الأمية الثقافية العلمية والأمية الحاسوبية، وهو ما يعني غياب المواطن، القيمة والدور والفعل، وغياب الثقافة التي تؤهله ليكون فاعلا ومشاركا إيجابيا بفضل الثقافة العلمية؛ أي بفضل الفهم العلمي لقضايا الإنسان، المجتمع، الطبيعة والكون من حولنا، وكما يقول «جيمس تريقيل»: «تعليم العلم يهدف إلى تحسين الرصيد القومي من المواطنين ذوي الكفاءة والأهلية لممارسة الديمقراطية، ومناقشة القضايا القومية، تأسيسا على فهم علمي للقضايا والعلم من حولنا. الديمقراطية لا تستقيم في مجتمع تسوده أمية علمية، بينما نواجه قضايا قومية وعالمية تكتسب، أكثر فأكثر، أبعادا علمية وتقنية ..» والسؤال: كيف نخلق مواطنين قادرين على ممارسة حقهم الديمقراطي بكفاءة، والمشاركة الإيجابية الواعية بفضل الثقافة العلمية؟
وحري بنا أن ندرك أن ثقافة العلم لا تنشأ ولا تسود لتمثل مناخا عاما إلا في مجتمع منتج للعلم، هو وطن للعلم؛ ومن ثم تكون ثقافة العلم عامل دعم وحفز نحو المزيد .. المزيد من الإنجاز، والمزيد من الاستمتاع بالحياة، من حيث الفهم لظواهر الحياة، والفهم لقواعد إدارة الحياة.
الأيديولوجيا والتاريخ البديل
نحن فقهاء عصرنا ..
اختلطت الأسطورة بالتاريخ، وصبغت الأيديولوجيا نسيج الحقيقة بلونها، وانتفت الموضوعية والشفافية. ويرى جمهرة الباحثين ما تؤكده سوسيولوجيا المعرفة، وما يؤكده مبحث السيميوطيقا من أن التاريخ نسيج جامع في خيوطه المتشابكة ما بين الذاتي والموضوعي، وأن التدوين التاريخي لذلك يقترب ويبتعد بدرجات متفاوتة عما يمكن إثباته تحت اسم «الحقيقة الموضوعية».
الأيديولوجيا من حيث هي منظومة رمزية تحدد للباحث ما الذي يغفله وما الذي يدركه، وكيف يفهمه ويصوغه في لغة .. الأيديولوجيا هي البارادايم أو النموذج الإرشادي أو الإطار الفكري الذي يصوغ الرؤى الممكنة عن النظام الاجتماعي في خطاب متسق مع نفسه ومفهوم لأصحابه صياغة هادفة .. يرى المرء من خلالها أهدافه/توقعاته/آماله/أفعاله .. ثم ينفثها أو يغرسها في رأس الآخر الخصم ليتبناها وليتوحد معه فكرا، منسلخا عن ذاته، ويبقى أسير وعي جديد مفروض عليه قسرا من طرف له الهيمنة .. والبشر كائنات مستخدمة للرمز/اللغة.
واللغة ليست شفافة؛ فاللغة قناع بقدر ما هي أداة توصيل؛ ولهذا فإن خبرتنا بالواقع والحقيقة الواقعية «الحدث التاريخي» تتم صياغتها بناء على معنى الأشياء عند المرء، ويتم تأطيرها على أساس المعتقدات والمثل العليا والعواطف المشتركة ضمن الوعاء الرمزي الذي نسميه اللغة.
وتأسيسا على هذا الفهم تستلزم منا المعرفة التاريخية، وفقا لمبحث سوسيولوجيا المعرفة، دراسة العلاقة بين الفكر والمجتمع، وفهم الظروف الوجودية الاجتماعية للمعلومة، الظروف التي أحاطت بإنتاج وتلقي الأفكار التي صيغت أيديولوجيا في نسق معرفي هادف .. وهذا هو منهج تأويل الفكر «الهرمينوطيقيا».
وكما يقول كارل مانهايم: «جميع الأفكار بما في ذلك الحقائق وثيقة الصلة متأثرة بالموقف الاجتماعي والتاريخي الذي انبعثت عنه.»
وتحدد أيديولوجيا الباحث؛ أي ثقافته، هدفه من البحث والمعرفة والكلمة المنشورة، وتحدد له اللغة والأسلوب ورؤيته للحدث وللعالم .. والأيديولوجيا بذلك هي القوة الناعمة في إطار الصراع للسيطرة على الأذهان/الرؤية/الفهم/النظر إلى الأمور .. ومن ثم السلوك والفعل .. وتعيد صياغة الإطار الفكري التاريخي. هذا هو ما يحدث على الصعيد المحلي بين شرائح وتيارات المجتمع، وعلى الصعيد العالمي فيما بين المجتمعات .. الصراع المسلح الذي يتوجه صراع الثقافات؛ ولهذا نقول إن مبحث التاريخ في حد ذاته هو أحد ميادين الصراع الأيديولوجي.
مبحث التاريخ حلبة صراع بين الثقافات: الرؤى والمصالح والسلوك .. والكلمة العليا لصاحب الغلبة، للمنتصر دائما .. لهذا يشمل التاريخ على ما نسميه المنفى الفعال .. أعني ما حجبته قسرا قوة المنتصر وسلطانه، وإن ظل باقيا كامنا كمن يتربص إلى حين فرصة تمنحه قوة وقدرة على الظهور مثلما كان في الماضي دون اعتبار للتغيرات، فيكون ردة؛ أو في ثوب جديد ملائم لمقتضيات روح العصر فيكون تطورا وارتقاء. ويصدق هذا أكثر ما يصدق على تاريخ مصر المهزومة سياسيا منذ 500ق.م.
اصطلحت إرادات القوى الغازية على اختلاف مشاربها على طمس الذاتية الثقافية لمصر ووعيها بذاتها التاريخية الذي يشكل ركيزة جوهرية لتماسك البنية الاجتماعية، ولوحدة الوعي التاريخي؛ واستعادة مبررات قوتها الإقليمية لكي تعقد العزم على الشروع في بناء نهضة جديدة. تاريخ مصر الذي افترى عليه الغزاة، وافترى عليه مصريون أيضا باسم الأكاديمية الزائفة حينا، وباسم المقدس حينا آخر، وأصبح منذ احتلال الفرس لمصر ومن جاء بعدهم من الغزاة موضوعا للتجريم أو التحريم. والأمر في الحالين تعبير عن صراع أيديولوجي يخفي صراع مصالح، ولا تزال الجريمة ممتدة في حق التاريخ على الرغم من استقلال مصر.
وأذكر قصة «فيثاغورس» كمثال لغرابتها ودلالتها؛ إذ تمثل قصة حياة «فيثاغورس» وإنجازاته تطبيقا لهذا النهج في الصراع الأيديولوجي الذي استنه الغزاة السابقون وإن تباينت موضوعات الانحياز. وتحول فيثاغورس في سياق تاريخ الفكر الغربي إلى لغز من حيث النشأة الفكرية وتعاليمه ومنهجه، وعرفناه نحن والغرب أنه صاحب رؤية وممارسات حياتية صوفية، وأنه صاحب نظرية رياضية سميت باسمه، ولكننا لا نعرف من أين استقى علومه .. بل لا نكاد نجد ذكرا لتاريخه إمعانا في إخفاء دور مصر العلمي. ويدخل هذا النهج المتواتر ضمن جهود استلاب تاريخ أمة وانتحال ثقافتها، وتزييف دورها العلمي لغرس مشاعر التفوق والهيمنة في نفوس الغازي، وغرس مشاعر الدونية عند أهل مصر لإعاقتهم عن النهوض أو الاعتزاز بذاتيتهم التاريخية .. تعددت سبل الاستلاب والهدف الواحد.
ونقرر من باب الأمانة أن بعض مفكري الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين بخاصة كانوا أسبق في بذل الجهد لنقد كتابة التاريخ من منظور غربي؛ ومن ثم رد الاعتبار لمصر ودورها الحضاري. وهذا هو ما حدث بالنسبة لتاريخ العديد من المستعمرات التي انبرى كتابها ومؤرخوها لكتابة تاريخ بلادهم من منظور وطني؛ ليكون التاريخ أرضية صلبة تؤكد وحدة الذاتية القومية والانتماء وتوحيد الجهود للنهضة؛ إذ إن الوعي بالتاريخ يمثل دعامة أساسية بل حيوية لحشد الجهود نحو هدف قومي مشترك.
وجدير بالذكر أنه التزاما بروح وطنية مؤسسة على فكر علمي ظهرت دراسات مصرية عديدة ترد الاعتبار لمصر القديمة. وأوضحت دراسات كثيرة مصرية وغربية أن التفاعل الفكري بين الحضارات، مصرية وبابلية وإغريقية .. إلخ. كان ثراء وإثراء للإنسانية جمعاء.
وتكشف دراسات عديدة الآن عن فضل مصر الفرعونية على علم الرياضيات والعمارة والفلك والفكر الفلسفي. ونذكر هنا الدراسة الصادرة عن الجمعية الفلسفية الأمريكية التي أصدرت عدة مجلدات ضخمة وموثقة بنصوص فرعونية تحت عنوان «العلم المصري القديم، كتاب مرجعي». نذكر من بينها المجلد الثالث بعنوان: «الرياضيات في مصر القديمة» الصادر عام 1999م.
وظهرت أيضا دراسات أوروبية ومصرية حديثة توضح أن فيثاغورس شخصية حقيقية وفد إلى مصر طالب علم مثله مثل طاليس وأفلاطون. والتحق بمعابدها بعد أن اجتاز اختبارات التأهل للالتحاق. ونهل من علمها ومكث عشرين عاما إلى أن أسره الفرس وأرسلوه إلى بابل حيث بقي هناك 18 عاما عاد بعدها شيخا هرما إلى ساموس مهبط رأسه.
وبرزت أسماء علماء وباحثين ومؤسسات أبدوا عناية كبيرة بتراث مصر العلمي في عصر الفراعنة، وهو تراث كان مصيره الإغفال أو الانتحال زمنا طويلا.
ويقول عزيز فهمي في دراسة له عن فيثاغورس: «وتقتضي الأمانة الثناء على مؤرخي علم الرياضيات في جامعة سان أندروز بأسكتلندا المتخصصة في الرياضيات، الذين قدموا تاريخا صحيحا عن حياة فيثاغورس وعن إقامته المطولة في الشرق.» ويضيف قائلا: «ويوضح المؤرخ سالينجروس
Salingiros
في مقالة له على موقع الجامعة: «إن ما أريد التأكيد عليه هنا هو فضل مصر الفرعونية على علم الرياضيات طوال 3000 سنة قبل مجيء فيثاغورس إلى مصر.»»
ونجد في كتاب «الأصول الشرقية للعلم اليوناني» تأليف د/محمود محمد علي أستاذ الفلسفة بجامعة أسيوط عرضا وافيا للنشاط العلمي في بلدان الشرق القديم، والأصول الشرقية للرياضيات وللطب اليوناني والفلك اليوناني. ثم يضيف قائلا: وكشفت برديات عديدة لمصر الفرعونية عن مدى تقدم المصريين القدماء في عدد من العلوم، في الطب والفلك والرياضيات وغيرها .. منها بردية أحمس والمعروفة باسم مكتشفها ريند
Rhind ، وبردية كاهون، وبردية برلين، وبردية موسكو، وبردية أخميم. وتكشف جميعها بوضوح عن مدى تقدم مصر الفرعونية في الرياضيات، كما تكشف عن معرفة المصريين بطرق الحساب والهندسة وقياس الأحجار وكذا الهندسة الوصفية.
إن تاريخ مصر حجبته أساطير وأكاذيب كثيرة هي بعض محاولات تزييف متعمدة هدفها اصطناع تاريخ بديل. وهدفنا رد اعتبار لتاريخ انسلخنا عنه وصدقنا الأسطورة. واستعادة صورتنا الذاتية في بنية تاريخية هو شأننا، وأهل مصر أحق بذلك حين نكون على الطريق لصنع تاريخ حقيقي جديد.
الأيديولوجيا والوعي التاريخي الزائف
كثيرون قد يهيمون على غير هدى بعيون مغلقة قانعين بثقتهم في التراث بدلا من بحث وتأمل ما يجري من تغيير .. إنه لأمر مروع.
دانييل دنيت
لم يكن التحرر الوطني ساحة للمواجهات السياسية فقط بل والمواجهات الثقافية، ولهذا كانت معارك التحرر الوطني في البلدان المستعمرة، سابقا، مناسبة للاهتمام بالدراسات التاريخية. واقترن هذا بتنامي الشعور بالنزعة القومية. وبرزت قضية الخصوصية أو الأصالة أو الهوية تعبيرا عن جهود استكشاف عناصر ومظاهر وحدة الذات التاريخية. وظهر الاهتمام بالتاريخ كدراسة علمية نقدية مواكبة لحركة التحرير لأسباب عدة: (1)
رد فعل ضد ما كتبه المستعمرون؛ أي إعادة صوغ صورة موضوعية عن الذات القومية غير الصورة التي رسمها الآخر «المستعمر»، وليكون التاريخ قوة دفع. (2)
استكشاف الوحدة التاريخية للهوية كعملية متطورة، ولتأكيد الانتماء أو التوحد والتطابق مع الجماعة.
ولقد تباينت مواقف الأمم من تاريخها أثناء وبعد التحرير؛ إذ هناك من لم ينزع إلى النظر إلى تاريخه نظرة علمية نقدية، بينما حرصت أمم أخرى على تأكيد استقلالها الفكري وصياغة بنية ذهنية موضوعية من خلال جهودها البحثية. ونذكر هنا ما قاله المفكر والمؤرخ الهندي
R. K. Panikar
عام 1947م: «تعي الهند الآن ماضيها .. لقد تعاظمت الحاجة إلى تاريخ الهند على نحو يعيد بناء الماضي بحيث يهيئ لنا فكرة عن تراثنا. إن تاريخ الهند الحقيقي أثناء الفترة البريطانية لا يتألف من أنشطة شركة الهند الشرقية ولا ممن خلفها ممثلا للتاج البريطاني، وإنما قوام تاريخنا الانتفاضة الكبرى التي قادت إلى تحول المجتمع الهندي .. وهذا على خلاف الرؤية الغربية ..»
لهذا يتصدر التاريخ كمبحث علمي وأداة إعادة بناء صورة الذات أولويات الأمة حين تهم بالنهوض عاقدة العزم على الحركة نحو المستقبل. ذلك أن المستقبل هو علة التاريخ، بمعنى أن نظرة الإنسان للتاريخ وصورة وعيه به، رهن السعي نحو بناء مستقبل محدد المعالم تحفز إليه حاجة عملية .. أولها اطراد البقاء في مواجهة تحديات الصراع؛ إذ بدون ذلك لا مكان للتاريخ كرؤية عقلانية نقدية، بل لماض متوهم. وبدون سعي الإنسان/المجتمع إلى مستقبل تحفزه وترسمه ضرورات عملية، وتستثيره تحديات التكيف والبقاء في سياق صراع الوجود، إما البناء أو الفناء الحضاري .. بدون ذلك يكون الحديث عن التاريخ ضربا من التحليق في الفراغ، بل لن يكون الحديث هنا عن تاريخ قوامه وحدة الوجود والوعي الاجتماعي، أو لنقل فعالية الذات الاجتماعية قرين وعي اجتماعي في سياق من الدينامية المطردة، وإنما سيكون التاريخ مجرد ماض أو تاريخ أسطورة .. أو أيديولوجيا.
إن الأمة تفكر لنفسها وبنفسها؛ أي يكون لها فكرها المستقل، ويتوفر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية، حين تعي ذاتها التاريخية في استجابة لتحديات مفروضة على هدي مشروع عملي مستقبلي. أو بمعنى آخر أن تحديث وتطوير المجتمع رهن شرطين: (1)
وعي عقلاني نقدي بالذات أو بالتاريخ في وحدته وحركته. (2)
استراتيجية تطوير شاملة.
والوعي العقلاني النقدي يستلزم بداية إسقاط جميع التحيزات السائدة التي تحكم نظرتنا، وأن نبدأ النظر إلى التاريخ؛ أي نبدأ المراجعة النقدية للتاريخ، تأسيسا على منهج علمي في اتساق مع متطلبات النهضة. وحري بنا أن نعترف أننا لا نملك هذا الوعي بالتاريخ في وحدته وشموله وموضوعيته لأننا لا نملك الحافز إليه ولا الجرأة على توظيف المنهج العلمي في البحث، خاصة وأننا عشنا أسرى ثقافة مندمجة مع وفي ثقافة لها قوة دمج طاغية ومتماهية مع الدلالة الدينية، وفي ضوء تراث ديني اتسع قسرا ليشمل السياسي والتاريخي وكل مكونات وعناصر الوعي الاجتماعي؛ أي أسرى أيديولوجيا.
وإن الهدف من إسقاط الانحيازات والأهواء هو الابتعاد عن الانتقائية، وتأكيد وحدة التاريخ في عراقته المطردة عميقة الجذور، وفي حركته بين المتناقضات، وبفعل هذه المتناقضات، وذلك التماسا لوحدة الأنا أو الذاتية القومية وصولا إلى حس تاريخي صادق يدعم روح الانتماء. ولن تكون صورة الأنا هنا وعاء نثار من معارف وأحداث متراكمة، بل أنا نسقية غير متصدعة؛ فاعلة ومنفعلة جمعيا، ومتطورة ومتغيرة سلبا وإيجابا في وحدة جدلية تاريخية؛ أي تأكيد شعور التوحد مع الجماعة من خلال الفعل والتفاعل على صعيد جمعي.
والتاريخ في ضوء هذا ليس هو الماضي، وليس شتاتا من وقائع نرويها، بل هو البعد الزماني لوعي المجتمع في إطار وظيفي هادف. إنه الصياغة النظرية لهذه الوقائع في نسق يكشف عن طبيعة العلاقة بينها داخل تجمع دينامي لقوى تعبر عن ذاتها وتتجلى في صيرورة مطردة .. وبدون هذا النسق النظري الذي يضع الإنسان؛ ومن ثم المجتمع، باعتباره وجودا ممتدا بامتداد الأحقاب والعصور نفقد القدرة على فهم الذات وتأكيد وحدتها ضمانا لفعاليتها الإيجابية في حركتها نحو المستقبل؛ بل أقول نفقد دعامة أولى وشرطا مسبقا، من بين شروط أخرى، للقدرة على تصور المستقبل كهدف نابع من ذاتنا وننتمي إليه.
ولهذا أصبح علم التاريخ هو البعد الزماني للعلوم الاجتماعية، وهو حصاد إسقاط العلوم على أحداث التاريخ من حيث هي تعبير عن ذات فاعلة «المجتمع» داخل بنية وفي سياق محلي وإقليمي وعالمي بكل تحدياته؛ ولهذا ارتبط التاريخ في تقدمه بتقدم العلوم الإنسانية والعلوم بعامة، حتى إن هناك من يرى أن التاريخ والعلوم الأخرى أجزاء من متصل واحد وصولا إلى نظرة شاملة إلى وعي الإنسان/المجتمع. ودفع هذا البعض إلى القول إن التاريخ القومي، والنظرية التاريخية القومية، جزء من نسق أشمل هو نظرية تاريخ الإنسان؛ لأن النوع الإنساني بعض هذا الكون الطبيعي على اتساعه؛ إذ هل يستغني عالم البيولوجيا عن التاريخ؟ وهل لا توجد صلة بين الزمن التاريخي والزمن البيولوجي؟ أو بين التاريخ من حيث هو البعد الزماني للإنسان وبين الجيولوجيا وتأثير عناصر الجيولوجيا في تطور الكائنات الحية وتطور الحضارة؟ وهل هناك قطيعة في التاريخ بين الحضارات والشعوب؟ أليس التاريخ المروري أو المكتوب يمثل رأيا ورؤية في صياغة لغوية داخل سياق اجتماعي له شروطه ومن ثم يلزم فهم الرواية في ضوء التحليل اللغوي والاجتماعي؟ ويلزم الكشف عن المسكوت عنه أو ما نسميه المنفي الفعال؟
لهذا لم يعد ممكنا دراسة التاريخ أو دراسة الإنسان في بعده الزماني باعتباره حدثا أو أحداثا مفردة، بل التاريخ منتج اجتماعي جامع لعناصر كثيرة تتكامل في دراستها وتحليلها وفهمها علوم متباينة. وأضحت القاعدة أن يضم أي مؤتمر لعلم التاريخ علماء من تخصصات مختلفة توافروا على بحث ظاهرة مشتركة من زوايا متكاملة. ويأتي هذا اتساقا مع منهج البحث الجامع أو منهج البحوث البينية
interdisciplinary .
وأفضى هذا إلى أن تحول الاهتمام من الخاص إلى العام، ومن الحدث المفرد إلى الإطار البنيوي الأساسي الذي تعمل فيه الأحداث والشخصيات؛ أعني رؤية الحدث التاريخ، وهو المنتج الاجتماعي، في سياقه الاجتماعي الكامل، وباعتباره دالة على الفعالية وعلى البنية الاجتماعية معا. ومن هنا لم يعد بالإمكان وجود عالم تاريخ ولا علم تاريخ في بيئة «علمية» منعزلة عن العلوم الأخرى وإنجازاتها، وعما طرأ على مناهج البحث من تحولات. ومن هنا أيضا لا يمكن أن ينهض علم التاريخ إلا في إطار نهضة علمية متكاملة تشكل ركيزة حركة مستقبلية شاملة المجتمع كله. والعكس صحيح أيضا؛ إذ لا يمكن أن ينهض مجتمع ويمضي قدما نحو المستقبل بدون نهضة علمية متكاملة شاملة علم التاريخ منهجا ونهجا ونظرية.
وإذا كان البعد العلمي شرطا للنهضة، فإنه بالأولى شرط لفهم الذات في بعدها الزماني ووحدتها التاريخية، ففي هذا حصانة ووقاء ضد الشعور بالدونية عند التعامل مع الغير، وتأكيد للذاتية عند التصدي للحركة المستقبلية، وضد التهويم في الفراغ أسرى أهواء وأساطير تقتلعنا من واقع الحياة وتحدياتها .. وإن مقتضيات التحديث الإجابة عن سؤال ماذا أفعل بالتاريخ، أو بما هو تاريخي، أو بما هو موروث ثقافي عن التاريخ؟ تماما مثلما أسأل وماذا أفعل بما هو غير عقلاني في المجتمع والتاريخ وفي الموروث الثقافي؟ وأيضا كيف أفهم المعلومة التاريخية على نحو موثوق ومعتمد لتوظيفها في إطار حركة المجتمع المستقبلية؟
ذلك لأننا في رؤيتنا لصورتنا الذاتية التاريخية تعرضنا لما يمكن أن نسميه انتهاكا لموضوعية التاريخ؛ إذ تناوبتنا قوى غازية عديدة، وحاولت كل قوة من هذه القوى أن تقدم نفسها باعتبار أنها هي «الأصيل»، بينما ماضينا هو «الآخر»، والعدو، أو الزائف، أو الجاهلية. ونجد هذا متحققا سواء كان الوافد عقيدة دينية أم قوى استغلال سافرة. وأدى هذا إلى نشوء علاقة جدلية متوترة بين الماضي السابق على الغزو وبين الرؤية الأيديولوجية الجديدة؛ إذ قد نرى الفن الفرعوني؛ أيديولوجيا، عملا مرذولا ننسلخ عنه؛ أعني أن تنسلخ الذات عن تاريخها لحساب نظرة أيديولوجية جديدة. هذا بينما نجد مجتمعات أخرى عمدت في تأكيد وحدتها القومية إلى استيعاب كل عناصر التاريخ في بنية واحدة ممتدة على الرغم من التوترات والتناقضات. نجد هذا في رؤية الهند لتاريخ المغول، ورؤية شعوب المكسيك للمسيحية الوافدة.
ونحن لا نزال في رؤيتنا التاريخية تحت سطوة منهج السلف المعتمد على الرواية والمنبثق عن أيديولوجيا. والرواية رؤية تحكمها أيديولوجيا وسياق اجتماعي (اقتصاد وسياسة ولغة .. إلخ). وننزع في اتجاهنا التاريخي نحو التجميع والتوليف دون التحليل، بل قد تجبرنا الرؤية الأيديولوجية على إغفال النظر إلى وقائع أو تحويرها. ونلحظ أن الرواة تعاملوا مع الماضي على نحو ما يتعاملون مع الواقع؛ أعني التعامل في ضوء حاجة تمليها السلطة وسطوة السلطان. ويشهد التاريخ المكتوب أن السلطة كان لها دائما دور مركزي انعكس على النهج السائد في كتابة التاريخ، فجاء التاريخ المكتوب تاريخ القوى المتسلطة. وتعذر التحقق من صدق الرواية الواقعة، نظرا لغياب الوثائق والتوثيق في حياتنا الثقافية. وغالبا ما تكون الرواية للتبرير، وليس للتسجيل.
وأفضى هذا إلى إغفال كل قوى المعارضة في التاريخ؛ مما يجعلنا نسأل، ما الذي أهمله التاريخ؟ ومن الذين أهملهم التاريخ المروري أو زيف تاريخهم من قادة فكر أو حركات سياسية أو قبائل أو معتقدات أو حضارات؟ ولنا أن نسأل ما هو التاريخ المسكوت عنه، أو التاريخ الصامت، بفعل سلطان الأيديولوجيا .. أيديولوجيا سياسية أو دينية .. إلخ. لقد اشتمل تاريخنا على مساحات متواترة صماء مظلمة ولكنها ليست خرساء، بمعنى أن الرواية التاريخية لا تلغي الواقع؛ فالتاريخ الممنوع، أو غير المعلن، موجود تحت السطح، فاعل وله دلالته التاريخية، بل ودوره الاجتماعي الذي يتعين الكشف عنه.
وأفضى نهج التبرير الأيديولوجي في رواية التاريخ إلى إنكار واستنكار مراحل كاملة من تاريخنا. وهكذا بات من أخطر أمراضنا عرض اختلال الأنا، وافتقاد الحس التاريخي بوحدة الذاتية القومية في بعدها الزماني كوحدة جدلية على الرغم من التناقضات أو من خلال تفاعل التناقضات. واعتدنا أن نعيش أسرى الحدث المرحلي الأخير؛ مما دفع البعض إلى قول ما يقوله العلامة المؤرخ البريطاني بترفيلد: «إن الساميين يرون الحدث التاريخي نقطة فصل لا وصل بين الماضي والمستقبل، حيث قد نبدأ من الحدث وننفي أو نشوه ما سبق تعزيزا وتبريرا للجديد. ولا يهم التسلسل، فإن الحدث كيان مستقل، ولهذا ينتهي التاريخ عند حدث معين هو الخاتم المبين، ونرى فيه أيديولوجيا النهاية والغاية وننشد العودة إليه .. بينما الصواب أن الحدث نقطة فصل ووصل في امتداد أو متصل كوني.»
إننا على المستوى الثقافي الاجتماعي، بل وعلى المستوى التعليمي والعلمي، نعيش تاريخا ممزق الأوصال، يدعم اختلال الأنا، ويشوه الحس التاريخي في وحدته، وهذا من شأنه أن يطمس عوامل التضافر الاجتماعي ويثير عوامل الفرقة على أساس عرقي أو طائفي أو عقيدي. وها نحن نرى كتابات أهل السنة تصادر على الشيعة، والعكس بالعكس، ونرى الاثنين معا يصادران على الخوارج، وبين هذا وذاك نملك روايات مقطوعة الصلة بواقعها الاجتماعي، ومساحات مهملة أو مغفلة عن عمد .. لذا بات مشروعا السؤال: ما هي حقيقة التاريخ وسط هذا الركام المتنافر. وتفاقم هذا الخطأ والخطر لما له من تأثير يكاد يهدد حياتنا على نحو ما رأينا في التاريخ، ونرى الآن، من صراع دموي معلن أو مضمر تغذيه في العراق وفي العربية السعودية ومصر، كمثال، نزعات طائفية مذهبية تنفي المواطنة والوطنية وتعطي الأولوية المطلقة للطائفية أو المذهب على حساب الوطني وبقائه؛ أي السلطة، كل السلطة للأيديولوجيا على حساب الحقيقة.
إذا كنا ننشد تغييرا جذريا للمجتمع، فإن أول شروط ذلك فهم التاريخ علميا فهما نقديا في وحدته وحركته الدينامية ليكون ولاؤنا إبداعيا، وليكون حسنا التاريخي صادقا، فتقوى لحمة المجتمع وتتماسك عناصره. إننا نريد تاريخا حقيقيا لا التاريخ الأسطورة. وسبيلنا إليه التزام بمنهج بحث علمي لدراسة واقع التاريخ والعوامل الاجتماعية المحركة له بكل ما في هذه الحركة من تناقض، وواقع العوامل المؤثرة سلبا وإيجابا على هذا التاريخ إلى حد أن وصل إلينا؛ وتحليل هذا الواقع في إطاره الثقافي للمجتمع الذي نشأ فيه .. والواقع مفهوم واسع يشمل الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية .. إلخ، حتى تتوافر لنا من خلال تعاون علم التاريخ مع علوم الإنسان الأخرى رؤية شاملة مقننة عن المجتمع والفرد، ونهج استجاباته وفعاليته؛ ومن ثم تتيسر آلية تعبئة طاقة المجتمع في حركة نحو المستقبل.
ويدعم هذا النهج اتباع أو ابتداع منهج بحث جديد لأركيولوجيا التاريخ يكشف عن حقيقة البنى المفهومية القائمة وراء شتى مراحل التاريخ .. ليغدو التاريخ خريطة معرفية «جيولوجية» أو تراتبية للأمة .. ونفهم أنفسنا، ونستكشف على هديه الطبقات التاريخية للمجتمع على مدى الزمان في ضوء دراسات اجتماعية ولغوية واقتصادية وسياسية وفكرية بحيث تمهد لنا هذه الدراسة الطريق إلى صياغة نظرية عن الإنسان في تطوره على هذه الأصعدة؛ مما يخلق أرضا صلبة تدعم حركة المجتمع المستقبلية.
القرن الأمريكي: البداية والنهاية
البداية
في عام 1941م كتب «هنري لوس» المحرر بمجلة تايم مقالا يحض فيه الولايات المتحدة على أن تتبوأ مكانتها في التحالف ضد النازية لتخطو على طريق زعامة العالم. وكان هو أول من صاغ عبارة «القرن الأمريكي» وتعني العبارة من بين ما تعني سيادة «السلم الأمريكي
» أي استقرار الأمن في العالم وفقا لهوى ومصالح وإرادة أمريكا. وهذه فكرة مستوحاة من حالات سابقة في التاريخ البعيد والقريب وإن اختلف النطاق؛ إذ كان القرن التاسع عشر هو قرن السلم البريطاني
حين كانت بريطانيا القوة الأعظم وفرضت سطوتها وحمايتها على الأراضي والبشر. ويعبر، كمثال، عن مضمون هذا التوجه كلمة «لورد بالمرستون» عام 1850م في مجلس العموم البريطاني؛ أي والعالم يعيش قرن السلم البريطاني: «أن أي رعية بريطاني في أي مكان في العالم يجب أن يكون واثقا من أن عين إنجلترا اليقظة وذراعها الطولى القوية سوف تحميانه من ظلم وأخطاء الآخرين.» مثلما كان حال المواطن الروماني في عصر السلم الروماني
أو سيادة وهيمنة الإمبراطورية الرومانية؛ إذ يكفي أن يقول: «إني من مواطني روما»؛ أي أنا صاحب السيادة والحماية . وهذا هو عين شعور الأمريكي.
وتواتر الحديث بعد مقال «هنري لوس» عن القرن الأمريكي. وتغير في توافق مع تغير واقع الأحداث وميزان القوة في العالم؛ إذ نجد أخيرا أحاديث في صيغة تساؤل: هل من قرن أمريكي ثان؟ تعبيرا عن التفاؤل حينا وعن الشك حينا آخر. وارتفعت صيغة التفاؤل خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك رابطة الدول الاشتراكية. ونجد آخرين يحدثوننا صراحة عن «نهاية القرن الأمريكي». بل إن بعض القوى والمراكز الأمريكية خاصة الأقليات الذين عانوا من قهر وبطش السلطات الحاكمة ويقدمون أنفسهم وحياتهم الاجتماعية دليلا على زيف الشعارات الأمريكية؛ إذ يكتب هؤلاء، ومن بينهم الهنود أو السود الأمريكيون دراسات ومقالات بل ويعقدون الندوات تحت عنوان «قرن من العار
A Century Of Dishonor » ولكن ثمة أسئلة: متى بدأ القرن الأمريكي؟ وهل من نهاية له؟ ومتى بدأت النهاية؟ أو كيف ستكون هذه النهاية؟
أحسب أن القرن الأمريكي بدأ بعد أن أجهز الشمال الصناعي الأمريكي على الجنوب الزراعي فيما عرف باسم الحرب الأهلية 1861-1865م. انتفض المارد وتطلع في نهم إلى الخارج .. بداية الطريق. ولكن بأي لسان ومن وراء أي قناع يتحدث إلى العالم؟ شأن جميع القوى الطامعة تشرع في غزواتها تحت اسم رسالة جديدة إلى الإنسان والإنسانية. وهنا كان الحديث عن «العالم الحر». وجرت تسمية الهيمنة على الجنوب اسم «تحرير العبيد» والإعلان عن التزام «العالم الحر» الجديد بأن «الناس جميعا سواسية» على نحو ما أعلن أبراهام لنكولن.
ويمكن القول بعبارة أخرى أن الولايات المتحدة بدأت أولى خطواتها على طريق زعامة العالم، ومن ثم مطلع القرن الأمريكي مع بداية أفول عصر السلم البريطاني وبداية تخلف بريطانيا أو تراجعها مع بداية الكساد العظيم عام 1873م كما أوضح أندريه جوندر فرانك في كتابه «الشرق يصعد ثانية» ترجمة شوقي جلال؛ إذ في هذه الفترة انتزعت ألمانيا وأمريكا الشمالية من بريطانيا موقعها المتميز ومصدر كبريائها. والمعروف أن الولايات المتحدة كانت عام 1860م تحتل المركز الرابع من حيث الإنتاج العالمي. وقبل نهاية القرن أو في عام 1894م أضحت الدولة الأولى في العالم من حيث حجم الإنتاج.
وتجلت مشاعر الزعامة العالمية أو الطموح إليها على ألسنة الزعماء والمفكرين والأدباء. ويكفي أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت «1858-1911م» يصرح عند ضم قناة بنما إلى الولايات المتحدة «إن الولايات المتحدة إذ تضم قناة بنما إليها إنما تأخذ طريقها الصاعد كقوة عظمى» وهو القائل أيضا: «أمركة العالم قدر ومصير أمتنا.» (انظر، شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، دار مدبولي للنشر.)
وبدأت الولايات المتحدة خلال هذه الحقبة تبحث لنفسها عن فكر جديد يعبر عن أصحاب السيادة في الاقتصاد وفي السياسة وفي المجتمع، ويعبر عن أساليب الحكم وكفالة الأمن والاستقرار لصالحهم، ثم يعبر بعد ذلك عن مضمون الرسالة ذات الحدين إلى العالم والتي حملت بعد ذلك العبارة المجازية العصا والجزرة الأمريكيتين.
شهدت الفترة من 1860 إلى 1890م مراجعة عنيفة لطابع الحياة الأمريكية والتماس فكر جديد. ويعتبر الربع الأخير من القرن ال 19 بداية العصر الذهبي للفكر الأمريكي النزاع إلى الهيمنة على صعيد عالمي. ظهر مفكرون اقتصاديون من أمثال هنري كاري، وفرنسيس إيه ووكر، وأدوين لورنس جودكين. وأكد هؤلاء مبدأ حرية الإنسان من حيث كونه حيوانا سياسيا واقتصاديا، وأن المال معيار القيمة، والهيمنة أو الاحتكار الهدف الأسمى. ونجد من بينهم من عبر عن ذلك بقوله: «إذا قلت المنافسة هي حياة التجارة فأنت تردد حكمة عفا عليها الزمن.» وساد الولايات المتحدة قول مأثور: «كل ما يحقق الكسب حتى وإن كان النهب فهو موضع تقدير.» ويتسق هذا مع قول ألكسندر هاملتون: «النجاح لا يعرف الأخلاق». وتضخمت مشاعر الذات الأمريكية العنصرية قرينة مشاعر الطمع. ويتجلى هذا في قول السيناتور ألبرت بيفريدج «نحن أنجلو ساكسون، يتعين علينا أن نلتزم بما يفرضه علينا دمنا ونحتل أسواقا جديدة، بل وأراضي جديدة.»
وعبر الأدب عن حقبة الصعود إلى منبر الزعامة العالمية. ونقرأ كمثال على لسان الروائي الأمريكي هيرمان ميلفيل «1819-1891م»: «نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب .. والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير .. بات لزاما على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة .. نحن الطليعة ننتقل إلى البرية لنقدم ما لم يقدمه الأوائل ..»
وتشكلت نواد من المفكرين الساعين للوفاء بمتطلبات المرحلة وتقديم أيديولوجيا أو قناع فكري للرسالة الأمريكية إلى العالم. ولعل أبرز هذه النوادي ما عرف باسم النادي الميتافيزيقي «1871-1874م». ضم النادي عددا من أهم أعلام الفكر الفلسفي الأمريكي الجديد. نذكر من بينهم أولا «جون فايسك» المؤرخ الذي عبر عن الحلم الأمريكي العظيم في قصة خيالية؛ إذ حدثنا عن رؤيته ورؤياه للمجتمع الأمريكي العظيم الذي يمتد في تواضع من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، بل ويتجاوز هذه الحدود إلى ما بين الأفلاك.
ونذكر أيضا «شارلس بيرس» الفيلسوف وعالم المنطق بامتياز. ولكن الذي يعنينا هنا دوره في تيسير الأداة الفكرية لهيمنة الدولة، وتبرير كل الأساليب بما في ذلك القهر والتعذيب لكفالة الهيمنة تحت عنوان «تثبيت إرادة الاعتقاد»؛ إذ قال: «إرادة الدولة هي التي تصوغ الاعتقاد لدى الناس وتثبته في الأذهان بما تملكه من قوة وسلطان ..» ثم يقول: «ولنجعل كل من ينبذون الاعتقاد الرسمي الأمريكي يلزمون جانب الصمت في هلع .. ولنجر تحريات وتحقيقات عن طريق تفكير المشتبه فيهم .. ولنوقع عليهم العقوبات .. أو لنبدأ مذبحة عامة لكل من لم يفكر على النحو الذي أرادته الدولة (الأمريكية طبعا!)» (شوقي جلال، العقل الأمريكي يفكر، ص126). وإذا قلنا الدولة الأمريكية وأبدلنا الناس بالمجتمعات الدولية سوف يتضح المعنى والنزوع إلى الهيمنة.
وأرجو من القارئ أن يتذكر كلمات «بيرس» إذ سنعود إليها عند الإشارة إلى تأزم الفكر والمجتمع والشعور بأن فكر «بيرس» طوق النجاة لدفع الأخطار.
النهاية
ولكن هل انتهى القرن الأمريكي ومتى؟ أم أن العالم بصدد قرن أمريكي ثان على نحو ما يأمل اليمين الأمريكي؟ الإجابة ليست فيما يأمل فيه أو يريده الأمريكيون يمينيين أو يساريين، بيضا أو سودا. والإجابة أيضا ليست فقط فيما يرجى داخل الولايات المتحدة حصرا بل وحسب منهج البحث الكوكبي فإننا نسأل عن عاملين: ماذا يجري داخل أمريكا؟ وماذا يجري في العالم؟ وما هي المؤشرات والمظاهر والوقائع القائمة والمحتملة في ضوء علاقات الصراع أو التناقض؟ إن العوامل المتفاعلة والحاسمة ليست الداخلية فقط بل الكوكبية .. وليدة بنية ووظيفة النطاق الكوكبي ذاته والذي تحاول الولايات المتحدة الآن، باعتبارها القطب الأوحد، أن تستأثر به كقوة فاعلة، حفاظا على زعامتها. ولكن مثل هذا النهج يصادف هوى في نفس القوى القائدة ومن ثم يحملها ما فوق طاقتها فيكون الهاوية.
منذ انتصاف القرن العشرين بدت الولايات المتحدة أكثر قلقا وحديثا عن «المستقبل» على عكس الحال قبل جيلين. اقترن الحديث ليس بالآمال العراض على نحو ما كان الحال بعد الحرب الأهلية بل اقترن بهواجس ونذر الخوف على المستقبل. اعتلت الولايات المتحدة ذروة الهيمنة سياسيا وثقافيا وإعلاميا مع نهاية الحرب العالمية. وظهر هنا نقيضها متمثلا ليس في نهاية عصر الاستعمار الأوروبي فقط بل وفي بداية صعود بلدان الشرق الأقصى في محاولة لاستعادة ثقافتها، حضارتها، ذاتها، مكانتها في التاريخ وعلى الساحة العالمية كقوى إنتاجية فاعلة ومؤثرة. وبدأ الصراع وبدأت معالم الهزيمة مع فيتنام إعلانا يؤكد انتصار الشعوب؛ ثم صحوة التنين الأكبر-الصين .. وامتدت الصراعات، وتواترت التدخلات العسكرية الأمريكية لإكراه الوضع العالمي على البقاء حيث تريد هي له.
وجدير بالذكر هنا أن «بول كينيدي» في كتابه «الإعداد للقرن 21» يحدثنا عن صورة مناظرة حتى لا تخدعنا ظواهر الأحداث ومظاهر القوة. يقول: «منذ مائة عام ساد بريطانيا حوار عن المستقبل بينما هي القوة الأعظم ..» ودار الحديث عن الاستعداد للقرن العشرين وعن القدرة التنافسية في الاقتصاد العالمي. وكانت من بين مشكلاتها آنذاك «شأن الولايات المتحدة الآن» أولويات الإنفاق: هل هي القوة العسكرية لفرض الهيمنة؟ أم في الداخل وتحسين الأحوال المعيشية، وعلى النظام التعليمي العام، وعن كفاءة الصناعة، وعن معالجة الفقر ومستويات الاستثمار، ونقص المهندسين والعلميين وغلبة خريجي الكليات النظرية مثل المحامين. ويشير بول كينيدي في موضع آخر: «الولايات المتحدة الآن هي الأقوى عسكريا وثقافيا في الجو والبر والبحر وهي البلد الوحيد الذي تمتد قبضته إلى أقاصي الأرض»
Global Reach
ولنتذكر هنا مدلول الكوكبية أو العولمة في العقل الأمريكي. ويستطرد قائلا: ولكن تكاليف الدفاع تسبب قدرا كبيرا من الخسارة الاقتصادية.
ويمثل هذا امتدادا وتطويرا لحديثه عن أسباب صعود وسقوط القوى العظمى في كتابه الذي يحمل هذا العنوان؛ إذ يرى أن الولايات المتحدة في سبيل الالتزام بعقيدة أو عقدة التفوق والاستعلاء والزعامة العالمية وبسط قوتها العسكرية باتساع نطاق يتجاوز كثيرا قدراتها وطاقتها الاقتصادية. ويقرر أنه إذا زادت الالتزامات الاستراتيجية للدولة عن إمكانياتها الاقتصادية فإنها تأخذ طريقها إلى السقوط والاضمحلال. وإن خروج الولايات المتحدة بكامل قواتها وطاقاتها الحربية إلى أقاصي الأرض والبحار والمحيطات لإخضاع هذا البلد أو ذاك وإلزام الجميع بالطاعة والصمت إنما هو دليل على رفض الخارج لها وتحميلها أعباء اقتصادية تفوق قدرتها على استمرار تحمل عبء الزعامة العالمية.
إن عقدة العظمة والاستعلاء الأمريكية تجعل من الصعب نفسيا وعقليا قبول الأمريكي العام، ناهيك عن جنس الأبيض المسئول، حقائق التاريخ والتغيير أو قبول أحداث الواقع ومطالبة الآخر بالتكافؤ والمساواة والندية في حق البقاء والتقدم. ويفضي مثل هذا الوضع بالمريض المصاب بحالة البارانويا - أي جنون العظمة - إلى تخطئة العالم-الواقع ومن ثم ترى الولايات المتحدة الآن أن رسالتها تفرض عليها الآن وفي ضوء الأحداث تصحيح الوضع بما يتسق مع عقيدتها أو عقدتها. ويتسق هذا مع ما قاله شارلس كروتامير في مقال له بعنوان «قرن أمريكي ثان» في 20 ديسمبر/كانون أول 1999م إذ يقول:
إذا كان القرن العشرون هو القرن الأمريكي فإن تسعينيات هذا القرن شهدت تظاهرات استعراضية للقوة الأمريكية الطاغية في الخليج وكوسوفو (ونضيف أفغانستان والعراق وسوريا الآن). وهذه هي قمة تحلل أمريكا. لقد كان الاتحاد السوفيتي قوة عظمى عسكريا ولكن قوته لم تحمه من الانهيار أو التراجع. ومنذ قرنين كانت فرنسا القوة العظمى بقيادة نابليون ولكن تحالفت روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا لهزيمتها. بيد أن الوضع الآن مختلف من حيث عدم وجود عناصر قوية لإقامة تحالف قوي مناهض. فضلا عن الردع النووي، ولكن هناك تحالف على طريق النمو.
ونحن نرى أن نهاية القرن الأمريكي، وبداية النهاية، تزامنت في منتصف القرن العشرين مع بداية حقبة نهاية الاستعمار، ونشوء ظرف كوني جديد خلق سياقا عالميا مغايرا. ونلحظ هنا مسار النقيضين معا؛ بدايات الصعود مع بوادر الانحسار على المستويين المحلي والعالمي، والوعي بذلك أيضا على المستويين الشعوري وما تحت الشعور وهو ما تجسد في الفكر الأمريكي العالمي.
بدأ هاجس الخوف من المستقبل وعليه من خلال كثرة الحديث عن المستقبل بشأن بريطانيا في سبعينيات القرن ال 19، وجاء هذا الحديث المتواتر رد فعل لما يلي، كما استلزم رد فعل مناوئا من أمريكا:
صعود البلدان المستعمرة سابقا وإصرارها على إحياء ثقافتها وبناء نهضتها وهو ما تعارض مع أطماع وأحلام الولايات المتحدة في وراثة مستعمرات القارة الأوروبية. وخاضت الولايات المتحدة معارك حربية ساخنة أو معارك سياسية ضد الدول أو الشعوب التي أصرت على انتزاع حقها واستقلالها مثل فيتنام وكوريا ج. والصين.
ثورات الطلاب والشباب واليسار الجديد في الستينيات داخل أوروبا والولايات المتحدة. واتسع نطاق حركات الاحتجاج ضد قهر السلطات والاحتكارات، وضد بطش الآلة وميكانيكية الحياة، وضياع القيم الإنسانية وسقوط الحرية الفردية التي وصفها فلاسفة السلطة آنذاك، ومن بينهم «سكينر»، بأنها وهم. ومن ثم بداية سقوط الحلم الأمريكي أو زوال الغشاوة عن أعين الشباب مع الإحساس بانهيار المثل العليا للمجتمع الأمريكي العظيم. الحلم الذي لم يتحقق.
ظهور نزعات انفصالية ويسارية وفوضوية وسط الأقليات خاصة السود وكذلك أقليات الهنود الأمريكيين.
الحركة العمالية والشبابية في الغرب تتمرد ضد قيادات السلطة التقليدية. وبلغت الحركة ذروتها عندما نشأ في أمريكا تحالف العمل عام 1968م الذي يدعم الاتجاهات التقدمية في الحركة العمالية والمطالبة بالتغيير.
شباب اليسار الجديد في الولايات المتحدة يصدر بيانا يتهم فيه نظام وسلطات المجتمع الأمريكي جاء فيه إريك فرم؟ الهرب من الحرية: «نحن نتهم المجتمع الراهن بأنه أسير إطار عقل فاسد شرير. إطار عقل يتسامح من الظلم وبلادة الحس والافتقار إلى الصدق والإنسانية. ونحن نتهم المجتمع مثلما نتهم مشروعات الأعمال والسلطة والحكومية والأوساط الأكاديمية المسئولة بأن ليس لهم جميعا من هدف أسمى من الحفاظ على الوضع القائم الذي يقصر كثيرا دون الوعد الأمريكي».
بعد الحرب العالمية الثانية، وتولد هاجس الخوف من المستقبل، وإزاء هذه التحولات ظهرت المكارثية والإعدام على الكرسي الكهربائي ضد العلماء والمفكرين ومن تسول لهم أنفسهم المعارضة.
في هذا المناخ منذ الخمسينيات بدأ الشعور في أوساط مفكري السلطة بأن نفوذ الفلسفة البرجماتية تدهور. وهنا تعالت صيحة «العودة إلى بيرس ..» ونذكر هنا رأي بيرس الذي أسلفناه في الكيفية التي تحكم بها السلطة قبضتها وثبت عقيدتها بين الناس .. وظهرت اتجاهات تروج لمقولة انتهاء عصر الأيديولوجيا، والمقصود هنا تفريغ الرءوس من الفكر الاجتماعي المناهض.
وبعد الحرب العالمية الثانية سطع نجم بورهوس فريدريك سكينر نبي فلسفة التربية وتكنولوجيا السلوك الاجتماعي وخليفة بيرس في تثبيت عقيدة الدولة. ونراه يقدم فكره لرجال السلطة - أو للدولة - ويقول كمثال ما يصدق في رأيه محليا وعالميا:
الأقوى هو الغالب وصاحب الحق والحرية.
البقاء للأصلح؛ أي للأقوى .. هذا هو قانون الطبيعة وهي طبيعة حمراء الظلف والناب.
ويبشر أو يبرر هيمنة الثقافة الأمريكية إذ يقول: «إذا كان الإنسان قد خرج من الصراع وهو سيد الأنواع، فلماذا لا نتطلع إلى سلالة بشرية تكون سيدة السلالات (طبعا يقصد هنا الجنس الأبيض الأنجلوساكسوني). وإذا كانت الثقافة تطورت بعملية مماثلة فلماذا لا نتطلع إلى ثقافة سيدة الثقافات؟»
ويصدر كتابا يوجز عنوانه موقفه وموقعه من الأيديولوجيات المدافعة عن الحريات والكرامة؛ إذ العنوان «بعيدا عن الحرية والكرامة لأنهما وهم».
ومضت السنون بعد الحرب العالمية الثانية تخللتها بعض الانتصارات السيادية الأمريكية ضد حركات الثقافة المناهضة، وتخللتها استعراضات عضلية عسكرية ضد البلدان العاصية. ولكن لم يحل هذا دون اعتمال وتخمر عوامل سلبية أخرى تنذر بتعقد الأوضاع في نظر السلطات الأمريكية. وأضحت الولايات المتحدة تعاني من مشكلات على الصعيدين المحلي والعالمي. ما بين صراعات اقتصادية وثقافية وسياسية بين أوروبا القارة وبين الولايات المتحدة الأمريكية وما بين منافسة قائمة أو محتملة ومنذرة بين بلدان آسيا (اليابان، الصين، سنغافورة، كوريا الجنوبية، ماليزيا، وغيرها). ونذكر هنا ما قاله وزير الثقافة الفرنسي عام 1999م عن الغزو الثقافي الأمريكي إذ وصف ديزني لاند باريس بأنها «مفاعل تشيرنوبل الثقافي». ونذكر أيضا ما صرحت به مارجريت تاتشر عن احتمالات نمو الاقتصاد الياباني: «إنها لكارثة حقيقية، إذا ما نما الاقتصاد الأمريكي، كما تنبأ له البعض، على نحو أبطأ من الاقتصاد الياباني في التسعينيات؛ إذ سيؤدي هذا إلى تحول الميزان من واشنطن إلى طوكيو.» «بول كينيدي، الإعداد للقرن 21 ص297».
بدأت تتجمع عناصر معارضة عالمية مستقبلية للولايات المتحدة من ذلك: (أ)
الاتفاقات بين روسيا والصين. (ب)
محاولة اليابان والصين إنشاء صندوق نقد دولي مواز لصندوق النقد الذي تهيمن عليه أمريكا. (ج)
الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 1999م أعلن عن تشكيل قوة «الردع السريع» قوامها 60000 جندي تحت قيادة أوروبية خالصة. إنها بذرة جيش أوروبي مستقل عن الولايات المتحدة.
وتراكمت وتفاقمت مشكلات الداخل التي يعددها علماء ومفكرون أمريكيون وأوروبيون من بينهم «بول كينيدي»، و«جون جراي» وغيرهما. بل ونقرؤها بين ثنايا أسطر كلمات «نيوت جنجريتش» اليميني و«صمويل هنتنجتون»؛ إذ يدين هذان الأخيران التعددية الثقافية التي ستجعل من الولايات المتحدة الأمم المتحدة. وتعيش أمريكا بالفعل حربا ضد التعددية الثقافية وهي حرب أهلية طويلة المدى.
الركود الاقتصادي وشبح البطالة الذي يتهدد أبناء الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل.
التفكك الأسري وانخفاض الدخول باطراد كما يوضح جراي وكينيدي.
السياسة الضريبية والمالية ستفضي إلى قيام نظام في الولايات المتحدة أساسه الريع والعيش على الكوبونات.
انعدام الأمن الاقتصادي؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة، كما يقول جراي، المجتمع النموذجي بل يسودها قلق سيفرز ويبرز عداوات قديمة تمزق المجتمع وتتفاقم معها المخاطر الاقتصادية والشخصية. مثال ذلك:
عام 1960
إجمالي العجز الفيدرالي
59,6 بليون دولار
إجمالي الدين القولي
984,3 بليون دولار
عام 1991
إجمالي العجز الفيدرالي
300 بليون دولار
إجمالي الدين القولي
4 تريليون دولار
وفي مطلع القرن الواحد والعشرين أزمات اقتصادية متوالية وعجز مالي أدى إلى شلل الإدارة.
إضافة إلى قوة وعمق الحركات الأصولية أو الدينية المتطرفة منذ أوائل القرن العشرين. وتشرذم المجتمع الأمريكي إلى جماعات انتشرت هنا وهناك تتحدث عن الفناء أو الانتساب إلى عقائد قديمة أو أساطير واتجه بعضهم إلى العنف يصفي به حساباته مع المجتمع ويفرغ طاقاته المكبوتة الغاضبة .. وتدفع بعضهم إلى الانتحار الفردي أو الجماعي.
مشكلات التعليم؛ إذ تعاني الولايات المتحدة؛ قياسا لمهام السباق والتنافس على مستوى حضارة العصر، نقصا في الفنيين والعلماء المتخصصين. ونذكر هنا ما قالته «ماري لاو جود» في خطاب تسلمها ميدالية بريستلي عام 1997م وتحت عنوان «هل من قرن أمريكي ثان؟» تقول: «نحن اليوم في منافسة ليس فقط مع البلدان الصناعية المتقدمة مثل ألمانيا واليابان، بل وأيضا مع منافسين جدد مثل الصين وماليزيا وكوريا وبلدان الاتحاد السوفيتي السابق .. والجميع يصارع من أجل حصة في السوق الكوكبية.» (ولنتذكر هنا بين قوسين أن هذه هي منطقة الحرب ضد أفغانستان والعراق وإيران وغيرها والهيمنة الأمريكية الجديدة).
وتضيف قائلة: «يسود المدن الصغرى بوجه خاص إيمان ضعيف بإمكانية الحراك الصاعد. ويتجلى هذا في انتشار العقاقير المخدرة والجريمة والانتحار ونشاهد أيضا مشكلات كبرى في العلاقات العنصرية بين السلالات وردود أفعال معادية ضد المهاجرين.» «ونعاني أيضا أزمة في الأخلاق تغشى جميع قطاعات المجتمع في الصناعة والحكومة والجيش والصحافة والتعليم بل وفي مؤسساتنا الدينية .. وأضحت آداب السلوك سلعة نادرة.»
وتمضي قائلة: «تحتل الولايات المتحدة الآن المرتبة 27 بين بلدان العالم من حيث ملاءمة النظام السياسي للتحديات الاقتصادية الراهنة، والمرتبة 49 من حيث ملاءمة قوانين المسئولية عن المنتج.» ثم تضيف قائلة: «تتمثل أسوأ مظاهر حياتنا الثقافية في نقص القوى العاملة الناجحة. إننا نحتل المرتبة 33 من حيث كفاية المهندسين المؤهلين الأكفاء، والمرتبة 32 من حيث القدرة على جذب المواهب الشابة إلى الهندسة. ومدارسنا ومعاهدنا الهندسية تضم أكثر من 50 بالمائة من هيئات التدريس التي يشغلها أجانب ليسوا مواطنين أمريكيين. وإن أي بلد لن يكون زعيما تقانيا في الاقتصاد العالمي في القرن 21 ما لم يستطع أن يملأ غالبية المقاعد التعليمية بدارسين وباحثين من أبنائه. ويوجد الآن 19000 وظيفة شاغرة في الثقافة المعلوماتية تبحث عمن يشغلها بسبب نقص العاملين المؤهلين.»
وتستطرد قائلة: «على الرغم من جهود الإصلاح في ضوء تقرير «أمة في خطر» لعام 1983م إلا أننا لم نحقق سوى نجاح محدود ووجدنا حواجز لا سبيل إلى تجاوزها. من ذلك أن واحدا من كل خمسة ممن هم دون الثامنة عشرة من العمر يعيش في كنف أسرة دخلها دون خط الفقر. وتزيد النسبة إلى 2 من كل خمسة بين الأفارقة وذوي الأصول الإسبانية.»
وتواجه الولايات المتحدة مشكلة ديموجرافية «سكانية» آخذة في التفاقم الخطر من وجهة نظر الجنس الأبيض؛ إذ يقرر جون جراي أنه خلال جيل واحد تقريبا سيكون بين قاطني الولايات المتحدة ما يشبه الأغلبية من الآسيويين والسود وذوي الأصل الإسباني، وستنخفض نسبة البيض غير المنحدرين من أصل إسباني من 73,1 في المائة من مجموع السكان عام 1996م إلى 52,8 في المائة.
ويقترن بهذا تفاقم الصراع العرقي والثقافي والسياسي والحاجة إلى تغيير هيكل العلاقات وثقافة المجتمع.
في مواجهة أخطار التفكك والركود الاقتصادي تلجأ الولايات المتحدة إلى سياسة إيداع مئات الآلاف في السجون، كما يقول جون جراي، كبديل عن الضوابط التي تفرضها المجتمعات المحلية، وهي الضوابط التي قضت عليها «السوق الحرة» المتحررة من الضوابط. ويروي بول كينيدي مقولة معلق تلفزيوني يوجز بها مظاهر الأزمة الاقتصادية فيما يلي:
أضعفنا أنفسنا بسبب طريقتنا في ممارسة السياسة وإدارة الاعمال وسياستنا في تعليم الأطفال ورعاية المسنين وادخار أموالنا وحماية بيئتنا وإدارة حكومتنا. والنتيجة: (أ)
يمثل استهلاك العقاقير المخدرة في الولايات المتحدة أعلى نسبة بالقياس إلى أي بلد من بلدان العالم المتقدم. (ب)
ارتفاع نسبة الجريمة والجريمة المسلحة بصورة مذهلة 60 مليون مسدس في أيدي الناس، 120 مليون بندقية، و19000 قتيل بالسلاح سنويا. (ج)
معدل الانتحار يعادل خمس مرات مثيله في بلدان الغرب.
ويذكر جون جراي في كتابه الفجر الكاذب أنه:
حتى عام 1993م كان معدل القتل بين الذكور في الولايات المتحدة 12,4 في كل مائة ألف مقابل 1,6 في الاتحاد الأوروبي وأقل من واحد صحيح في اليابان، الاغتصاب 1,5 من كل مائة ألف في اليابان مقابل 42,8 في الولايات المتحدة. السرقة 1,75 من كل مائة ألف في اليابان مقابل 55,8 في الولايات المتحدة. السجناء حوالي 2 مليون، وثلاثة أمثال هذا العدد تحت المراقبة والاشتباه.
وأن أكثر من 1000 من بين كل 100000 من السود الذكور داخل السجون.
وبحلول عام 1997م كان هناك واحد من بين كل خمسين أمريكيا بالغا محتجز وراء القضبان، وواحد من كل عشرين تحت المراقبة، وواحد من كل سبعة من الرجال السود أودع يوما السجن.
ويعلق جون جراي قائلا:
يحدث هذا بينما ينسحب أثرياء الامريكيين إلى مواقع وساحات ذات أسوار وبوابات إلكترونية وحراسات خاصة. وهكذا تحولت النخبة إلى جماعات مغلقة على ذاتها ومنعزلة محاطة بالأسوار مما جعل الولايات المتحدة دولة أشد انقساما بكثير من بلدان أمريكا اللاتينية.
ولكن ماذا يعني نهاية القرن الأمريكي في ضوء ما سبق: الانهيار أم الانحسار؟ وما الذي نريده للولايات المتحدة الأمريكية وما نريده منها في سياق عالمي شبكي؟ أو كيف ستحل التناقض أو أزمة التناقض بين محاولات بسط قواتها العسكرية على امتداد الكرة الأرضية لفرض زعامتها قسرا في عالم متغير وبين ما يشكله هذا من عبء اقتصادي يفوق طاقتها وعاجزة عن استمرار تمويله مما يسبب لها أزمة ضارية في الداخل؟
هذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه الولايات المتحدة والجنس الأنجلوساكسوني الحاكم .. الاعتراف بالواقع والتخلي عن الأيديولوجية العنصرية وعن عقدة الاستعلاء ووهم الزعامة الأبدية ضمانا للتكيف مع الظرف الكوني الجديد واطراد البقاء الفاعل. وهنا لن يكون مصير الولايات المتحدة مثل مصير روما التي انهارت، بل سيكون شأن بريطانيا التي انحسر سلطانها وظلت مجتمعا متقدما فاعلا ومؤثرا ومنتجا للعلم والثقافة شأن فرنسا وألمانيا واليابان .. أطراف على مستوى الندية والكفاءة. إننا نريد الولايات المتحدة أرض الإنجازات العلمية وليست موطن الصراعات العرقية أو منصة الانطلاق العدواني ضد شعوب وبلدان اخرى.
إن إنقاذ الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين يتمثل في أن تصبح أمة أمريكية جديدة من حيث العلاقات الندية والكفؤ بينها وبين الدول تأسيسا على تنوير جديد يتجاوز السوق الحرة العالمية المتحررة من الضوابط لصالح الشركات العملاقة وعلى حساب شعوب أخرى. ويتمثل أيضا في توفير مئات البلايين من الدولارات التي تشكل عبء تكاليف قواتها المسلحة فيما وراء البحار لضمان وهم الزعامة وعلى حساب رفاهة الشعب الأمريكي. ومن ثم نريد تخصيص هذه الموارد للداخل ولتعزيز القدرة التنافسية في العالم والثقافة ورفع مستوى المعيشة. ويتمثل أيضا في النهوض بالتعليم وهو فضية محورية تشغل المفكرين الأمريكيين وتعثرت الجهود لحلها. ونريد للولايات المتحدة أن تكون بحق أمة ديمقراطية حرة متعددة الأعراق والثقافات وكذا في علاقاتها بين الدول ، وليست كما يريد لها نيوت جنجريتش أو صمويل هنتنجتون وأمثالها. ونريد منا رؤية مغايرة للذات وللعالم والإنسانية وبدلا من أن نرى الأمريكي المتوسط يعرف أن خارطة أمريكا الشمالية هي العالم وما عداها البقية أو الآخر يعرف أن العالم كرة مستديرة متماثلة. وبدلا من أن يتعلم الجنس الأبيض أنه هو الحضارة والعقل والإبداع، يعرف على أساس علمي تاريخ الحضارات وتنوعها وتفاعلها وأسباب تعثرها واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان كخطيئة كبرى. نريد فكرا جديدا يؤكد ما هو مشترك بين الإنسانية، وفلسفة ذات وجه إنساني ونزوع نقدي ويؤكد الإرادة الجمعية، وأن المنفعة حق للإنسانية الفاعلة وليس لجنس أو عرف أو لون دون آخر. مواطنة كوكبية في عصر العولمة على أساس الفعل الاجتماعي النشط والشعور بالآخر وبحقه في التقدم .. هنا ستكون الولايات المتحدة قوة متقدمة بفضل رصيدها من إنجازات علمية وتقانية وستكون قوة قادرة على التفاعل مع القوى العريضة للتغيير العالمي. وهنا أيضا سيكون العصر ليس عصر السلم الأمريكي بل السلم الإنساني الكوكبي، عصر متعدد الأقطاب في إطار محيط العقلانية.
Bog aan la aqoon