Series of Faith and Disbelief - Introduction
سلسلة الإيمان والكفر - المقدم
Noocyada
فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان
المسألة الثالثة: فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، لا نقول: مؤمن مطلقًا، ولا نقول: غير مؤمن مطلقًا.
يعني: لا هو يكفر ولا يبقى إيمانه سليمًا، بل فاسق أهل القبلة الذي خرج عن طاعة ربه بفعل المعاصي يترتب على ذلك أنه لا يوصف بالإيمان التام، كالمؤمن الذي اتقى هذه المعاصي، ولا يسلب عنه مطلق الإيمان، وإنما يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه وتصديقه فاسق بمعصيته.
يقول الشيخ حافظ الحكمي ﵀: والفاسق الملي ذو العصيان لم ينف عنه مطلق الإيمان لكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه ما زال في انتقاص يعني: أن فاسق أهل القبلة لا ينفى عنه مطلق الإيمان بفسوقه، المؤمن الموحد إذا ارتكب معصية لا ينفى عنه مطلق الإيمان، ولا يقال: هو غير مؤمن تمامًا، ولا يوصف أيضًا في نفس الوقت بالإيمان التام، لكنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
والمراد بالفسق هنا هو الأصغر، وهو عمل الذنوب والكبائر التي سماها الله ورسوله فسقًا وكفرًا وظلمًا، مع إجراء أحكام المؤمنين على عاملها، فإن الله تعالى سمى الكاذب فاسقًا، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:٦]، ومع هذا لم يخرج ذلك الرجل الذي نزلت فيه هذه الآية من الدين بالكلية، ولم ينف عنه الإيمان مطلقًا، ولم يمنع من جريان أحكام المؤمنين عليه.
كذلك أيضًا في الآية: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام:١٢١]، وكذلك قال النبي ﷺ: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقد استبَّ بعض الصحابة على عهده وفي حضرته ﷺ، وأصلح بينهم ولم يكفرهم، بل بقوا أنصاره ووزراءه في الدين.
وقال ﵎: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات:٩]، وصفهم بالإيمان مع وقوع الاقتتال، ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:٩]، وسمى وأمر بالإصلاح بينهما ولو بقتال الباغية، ثم قال: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:٩]، ثم لم ينف عنهم أخوة الإيمان، بل أثبت أخوة الإيمان مطلقًا، فقال ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات:١٠].
أيضًا قوله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:١٧٨]، فأثبت أيضًا الإيمان بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا»، ثم قال: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ»، فأثبت أخوة الإيمان، لكن نذكر أنفسنا هنا بأنه ليس الإيمان المطلق، صحيح وصفهم بالإيمان، لكن القاتل يعتبر مؤمنًا بإيمانه فاسقًا بكبيرته أو معصيته، أو هو مؤمن ناقص الإيمان بسبب هذه المعصية، كذلك هؤلاء الذين قال لهم النبي ﷺ: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)، سماهم أيضًا مسلمين بعد أن رجعوا كذلك، فقال في صفة الخوارج: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق)، تنبأ ﵊ بحصول فرقة بين المسلمين، وهو ما كان بين معاوية ﵁ وجيشه، وما كان من علي ﵁ وجيشه، فهذه فرقة من المسلمين، فأثبت لهم صفة الإسلام، ثم قال: (تمرق مارقة) في هذه الفترة وهي فرقة الخوارج.
وقال ﵊ في الحسن بن علي ﵄: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فرقتين عظيمتين من المسلمين)، فأصلح الله تعالى بالفعل بـ الحسن ﵁ بين هاتين الفرقتين بعد موت أبيه ﵄ في عام الجماعة.
لا فرق بين تسمية العمل فسقًا وتسمية عامل هذا العمل فاسقًا، وبين تسميته مسلمًا وجريان أحكام المسلمين عليه؛ لأنه ليس كل فسق يكون كفرًا، ولا كل ما سمي كفرًا وظلمًا يكون مخرجًا من الملة، حتى ينظر إلى لوازمه وملزماته؛ وذلك لأن الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاءت في النصوص على قسمين: أكبر يخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية، والضابط الذي يميز بين الكفر الأكبر والأصغر هو الخلود في جهنم والعياذ بالله.
أما ما دون ذلك فهو الأصغر.
أما الأصغر فهو الذي ينقص الإيمان ولا يخرج صاحبه من الملة بالكلية، فهناك كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ونفاق دون نفاق، يقول ﵎ في بيان الكفر الأكبر: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:٣٤]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء:١٦٧ - ١٦٩] هذا في الكفر الأكبر.
وقال ﷺ في الكفر الأصغر: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).
وقال تعالى في الظلم الأكبر: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣]، وقال في الظلم الأصغر: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق:١]، فقوله: «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»، هذا ظلم دون ظلم، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء:١٠].
فهذا ظلم، لكن دون ظلم الشرك.
وقال في الفسق الأكبر: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف:٥٠]، وقال أيضًا: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة:٢٥٤]، وقال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة:٢٦].
وقال في النفاق الأكبر: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:٨]، وقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء:١٤٥]، وقال ﷺ في النفاق الأصغر: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر).
فهذه الخصال كلها نفاق عملي لا يخرج من الدين إلا إذا صاحبه النفاق الاعتقادي المتقدم.
إن ما تمسك به الخوارج والمعتزلة وأضرابهم من التشبث بنصوص الكفر والفسوق الأكبر، واستدلالهم به على الأصغر، فذلك مما جنته أفهامهم الفاسدة وأذهانهم البعيدة وقلوبهم الغلف.
فضربوا نصوص الوحي بعضها ببعض، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فقالت الخوارج: المصر على كبيرة من زنا، أو شرب خمر، أو ربا كافر مرتد خارج من الدين بالكلية، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولو أقر لله تعالى بالتوحيد وللرسول ﷺ بالبلاغ، وصلى وصام وزكى وحج وجاهد، وهو مخلد في النار أبدًا مع إبليس وجنوده، ومع فرعون وهامان وقارون.
وقالت المعتزلة: العصاة ليسوا مؤمنين ولا كافرين، ولكن نسميهم فاسقين، فإذا سألناهم ما معنى الفسق عندكم؟ قالوا: الفسق منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهذا هو أصل بدعة التوقف، يقول: أتوقف حتى يتبين لي، ولا نحكم له بإسلام ولا بكفر، وهذا إن شاء الله سنناقشه بالتفصيل.
لكن المعتزلة قضوا بتخليده في النار أبدًا، فوافقوا الخوارج مآلًا، وخالفوهم مقالًا، وكان الكل مخطئين ضلالًا.
وقابل ذلك المرجئة، وكانوا على الطرف الأقصى، يعني: هؤلاء غلو، وأما المرجئة ففرطوا، وقالوا: لا تضر المعاصي مع الإيمان، يعني: المعاصي لا تحدث النقص في الإيمان ولا تنافيه؛ لأن الإيمان عندهم هو مجرد القول فقط أو المعرفة، وقالوا: ولا يدخل النار أحد بذنب دون الكفر بالكلية، ولا تفاضل عندهم بين إيمان الفاسق الموحد، وبين إيمان أبي بكر وعمر، فالفاسق الذي وحد الله ﷿ وأتى بالمعرفة والقول فقط إيمانه تمامًا مثل إيمان أبي بكر ومثل إيمان عمر، بل إيمانه مثل إيمان جبريل، بل إيمانه مثل إيمان النبي محمد ﵌.
بل لا تفاضل بينهم وبين الملائكة، ولا فرق عندهم بين المؤمنين والمنافقين، يلزم من هذا على قول المرجئة: أنه لا يوجد شيء اسمه نفاق؛ لأن المؤمن والمنافق أتوا بنفس القول؛ والكل مستوف النطق بالشهادتين كما قدمنا اعتقادهم في بحث الإيمان، نسأل الله تعالى العافية.
8 / 7