Secularism and Islam's Stance on It
العلمانية وموقف الإسلام منها
Daabacaha
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
Lambarka Daabacaadda
العدد ١١٥-السنة ٣٤
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٢ هـ
Noocyada
العلمانية وموقف الإسلام منها
إعداد: د. حمود بن أحمد الرحيلي الستاذ المشارك في كلية الدعوة في الجامعة
المقدّمة
الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وعلى آله وأصحابه، ومن نهج نهجهم وسلك سبيلهم إلي يوم الدين.
أما بعد:
فإنه لما كان المسلمون يجمعهم كتاب ربهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجمعهم سنة رسوله ﷺ كانوا أمة واحدة قوية وعزيزة ورائدة.
ولكن لما اتصلت هذه الأمة بالأمم الأخرى ذات الأنماط الحضارية المختلفة، فإن هذه الأمة قد تأثرت بكيد أعدائها من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والملاحدة حتى أصبح المتأثرون بفكر أولئك الأعداء أمة داخل الأمة الإسلامية.
وما لذلك من سبب سوى البعد عن منهج الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ هداية ونورًا وإخراجًا للناس من الظلمات إلى النور.
وهذا البحث المتواضع يتناول جانبًا مهما وخطيرًا من جوانب هذاالتيار الفكري الذي وفد على الأمة الإسلامية واستهدف إبعادها عن عقيدتها وربطها بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله ومنهج رسوله ﷺ.
وهذا التيار الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو تيار "العلمانية" ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على
1 / 329
العلم وتتخذه سندًا لها ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها. حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعدًا واضحًا.
وإن من أقوى الأدلة المشاهدة في الرد على العلمانيين هو ما تحقق من تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية في العصر الحديث من نجاح عظيم في شتى المجالات.
وقد حاولت في هذا البحث إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع وسميته: " العلمانية وموقف الإسلام منها".
خطة البحث
وقد جعلت البحث في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة:
وقد اشتملت المقدمة على أهمية الموضوع والخطة ومنهجي في البحث.
والفصل الأول: في تعريف العلمانية ومفهومها، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف العلمانية في اللغة والاصطلاح.
والمبحث الثاني: التضليل والخداع في تسميتها.
والمبحث الثالث: مراحل العلمانية أو صورها.
والفصل الثاني: في أسباب ظهورها ونشأتها وآثارها في الغرب، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب، ويشتمل على ما يلي:
أولًا: طغيان رجال الكنيسة.
ثانيًا: الصراع بين الكنيسة والعلم.
ثالثًا: الثورة الفرنسية.
1 / 330
رابعًا: نظرية التطور.
خامسًا: طبيعة التعاليم النصرانية.
سادسًا: دور اليهود.
المبحث الثاني: آثار العلمانية في الغرب.
والفصل الثالث: الإسلام يتنافى مع العلمانية.
والفصل الرابع: في عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي وآثارها السيئة عليه، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي، ويشتمل على ما يلي:
أولًا: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة.
ثانيًا: الاستعمار الغربي والشرقي.
ثالثًا: الغزو الفكري.
رابعًا: المستشرقون.
خامسًا: المنصّرون.
سادسًا: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية.
سابعًا: تقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي.
ثامنًا: البعثات إلى الخارج.
المبحث الثاني: في آثارها السيئة على العالم الإسلامي.
والفصل الخامس: في موقف الإسلام من العلمانية، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حكم الإسلام من العلمانية.
المبحث الثاني: عمد وقواعد العلمانية وتفنيدها.
المبحث الثالث: التطبيق العملي للإسلام.
وأما الخاتمة فقد أوجزت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.
1 / 331
هذا وقد عزوت الآيات الكريمة إلى السور مع ترقيمها، كما خرجت الأحاديث النبوية الواردة في البحث، وشرحت معاني الكلمات الغريبة، كما عزوت ما تناولته في البحث إلى المصادر والمراجع التي رجعت إليها في هذاالشأن.
هذا. وأحبُّ أن أنبه بأن ما نقلته عن كتب في هذه السلسلة لا يعني موافقتي لأصحابها في المنهج، وإنما كان ذلك لحاجة هذه الأبحاث لمثل تلك المراجع، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.
وقد ألحقت بهذا فهرسًا للآيات الكريمة، وفهرسًا للأحاديث والآثار، وقائمة بأسماء المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف الهجاء مبينًا اسم المؤلف والطبعة وتاريخ النشر ما أمكن، وقائمة أخرى للموضوعات.
وإنه على الرغم من كثرة الكتابات عن العلمانية إلا أني قد بذلت جهدًا في إضافة فوائد مهمة كعمد العلمانية وتفنيدها، وتوضيح آثارها، وبيان موقف الإسلام منها على التفصيل، مبتعدًا عن الاستطرادات المملة والاختصارات المخلة.
وأسأل الله جلت قدرته أن أكون قد وفقت فيما كتبت، وأن يتجاوز عن التقصير إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 332
الفصل الأول: في تعريف العلمانية ومفهومها
المبحث الأول: تعريف العلمانية في اللغة والاصطلاح
...
الفصل الأول
تعريف العلمانية ومفهومها
المبحث الأول
تعريف العلمانية في اللغة والاصطلاح
العلمانية لغة: لم توجد لفظ العلمانية في معاجم اللغة العربية القديمة، وقد وردت في بعض المعاجم الحديثة ومن ذلك:
أ– ما ورد في معجم المعلم البستاني: "العلماني: العامي الذي ليس بإكليريكي"١.
ب- وفي المعجم العربي الحديث: "علماني: ما ليس كنسيًا ولا دينيًا"٢.
ج- وفي المعجم الوسيط٣ "العلماني نسبة إلى العَلم بمعنى العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي"٤.
_________
١ معجم المعلم بطرس البستاني، والكيرُس أو الإكليرَس: جماعة مفرزون ومكرّسون لخدمة الكنيسة المسيحية كالشمامسة والقساوسة والأساقفة ويقابلهم العلمانيون، يونانيتها: كليرس ومعناه قرعة؛ لأنهم كانوا في القديم ينتخبون بالقرعة، الواحد إكليريكي جمعه كليريكيون، ويلاحظ أن المعلم بطرس البستاني لم يضع لفظة علمانيين في مادة (ك ل ي) ولكنه وضعها في مادة (ع ل م) . انظر: جذور العلمانية، دكتور السيد أحمد فرج ص١٥٤.
٢ المعجم العربي الحديث د/ خليل الجسر.
٣ المعجم الوسيط (٢/٦٢٤) .
٤ الكهنوت: خدمة أسرار الكنيسة - سريانية معربة - والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كتاء ملكوت وجبروت، ودرجاته ثلاث: الشماس، والقسيس، والأسقف، ومراتبه كثيرة منها: القاري، والخوري، والمطران، والبطريرك، والبابا، وفعله: كهَنَ، وتكهّن تكهُّنًا فهو كاهن، ج: كهنة. انظر: جذور العلمانية المرجع السابق، ص ١٥١، نقلًا عن قاموس الأسقف جرمانوس فرحات ط سنة ١٨٤٩ م في مدينة مرسيليا الفرنسية.
1 / 333
ولعل المعنى الصحيح لترجمةكلمة "العلمانية"هى "اللادينية" أو "الدنيوية"١وليس المعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى ما لا صلة له بالدين، يتضح ذلك مما تورده دوائر المعارف الأجنبية للكلمة:
تقول دائرة المعارف البريطانية: "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها"٢.
وتقول دائرة المعارف الأمريكية: "الدنيوية هى: نظام أخلاقي أسس على مبادئ الأخلاق الطبيعية ومستقل عن الديانات السماوية أو القوى الخارقة للطبيعة.."٣.
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو فصل الدين عن الدولة.
وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة٤.
والعلمانية في الاصطلاح:
هي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعنى في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهى اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم والمذهب العلمي٥.
_________
١ انظر قاموس المورد لمنير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٧٧م.
٢ انظر: مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب، ص ٤٤٥.
٣ انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة د/ علي جريشة ص ٨٥ نقلًا عن المجلد ٢٤.
٤ انظر: العلمانية لسفر ص ٢٣.
٥ انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ص ٣٦٧.
1 / 334
ولاشك أن كلمة العلمانية اصطلاح جاهلي غربي يشير إلى انتصار العلم على الكنيسة النصرانية التي حاربت التطور باسم الدين١.
ومن هذا يتضح لنا أنه لا علاقة لكلمة العلمانية بالعلم، وإنما علاقتها قائمة بالدين على أساس سلبي وهو نفي الدين عن مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية ... الخ.
_________
١ انظر: الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ص ١٠٣
المبحث الثاني التضليل والخداع في تسميتها وقد أدرك أعداء الإسلام أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بما قرراه من تشريع هما مصدر قوة المسلمين، وأنه لا أمل في القضاء على الإسلام والمسلمين مادام المسلمون يطبقون إسلامهم تطبيقًا عمليًا في كل حياتهم. ومن هنا وضعوا أسلوبا جديدًا لمقاومة الإسلام وهو: محاولة إبعاده عن مجال الحياة وإحلال القوانين الوضعية الغربية مكانه، ليصلوا بذلك إلى ما يريدون من هدم العقيدة الإسلامية، وإخراج المسلمين من التوحيد إلى الشرك. وهذا ما قصده أعداء الإسلام حين نادوا في المجتمعات الإسلامية بفكرة إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق، والاستعاضة عنه بنظام الغرب وقوانينه. وهو ما عرف في التاريخ "بالفصل بين الدين والدولة"١. _________ ١ انظر: احذروا الأساليب الحديثة د/ سعد الدين السيد صالح ص ١٩٣، وأخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي ص ٢٠٨.
المبحث الثاني التضليل والخداع في تسميتها وقد أدرك أعداء الإسلام أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بما قرراه من تشريع هما مصدر قوة المسلمين، وأنه لا أمل في القضاء على الإسلام والمسلمين مادام المسلمون يطبقون إسلامهم تطبيقًا عمليًا في كل حياتهم. ومن هنا وضعوا أسلوبا جديدًا لمقاومة الإسلام وهو: محاولة إبعاده عن مجال الحياة وإحلال القوانين الوضعية الغربية مكانه، ليصلوا بذلك إلى ما يريدون من هدم العقيدة الإسلامية، وإخراج المسلمين من التوحيد إلى الشرك. وهذا ما قصده أعداء الإسلام حين نادوا في المجتمعات الإسلامية بفكرة إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق، والاستعاضة عنه بنظام الغرب وقوانينه. وهو ما عرف في التاريخ "بالفصل بين الدين والدولة"١. _________ ١ انظر: احذروا الأساليب الحديثة د/ سعد الدين السيد صالح ص ١٩٣، وأخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي ص ٢٠٨.
1 / 335
وإمعانًا في التضليل والخداع سماها الفكر الغربي "بالعلمانية" وهو اصطلاح يوحي بأن لها صلة بالعلم حتى ينخدع الآخرون بصواب الفكرة واستقامتها، فمن الذي يقف في وجه دعوة تقول للناس إن العلم أساسها وعمادها.
ومن هنا انطلى الأمرُ على بعض السذج وأدعياء العلم، فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره دون أن ينتبهوا إلى حقيقته وأبعاده.
والحق أن الإسلام لا يصدُّ عن العلم والانتفاع به، ولكن أي علم هذا الذي يدعيه دعاة العلمانية، ويزعمون أنه سندها وأساسها؟. إنه العلم الذي يكون بعيدًا عن الدين أو الفصل الكامل بين الدين والحياة.
والعلمانية بهذا المفهوم تعتبر في ميزان الإسلام مفهومًا جاهليًا؛ إذ تعني عزل الدين عن شئون الحياة، وذلك أن الإسلام دين متكامل جاء لينظم الحياة بأوجه نشاطها ويوجه الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإبعاد الدين عن الحياة وعن شئون الدنيا، وعزله عن العقيدة والشريعة والاقتصاد والسياسة والتعليم والأسرة والمجتمع وغيرها، إنما يعني في الإسلام الكفر وحكم الجاهلية والصد عن سبيل الله، وتعطيل حدوده.
كما أن اسم "العلمانية" يوحي بأن العلم والدين ضدان وإن الصراع قائم بينهما، كما يوحي بأن الدين لا علاقة له بالدنيا، وأن التمسك به يعني التأخر والرجعية والجهل، وهذا خطأ فاحش لأن الدين - الذي هو الإسلام - هو دين العلم والسعادة والتقدم، وهذا لا يخفى على الغربيين أنفسهم - فضلًا عن المسلمين - إن الإسلام هو الذي فتح لهم آفاق العلم والاختراع والتقدم والحضارة.
1 / 336
والسبب الأول في تسمية هذا المذهب بالعلمانية، هو ما فعله رجال الكنيسة النصرانية الذين وقفوا ضد التحضر والتقدم في الغرب زاعمين أن الدين يحرم العلم التجريبي والاختراعات والاكتشافات الناتجة عنه١.
_________
١ انظر في هذا: الموجز في الأديان ص ١٠٣ - ١٠٤، وانظر: أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي ص٥٩، وأخطار الغزو الفكري على العالم الإسلامي ص ٢٠٧-٢٠٨.
المبحث الثالث مراحل العلمانية أو (صورها) ذهب البعض إلى أن الفكر العلماني الأوروبي مرَّ بمرحلتين: المرحلة أو (الصورة) الأولى: مرحلة العلمانية المعتدلة، وهي مرحلة القرنين السابع عشر والثامن عشر - وهى وإن اعتبر الدين فيها أمرًا شخصيًا - لا شأن للدولة به إلا أن على الدولة - مع ذلك - أن تحمي الكنيسة، وبالأخص في جباية ضرائبها. والتفكير العلماني في هذه المرحلة وإن طالب بتأكيد الفصل بين الدولة والكنيسة إلا أنه لم يسلب المسيحية كدين من كل قيمة لها. وإن كان ينكر فيها بعض تعاليمها، ويطالب بإخضاع تعاليم المسيحية إلى العقل، وإلى مبادئ الطبيعة مما نشأ عنه المذهب المعروف باسم مذهب الربوبيين، وهو مذهب يعترف بوجود الله كأصل للعالم، ولكنه ينكر الإعجاز والوحي وتدخل الله في العالم. ومن دعاة هذه المرحلة: فولتير (١٦٩٤-١٧١٣م) في فرنسا، وشفتسيري (١٦٧١-١٧١٣م) في إنجلترا، وليسنج (١٧٢٩-١٧٨١م) في
المبحث الثالث مراحل العلمانية أو (صورها) ذهب البعض إلى أن الفكر العلماني الأوروبي مرَّ بمرحلتين: المرحلة أو (الصورة) الأولى: مرحلة العلمانية المعتدلة، وهي مرحلة القرنين السابع عشر والثامن عشر - وهى وإن اعتبر الدين فيها أمرًا شخصيًا - لا شأن للدولة به إلا أن على الدولة - مع ذلك - أن تحمي الكنيسة، وبالأخص في جباية ضرائبها. والتفكير العلماني في هذه المرحلة وإن طالب بتأكيد الفصل بين الدولة والكنيسة إلا أنه لم يسلب المسيحية كدين من كل قيمة لها. وإن كان ينكر فيها بعض تعاليمها، ويطالب بإخضاع تعاليم المسيحية إلى العقل، وإلى مبادئ الطبيعة مما نشأ عنه المذهب المعروف باسم مذهب الربوبيين، وهو مذهب يعترف بوجود الله كأصل للعالم، ولكنه ينكر الإعجاز والوحي وتدخل الله في العالم. ومن دعاة هذه المرحلة: فولتير (١٦٩٤-١٧١٣م) في فرنسا، وشفتسيري (١٦٧١-١٧١٣م) في إنجلترا، وليسنج (١٧٢٩-١٧٨١م) في
1 / 337
ألمانيا، والفيلسوف الإنجليزي جون لوك (١٦٣٢-١٧١٤م)، وهوبز (١٥٨٨-١٦٧٩م)، وديكارت، وبيكون، وسبينوزا، وجان جاك روسو، وأضرابهم١.
المرحلة أو (الصورة) الثانية:
وهي مرحلة العهد المادي أو ما يسمى بالثورة العلمانية، وهى مرحلة القرن التاسع عشر ومابعده، وعلمانية هذه المرحلة هى مرحلة إلغاء الدين - أي دين إلغاءً كليًا وعدم الإيمان بالأمور الغيبية - وليس فصلًا بينه وبينه الدولة كما هو المفهوم في المرحلة الأولى، واعتبار أن الموجود الحقيقي هو المحسوس فقط، والدافع عليها هو الاستئثار بالسلطة، ولذلك كانت العلمانية غير مساوية لمفهوم الفصل بين الكنيسة والدولة، بل كانت إلغاء للدين كمقدمة ضرورية إلى السلطة المنفردة التي هى سلطة جماعة العمل أو المجتمع أو الدولة أو الحزب حسب تحديد بعض هؤلاء الشيوعيين اليساريين.
ومن دعاة هذه المرحلة: هيجيل وفيرباخ وكارل ماركس وأضرابهم.٢
_________
١ انظر الاتجاهات الفكرية المعاصرة د/ جمعة الخولي ص ٩٢، الموسوعة الميسرة ص ٣٦٧-٣٦٨، كواشف زيوف ص ١٦٤، العلمانية وثمارها الخبيثة، ص ١٥-١٦.
٢ انظر: المراجع السابقة.
1 / 338
الفصل الثاني: أسباب ظهور العلمانية وآثارها في الغرب
المبحث الأول: أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب
المطلب الأول: طغيان رجال الكنيسة
...
الفصل الثاني
أسباب ظهور العلمانية وآثارها في الغرب
المبحث الأول
أسباب ظهور العلمانية وظروف نشأتها في الغرب
ويشتمل على ما يلي:
أولًا: طغيان رجال الكنيسة:
لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أمورًا تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.
وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق وسنعرض إلى شيء من ذلك بإيجاز:
أ - الطغيان الديني:
١- إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد، أويحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن ورح القدس) .
1 / 339
وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة ٣٢٥م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهرًا، وحرّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.
وتتفق المصادر على أن اليد الطولى في تحريف العقيدة النصرانية تعود إلى بولس "شاؤل" اليهودي، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعيًا أنه ابن الله١ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
٢- والعبادات قد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حمّلها النصارى مفاهيم غيبية، وفسّروها بأن لها أسرارًا مقدسة، وجعلوا لها طقوسًا تُمارس في مناسباتها، ويجب احترامها والتقيد بها.
٣- والأحكام التشريعية معظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى تُحلّلُ وتُحرِّم من غير أن يكون لها مستند من كتاب الله، أو من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام٢.
ونصّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهًا" يُحلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائنًا من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر «مهرطق» ٣.
_________
١ العلمانية لسفر ص٣٦، النصرانية لأبي زهرة ص٨٤ وما بعدها، المسيحية لأحمد شلبي ص ١١٠.
٢ انظر: كواشف زيوف لعبد الرحمن الميداني ص ٢٣.
٣ انظر: العلمانية لسفر ص١٢٨، والهرطقة - كما فهمتها الكنيسة إذ ذاك - هي: مخالفة رأي الكنيسة، فرأي يراه عالم في العلوم الكونية هرطقة، ومحاولة فهم الكتاب المقدس لرجل غير كنسي هرطقة، وانتقاد شيىء يتصل بالكنيسة هرطقة. انظر: المسيحية، لأحمد شلبي ص ٢٥٦.
1 / 340
وقد كان الختان واجبًا فأصبح حرامًا، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركًا ووثنية فأصبحت تعبيرًا عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالًا فأصبح محظورًا، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكرًا فأصبحت الضرائب الكنسية فرضًا لازمًا، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجًا.
وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة١.
بعض شعائر المسيحية:
ومن شعائر المسيحية الحالية والتي هى خليط من وثنيات العالم القديم ما يلي:
١- التعميد: وطريقته هى: رش الماء على الجبهة أو غمس أي جزء من الجسم في الماء، ويكثر أن يغمس الشخص كله في الماء، ولابد أن يقوم بهذه العملية كاهن يعمد الإنسان باسم الأب والابن وروح القدس، ولا يقوم غير الكهنة بالتعميد إلا للضرورة، وحينئذ يسمى التعميد: "تعميد الضرورة"٢.
٢- العشاء الرباني: ويرمز به إلى عشاء عيسى الأخير مع تلاميذه إذ اقتسم معهم الخبز والنبيذ، والخبز يرمز إلى جسد المسيح الذي كُسِّرَ لنجاة
_________
١ انظر: العلمانية لسفر ص ١٢٨.
٢ المسيحية لأحمد شلبي ص١٦٨، والنصرانية لأبي زهرة ص١٣٥.
1 / 341
البشرية، أما الخمر فيرمز إلى دمه الذي سفك لهذا الغرض، ويُستعمل في العشاء الرباني قليل من الخبز وقليل من الخمر لذكرى ما فُعل بالمسيح ليلة موته وكذلك ليكون هذا طعامًا روحيًا للمسيحيين، فمن أكل هذا الخبز وشرب هذا الخمر استحال الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه فيحصل امتزاج بين الآكل وبين المسيح وتعاليمه١ إلى غير ذلك من المزاعم الباطلة.
٣- تقديس الصليب وحمله: إن تقديس الصليب عند المسيحيين سبق صلب المسيح نفسه، فقد ورد عن المسيح قوله: "إن أراد أحدٌ أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني"٢.
ومعنى حمل الصليب عندهم هو الاستهانة بالحياة والاستعداد للموت في أبشع صورة، أي صلبا على خشبة كما يفعل بالمجرمين والآثمين، وقويت فكرة تقديس الصليب بعد صلب عيسى -على زعمهم- فأصبح أداة تذكر المسيحيين بالتضحية الضخمة التي قام بها المسيح من أجل البشر. ٣وقولهم هذا باطل، قال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ ٤.
٤- عقيدة الخطيئة الموروثة: وأساس هذا الموضوع عند المسيحيين أن من صفات الله العدل والرحمة، وبمقتضى صفة العدل كان على الله أن يعاقب ذرية آدم بسبب الخطيئة التي ارتكبها أبوهم، وطُرد بها من الجنة، واستحق هو وأبناؤه البعد
_________
١ المسيحية لأحمد شلبي ص١٦٩-١٧٠، والنصرانية لأبي زهرة ص ١٣٥.
٢ لوقا: ٩/٢٣
٣ انظر: المسيحية لأحمد شلبي ص ١٧٠ - ١٧١، والنصرانية لأبي زهرة ص ١٢٩-١٣٠.
٤ سورة النساء، الآيتان (١٥٧- ١٥٨) .
1 / 342
عن الله بسببها، وبمقتضى صفة الرحمة كان على الله أن يغفر سيئات البشر، ولم يكن هناك من طريق للجمع بين العدل والرحمة إلا بتوسط ابن الله ووحيده وقبوله في أن يظهر في شكل إنسان، وأن يعيش كما يعيش الإنسان، ثم يصلب ظلمًا ليكفّر عن خطيئة البشر١.
وقد ورد في العهد الجديد ما نصه: "وإن ابن الإنسان قد جاء ليخلص ما قد هلك، فبمحبته ورحمته قد صنع طريقًا للخلاص، لهذا كان المسيح هو الذي يكفّر عن خطايا العالم، وهو الوسيط الذي وفق بين محبة الله تعالى وبين عدله ورحمته، إذ إن مقتضى العدل أن الناس كانوا يستمرون في الابتعاد عن الله بسبب ما اقترف أبوهم، ولكن باقتراف العدل والرحمة وبتوسط الابن الوحيد، وقبوله للتكفير عن خطايا الخلق، قرب الناس من الرب بعد الابتعاد"٢.
فهذه الأناجيل تذكر أن أهم الأغراض التي ظهر من أجلها المسيح ابن مريم أو المسيح ابن الله - على زعمهم - هو أن يكفر بدمه الخطيئة التي ارتكبها آدم ﵇ والتي انتقلت بطريق الوراثة إلى جميع نسله، وأنه صلب بالفعل، فحقق بذلك أهم غرض ظهر من أجله.
والقرآن يرد على هذه الفرية، ويبين أن آدم ﵇ قد أناب إلى الله تعالى واستغفر من خطيئته التي ارتكبها إذ أكل من الشجر فغفرها الله له، وأن الخطيئة لا يحمل وزرَها غير مقترفها، قال تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ ٣.
_________
١ انظر: المسيحية لأحمد شلبي ص١٥٤-١٥٥، والنصرانية لأبي زهرة ص١٢٥.
٢ انظر: انجيل مرقص الاصحاح العاشر الفقرة ٤٤ ومابعدها، وانجيل يوحنا ٣: ١٦، ورسالة رومية ٣: ٢٣ ومابعدها، و٥: ١٠ وما بعدها، والإصحاح السادس.
٣ سورة فاطر، الآية (١٨) .
1 / 343
وقال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ ١.
وقال ﷿: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ ٢.
كما أن الوزر لا يحمل تبعته إلا من اقترفه قال تعالى: ﴿... أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى﴾ ٣.
وعززت الكنيسة سلطتها الدينية الطاغية بادعاء حقوق لا يملكها إلا الله؛ مثل: حق الغفران، وحق الحرمان، وحق التحلة، ولم تتردد في استعمال هذه الحقوق واستغلالها.
صكوك الغفران والحرمان:
فأما غفران الذنوب فقد أصبح بدعة عجيبة، وذلك أنه إذا أراد البابا أن يبني كنيسة أو يجمع مالًا لشيءٍ ما؛ طبع صكوك الغفران ووزعها على أتباعه ليبيعوها للناس؛ كالذين يبيعون أسهم الشركات. وبالصك فراغٌ تُرِكَ ليُكتب به اسم الذي سيغفر ذنبه، والعجيب أن هذا الصك يَغفر لمشتريه ما تقدم من الذنوب وما تأخر، فهو بعبارة أخرى إذن بارتكاب كل الجرائم بعد أن ضُمنت الجنة لهذا المحظوظ.
الاعتراف:
ولم تقف قضية غفران الذنوب عند هذه الصكوك، بل سرعان ما دخلها عنصر جديد فاضح ذلك ما يسمى "الاعتراف" فكان على المذنب أن يعترف
_________
١ سورة البقرة، الآية (٣٧) .
٢ سورة طه، الآيتان (١٢١ -١٢٢) .
٣ سورة النجم، الآيتان (٣٨-٣٩) .
1 / 344
بذنبه، في خلوة مع قسيسه؛ ليستطيع هذا القسيس أن يغفر له ذنبه، وفي خلوات الاعتراف حدثت أشياء يقشعر له الوجدان١.
وأما حق التحلة فهو حق خاص يبيح للكنيسة أن تخرج عن تعاليم الدين وتتخلى عن الالتزام بها متى اقتضت المصلحة - مصلحتها هى -ذلك٢.
حياة الرهبنة:
قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ ٣.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ "أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله مالم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله ﷿"٤.
وتمارس حياة الرهبنة داخل الأديرة بالانقطاع عن الحياة العامة، وبالامتناع عن الزواج وتضم الراهبين والراهبات، وكأي حياة تنافي الفطرة وتلغيها، شهدت الأديرة أحط ألوان الفسوق بما نمسك عنه.
إلى غير ذلك من العقائد والمبتدعات النصرانية التي فرضتها الكنيسة على أتباعها، وكل هذه العقائد واضح بطلانها بحمد الله في العقيدة الإسلامية، وإنَّ دينًا من هذا القبيل هو مقطوع الصلة بما أنزل الله تعالى من الحق، وغير
_________
١ المسيحية لأحمد شلبي ص٢٥٥، والنصرانية لأبي زهرة ص٢٠٣.
٢ معالم تاريخ الإنسانية (٣/٨٩٦) هـ. ج ويلز، ت: عبد العزيز جاويد، القاهرة ١٩٦٧م.
٣ سورة الحديد، الآية (٢٧) .
٤ تفسير ابن كثير (٤ /٣٣٦-٣٣٧) .
1 / 345
صالح لأن يكون له سلطان على العقول البشرية في عصور التنور الفكري، والتقدم الحضاري، وانتشار العلوم والمعارف.
ب- الطغيان المالي:
إن المتأمل في الأناجيل - على الرغم من تحريفها - يجد أنها لم تنه عن شيء كنهيها عن اقتناء الثروة والمال.
جاء في إنجيل متى: "لا تقتنوا ذهبًا ولا فضةً ولا نحاسًا في مناطقكم ولا مزودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا "١.
وجاء في إنجيل مرقص: "مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله"٢.
وجاء في إنجيل لوقا: "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون، الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس، تأملوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد، وليس لها مخدع ولا مخزن، والله يقيتها، كم أنتم بالحرى أفضل من الطيور"٣.
إلا أن القرون التالية قد شهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقعها العملي، حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروات غاية لديهم، فتهالك رجال الدين على جمع المال والإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات.
ويمكن إيجاز مظاهر الطغيان الكَنَسِيّ في هذا المجال فيمايلي:
_________
١ متى: ١٠: ١٠-١١.
٢ مرقص: ١٠:٢٥.
٣ لوقا: ١٢: ٢٢- ٢٤.
1 / 346
١-الأملاك الإقطاعية:
يقول ديورانت١: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا" مثلًا يمتلك (١٥٠٠٠) قصر صغير، وكان دير "سانت جول" يملك (٢٠٠٠) من رقيق الأرض، كان "الكوين فيتور" أحد رجال الدين سيدًا لعشرين ألفًا من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة ... وكانوا يقسمون يمين الولاء لغيرهم من الملاك الإقطاعيين ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية ... وهكذا أصبحت الكنيسة جزءًا من النظام الإقطاعي.
وكانت أملاكها الزمنية: أي المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدرًا للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات"٢.
٢-الأوقاف:
كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافًا للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي "ويكلف" - وهو من أوائل المصلحين -: "إن الكنيسة
_________
١ ديورانت هو مؤلف كتاب قصة الحضارة، وهو كتاب كبير يقع في ٣٠مجلدًا، تحدث فيه عن قصة الحضارة منذ فجر التاريخ إلى العصر الحاضر. انظر: مقدمة كتاب قصة الحضارة.
٢ قصة الحضارة ١٤/ ٤٢٥.
1 / 347
تملك أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله"١.
٣-العشور:
فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة (العشور) وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئًا من ذلك فالشعب خاضع تلقائيًا لسطوتها ٢.
٤-ضريبة السنة الأولى:
لم تشبع الأوقاف والعشور نهم الكنيسة الجائع، وجشعها البالغ، بل فرضت الرسوم والضرائب الأخرى، لاسيما في الحالات الاستثنائية؛ كالحروب الصليبية والمواسم المقدسة، وظلت ترهق بها كاهل رعاياها، فلما تولى البابا حنا الثاني والعشرون جاء ببدعة جديدة هى "ضريبة السنة الأولى" وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية تدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة موردًا ماليًا جديدًا ٣.
٥-الهبات والعطايا:
وكانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة. وقد
_________
١ انظر: تاريخ أوربا لفيشر (٢/٣٦٢-٣٦٤) .
٢ المرجع السابق (٢ / ٣٨٠) .
٣ معالم تاريخ الإنسانية (٣/٩١٣) .
1 / 348