Shacir Andalusi
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
Noocyada
وأعيد وأكرر أن الأرستقراطي لا يسمى أرستقراطيا لأنه حلقة من سلسلة ميزها العرف في الأزمنة الغابرة، ولا يسمى الديمقراطي ديمقراطيا لمجرد دعوى يدعيها عن مبادئ التقدم في المستقبل، ولا بد من إعادة النظر في الحالتين لوضع الأرستقراطية والديمقراطية معا على أسسهما القويمة، فالديمقراطية على نحوها الشائع بقية من الماضي؛ لأنها تطلع إلى الغد يقوم على مظالم الأمس وسيئاته، والأرستقراطية - كما أفهمها - ينبغي أن تكون أملا مقبلا لأنها مصير الشعب الذي استوفى حقوقه وتهذيبه. وخليق بذلك أن يقنعنا بأننا لسنا أرستقراطيين لأننا سلالة بيت من أصحاب الأدمغة الثورية أو الثعبانية، وأصحاب الشارات الموسومة بالطنين دون أن توسم باللحن الموزون، أو سلالة سلف ملتبس الخلائق قتل كذا من العرب، أو أعان ملكا من الملوك بالذهب المغتصب. كلا، ولن نكون ديمقراطيين؛ لأننا سلالة كائن مستذل من بقايا العجز والزراية، ولكننا نصبح أرستقراطيين لأننا نرتفع أو نطمح إلى الارتفاع إلى حالة نصنعها جميعا، ونرتقي بها إلى غاية الوسع من الرقي في الزمن المقبل، ولن نصبح أرستقراطيين بإسناد ظهورنا إلى ماض يتراجع ويتهدم باسم بطل بهيمي من حملة السيف أو التابوت.
وليست الأرستقراطية - لغة - إلا أن يوكل الحكم إلى الأحسن والأفضل ممن عرفت لهم هذه الصفة بالخبرة والتجربة، وينبغي أن تكون الديمقراطية بهذا المعنى؛ وإلا فهي كلمة خاوية بغير معنى إذ كان الشعب خليقا أن يكون أحسن الطبقات وأفضلها.
وإذا قيل كما يقول الأرستقراطيون التقليديون: إن الله كان في البداية، فنحن جميعا من عند الله، والله هو القبلة التي علينا جميعا أن نسعى إليها، وأن نجعله أمامنا غاية المسعى، أليس إلى الله مصيرنا أجمعين؟! أليس الله أمل الإنسان المأمول؟! •••
في هذه المحاضرة أقصد البلاد الإسبانية بالكلام؛ لأنها البلاد التي أعرفها وأعرف بلاد العالم القديم من طريقها. فأقول: إن الفلاحين - ولا أذكر الصعاليك فإنهم جماعة أخرى - هم على العموم الأرستقراطية البدائية، وهم يمثلون الوجاهة والشعبية معا، ويثبتون خطأ الذين يعرفون الطبقتين بالكلمات والمصطلحات، وقد عرفت بلدي وتنقلت في أرجائه، فلقيت في عزلة الريف نماذج حسنة للوجاهة التي تنشد التقدم، وأعزو ذلك إلى التطبع العام في البيئة، وإلى الملابسة الفردية بين الإنسان وبين حياة طبيعية صاحية طيبة على مثال الحياة في جملة البلاد الإسبانية، وأنوه بهذه الملابسة - على وجه خاص - لاعتقادي أن الشرف إنما يتوافر لكل فرد، ولكل جماعة، ولكل أمة، بمقدار الوفاق فيما بينه وبين الحياة الطبيعية من وشيجة متصلة، أو فيما بينه وبين الطبيعة على الجملة؛ لأننا عند الطبيعة - في الواقع - نلتقي بالعواطف والمعاني التي تترجمها إلى لغة الحياة الاجتماعية المثلى، فلا شيء كالطبيعة يروض النفس على اعتدال المزاج وحفظ التناسب بين الأمور، ولا شيء مثلها يلغي الخسة ويبطلها، كما أنه لا شيء مثلها يميزنا ويرفعنا إلى العظمة. وقد يلوح لنا أننا عند الطبيعة أصغر منا عند المدنية (خلافا لكم في نيويورك حيث المدنية مأوى طبيعي من النبات)، ولكننا نحس على هذا بأننا نضارع طبيعتنا التي نعيش فيها سعة وكبرا، ويحس هذا كل من وهب نفسه للطبيعة، وقابل بين موقفه منها إنسانا أمام اتساعها وكبرها. وإن الإنسان الحضري لكالشجرة المقتلعة التي تنمي الورق، وقد تنمي الزهر والثمر، ولا تزال كل ورقة وكل زهرة وكل ثمرة آية من آيات الحنين إلى أمه الأرض التي فارقها.
وإن الفلاح الإسباني في شعوره بالحلول الطبيعي والبواطن الخفية يتسم باللطف والدعة والكرم؛ لأنه يحب. وليس الشعور بالوحدة بين الإنسان وبواطن الطبيعة إلا شعورا بألفة الحب، وهو هو سمة النبل الصحيح.
إنه يحب عناصره من الأرض والهواء والنار، وبهذا الحب تتناسق حياته والسماء الزرقاء، وإذا أراد أن يتمم وجوده بالعدل الاجتماعي، فليس يتطلب إلا أن يوضع في وضع اقتصادي له كرامته وبساطته على نحو يختلف بعض الاختلاف من تلك العناصر التي ينفخ فيها كل يوم من مدد حياته، والشعب الإسباني - من ثم - يكمل كما يكمل اليوم شعب هذه البلاد بنهجه على سبيله المثالي من وحي شعوره العميق ومسلكه المطبوع.
ولكن ما أقل ما نفهم نحن الإسبان عما يقال له طبقة عليا؟! وما أسوأ ما نجري مجرانا مع تلك الطبقة الخارقة منا؟!
ما أقل ما نصنعه بعون الجماهير النبيلة لمعاونتها على إنشاء حريتها وتقريرها؟! •••
إن الكاتب الإسباني الأندلسي سلفادوري رويدا الذي حاول جهده أن يصور بالشعر حياة الحضر والريف في إسبانيا، قد كان أخلق أن يعظم فوق عظمته بين الأمة لو أنه - وهو ابن الشعب - حاول أن يصوغ نفسه في هذا القالب بدلا من صوغها في القالب الأجنبي الذي هو غريب عنه. وقد ذهب مرة إلى حفل شعبي بمدريد فسر به سرور الطفل، وبذل جهدا جهيدا لكي يبدو مع الشعب في حفله ولا يلوح غريبا عنه كما أخبرني، ولما وضع نفسه في هذا الزي لم يشأ أن يزورني لأنه حسب أنه يجرح بهذا الزي ما يسميه بذوق الأرستقراطية عندي، وقلت في خاطري: أي رأي لهذا سلفا دوري رويدا الذي يظن أنه يجرح شعوري إذا لبس النعال، ويجرح شعور الشعب إذا لبس الحذاء؟!
ولقد كنت يومئذ ناشئا، وكان هو في الخمسين، فاجترأت مع ذلك أن أقول له: إنني أوثر أن تحضر لي وفي قدميك نعال إن كنت ترى أنها لائقة بك، ولا يسرني أن تدوسها لمجرد اعتقادك أنها مناسبة للمقام. وأحسب أن المكان الذي لا ينبغي أن تذهب إليه بذلك النعال إنما هو ذلك الحفل الذي كنت فيه. والحق أنه لم يبد كأنه واحد من آحاد الشعب لأنه لبس نعالهم، ولكنه بدا كذلك لتلك الملامح الطيبة التي تشبه ملامح الصناع، ولا تتفق وما كان يتزيا به ليذهب إلى المحفل الأدبي الذي رأيته فيه عند دون جوان ڤاليرا، ذاك الكاتب الذي كانوا يعدونه من أبناء الطراز الأرستقراطي في معيشته وفي القصة كذلك، ويا للأسف والأسى!
Bog aan la aqoon