بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
هنالك كتب يقول من يجوس خلال رياضها: حقًا لقد وقعت على كنوز متعددة متنوعة، لا على كنز واحد. من تلك الكتب تاريخ دمشق لابن عساكر وبغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم. وقد عايشت هذا الكتاب الثاني سنوات طويلة وكنت في كلِّ مرة أكتشف فيه أشياء جديدة. ولا ريب في أنَّ كمال الدين ابن العديم كان يملك مكتبة نادرة، وحرصا على العلم، وخطًا جميلًا، بالإضافة إلى ما كان يعمر في قلبه من محبة لحلب، ولمعالمها وللقرى والدساكر والحصون التابعة لها. وفيه تتجلى إلى جانب ذلك كله دقة المعالم، وحصافة الناقل. وعلى مدى الأيام أصبح كتاب بغية الطلب صديقًا مؤنسًا، تارة أفهرس المواد التي أجدها فيه مفيدة لي في أبحاثي، وتارة أحاول ترتيب القرى المذكورة فيه؟ أرتبها على حروف المعجم وأعرِّف بها بالمقارنة مع المعاجم الجغرافية الأخرى؛ ولكن أكبر ما أقدمت عليه بوحي منه هو التعرف إلى مصادره الكثيرة، وكثير منها نادر. وكان أن أخذت أجمع النقول المأخوذة من كتاب واحد، وأضعها في نطاق، لكي يتمَّ لي تصوُّر المصدر الأصليّ الذي عنه أخذت، ومصادر بغية الطلب تعدّ بالعشرات، ولهذا كان عملي في البداية " ألهية " تؤدي إلى المعرفة وترسخها، ثم تطورت هذه الألهية حين حاولت أن أتجاوز بغية الطلب، وأبحث عما نقل في غيره من هذا المصدر أو ذاك. عندئذٍ اتسع نطاق العمل كثيرًا، وفي مدى سنوات ركَّزت على ثلاثين بابًا، وأهملت ما عداها، وراعيت أن تكون هذه الكتب في ميدانين أحببتهما وهما التاريخ والأدب.
1 / 1
وليكن القارئ على ثقة بأن ما لم أورده من الكتب أكثر بكثير من العدد الذي أوردته، لا استقلالًا من شأن ما أغفلت، وإنما لأنَّ العمل في ثلاثين كتابًا، وتحقيق حال مؤلفيها، كان عملًا مرهقًا، فكيف بطلب الشمول في إيرادها كلها. غير أن ما بقي مما لم يرد في هذا المجموع مثير للنزوع إلى الاطلاع بكثرته وتنوعه. فمن كتب الأنساب؟ وحدها؟ نجد ابن العديم يعتمد المصادر التالية:
١ - نسب بني العباس لأبي موسى هارون بن محمد بن إسحاق العباسي.
٢ - كتاب المعقبين من ولد الحسن والحسين للحسن بن جعفر النسابة.
٣ - أنساب بني صالح بن علي بخط القاضي أبي طاهر صالح بن [؟.] الهاشمي.
٤ - المجرد في النسب للشريف أبي الغنائم عبد لله بن الحسن بن محمد الزيدي.
٥ - نزهة عيون المشتاقين في النسب للشريف أبي الغنائم الزيدي.
٦ - المنصف النفيس في نسب بني إدريس لمحمد بن أسعد الجواني.
٧ - نزهة القلب المعنَّى في نسب بني المهنا لمحمد بن أسعد الجواني.
٨ - الجوهر المكنون لمحمد بن أسعد الجواني.
٩ - القرع والشجر في النسب لأبي الحسين محمد بن القاسم التميمي.
١٠ - ديوان العرب وجوهرة الأدب وإيضاح النسب لمحمد بن حمد بن عبد الله الأسدي.
١١ - مشجرة ولد العباس لبي المنذر علي بن الحسين بن طريف النسابة.
١٢ - الكتاب المجدي في أنساب الطالبيين لأبي الحسن علي بن محمد العلوي المعروف بابن الصوفي.
هذه اثنا عشر كتابًا في علم واحد، لا أحسب أن واحدًا اطلع عليها أو اهتمَّ بالبحث عنها؛ فماذا أذكر من كتبٍ في علوم أخرى؟ بل إن التاريخ الذي استغرق معظم هذا المجموع أرجأت الحديث عن كثير من مصادره، وعرض نصوصه: مثل تاريخ الفرغاني وتاريخ ثابت بن سنان وتاريخ السليل بن أحمد بن عيسى ومختصره
1 / 2
للشمشاطي، وتاريخ جمعة أبو إسحاق ابن حبيب السقطي، وتاريخ لعمر بن محمد ابن عبد الله العليمي، وتاريخ الرئيس حمدان بن عبد الرحيم الأثاربي، وتاريخ جمعة الرئيس أبو علي الحسن بن علي بن الفضل الرازي، وتاريخ يحيى بن علي ابن عبد اللطيف بن زريق، والتاريخ المحدد لأبي الحسين محمد بن العباس بن محمد بن الحسن الكتاني الدمشقي، وغير ذلك كثير.
إن هذه الكثرة الهائلة من المؤلفات التاريخية وحدها؟ سواء منها ما عرضت له وما لم أعرض له؟ تجعل من المحتوم إعادة النظر في " تاريخ التاريخ " وعدم الاكتفاء في تصور تاريخ التأليف التاريخي على ما هو مطبوع.
فهذا الكتاب ليس سوى معرض لثلاثين كتابًا أكثرها في حكم المفقود، فهي على ما تقدمه من فوائد للباحثين كانت دفينة، تفتح المجال أمام المهتمين بالتراث، لكي يضيفوا إلى كل كتاب فيها ما يجدونه من نصوص فاتتني، ولا ريب في أنه فاتتني نصوص كثيرة، ولكي يضيفوا إلى الكتب الثلاثين كتبًا أخرى ذات قيمة. وهذا " المعرض الجديد " مؤشر على شيئين: أولهما على كثرة الكتب المهمة التي ضاعت أو ما تزال مختفية، وثانيهما على مبلغ النقص في بعض الكتب التي نشرت.
ويؤكد هذا الكتاب أن القرن السابع الهجري قد رزق ثلاثة رجال كبار متقاربين لأنهم جميعًا كانوا يأوون إلى حلب وهم ياقوت والقفطي وابن العديم، ويتميز الأول بأنه كتبي " مثقف " لا يكتفي أن يكون نسخه للكتب مصدر رزق، بل أن يكون أيضًا مصدر ثقافة، ولذلك فإن إطلاعه لا يقل عن إطلاع زميليه الثريين اللذين يملك كل منهما مكتبة تضمَّ مئات من الكتب، وتتضح صورة هؤلاء الثلاثة في هذا الكتاب، لأنهم جميعًا اشتركوا في الاطلاع على مصادر بأعيانها وأفادوا منها في ما ألفوه من الكتب.
وأنا على يقين من أن الدارسين من ذوي الجد والحرص على العلم سيجدون في فهرس هذا الكتاب ما يسعفهم على الإفادة منه في دراساتهم وبخاصة لأنه يضم ثلاثين كتابًا، وذلك عدد غير قليل في شموله وتنوع مادته.
1 / 3
ولا يفوتني في خاتمة هذه الكلمة المجزة أن أتوجه بالشكر الجزيل لدار الغرب الإسلامي، وأخص بذلك صديقي الصدوق الحاج الحبيب اللمسي الذي استطاع في مدةٍ تعد قصيرة في عمر نشر الكتب أن يصدر عددًا من أروع كتب التراث وأهمها، وأن يعيد إلى الناشر العربي الذي تغوّل على حقله زمرة من الأدعياء، الثقة التي فقدها، باحترامه للكتاب؟ مادة وصفًّا وورقًا وتجليدًا وفهرسةً؟ وباحترامه للكتاب والمحقق، على كل صعيد. وفقه الله في خدمة التراث العربي الإسلامي، وكلأه برعايته، وشملني برحمته، وجعل الخير لي منهجًا وغاية، إنه سميع مجيب.
في ٢٠ أيلول (سبتمبر) ١٩٨٧
الجامعة الأردنية
إحسان عباس
1 / 4
أخبار البرامكة
لأبي جعفر
عمر بن الأزرق الكرماني
1 / 9
فراغ
1 / 10
لم أجد له ترجمة، ولكن يؤخذ من المعلومات التي نقلت من كتابه أنه عاصر الجاحظ، وسمع منه بعض أخبار البرامكة، كما أنه التقى رجلًا معمرًا شهد عصر هشام أو جانبًا منه، وكان الرجل لدى لقائه للكرماني قد زرَّف على المائة (تقديرًا حوالي ٢٢٥) كذلك أدرك الكرماني بعضًا من مشايخ الدعوة العباسية.
وينقل الطبري في تاريخه (٣: ٥٧٢، ٥٧٣، ٥٧٥، ٦٠٣، ٦١٣، ٦٨٣) عن شخص يدعى أبا حفص الكرماني، فالكنية والنسبة تطابقان ما لدينا هنا، ومما يرجح أن الذي ينقل عنه الطبري هو أبن الأزرق نفسه اتصال المادة التي ينقلها بالبرامكة، وهنالك نجد أن أكثر أعتماد الكرماني المؤرخ على الرواية عن محمد بن يحيى بن خالد، فهو قد لحق الجيل الثالث من بني برمك ولعله لم يدرك تاريخ النكبة نفسها.
ولسنا نجد معظم الرواة الذين يرفع إليهم الكرماني أسانيده، فمثلًا لا نجد ذكرًا لبشر بن حرب بن يزيد الطالقاني بين مشايخ الدعوة لدى الطبري، إلا أن الطبري يذكر علي بن عصمة الذي يروي عنه بشر بن فاسنك. ومن المهم أن نجد الخبر الذي يرويه الطبري عن علي بن عصمة متصلًا بخالد بن برمك، إذ جاء فيه (فذكر عن علي بن عصمة أن خالد بن برمك خط مدينة أبي جعفر له وأشار بها عليه؟)، ثم ذكر أن المنصور استشاره في نقض الإيوان فحاول أن يثنيه عن ذلك، والقصة مشهورة تتردد في مصادر كثيرة (١)، على أية حال لا يخفى مما دونه ابن
_________
(١) الطبري ٣: ٣٢٠.
1 / 11
الأزرق ذلك الميل لإعطاء خالد بن برمك دورًا كبيرًا في الدعوة العباسية يمهد لتلك المكانة التي بلغها ابنه وحفدته من بعد في بنية الدولة نفسها.
- ١ - (١)
حدثني إسحاق البلخي الشاعر، وكان معمرًا قد زرَّف على العشرين والمائة السنة، أي أرمى عليها، أنه رأى برمك قدم على هشام بن عبد الملك في خمسمائة شاكريٍّ فأكرمه وأعلى منزلته وأعجب به ثم أسلم، فرأيته جليل القدر عنده عظيم الموقع منه.
- ٢ - (٢)
وحدثني سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وكان يحمل الحديث عنه قال: حدثتني رضوى حاضنة أبي أن خالد بن برمك (٣) كان يبيت مع مسلمة في لحاف واحد وهما صبيان، وأنه نشأ معه في موضع واحد، قال سعيد: وكان مسلمة أبي لا يولد له فوصف له برمك دواء فتعالج فولدتُ له، فكانوا يسموني البرمكي على عهد هشام؟
وحدثني شيخ قديم قال: وكان برمك واقفًا بباب هشام فمرَّ به محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس فأعجبه ما رأى من هيئته، فسأل عنه فأخبر بقرابته من النبي ﷺ فقال لابنه خالد بن برمك: يا بني إن هؤلاء أهل بيت النبي ﷺ وهم ورثته وأحق بخلافته، والأمر صائر إليهم، فإن قدرتَ يا بنيَّ أن يكون لك في ذلك أثر تنال به دينًا ودنيا فافعل. قال: فحفظ خالد ذلك عنه وعمل عليه عند خروجه في الدعوة، وكان خالد بن برمك أحد العشرين الذين اختارهم الشيعة لإقامة الدعوة بعد النقباء الاثني عشر. .
سار برمك (يعني من عند هشام بن عبد الملك) حتى قدم جرجان فنزل على
_________
(١) بغية الطلب ٣: ٢٢.
(٢) بغية الطلب ٥: ٣٣٧.
(٣) ولد خالد سنة تسعين وتوفي سنة ١٦٥.
1 / 12
يزيد بن البراء وأعلمه ما صار إليه من الخليفة، وزوج ابنه خالد بن برمك من أم خالد بنت يزيد، وكان خالد أحبّ ولده أليه، وكان يقول له فيما ذكر المشايخ عنه: به يجبر الله ولدي وأهل بيتي؟
وحدثني عمروا بن بحر الجاحظ قال، حدثني ثمامة بن أشرس قال: كان أصحابنا يقولون: لم يكونوا يرون لجليس خالد بن برمك دارًا إلا وخالد قد بناها له، ولا ضيعة إلا وخالد ابتاعها له، ولا ولدًا إلا وخالد وهب له أمه، ولا دابة إلا وخالد وهبها له إمّا من نتاجه أو غير نتاجه؟
وحدثني بشر بن حرب بن يزيد الطالقاني وغيره من مشايخ الدعوة أنهم يسمون خالد بن برمك أمين آل محمد؟
وحدثني بشر بن فاسنك، شيخ من أهل الباميان، عن علي بن عصمة قال: كان يقال: ما أحد من أهل خراسان إلا ولخالد بن برمك عله منِّة، وذاك أنه قسّط الخراج عليها فأحسن فيه إلى أهلها؟
وكان خالد بن برمك سمع من أبيه ذلك القول في محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس وحفظ عنه، وبحث عن الأمور بعد أبيه حتى انكشف له، فكاتب الإمام وراسله، وكانت رسل الإمام تأتيه وأمره ونهيه يرد عليه، وصير من الدعاة الذين يتلون النقباء، فكان اسمه في كتاب الدعوة فيهم مع نظرائه من الدعاة حتى حدث من أمر البرامكة في أيام الرشيد ما حدث، فأسقطه منه أبو عصمة وغيره من الشيعة تقربًا إلى الرشيد بذلك، فهو يوجد في خواصَّ الكتب؟
فحدثني أبو يحيى الخليل الشيعي قال: قدم عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك على الإمام، فقال لعبد الملك: نعم العون أنت لنا فأنت أبو عون، وأنت يا خالد فإنك ستصير وزيرًا لولد العباس فأنت أبو العباس، فهو الذي كنّاهما، قال: وكان خالد بن برمك فيما بين جرجان وطبرستان والريّ وتيك النواحي فيدعوا لبني هاشم ويظهر أنّ اختلافه في التجارة، فيجلب معه الدواب والرقيق إلى تلك الكور على خوف شديد ومخاطرةٍ عظيمة لم يكن يظن بأحد هذا الرأي فضلًا
1 / 13
عن الدعاء إليه إلا أتى عليه وعلى أهل بيته، وقد أُخِذَ خالد في ذلك غير مرة فتأتَّي واحتال حتى تخلص؟
[وبعد ذكر البيعة للسفاح قال]: وأدني خالد بن برمك إلى الإمام أبي العباس وهو في محملٍ من الجراحة التي كانت به، فظن أبو العباس أنه من العرب لما رأى من فصاحة لسانه وهيئته فقال: من الرجل؟ قال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: فمن أنت رحمك الله؟ قال: أنا من العجم، قال: فمن أنت منهم؟ قال: أنا خالد ابن برمك. ووصف له حالهم التي كانت بخراسان قبل الإسلام، وأن الله هداهم بهم أهل البيت وأنه في محبتهم والتشيع لهم كما قال الكميت:
وما ليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ ... وما ليَ إلا مَشْيَعَ الحقِّ مشعب قال: فأعجب به أبو العباس، وأقر خالد بن برمك على ما كان يتولى في المعسكر من الغنائم، ثم جعل ديوان الخراج وديوان الجند إليه. ولما صار الديوانان إلى خالد بن برمك حسن فيهما مذهبه وكثر حامده، وعلى يديه جرت قطيعة العكي وقطيعة أبي حميد وقطائع كثيرة غير ذلك. وكانت الدفاتر في ديوان الجند صحفًا مدرجة فجعلها خالد بن برمك دفاتر، فهو أول من فعل ذلك، وأول من جعل ديوان الجند على ما هو عليه اليوم. وحسن حال خالد بن برمك عند أبي العباس وجلَّ قدره عنده ووضعه في موضع المشاورة في الأمور وحلَّ محلَّ الوزير؟
ودفع أبو العباس إلى خالد بن برمك ابنته ريطة بنت أبي العباس فأرضعتها زوج خالد وربتها، وأرضعت أم سلمة زوج أبي العباس أمير المؤمنين أم يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة؟
وحدثني إسحاق بن إبراهيم عن هارون بن ديزويه قال: دخل خالد يومًا على أبي العباس فقال له: يا ابن برمك، أما رضيتَ حتى استعبدتني؟ قال: ففزع خالد لذلك وقال: وكيف يا أمير المؤمنين؟ بل أنا عبدك، فضحك أبو العباس وقال: ريطة بنت أمير المؤمنين وأم يحيى بنت خالد تبيتان في فراش واحد، فاتعارّ من
1 / 14
الليل فأجدهما قد تكشفتا فأمدّ اللحاف عليهما، قال: فقبل يده وتشكر ذلك له؟
وقال له أبو العباس يومًا، وخرج على الناس وأحبَّ أن يعرِّفَهُمْ مكانه منه: يا خالد ما أحدٌ أخص بأمير المؤمنين منك، أنت معي، وأهلك مع أهلي، وولدك مع ولدي، فشكره ودعا له، فلم يزل خالد مع أبي العباس أمير المؤمنين على تلك الحال حتى مضى أمير المؤمنين أبو العباس، واستخلف المنصور فأقرَّ خالدًا على حاله ومرتبته وعلى ديوان الخراج، وكان به معجبًا، فمكث بذلك عدة سنين، ثم غلب عليه أبو أيوب المورياني فثقل على أبي أيوب مكان خالد وأحبَّ أن يخلو بأبي جعفر، فكان لا يألو ما حمَّل أبا جعفر عليه إلى أن أتاهم انتقاض فارس وغلبة الأكراد عليها، فأعظم أبو جعفر ذلك وأمر أبا أيوب بارتياد رجل يصلح لها فقال: قد أصبته يا أمير المؤمنين، قال: ومن هو؟ قال: خالد بن برمك، قال صدقت، هو لها. فعقد له على فارس، فشخص إليها فافتتحها وجلا الأكراد عنها، وصلحت فارس على يدي خالد وأقام بها سنين، ودخل أليه وجوه الناس وأشرافه من الأمصار، وامتدحه الشعراء فوصلهم وحباهم وصرفهم راضين فحمدوه في سائر الأمصار وشاع ذكره بالسماحة. وسعى أبو أيوب المورياني بخالد إلى أبي جعفر فقال له ك قد اقتطع خالد من خراجك ثلاثة آلاف ألف درهم ووصل بها الناس، فأغضبه عليه، فصرف خالدًا عن فارس، فلما قدم عليه ألزمه بعض ذلك المال، فدعا به بعد أن باع في أداء ذلك المال الدواب والرقيق والمتاع، فلما دخل عليه قال: أخذت مالي واجترأت عليَّ وفرقته في الناس، فقال له خالد: كل ما قال أمير المؤمنين فقد صدق، غير أني يا أمير المؤمنين اقتصرت على إنفاقي ونظرت إلى معونتي من أمير المؤمنين وما تفضل به عليَّ فصرفته إلى أشراف الناس، وتفضلت به عليهم، لأنه لم يكن شكري يحيط بنعم أمير المؤمنين عليَّ، فجمعت إلى شكري شكر هؤلاء، وذلك كله لأمير المؤمنين إذ جعل السبيل إليه وأعانني عليه، فسرّه ذلك. قال: صدقت وأحسنت، وأقرَّ الله عينك يا خالد، قد زينتنا وزينت نفسك لنا، فأنت في حِلٍ مما جرى على يدك من أموالنا، وقد رضيتُ عنك، وعظم في عينه بعد ذلك؟
1 / 15
وذكر علي بن الفرج؟ وكان الفرج أبوه لأبي أيوب ثم صار لأبي جعفر؟ قال: لم يكن أبو أيوب يأمن ناحية خالد بن برمك وأن يرده أبو جعفر إلى كتابته وديوان الخراج، فكان يحتال عليه، وكان مما احتال به أن دسَّ إلى بعض الجهابذة مالًا عظيمًا وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين عن هذا المال فقل له: إنه استودعنيه خالد أبن برمك، قال: ثم دسَ من رفع إلى أبي جعفر في ذلك، قال: فدعا أبو جعفر بالنصراني فسأله ثم قال: نعم عندي مال لخالد بن برمك أستودعنيه، قال فبعث أبو جعفر إلى خالد فأحضره وسأله عن ذلك المال، فحلف له انه لم يجمع مالًا قط ولا ذخره ولا رأى النصراني قط ولا عرفه، ثم قال: ياامير المؤمنين يرسل إلى الجهبذ واكون في موضعي حيث يراني، فإن عرفني فقد صدق علي، وإن لم يعرفني فقد أظهر الله برائتي، قال: فبعث ابو جعفر إلى النصراني فأتى به فقال: اصدق أمير المؤمنين عن هذا المال، قال: ياامير المؤمنين، المال لخالد، وما قلت الا حقًا، قال: أتعرف خالدًا إن رأيته؟ قال: نعم ياأمير المؤمنين أعرفه إن رأيته، فالتفت أبو جعفر إلى خالد فقال: قد أظهر الله براءتك، وهذا مال أصبناه بسببك، ثم قال للنصراني: هذا الجالس خالد فكيف لم تعرفه؟ قال: الأمان يا أمير المؤمنين فأمنه، فأخبره بالقصة، فأمره أبو جعفر بحمل المال إلى بيت المال، وكان بعد ذلك لا يقبل في خالد قولًا من أحد، وازداد به ثقةً وله تقديمًا.
- ٣ - (١)
ذكر احمد بن محمد أن الفضل بن يحيى بن خالد حدثهم يومًا عن يحيى بن أبي مريم المدني، وكان يخاصم رجلًا يقال له الحلبي في الفقه، وكان ابن ابي مريم يقول بقول أهل المدينة والحلبي يقول بقول أهل العراق، قال: فلما جاء ابن أبي مريم فقال: جعلت فداءك، خاصمت اليوم الحلبي بين الملأ وأفحمته، وذاك أني سألته عن قول الله ﷿ (وقيل من راق) قال إذا مات الإنسان قالت الملائكة بعضها لبعض: أيكم يرقى بروحه؟ فيقول هذا أنت، ويقول هذا أنت،
_________
(١) بغية الطلب ٩: ٢٦٢.
1 / 16
فقال: هم والله أطوع من أن يتدافعوا أمره، والله ما يرضى أبو الوزير الكاتب أن يتدافع فيوج الديوان بأمره، فكيف يرضى الله بذلك من ملائكته؟ وإنما تفسير ذلك أنه إذا مرض الإنسان قيل: من راقٍ يرقيه، فقال: قال أبو علي: فقد كان ينبغي لك أن تحتج بقوله ﵎ (وظن أنه الفراق) فإن ذلك يدل على أنه حيَ بعد، فقال له ابن أبي مريم: ولو كان لي هذا العقل كنت يحيى بن خالد.
- ٤ - (١)
وفي موسى بن يحيى بن خالد بن برمك يقول ابن أبي موسى الحلبي:
ألا إنما موسى بن يحيى بن خالدٍ ... سماءٌ علينا بالرغائب تمطرُ
على كل حال من يسارٍ وعلٍة ... فتروي كما تروى البقاعُ فتزهرُ
وإن له في الحرب إن هي شمرت ... ودارت رحاها والقنا تتكسر
سنانًا شكا طول الحصار لشربةِ ... دمًا من نحورٍ في الوغى تتفجر
_________
(١) بغية الطلب ٩: ٢٤٠.
1 / 17
فراغ
1 / 18
- ٢، ٣، ٤ -
كتاب الأحداث
لأبي جعفر
محمد بن الأزهر
وتاريخ محمد بن أبي الأزهر
وتاريخ ابن أبي الأزهر والقطربلي
1 / 19
فراغ
1 / 20
قبل التعريف بم﴾ لف كتاب الأحداث لابد من تقديم بعض الحقائق الضرورية، فهنالك ثلاثة أشخاص قد يقع اللبس لدى الحديث عن جهودهم في علم التاريخ وهم:
١ - أبو عبد الله بن محمد الأزهر الأخباري وهو الذي ينقل عن أبن خلكان كثيرًا من الأخبار المتصلة بيعقوب بن الليث الصفار وأخيه عمر (١) وقد ذهب دي سلان إلى أن هذا هو نفسه هو محمد بن أبي الأزهر الذي ذكره السخاوي ونسب اليه كتابًا كان اسمه " الهرج والأحداث " (٢)، والفرق واضح في أن أحدهما " ابن الأزهر " والثاني " ابن أبي الأزهر " وهما يختلفان في الكنية، كما سأوضح.
٢ - أبو جعفر محمد بن الأزهر من عيسى الأخباري (٢٠٠، ٢٧٩)، سمع من أبن الأعرابي وغيره، وله كتاب التاريخ وهو من خيار الكتب (٣)، وهذا هو الذي نسب إليه أبن العديم الكتاب " الأحداث "، وغيره يقول: إن كتاب الأحداث لمحمد أبن أبي الأزهر (الآتي ذكره) .
٣ - أبو بكر محمد بن احمد بن مزيد (أو محمد بن مزيد) المعروف بابن أبي الأزهر وهو نحوي بوسنجي توفي سنة٣٢٥، وقد ضعفه المحدثون ونسبوه إلى
_________
(١) وفيات الأعيان ٦: ٤٠٢، ٤٠٤ وينتهي النقل عنه ص ٤١٥.
(٢) الإعلان بالتوبيخ: ١٥٦ وروزنتال: ٦٩٤.
(٣) الفهرست: ١٢٦.
1 / 21
الكذب، وقد قرن أبن النديم باسمه المهرج والمرج في أخبار المستعين والمعتز (١) وكذلك فعل المسعودي حين قال: " وكتاب محمد بن أبي الأزهر في التاريخ وغيره، وكتابه المترجم بكتاب الهرج والأحداث " (٢)، وهذا يعني أن كتاب " الهرج والأحداث " كتاب واحد ولعله أن يقابل ما سماه أبن النديم " الهرج والمرج " وهنا موضوع أشكال لأن أبن العديم وهو دقيق في نقله نسب كتاب الأحداث للمكني بأبي جعفر (رقم:٢) وعند السخاوي أن كتاب الهرج والأحداث لمحمد بن أبي الأزهر (دون ذكر للكنية) . فأين وجه الصواب في هذه القضية؟
من الصعب أن نخرج بحكم قاطع فأبو جعفر وأبو بكر كلاهما متعاصران إلا إن أبو بكر عمر طويلًا (إذ عاش أكثر من ثلاث وتسعين سنة) (٣) وكلاهما أخباري. والقطعة التي أوردها أبن العديم تتصل بعهد المعتز (وهو محور كتاب الهرج والأحداث الذي ينسبه صاحب الفهرست والمسعودي لأبن أبي الأزهر)، وعلى فقد نقدر أن أبن العديم وقع في الوهم رغم دقته أو أن هناك كتابين بهذا العنوان أحدهما لأبي جعفر والثاني لأبي بكر.
وما دام الرجحان في نسبة الكتاب يتجه نحو أب أبي الأزهر فلا بد من إشباع القول فيه وفيه جهوده العلمية: فقد كان الرجل متعدد المعارف، ويبدو أن النحو أستأثر باهتمام كبير ومنه عرف بأنه " مستملي المبرد " (٤) فهو قد أخذ عن المبرد وعن أحمد بن محمد بن منصور الخياط (٥) وعن العباس بن الفرج الرياشي (٦)، ووصف
_________
(١) الفهرست: ١٦٥.
(٢) مروج الذهب ١: ١٦.
(٣) سنة ٣١٣ كان قد مضى من عمره ثمانون سنة وثلاثة أشهر (الفهرست) .
(٤) إنباه الرواة ٣: ٧٠ وتاريخ العلماء النحويين: ٤٨ وطبقات الزبيدي: ١١٦ وأمالي القالي ١: ٣١.
(٥) تاريخ العلماء النحويين: ٤٨.
(٦) إنباه الرواة ٢: ٣٦٧.
1 / 22
بأن كانت عند أخبار الرياشي (١) وعن أخذ القالي (٢) والسيرافي (٣) وأبو الفرج الأصبهاني والمعافى بين زكريا وأبو بكر أبن شاذان والدارقطني (٤) . وقد توقف الخطيب عن دور المحدث لديه وقرر بالخبر والأمثلة انه كان كذابًا يروي المناكير (٥)، وأوردت له المصادر مقطوعين من الشعر، فالأولى (٦):
لا تدع لذةَ يوم لغدٍ ... وبع الغيَ بتعجيل الرَشَدْ
إنها إن أُخرتْ عن وقتها ... باختداع النفس فيها لم تعد
فافشل النفسَ بها عن شغلها ... لا تفكرْ في حميم وولد
أو ما خُبَرْتَ عما قيل في ... مَثَلٍ باقٍ على مرَ الأبد
" إنما دنياي نفسي فإذا ... تلفت نفسي فلا عاش أحد " والثانية هي:
إذا كنتُ احتاجُ في حاجتي ... وأنت صديقيَ أن أُذْكِرَكْ
فحقُك عندي إذ ما قضيت ... بعد اقتضائيَ أن أهجرك
فلا حظَ فيك لذي حاجةٍ ... إذا كان حضك أن يعذرك ولأبن أبي الأزهر عدد من المؤلفات منها خارج نطاق التاريخ البحت: كتاب أخبار: كتاب أخبار عقلاء المجانين (٧) وكتاب أخبار قدماء البلغاء (٨) .
_________
(١) لإنباه الرواة ٢: ٣٦٨ وأخبار النحويين البصريين: ٦٨.
(٢) أمالي القالي ١: ٣١ وإنباه الرواة ١: ٢٠٨.
(٣) أخبار النحويين البصريين: ٦٨.
(٤) بغية الوعاة ١: ٢٤٢.
(٥) تاريخ بغداد ٣: ٢٨٨ - ٢٩١ والوافي بالوفيات ٥: ١٨ وميزان الاعتدال ٤: ٣٥ ولسان الميزان ٥: ٣٧٧.
(٦) الوافي بالوفيات: ٥: ١٨ - ١٩.
(٧) الفهرست: ١٦٥ وبغية الوعاة: ٢٤٢ وكشف الظنون ١: ٢٧ وعنه ينقل ياقوت في معجم الأدباء فيسميه أحيانًا ويغفل اسمه أحيانًا أخرى، انظر مثلًا: ٣: ١٨، ١٣: ٢٩٦، ١٧: ١٣٢، ١٥٠.
(٨) الفهرست: ١٦٥.
1 / 23
أما في ميدان التاريخ فقد وردت المؤلفات الآتية:
(١) كتاب في التاريخ (أو في التاريخ وغيره)، كما ذكر المسعودي وابن العديم (١)، وكلاهما نقل عنه، فنقل عنه المسعودي خبرًا متصلًا بالواقدي (٢) وآخر بأبي تمام (٣) .
(٢) كتاب الهرج والمرج أو الهرج والأحداث، كما ذكر أبن النديم والمسعودي والسيوطي (٤) وينقل السخاوي عن سنان بن ثابت نقدًا لهذا الكتاب جاء فيه: فألف كتابًا جعله رسالة لبعض إخوانه من الكتّاب، واستفتحه بجوامع الكلام في أخلاق النفوس وأقسامها من الناطقة والغضبية والشهوانية، وذكر لمعًا من الساسات المدنية مما ذكره أفلاطون في كتابه فيها من العشر المقالات، ولمعًا مما يجب على الملوك والوزراء، ثم خرج إلى أخبار زعم أنها صحَّتْ عنده ولم يشاهدها، ووصل ذلك بأخبار المعتضد بالله وذكر صحبته إياه وأيامه السالفة معه، ثم ترقى إلى خليفةٍ خليفةٍ في التصنيف مضادة لرسم الأخبار والتواريخ وخروجًا من عمل أهل التصنيف، وهو وإن أحسن فيه ولم يخرجه عن معانيه فإنما عيب لأنه خرج من صناعته، وتكلف ما ليس من مهنته (٥)، ولو أقبل على علمه الذي أنفرد به من علم إقليدس والمقطعات والمجسطي والمدورات، ولو أستفتح آراء بقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس مخبرًا عن الأشياء الفلكية والآثار العلوية والمزاجات الطبيعية والسبب والتأليف والنتائج والمقدمات، والصنائع والمركبات، ومعرفة الطبيعيات من الإلهيات والجواهر والهيئات ومقادير الأشكال، وغير ذلك من أنواع الفلسفة، لكان قد سلم مما
_________
(١) بغية الطلب ٢: ٣٥.
(٢) مروج الذهب ٤: ٣٣١ ومعجم الأدباء ١٨: ٢٨٠.
(٣) مروج الذهب ٤: ٣٧١ - ٣٧٤.
(٤) انظر أيضًا كشف الظنون ٢: ٢٠٤٣.
(٥) الإعلان: من معانيه.
1 / 24