آخر أيام الفاطميين بمصر
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
كان النهار في صولة شبابه، وكانت الشمس تبعث بأشعتها وهاجة ملتهبة تكاد تشوي الوجوه، وكان الجو على حرارته كثير الرطوبة، والندى المتصاعد من البحر، وكأن النسيم الذي أكثر الشعراء من ادعاء أنه عليل، قد طالت علته فقضى نحبه، فلا تسمع له جرة ذيل، ولا همسة أنين.
وقد أضنى الناس بمدينة عدن هذا الومد، وهزل أجسامهم القيظ بعد أن توالت عليهم شهور الصيف شديدة لواحة، كأنما كانت تتنافس في مسهم بشواظها، فلا يجيء شهر إلا وهو أشد وأنكى من صاحبه.
وظن أهل المدينة أن العري يخفف عنهم بعض ويلات الحر، فتسلبوا من الملابس إلا أزرا قصيرة يشدونها إلى أوساطهم، ولو علموا لصانوا أجسامهم من هذا السعير اللافح، الذي كساهم ثوبا لماعا من العرق، كلما تساقط نسجت لهم الشمس ثوبا جديدا، وكلما مسحوه بأيديهم سال نبعه وتقاطر، حتى كأن كل رجل أصبح إنبيقا يتحول كل ما فيه ماء بالتصعيد والتقطير.
خلت طرق المدينة من السابلة إلا من دعته شدة الحاجة إلى المسير، وفزع المتعطلون إلى الظل والنجائر يتقون بها شدة الهاجرة، أما الأغنياء والموسرون: فلبسوا البيوت، وزرروا الأبواب، والتجأوا إلى سراديب عميقة في الأرض، ينفذ إليها الهواء من بناء إسطواني كالداخنة، يشق طبقات الدار، وتنفذ فوهته إلى سطحها، وكان علي بن مهدي - وهو من دعاة الفاطميين، وكبار رجالهم - في داره في هذا اليوم، ومعه جماعة من الأدباء والعلماء، بينهم أبو كاظم الحراني، والفقيه أبو الحسن النيلي، وأسامة الحضرمي. وكانت الدار على سيف البحر، فخمة شاهقة البناء، تدل على عظمة صاحبها، واتساع جاهه، وقد أسرع العبيد فبلوا دهاليز السرداب بالماء، حتى بدت فيها بحيرات صغيرة هنا وهناك.
وجلس ابن مهدي وأضيافه في حجرة كان أثاثها غاية في الحسن وجمال التنسيق، وقد كسيت فيها الأرائك بالحرير الأرجواني، واختيرت الستور من الخز التنيسي، وفرشت الأرض بالبسط الهندية، ودل كل شيء فيها على ذوق سليم وبذخ وإسراف، وقد وقف في نهاية الحجرة أربعة عبيد، يمسكون بحبال مروحة مستطيلة، عملت من القطيفة الغليظة النسيج، وعلقت بسقف الحجرة على طول امتداده، فهم لا يفتأون يجذبون الحبال ويرخونها، والمروحة تتحرك إلى الأمام والخلف؛ أملا في أن تجود على من بالحجرة بنفس من نسيم.
بدأ ابن مهدي فقال: هذا يوم لم تر عدن له مثيلا، وستصبح سنة تسع وأربعين وخمسمائة ذكرى خالدة لأهلها، يوقتون بها ويؤرخون.
Bog aan la aqoon