فرأيت جموعا تعكف على الأرض، تحرثها وتزرعها، وقوافل تسير محملة بالبضائع، وطائفة تمتطي الخيل مدججة بالسلاح متأهبة للقتال.
ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم، فهمس: انظر.
فرأيت جبهة عالية، يرتسم التفكير في أخاديدها، وصاحبها منكب على أوراق يخط فوق صفحاتها أرقاما لا نهاية لها.
ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم، فهمس: انظر.
ولم أر شيئا أول الأمر. ولكني شعرت بوثبة تبشر بالنصر، وشاع في صدري شعور غامر بالسعادة. وتذكرت الإحساس الباهر الذي سبق الرؤيا ساعة الفجر بالصحراء. ولم أشك في أن النشوة آتية بموسيقاها، وأن العريس سيبزغ وجهه. وانجابت الظلمة عن منظر آخذ في الوضوح رويدا والتوكد. وخفق قلبي كما لم يخفق من قبل، وتمخض عن باقة، هيئة باقة ورد، غير أن وجوها آدمية حلت محل ورودها. وما لبثت أن تبينت فيها وجوه زينب، وبثينة، وسمير، وجميلة، وعثمان، ومصطفى، ووردة. ذهلت من الدهشة ، وحملقت فيها بإنكار. وباخ حماسي مرة واحدة، وتجرعت غصص الخيبة. ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم. أين وجهه؟ ... أين وجهه؟ ولكن المنظر تشبث بكينونته. وازداد مع الوقت دقة ووضوحا، وتبادلت أشخاصه الألاعيب. تبدت زينب برأس وردة، ووردة برأس زينب. ولبس عثمان صلعة مصطفى، ونظر مصطفى إلي بعيني عثمان. وإذا بسمير يثب إلى الأرض متخذا من رأس عثمان رأسا له، ثم يحبو نحوي. وفزعت فعدوت، والكائن المركب من سمير وعثمان يتبعني. وكلما زدت من سرعتي زاد هو من سرعته وإصراره. وقفزت من فوق السور الأخضر، فوثب الآخر من فوقه كجرادة. وركضت بحذاء الترعة، والآخر في أثري كثور عنيد. وعدوت، وعدوت حتى سرى الإنهاك في عضلاتي، وانبهرت أنفاسي، وخارت قواي، ودار رأسي؛ فهويت إلى الأرض. انطرحت على وجهي فوق عشب ندي، وقدما الآخر تقتربان مني في إصرار، وكأنهما تزدادان قوة. عبث الشيطان بالحلم. وبدلا من النشوة حلت اللعنة، واستحالت الجنة ملعبا للمهرجين. وتخليت عن فكرة المقاومة، واستسلمت للأرض المعشوشبة. ورفعت رأسي قليلا لأنظر فيما حولي، سمعت صفصافة تترنم ببيت من الشعر، واقتربت مني بقرة قائلة: إنها سوف تتوقف عن در اللبن لتتعلم الكيمياء. وزحفت حية رقطاء، ثم بصقت أنيابها السامة، وراحت ترقص في مرح. وانتصب الثعلب حارسا بين الدجاج. واجتمعت جوقة من الخنافس، وغنت أغنية ملائكية. أما العقرب فتصدت لي في لباس ممرضة.
وتنهدت في إعياء، وفتحت عيني في الظلام، ماذا يعني هذا الحلم إلا أنني ... وكيف أفكر فيك طيلة يقظتي، ثم ...
19
استلقيت على ظهري فوق الحشائش رانيا إلى الأشجار الراقصة بملاطفات النسيم في الظلام. أنتظر وإن طال الانتظار، وإذا بأقدام تقترب، وصوت يهمس: مساء الخير يا عمر.
وانتصب شبح إلى جانبي. ما أكثر الأحلام! ولكنني لا أرى شيئا، وقال: كدت أيأس من العثور عليك، كيف ترقد هكذا؟ ألا تخاف الرطوبة؟
وجلس إلى جانبي فوق الحشائش ومد يده، ولكني تجاهلته؛ فقال: أنسيت صوتي؟ ... ألم تعرفني بعد؟
Bog aan la aqoon