ومن الأب الفنان الكسير المريض ورثت «فرانسي» الحساسية الحالمة، ومن الأم القوية المكافحة ورثت الجلد، وتحدي الصعاب، والإصرار على البقاء، والانتصار على الزمن مهما يكن الثمن!
إنها في بداية القصة تشترك مع أخيها في جمع القمامة والنفايات، وبيعها، ومن هذه الطريق كانا يحصلان على مصروفهما الشخصي، فكانت هذه حرفتها الأولى ومنفذها الأول إلى شيء من الشعور بالاستقلال.
فماذا كانت هوايتها الأولى في تلك الآونة؟
إنها هواية لا تمت بصلة إلى القمامة والنفايات، تلك هي هواية المعرفة! ولكنها لم تكن تدري كيف تجمعها؛ فالمكتبة العامة مفتوحة للجميع، ولكنها لا تدري بأي ترتيب تطالع ما فيها من الكتب المبذولة للقارئين؛ ومن هنا اتبعت في ذلك نفس المنهج الذي كانت تجمع به القمامة: وهو الترتيب الواقعي، ترتيب المكان! فبدأت بالكتب التي تبدأ عناوينها بحرف الألف، ثم الباء، ثم التاء ... وهكذا! كانت تجد - بالمصادفة - معلومات تناسبها، تماما مثلما تجد في أكوام النفايات - بالمصادفة أيضا - أشياء تناسبها، «من قبيل الشرائط، والورق المفضض»، وقد تجد أشياء تصلح للبيع، كالمعادن، والخرق، والمطاط، والعظام ... إلخ.
وهكذا راحت تقرأ بشراهة، كتابا كل يوم! وفي يوم السبت، كانت تخلو لتأملاتها، في الفناء الخلفي للبيت، حيث تجلس على سلم الطوارئ الخلفي، وتتلهى بمراقبة الجيران من حولها وهم يستعدون لليلة الأحد وسهراتها، في داخل البيوت وخارجها.
وفي ذلك الفناء الخلفي شجرة صغيرة يتيمة، كانت «فرانسي» ترقبها أسبوعا بعد أسبوع، وهي تمد فروعها شيئا فشيئا، وتنمو نحو السماء، لا يشعر بها أحد! إنها ذلك الكائن الحي الصغير، النبات الوحيد وسط جدران الحجارة، وسلالم الحديد، وحبال الغسيل، وكل ما هو جامد، خامد، مضاد للنمو والحياة والازدهار.
ومن هذه الشجرة الوحيدة الشجاعة النامية، استمدت القصة عنوانها!
ولم يكن ذلك اعتباطا، بل لما هناك من توازن واضح بين خط هذه الشجرة، وكفاحها في سبيل حق النمو والصعود من الأرض إلى السماء؛ وبين خط حياة البطلة «فرانسي»، التي تشق بكدها المضني سبيلها من حضيض جمع القمامة، إلى سماء المعرفة والتحليق في دنيا الإلهام، في تمكن واقتدار.
وأي تصوير أمين تطالعه عيوننا في تلك الأضواء المشرقة بين ظلال الفاقة الداكنة! أي حنان نلمسه نابضا في صورة الأب و«فرانسي» تكوي له ملابس العمل يوم السبت، يوم عمله الوحيد، حين يتيسر له العمل! وكيف يمضي هذا الرجل ليخدم السكارى ليلة الأحد، ويغني لهم وهو يقدم الأقداح، ويجرع الثمالات، وابنته تنتظره حتى يعود قبيل الفجر منتشيا، وقد يغلبها النعاس، فلا ينسى أن يوقظها وأخاها ليعطيهما شيئا من الفطائر والحلوى والمشهيات التي تبقت في الأطباق، أو التي دسها في جيبه خلسة! وتنعم الأسرة الصغيرة بدفء هذه اللحظة، ثم يخلد الأب والأم إلى حجرتهما يثرثران حتى مطلع النهار.
وهذان الأبوان إن خلف حياتهما هذه قصة حب رومانسي عجيبة، فقد كان «جوني» في التاسعة عشرة، وكانت «كاتي» في السابعة عشرة، حين التقيا وتحابا في ليلة من ليالي الآحاد، في مرقص شعبي. «وكانت قدما «جوني» طويلتين رفيعتين، وحذاؤه لامعا، وهو يرقص على أطراف أصابعه، ويتبختر مهتزا على عقبيه في إيقاع جميل، وحمي وطيس الرقص وعلق «جوني» معطفه على ظهر كرسيه، وكان سرواله ينسدل متناسبا على حقويه، وقميصه الأبيض ينسدل على حزامه، ويرتدي بنيقة عالية صلبة، ولم تستطع «كاتي» أن تحول نظرها عنه، فقد كان شابا ممشوق القوام، يشرق بشعره الأشقر المجعد وعينيه الزرقاوين العميقتين، وكان أنفه مستقيما وكتفاه عريضتين، وسمعت «كاتي» البنات الجالسات إلى المائدة المجاورة لها يقلن عنه إنه أنيق الملبس، وقال رفاقهم إنه راقص بارع أيضا، ومنحها «جوني» رقصة من قبيل المجاملة حين عزفت الموسيقى مقطوعة «روزي الجميلة»، وعرفت «كاتي»، حينما شعرت بذراعيه تلتفان حولها فانساقت بلا وعي إلى مجاراته في الإيقاع، أنه الرجل الذي تنشده، إنها لا تطلب شيئا أكثر من أن تنظر إليه وتستمع له بقية حياتها.»
Bog aan la aqoon