فقهقه أبو بكر طويلا، وقال: إنني السحاب، وأنتم الكلاب! ثم انتقل من بينهم كأن أرضا ابتلعته.
وفي هذا اليوم كانت تجلس عائشة بنت رشدين إلى جانب شرفتها المطلة على النيل ذاهلة واجمة، وكانت المراكب تتهادى فوق أمواجه تحتها، وقد داعب النسيم شعرها في رفق ولين، كأنه زفرة عاشق، أو جسة طبيب حاذق، وانطلقت أصوات الملاحين بالغناء مغردة مطربة في نعمات اعتادوها، وأغنيات ابتدعوها، فيها شوق وفيها شكوى وفيها حنين إلى الأوطان.
وكانت عائشة بارعة الحسن مشرقة الطلعة، لها وجه صباحي تحير فيه ماء الشباب، وتزاحمت فيه صنوف الفتنة: فعينان سوداوان فيهما سحر، وفيهما خمر، لهما نظرات ذابلة يخفضها الحياء، ويعترك أمامها اليأس والرجاء، وأنف تأنقت في تكوينه يد الجمال، لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، وفم ياقوتي لؤلؤي ضن على الشفاه بالقبلات، وعلى العاشقين بالبسمات.
وخصر تثبت الأبصار فيه
كأن عليه من حدق نطاقا
ثم هي إلى ذلك معتدلة القد، رخيصة الجسم، هضيم الكشح.
لها بشر الدر الذي قلدت به
ولم أر بدرا قبلها قلد الشهبا
وكانت صورة للعفاف، وتمثالا للطهر، وملكا سماويا كون من نقاء ونور.
وقد كثر عشاقها، وتسابق إلى اجتذابها أبناء سراة المدينة وكبار حكامها، فكانت تقابل الإقبال بالإعراض، والرجاء بالإباء؛ لأنها أنفت أن تكون في طاعة رجل، أو أن يكون جمالها ملهاة للعابثين، ونهبا للوالغين. فتن بها أبو بكر بن صالح وزير كافور، وجن بها جنونا، وأغراها بالمال والجاه، ولم يترك أحبولة لاصطيادها إلا نصبها، ولكنها صدفت عنه في كبرياء، ونفرت كما تنفر مروعة الظباء.
Bog aan la aqoon