90

Series of Faith and Disbelief - Introduction

سلسلة الإيمان والكفر - المقدم

Noocyada

أدلة تفاضل أهل الإيمان فيه قد ذكرنا الأدلة على مسألة: أن أهل الإيمان متفاضلون فيه، ومنها قوله ﵎: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر:٣٢]، وقوله ﷿: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة:٢٥٣]، فإذا كان التفضيل يحصل بين الرسل أنفسهم، فأولى أن يقع التفضيل بين الرسل وأتباعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، كذلك قوله: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:٤٦ - ٤٧]، إلى أن قال ﵎: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:٦٢]، فدل على تفاوت الثواب، مما يدل على تفاوت الإيمان، وكذا قوله: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [آل عمران:١٦٣] وكذلك أيضًا في سورة الواقعة قسَّم الله ﵎ الناس إلى طوائف متفاوتين في إيمانهم، وفي سورة المطففين ميز بين الأبرار وبين المقربين، وقد ذكرنا جملة من الأحاديث التي تدل على أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما يتراءى الناس في الدنيا الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، وهناك تفاوت في الأزواج، والمطاعم، والمشارب، والفرش والملبوسات، والملك، والحسن والجمال والنور، والقرب من الله ﷿، وكثرة زيارة الله ﷿ إياهم في الجنة، والمقاعد يوم المزيد، وفي أمور لا يعلمها إلا الله ﵎. وذكرنا أيضًا حديث الشفاعة، وكيف أن الذنوب تجعل أهل العصاة الموحدين يبقون في النار بقدر ذنوبهم، وهم في ذلك متفاوتون تفاوتًا عظيمًا في مقدار ما تأخذ منهم النار، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم إلى ركبتيه، أو حقويه، أو كله، إلا مواضع السجود فقد حرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود. وكذلك هم متفاوتون في مقدار لبثهم في النار، ومتفاوتون في سرعة خروجهم منها؛ لأنهم متفاوتون في الإيمان والتوحيد، فهذا كله يدل على تفاضل أهل الإيمان فيه، وأنهم ليسوا كلهم على مرتبة واحدة من الإيمان كما يزعم بعض المبتدعة. أيضًا ذكرنا أنهم لولا ما كان في قلوبهم من الإيمان والتوحيد لما خرجوا من النار، وإنما يتفاوتون في مدة أخذ النار منهم في مدة لبثهم فيها، أو سرعة خروجهم منها؛ والسبب هو تفاوتهم في الإيمان، وتفاوتهم في التوحيد الذي بسببه يخرجون منها، ولولاه لكانوا من الكفار الخالدين المخلدين فيها أبدًا والعياذ بالله! فيقال للشفعاء: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان)، يعني: أن أصل التوحيد موجود في جميع أوساط أهل التوحيد، وأصل التوحيد قاسم مشترك بينهم جميعًا، لكن هذا التوحيد وهذا الإيمان متفاوت بدليل أمره لهم في الحديث: (أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه وزن شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه ذرة من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان) وهذا نص صريح على تفاوت أهل الإيمان فيه، وأيضًا قدمنا من قبل قول النبي ﵊: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها: لا إله إلا الله)، وهذا يدل على وجود التفاضل بين شعب الإيمان، فأين مثل هذا الشخص الذي في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال ذرة من إيمان ممن الإيمان في قلبه مثل الجبل العظيم؟ وأين من نوره على الصراط كالشمس ممن نوره على إبهام قدمه؟ يقول ﵎: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم:٣٥ - ٣٦]. أيضًا: أوردنا حديث أبي سعيد الخدري ﵁ في الصحيحين قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)، يعني: قوته وشدته في دينه وزيادة إيمانه ﵁. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﵌ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدًا يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ذكره البخاري تعليقًا مجزومًا به. وقال النبي ﵌: (ملئ عمار إيمانًا إلى مشاشه) والمشاش هو: رأس العظام التي يمكن أن تمضغ، وهي الغضاريف، والمقصود: قوة وزيادة إيمان عمار بن ياسر ﵁. وقال ﷺ: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فهذا دليل على تفاضل أهل الإيمان فيه، قول النبي ﵊: (وذلك أضعف الإيمان)، يدل على أن الإيمان يتفاضل أهله فيه، فأقوى الإيمان لمن كان مستطيعًا أن ينكر المنكر بيده بشروطه، (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). وكما قدمنا: إنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم؛ لأنه لا يوجد مسلم عاجز عن الإنكار بالقلب حتى في حالة الإكراه، قال ﷿: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل:١٠٦]، فلم يقل: فمن لم يستطع؛ لأنه ليس وراء ذلك إيمان، بل أضعف الإيمان إنكاره بقلبه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح). يعني: لرجح إيمان أبي بكر الصديق ﵁ على سائر أهل الأرض. وقرأ الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى أول الأنفال حتى بلغ: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال:٤]، ثم قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:٤]، فهذه الصفات التي جاءت في أول سورة الأنفال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال:٢]، إلى أن قال: «أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا»، قال الفضيل بن عياض: إنها تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وإن المؤمن إذا كان مؤمنًا حقًا فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقًا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب به، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقًا مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان، ولا يكون مؤمنًا حقًا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه! ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقًا مستكمل الإيمان، والله! لا تكون مؤمنًا حقًا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك. ووصف فضيل الإيمان بأنه: قول وعمل وقرأ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة:٥]، فقد سمى دين القيمة بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد، والشهادة للنبي ﷺ، والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم:٥٤ - ٥٥]، وقال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣]، فالدين هو التصديق بالعمل كما وصفه الله تعالى، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته: «وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» فالتفرق: ترك العمل، والتفريق بين القول والعمل، قال الله ﵎: «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ»، تابوا بالتوحيد، والآية هذه في حق المشركين ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١١]، فلم يسمهم إخوانًا في الدين حتى ضم العمل إلى القول. وقال فضيل: يقول أهل البدع الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، قال: فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله ﷺ قوله؛ لأن رسول الله ﷺ قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، ومن يقول: الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست هي الإيمان، أي: أن الإيمان لا يتفاضل أهله فيه بناءً على أن الفرائض ليست داخلة في حد الإيمان، فميز أهل البدعة العمل من الإيمان، وفصلوا وعزلوا العمل من مسمى الإيمان؛ ولذلك قالوا: إن الناس يتفاوتون بالعمل ولا يتفاوتون في الإيمان. ومن قال ذلك فقد أعظم على الله الفرية، أخاف أن يكون جاحدًا للفرائض رادًا على الله أمره. ويقول أهل ال

7 / 10