واستوقفهما الشرطي عند منعطف بيتهما، وفحص الشجرة، وعرض عليهما في وقار أن يشتريها بعشرة سنتات، أو خمسة عشر سنتا إذا ذهبا بها إلى بيته، وأوشكت فرانسي أن ينشق جنباها من الفخر بالرغم من أنها تعلم أنه يمزح، وقالت إنها لن تبيعها على الإطلاق حتى لو دفع لها دولارا، وهز رأسه وقال: إنها بلهاء لأنها لم تستغل الفرصة، ورفع السعر إلى ربع دولار، ولكن فرانسي ظلت تبتسم وتهز رأسها بالنفي.
وبدا الأمر يشبه مشهدا من مشاهد قصة عيد الميلاد، حيث كان المكان منعطف شارع، والوقت هو ليلة عيد الميلاد القارسة البرد، وشخصيات المسرحية: شرطي طيب وأخوها وهي نفسها.
وفرانسي تعرف الحوار جميعا، والشرطي يؤدي دوره أداء سليما، وفرانسي تلتقط إجاباتها في سعادة، والإرشادات المسرحية هي البسمات تنطلق بين العبارات الملقاة.
واضطر الطفلان أن يناديا أباهما ليساعدهما في جر الشجرة فوق درجات السلم الضيقة، وهبط أبوهما السلم عدوا، وشعرت فرانسي بالراحة إذ رأته يجري، هابطا مستقيم الخطى لا يضطرب؛ مما أثبت لها أنه لا يزال صاحيا وليس ثملا.
وكانت دهشة الأب لحجم الشجرة نوعا من التملق والمديح، وتظاهر بأنه يصدق أنها ليست لهما، وكانت فرانسي قد اصطنعت المزاح كثيرا حين حاولت أن تقنعه بذلك، بالرغم من أنها تعلم طول الوقت أن الأمر كله لا يعدو التظاهر بغير الواقع. وجر الأب الشجرة من الأمام ودفعتها فرانسي ونيلي من الخلف، ثم بدءوا يدفعون الشجرة الكبيرة دفعا مصعدين فوق درجات السلم الصغيرة ، واهتاجت مشاعر جوني حتى انطلق يغني غير عابئ بأن الليل قد أوغل بعض الشيء، وغنى أغنية «الليلة المباركة»، وكانت الجدران الضيقة تحمل صوته العذب الصافي لحظة ثم تردد صداه، وقد تضاعفت عذوبته وصفاؤه، وفتحت الأبواب في صرير، وتجمعت الأسر على العتبات مسرورين مندهشين لهذا الشيء، الذي لم يتوقعوه والذي زاد من اللحظات السعيدة في حياتهم.
ورأت فرانسي الآنستين تنمور واقفتين معا على باب شقتهما، وقد عقصتا شعرهما الرمادي بدبابيس الشعر، وظهر قميصا النوم المحليان بالثنيات المنشاة من تحت معطفيهما الفضفاضين، وانضم صوتاهما الحاد الرفيع إلى صوت جوني، وكذلك وقفت فلوسي جاديس وأمها وأخوها هني، الذي أوشك السل أن يقضي عليه على باب شقتهم، وكان هني يبكي، وتوقف جوني عن الاسترسال في الغناء حين رآه، وقد ظن أن الأغنية أثارت في نفسه الحزن حتى ملك عليه قلبه.
وكانت فلوسي ترتدي حلتها وتنتظر رفيقها ليأخذها إلى حفل رقص تنكري يبدأ بعد منتصف الليل مباشرة، ووقفت في الحلة التي ترتديها الراقصات في المراقص العامة، وقد ارتدت جوربا حريريا أسود لامعا، وخفين لهما كعب مستدير، وربطت رباط ساق أحمر تحت ركبتها، ووقفت تهز قناعا أسود في يدها، وابتسمت في عيني جوني ووضعت يدها على حقوها، واتكأت على كتف الباب في إغراء - أو هكذا خيل إليها - وقال جوني ليحمل هني على الابتسام دون أي شيء آخر: فلوسي، ليس لدينا ملاك نضعه على قمة شجرة عيد الميلاد هذه، ألا تتفضلين بأن تكوني هذا الملاك؟
وكانت فلوسي متحفزة كل التحفز لأن ترد عليه ردا نابيا، بأن تقول إن الريح سوف تعري سروالها إذا وقفت في مكان يرتفع كل هذا الارتفاع، ولكنها غيرت رأيها، وكان هناك شيء يحيط بالشجرة الكبيرة الشامخة التي هان شأنها بعد أن جروها؛ شيء يحيط بالطفلين السعيدين؛ شيء ينبع من تلك الأريحية النادرة التي أبداها الجيران، وكيف بدت الأنوار الهادئة في القاعات؛ مما جعل فلوسي تخجل مما همت أن ترد به على طلب جوني، وكل ما قالته: واي، ألست أولى بذلك يا جوني نولان ؟
ووقفت كاتي وحدها على أعلى درجة من السلم ، وقد شبكت يديها على صدرها، وأنصتت إلى الغناء وهي تنظر إلى أسفل، وترقب صعودهم البطيء على السلم، وكانت تفكر في عمق، وقالت بينها وبين نفسها وهي تفكر: إنهما يظنان أن هذا شيء رائع، أجل يظنان أنه شيء رائع إذ حصلا على الشجرة بلا مقابل، وراح أبوهما يلاعبهما ويغني، وقد علا البشر وجوه الجيران، إنهما يظنان أن الحظ حالفهما كل المحالفة؛ لأن العمر امتد بهما حتى أدركا عيد الميلاد مرة أخرى، إنهما لا يستطيعان أن يدركا أننا نعيش في شارع قذر، وبيت قذر، وبين أناس نصيبهم من التهذيب هزيل نحيل، إن جوني والطفلين لا يستطيعون أن يدركوا أنه مما يدعو إلى الأسى، أن نجد جيراننا يستخلصون السعادة من هذه الحمأة وتلك القذارة، إن طفلي يجب أن ينتزعا من هذه البيئة، يجب أن تتاح لهما حياة أفضل من حياتي أو حياة جوني أو حياة كل هؤلاء الناس المحيطين بنا، ولكن كيف يتأتى لهما ذلك؟ إن قراءة صفحة من تلك الكتب كل يوم وادخار البنسات في الحصالة أمر لا يكفي، أتراه يأتي بالمال؟ وهل المال خليق بأن يوفر لهما حياة أفضل؟ أجل إنه خليق بأن ييسر لهما الحياة، ولكن لا، إن المال لا يكفي لتحقيق ذلك، إن ماكجريتي يمتلك المشرب القائم عند منعطف الشارع وعنده من المال الكثير، وزوجته تلبس أقراطا من الجواهر، ولكن أطفالها لم يبلغوا في خلقهم أو ذكائهم ما بلغه طفلاي، إنهم في سلوكهم مع الآخرين وضيعون شرهون؛ لأن لديهم أشياء يفخرون بها على الأطفال المساكين، لقد رأيت ابنة ماكجريتي تأكل من صندوق من الحلوى على قارعة الطريق، وحولها عدد من الأطفال الجياع يتطلعون إليها، أجل رأيت هؤلاء الأطفال ينظرون إليها وقلوبهم تبكي، ولما أكلت من الحلوى ما يكفيها ألقت بالباقي في مصرف الماء، بدلا من أن تعطيه لهم. آه! إن المال وحده لا يكفي! إن ابنة ماكجريتي تلبس كل يوم قرصا مختلفا للشعر، يكلفها الواحد خمسين سنتا، وهذا المبلغ خليق بأن يطعمنا نحن الأربعة يوما كاملا، ولكن شعرها ناحل أحمر باهت، وإن في قلنسوة ابني نيلي ثقبا كبيرا، ولقد رثت حتى فقدت شكلها، ولكن الطفل له شعر كثيف لونه ذهبي داكن متموج، وإن ابنتي فرانسي لا تلبس قرص شعر، ولكن شعرها طويل لامع، هل يمكن للمال أن يشتري أشياء كهذه؟ لا، وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون هناك ما هو أعظم من المال. إن الآنسة جاكسون تدرس في الملجأ وليس لديها مال، إنها تؤدي هذا العمل صدقة، وتعيش في حجرة صغيرة هناك في الطابق الأعلى، ولا تملك من الثياب إلا واحدا، لكنها تحفظه نظيفا مكويا، وإن عينيها تنظران في استقامة إلى عينيك حين تتكلم معها، فإذا أنصت إليها كنت كمن ألف المرض ثم ارتدت إليه العافية لسماع صوتها، إن الآنسة جاكسون تعرف أمورا وتفهم أشياء، فهي تستطيع أن تعيش في وسط حي قذر، وتكون أنيقة نظيفة كأنها ممثلة في مسرح، وإنك لتستطيع أن تنظر إليها، لكنها أرفع من أن تلمسها، ذلك هو الفارق بينها وبين السيدة ماكجريتي التي تملك مالا كثيرا لكنها بدينة كل البدانة، تسلك سلوكا شائنا مع سائقي عربات النقل الذين يوزعون الجعة لزوجها، إذن ما هو هذا الفارق بينها وبين الآنسة جاكسون التي لا تملك مالا؟
وجاء الرد على هذا السؤال لكاتي، وقد بلغ من بساطته أنه أصابها بومضة من الدهشة سرت في رأسها كوخزة الألم؛ التعليم! أجل إنه هو، فالتعليم هو الذي صنع الفارق! إن التعليم خليق بأن ينتشلهم من القذارة والوحل، فما البرهان؟ إن الآنسة جاكسون كانت متعلمة، أما السيدة ماكجريتي فلم تكن. آه! إن ذلك هو ما كانت أمها ماري روملي تقوله لها كل تلك السنين، لكن لم توفق إلى الكلمة الواحدة الصريحة: التعليم.
Bog aan la aqoon