Shacir Andalusi
شاعر أندلسي وجائزة عالمية
Noocyada
فلا يخفى أن اللجنة بدأت عملها والمقاييس العالمية على اتفاق أو على تقارب يشبه الاتفاق، وطريق السلام بادي المعالم للمفكرين، والقادة يعرفون فيه غرضا واحدا وهو اجتناب النزاع بين الأمم، واجتناب الفتن التي تناقض مبادئ الأخلاق ودعائم الاجتماع، وحدث فيما قبل الحرب العالمية الأولى أن تقدير الأديب من قبل اللجنة يوافقه تقدير دولته، أو تقدير هيئاتها العلمية، فيجمع بين المكافأة الأدبية وبين المكافأة «الرسمية»، أو المكافأة الشعبية بإجماع الآراء، أو بما يقرب من الإجماع، واستطاعت اللجنة أن تختار على سعة قبل الحرب العالمية الأولى، ثم اضطرت إلى حصر اختيارها أثناء الحرب في نطاق محدود من الأمم الصغيرة التي التزمت الحيدة بين الطرفين؛ لأن عمل اللجنة لم ينقطع أثناء الحرب، كما انقطع أثناء الحرب العالمية الثانية لاحتلال المقاتلين معظم بلاد الشمال.
فلما انحصر اختيار اللجنة في ذلك النطاق المحدود هبط الميزان من أفق المكانة العالمية إلى ما دونها بكثير، وتعذر في هذا النطاق المحدود أن تجتمع للأديب شروط الفن وشروط السلام والطموح إلى الأمثلة العليا، التي تتفق عليها مقاييس الأفكار والأخلاق.
ثم أسفرت نهاية الحرب العالمية الأولى عن وجهات شتى في ميدان السياسة الدولية، وميدان المذاهب الاجتماعية، وميدان التفكير، والنقد الفني على الإجمال؛ فظهرت مذاهب الشيوعية والفاشية والنازية، واندفع كل فريق من أتباع هذه المذاهب إلى التأهب بالدعاية وبالسلاح لاتقاء الخطر أو للثأر من الهزيمة، واقترنت خصومات السياسة والاجتماع بالخلاف على المشارب والعادات ومبادئ السلوك وضوابط الأخلاق بين المحافظة والإباحة وبين التزمت والانطلاق. فلم يكن يسيرا على اللجنة بين هذه المنازع المتعارضة أن توحد المقاييس بينها وبين الأشتات المتفرقة من حملة الأقلام المضطربين في هذا الخضم المريج من الدعايات والرد على الدعايات، وقنعت اللجنة بقسمتهم جميعا إلى قسمين: أحدهما يكثر في كلامه ترديد لهجة العداء والنقمة إلى الطرفين، والآخر - وهو أصغر القسمين - يقف عند حدود الحيدة، ولا يتورط في حملات الدفاع والهجوم بين المعسكرين، وقلما يتفق أن يكون هؤلاء المحايدون المنعزلون على القمة العالية من قمم النبوغ والمكانة العالمية.
ولا مناص للجنة بعد توزيع الجوائز سنوات متوالية أن تلاحظ نصيب الأمم الكبيرة وزيادة النسبة في بعضها أو نقصانها عن القدر الذي يبرئها من تهمة المحاباة والإجحاف، فإذا شعرت بالزيادة في نصيب أمة من الأمم، فقد يلجئها ذلك إلى قبول المرشح من أمة أخرى، ولو لم يكن له حق من الشروط الفنية أو الشروط الإنسانية كحق منافسيه.
وقد برزت مع الخصومات الدولية قضايا الحرية في بعض الأمم الصغيرة المغلوبة على أمرها، فلم يكن التفات اللجنة إليها هذه المرة كالتفاتها إليها خلال الحرب العالمية؛ إيثارا لها بجوائز السلام لوقوفها موقف الحيدة بين المتقاتلين، بل كان التفاتها إليها تحية لها في المطالبة بالحقوق الإنسانية، وسدا لباب من أبواب الحرب تفتحه مطامع الدول الكبار، وتدفعها إليه المغالبة على السيادة والسلطان، ومن هذا السبيل وصلت الجائزة إلى أدباء أيرلندة وبولونيا وفنلندة، ووصلت إلى أدباء بعض الأمم المستقلة التي طغى عليها المستبدون من أبنائها وأقاموا حكمهم فيها على مبادئ سياسية أو اجتماعية تناقض مبادئ العدالة والسلام.
وينبغي أن نذكر أن الأدباء المتأخرين في تاريخ نيل الجائزة لم تكن لهم هذه المكانة قبل ذلك بسنوات، فلا تفاوت في التقدير - مثلا - بين برنارد شو (سنة 1925) وهيس (سنة 1910)؛ لأن خمس عشرة سنة بين التاريخين تفسر هذا التفاوت، ولا ترجع به إلى اختلاف المقاييس.
ولا ننس أن اللجنة نفسها تتطور في نظراتها إلى الأدب وفي مقاييسها التي تقدر بها الأدباء، وأنها تتطور كذلك في حكمها على الأخلاق، وما تستوجبه منها في الأديب الذي تتوافر له أمانة الفكر ولا تتوافر له أمانة السلوك؛ فلا جرم يرجح لديها في منتصف القرن من لم يكن راجحا لديها عند مطلعه، ويتقبل الناس حكمها الأخير ولم يكن مقبولا لديهم قبل ذاك. •••
إلا أن هذه العوارض الضرورية قد تعطي حقها من الاعتبار، ولا تنفي الغرابة التي قوبل بها إهمال اللجنة تلك الفئة التي ارتفعت إلى قمة الذروة العالمية، قبل أن تبدأ اللجنة عملها في مطلع القرن العشرين، ونذكر منها أسماء تولستوي الروسي، وإبسن النرويجي، وزولا الفرنسي، وهاردي الإنجليزي. وقد قوبل بمثل هذه الغرابة إهمالها لفئة أخرى من الأعلام والأقطاب لم تزل تصعد درجات الشهرة خلال الربع الأول والربع الثاني من القرن العشرين، حتى استقرت قبل منتصفه على مثل تلك القمة من الشهرة العالمية، ومنهم كروشة الإيطالي، وإبانيز وأنامونو الإسبانيان.
وقد عم هذا الاستغراب أرجاء العالم الثقافي لأول وهلة بعد إعلان الجائزة الأولى، وكان مظهره في بلاد السويد أشد وأصرح من مظهره في البلاد الغربية التي كانت تترقب جميعا أن يكون الفائز الأول تولستوي دون برودوم الذي وجهت إليه على غير انتظار.
ولم يسع اللجنة أن تغفل هذا الاحتجاج العالمي، فاعتذرت له بأعذارها يومئذ، ثم توسعت في شرحه وشرح عوامل الترشيح والإجازة على العموم في أول كتاب أصدرته المؤسسة لمناسبة انتصاف القرن العشرين، وقد يزيل الاطلاع عليه بعض الغرابة، وينفع في إيضاح العوامل التي تحيط بمواقف الهيئات التي تتصدى لأمثال هذه المهمة العالمية، ومنه ما تشاؤه باختيارها، أو تنساق إليه ولا مشيئة لها فيه.
Bog aan la aqoon