بسم الله الرحمن الرحيم
{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (2)
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .
Bogga 6
84/أ روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال : (( إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله )) . فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه ؛ أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير ، فكان رسول الله صلى الله عليه / وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمن الناس علي(1) في صحبته وماله أبا بكر(2) ، فلو كنت متخذا خليلا(3) غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر(1) .
وفي لفظ : (( لا يبقين في المسجد خوخة(2) إلا سدت إلا خوخة أبي بكر )) . أخرجه ابن عساكر .
وفي لفظ : (( ثم هبط عن المنبر ، فما رئي عليه حتى الساعة )) . أخرجه أحمد والدارمي(3) .
هذا حديث متواتر كما سأشير إلى طرقه .
قال النووي في شرح مسلم : فيه خصيصة بأبي بكر رضي الله عنه(4) .
وقال ابن شاهين في السنة : تفرد أبو بكر رضي الله عنه بهذه الفضيلة .
Bogga 8
وللأمر بسد الأبواب في المسجد النبوي طرق كثيرة ، تبلغ درجة التواتر ؛ فأخرج البخاري والنسائي عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه في خرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : (( إنه ليس أحد أمن علي في نفسه وماله غير أبي بكر ، ولو كنت متخذا خليلا من الناس لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا(1) خوخة أبي بكر(2) .
Bogga 9
وأخرج ابن سعد من طريق الزهري : أخبرني أيوب بن بشير الأنصاري عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فاستوى على المنبر ، فتشهد ، فلما قضى تشهده قال : إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله ربه(1) ، فاختار ما عند ربه . ففطن لها أبو بكر الصديق أول الناس ، فعرف أنما يريد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، فبكى أبو بكر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك يا أبا بكر ؛ سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر ، فإني لا أعلم امرءا أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر(2) .
Bogga 10
وأخرج الطبراني بسند حسن عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صبوا علي من سبع قرب من آبار شتى ؛ حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم ، فخرج عاصبا رأسه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله ، فاختار ما عند الله ، فلم يفهمها إلا أبو بكر ، فبكى ، فقال : نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك ؛ أفضل الناس عندي في الصحبة وذات اليد ابن أبي قحافة ، وانظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر ، فإني رأيت عليه نورا(1) .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات(2) ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار ، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر(3) .
Bogga 11
وأخرج أبو يعلى بسند رجاله ثقات ، عن بعض الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته : انظروا هذه الأبواب اللاصقة في المسجد فسدوها ، إلا ما كان من بيت أبي بكر ، فإني لا أعلم أحدا كان أفضل عندي في الصحبة منه(1) .
وأخرج البزار بسند حسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سدوا عني كل باب إلا باب أبي بكر .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب التي في المسجد إلا باب أبي بكر(2) .
Bogga 12
84/ب وأخرج الدارمي / في مسنده عن عائشة قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : صبوا علي من سبع قرب من سبع آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم ، فصببنا عليه ، فخرج فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا إن عبدا من عباد الله قد خير بين الدنيا وبين ما عند الله ، فاختار ما عند الله ، فبكى أبو بكر ، فقال : على رسلك ؛ سدوا هذه الأبواب الشوارع إلى(1) المسجد إلا باب أبي بكر ، فإني لا أعلم امرءا أفضل عندي يدا في الصحبة من أبي بكر(2) .
وأخرج الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تؤذوني في صاحبي ، ولولا أن الله سماه صاحبا لاتخذته خليلا ، ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة(3) .
وأخرج ابن سعد في الطبقات ، وابن عدي في الكامل عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن أعظم الناس علي منا في الصحبة وذات يده أبو بكر ، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها في المسجد إلا باب أبي بكر(4) .
Bogga 13
فقال ناس : أغلق أبوابنا وترك باب خليله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر ، وإني أرى على باب أبي بكر نورا ، وأرى على أبوابكم ظلمة(1) .
مرسل .
وقد أخرجه أبو طاهر المخلص في فوائده ، وابن عدي في الكامل ، وابن عساكر في تاريخه موصولا من طريق يحيى بن سعيد عن أنس ، به ، وزاد : فكانت الآخرة أعظم عليهم من الأولى .
قال ابن عدي : لا أعلم وصله عن الليث غير عبد الله بن صالح ، ورواه غيره عن الليث عن يحيى بن سعيد بدون ذكر أنس(2) .
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن أبي الأحوص حكيم بن عمير العنسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما أمر به من سد تلك الأبواب إلا باب أبي بكر ، وقال : ليس منها باب إلا وعليه ظلمة إلا ما كان من باب أبي بكر ، فإن عليه نورا(3) .
Bogga 14
وأخرج ابن سعد(1) عن أبي الحويرث قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواب تسد إلا باب أبي بكر ، قال عمر : يا رسول الله ؛ دعني أفتح كوة(2) أنظر إليك حين(3) تخرج إلى الصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا(4) .
وأخرج ابن سعد عن أبي البداح بن عاصم بن عدي(5) قال : قال العباس بن عبد المطلب : يا رسول الله ؛ ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد ، وما بالك سددت أبواب رجال في المسجد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عباس ؛ ما فتحت عن أمري ، ولا سددت عن أمري(6) .
Bogga 15
فصل وأخرج أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك وصححه عن زيد بن أرقم قال : كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوما : سدوا هذه الأبواب ، إلا باب علي ، فتكلم أناس في ذلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد ؛ فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتبعته(1) .
وأخرج أحمد والنسائي وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد ، وترك باب علي ، فقالوا : يا رسول الله ؛ سددت أبوابنا كلها إلا باب علي ، قال: ما أنا سددت أبوابكم ، ولكن الله سدها(2) .
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي(3) .
Bogga 16
وأخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه ، وزاد : فقال الناس في ذلك ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنما أنا عبد مأمور ؛ ما أمرت به فعلت ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي .
85/أوأخرج البزار عن علي بن أبي / طالب قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن سد بابك قال : سمعا وطاعة ، فسد بابه ، ثم أرسل إلى عمر ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ، ولكن الله فتح باب علي ، وسد أبوابكم .
وأخرج البزار عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فمرهم فليسدوا(1) أبوابهم ، فانطلقت فقلت لهم ففعلوا إلا حمزة ، فقلت : يا رسول الله ؛ قد فعلوا إلا حمزة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل لحمزة فليحول بابه ، فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحول بابك ، فحوله .
وأخرج أحمد والنسائي عن ابن عباس قال : سد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب المسجد غير باب علي ، وكان يدخل المسجد وهو جنب ، وهو طريقه ليس له طريق غيره(2) .
وأخرج الطبراني عن جابر بن سمرة قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها ؛ غير باب علي ، فقال العباس : يا رسول الله ؛ قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج ، قال : ما أمرت بشيء من ذلك ، فسدوها كلها غير باب علي(3) .
Bogga 17
وأخرج النسائي بسند صحيح ، عن ابن عمر أنه سئل عن علي فقال : انظر إلى منزله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه(1) .
وأخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عمر قال : أعطي علي ثلاث خصال : زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته ، وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر(2) .
فهذه أكثر من عشرين حديثا(3) في الأمر بسد الأبواب ، وبقيت أحاديث أخر تركتها كراهة الإطالة .
فصل :
Bogga 18
قال العلماء : لا معارضة بين الأحاديث المذكورة في الفصل الأول ؛ من أنه سد الأبواب إلا باب أبي بكر ، ومن المذكورة في الفصل الثاني من أنه سد الأبواب إلا باب علي ، فإنهما قصتان إحداهما غير الأخرى ؛ فقصة علي كانت متقدمة - وهي أن سد الأبواب الشارعة ، وقد كان أذن لعلي يمر في المسجد وهو جنب - وقصة أبي بكر متأخرة في مرض الوفاة في سد طاقات كانوا يستقربون الدخول منها وهي الخوخة ، كذا جمع القاضي إسماعيل المالكي في أحكامه ، والكلاباذي في معانيه ، والطحاوي في مشكله ، وعبارة الكلاباذي : لا تعارض بين قصة علي وقصة أبي بكر ؛ لأن باب أبي بكر كان من جملة خوخات يطلع منها إلى المسجد ، وأبواب البيوت خارجة من المسجد ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد تلك الخوخ ، فلم يبق تطلع منها إلى المسجد ، وترك خوخة أبي بكر فقط ، وأما باب علي فكان داخل المسجد يخرج منه ويدخل منه(1) .
وقال الحافظ ابن حجر : قصة علي في سد الأبواب ، وأما سد الخوخ ، فالمراد به طاقات كانت في المسجد يستقربون الدخول منها ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بسدها إلا خوخة أبي بكر ، وفي ذلك إشارة إلى استخلاف أبي بكر ، لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره(2) . انتهى .
قلت : ويدل على تقدم قصة علي ذكر حمزة في قصته ؛ فإن حمزة قتل يوم أحد .
فصل :
Bogga 19
85/ب قد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة - بل المتواترة - أنه صلى الله عليه وسلم منع من فتح(1) باب شارع إلى المسجد ، ولم يأذن في ذلك لأحد ، ولا لعمه العباس ، ولا لأبي بكر ، إلا لعلي ؛ لمكان ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، ومن فتح خوخة صغيرة أو طاقة أو كوة ، ولم يأذن في ذلك لأحد، ولا لعمر ، إلا لأبي بكر خاصة ؛ لمكان الخلافة ، ولكونه أفضل الناس يدا عنده ، كما أشار إلى التعليل / به في الأحاديث المبدأ بها ، هذه خصيصة(2) لا يشاركه فيها غيره ، ولا يصح قياس أحد عليه إلى يوم القيامة ، فإن عمر استأذن في كوة فلم يؤذن له ، فمن ذا الذي يقاس عليه وقد منع عمر ، واستأذن العباس في فتح باب صغير بقدر ما يخرج منه وحده ، فلم يؤذن له ، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذا الذي يباح له ذلك ، وقد منع منه عمر والعباس . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسند ذلك إلى أمر الله به ، وأنه لم يسد ما سد ، ولم يفتح ما فتح إلا بأمر الله عزوجل .
Bogga 20
ثم إن ذلك كان في مرض الوفاة ، وفي آخر مجلس جلسه على المنبر ، وكان ذلك من جملة ما عهد به إلى أمته ، ومات عليه , ولم ينسخه شيء ، وتقلد ذلك جملة الشيعة من أمته ، فوجب على من علمه أن يبينه عند الحاجة إليه ، ولا يكتمه ، فإن توهم متوهم ، أو زعم زاعم ، أن الأمر في ذلك منوط برأي الإمام ، رد عليه : أن هذا حكم من الأحكام نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على منعه ، فلا رأي لأحد في إباحته ، بل لو وقف رجل من آحاد الناس مسجدا ، وشرط فيه شيئا اتبع شرطه(1) ، فكيف بمسجد وقفه النبي صلى الله عليه وسلم ، ونص فيه على المنع من أمر وأسنده إلى الوحي ، وجعله من جملة عهده عند وفاته ، والرجوع إلى رأي الإمام إنما يكون في مساجد لا تعرض في شروط واقفيها لمنع ولا لغيره ، على ما في ذلك أيضا من توقف ونظر(2) .
وإن خطر ببال أحد أن يقول : إن المسجد الشريف قد زالت معالمه وجدره ، ووسع زيادة على ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم ، فلا يجديه(3) هذا شيئا ؛ فإن حرمة المسجد وأحكامه الثابتة له باقية إلى يوم القيامة ، ولو اتسع وأزيلت معالمه وجدره وأعيدت ، عادت على هذا الحكم من غير تغيير ، فإن الحكم المذكور منوط بالمسجد من حيث هو ، لا بذاك الجدار بعينه ، وقد بني في زمن عمر ، ووسع في زمن عثمان وغيره في القرن الأول وبعده ، ولم يخرجوا عن هذا الحكم .
Bogga 21
وإن قيل بجواز الفتح في الجدار الذي هو ملك الفاتح ، قلنا : إن كان مع إعادة حائط المسجد الشريف كما كانت ، بحيث سد الباب والشبابيك التي في الجدار فلا مستطرق منه ، ولا يطلع منها ، فلا كلام ، وإن كان مع إزالة حائط المسجد ، وبناء الاستطراق والاطلاع فمعاذ الله ، فإن هذه ذريعة وحيلة يتوصل منها إلى مخالفة الأمر الشريف ، وإذا منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر من فتح كوة ينظره(1) منها حين يخرج إلى الصلاة ، فكيف هدم الحائط جميعه ، بل أزيد على هذا وأقول : لو أعيد حائط المسجد ، وبنى خلفه جدارا أطول منه ، وفتح في أعلاه كوة يطلع منها إلى الشبابيك تصير معدا لمن يجلس فيها مرتفعا ، والقبر الشريف تحته ، فهذا أشد وأشد ، والواجب على كل متحر الاحتياط لدينه حيث علم أن هذا الحكم منصوص عليه من صاحب الشرع ، وأنه لا رأي لأحد فيه بعد نصه ، وإن حكم الحاكم بما خالف النص ينقض ، وفتوى المفتي بما يعارضه ترد ، والتوصل إلى خلافه بالحيل الفاسدة من باب قوله صلى الله عليه وسلم : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل(2) .
فصل :
Bogga 22
86/أ اعلم أن أكثر مفتي عصرنا أفتوا بجواز فتح الباب ، والكوة ، والشباك ، من دار بيت ملاصقة للمسجد الشريف ، وكان ذلك منهم استرواحا ، وعدم وقوف على مجموع الأحاديث الواردة ، ولولا جناب النبي صلى الله عليه وسلم ، / وعظمته الراسخة في القلب لم أتكلم في شيء من ذلك ، وكنت إلى السكوت أميل ، لكن لا أرى السكوت يسعني في ذلك ، فإن هذا عهد عهده النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته ، فوجب على كل من علمه أن يبينه ، ولا يراعي فيه صديقا ولا حبيبا ، ولا بعيدا ولا قريبا ، وأنا أذكر شبه المفتين وأوردها واحدة واحدة .
فمنهم من قال : لا نقل في هذه المسألة لأهل مذهبنا ، ونقول بالجواز استحسانا حيث لا ضرر .
وجواب هذا : أنه لا استحسان مع النصوص النبوية .
ومنهم من قال بالقياس على سائر المساجد ، حيث رأى الناظر ذلك .
وجواب هذا : أن النص منع القياس ، ودلت الأحاديث على أن المسجد النبوي انفرد بهذه الخصوصية عن سائر المساجد .
ومنهم من قال : الأمر في ذلك منوط برأي الإمام .
وجواب هذا : أنه لا رأي لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهل لأحد من الأئمة أن يغير من الأمور المنصوصة في الشريعة شيئا برأيه ؟
ومنهم من قال : الحديث الوارد في ذلك مخصوص بزمنه عليه السلام ، وهذا خطأ من وجوه :
أحدها : أنه لا دليل على التخصيص ، وإنما يصار إلى تخصيص النصوص بدليل .
ثانيها : أن القصة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته ، ولم يعش بعدها إلا دون عشرة أيام ، فدل على أنه أمر به شرعا مستمرا إلى يوم القيامة .
ثالثها : أنه لو كان مخصوصا بزمن لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبينه ، وإلا لكان تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، لا سيما وهي آخر جلسة جلسها للناس .
Bogga 23
رابعها : أن الصحابة استمروا إلى أن انقرضوا وهم باقون على هذا الحكم ، وهذا يدل على أنهم فهموه شرعا مؤبدا .
خامسها : يقال لهذا الذي ادعى التخصيص : ما وجه منع الصحابة في زمنه ، والإذن لمن جاء بعدهم ! والصحابة أشرف وأجل وأحق بكل خير ، وهل تخيل متخيل أن يرخص لأهل القرن الأرذل ما منع منه أشرف(1) الأمة ، وخيارهم ! معاذ الله .
فائدة نختم بها الكتاب :
قال النووي في شرح المهذب : فرع عن خارجة بن زيد بن ثابت آخر فقهاء المدينة السبعة ، قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده سبعون ذراعا في ستين ذراعا أو أزيد(2) . قال أهل السير : جعل عثمان بن عفان طول المسجد مائة وستين ذراعا ، وعرضه مائة وخمسين ذراعا ، وجعل أبوابه ستة ، كما كانت في زمن عمر(3) ، وزاد فيه الوليد بن عبد الملك ، فجعل طوله مائتي ذراع ، وعرضه في مقدمه مائتين ، وفي مؤخره مائة وثمانين(4) ، ثم زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط دون الجهات الثلاث(5) .
هذا ما في شرح المهذب .
Bogga 24
86/ب وأخرج ابن سعد في الطبقات عن الزهري قال : بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع المسجد ، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين ، وكان مربدا(1) لسهل وسهيل ؛ غلامين يتيمين من الأنصار ، وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما ، فابتاعه بعشرة دنانير ،وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة ، وبالغرقد الذي فيه أن يقطع ، وأمر باللبن فضرب ، وكان في المربد قبور جاهلية ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبشت ، وأمر بالعظام أن تغيب ، وكان / في المربد ماء مستنجل(2) فسيروه حتى ذهب ، وأسسوا المسجد ، فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع ، ويقال : كان أقل من المائة ، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ، ثم بنوه باللبن ، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وجعل ينقل معهم الحجارة بنفسه ويقول :
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وجعل يقول :
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر
وجعل له ثلاثة أبواب ؛ بابا في مؤخره ، وبابا يقال له : باب الرحمة ، وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة ، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الباب الذي يلي آل عثمان .
Bogga 25
وجعل طول الجدار بسطة ، وعمده الجذوع ، وسقفه جريدا ، فقيل له : ألا تسقفه ؟ فقال : عرش كعرش موسى ، خشيبات وثمام(1) ، الشأن أعجل من ذلك ، وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن ، وسقفها بجذوع النخل والجريد ، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد ، وجعل سودة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان(2) .
وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن مجمع بن يزيد قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد مرتين ، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة ، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد فيه مثله في الدور ، وضرب الحجرات ما بينه وبين القبلة(3) .
وأخرج أيضا عن أنس قال : بناه رسول الله أول ما بناه بالجريد ، وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين .
Bogga 26