الجزء الأول: 2 و22 و23 أبريل
1 - في «رواق الرب»
2 - موت «الذبابة»
3 - فرار الأبله
4 - ذو الوجه الملائكي
5 - ذلك الحيوان!
6 - رأس جنرال
7 - غفران كبير الأساقفة
8 - أراجوز الرواق
9 - عين زجاجية
Bog aan la aqoon
10 - أمراء الجيش
11 - الاختطاف
الجزء الثاني: 24 و25 و26 و27 أبريل
12 - كميلة
13 - اعتقالات
14 - فليغن العالم جميعه!
15 - الأعمام والعمات
16 - في سجن «كاسا نويفا»
17 - أحابيل الغرام
18 - طرقات على الباب
Bog aan la aqoon
19 - الحسابات والشيكولاتة
20 - ذئاب من نفس النوع
21 - حلقة مفرغة
22 - القبر الحي
23 - تقرير عن الرسائل الموجهة إلى السيد الرئيس
24 - دار الدعارة
25 - حاجز الموت
26 - زوبعة
27 - في طريق المنفى
الجزء الثالث: أسابيع، وشهور، وسنوات ...
Bog aan la aqoon
28 - حديث في الظلام
29 - مجلس عسكري
30 - زواج في ظلال الموت
31 - حراس من جليد
32 - السيد الرئيس
33 - النقاط فوق الحروف
34 - نور للعميان
35 - نشيد الأنشاد
36 - الثورة
37 - رقصة «توهيل»1
Bog aan la aqoon
38 - الرحلة
39 - الميناء
40 - دجاجة عمياء
41 - كل شيء على ما يرام
خاتمة
الجزء الأول: 2 و22 و23 أبريل
1 - في «رواق الرب»
2 - موت «الذبابة»
3 - فرار الأبله
4 - ذو الوجه الملائكي
Bog aan la aqoon
5 - ذلك الحيوان!
6 - رأس جنرال
7 - غفران كبير الأساقفة
8 - أراجوز الرواق
9 - عين زجاجية
10 - أمراء الجيش
11 - الاختطاف
الجزء الثاني: 24 و25 و26 و27 أبريل
12 - كميلة
13 - اعتقالات
Bog aan la aqoon
14 - فليغن العالم جميعه!
15 - الأعمام والعمات
16 - في سجن «كاسا نويفا»
17 - أحابيل الغرام
18 - طرقات على الباب
19 - الحسابات والشيكولاتة
20 - ذئاب من نفس النوع
21 - حلقة مفرغة
22 - القبر الحي
23 - تقرير عن الرسائل الموجهة إلى السيد الرئيس
Bog aan la aqoon
24 - دار الدعارة
25 - حاجز الموت
26 - زوبعة
27 - في طريق المنفى
الجزء الثالث: أسابيع، وشهور، وسنوات ...
28 - حديث في الظلام
29 - مجلس عسكري
30 - زواج في ظلال الموت
31 - حراس من جليد
32 - السيد الرئيس
Bog aan la aqoon
33 - النقاط فوق الحروف
34 - نور للعميان
35 - نشيد الأنشاد
36 - الثورة
37 - رقصة «توهيل»1
38 - الرحلة
39 - الميناء
40 - دجاجة عمياء
41 - كل شيء على ما يرام
خاتمة
Bog aan la aqoon
السيد الرئيس
السيد الرئيس
تأليف
ميغل أنخل أستورياس
ترجمة
ماهر البطوطي
الجزء الأول
2 و22 و23 أبريل
الفصل الأول
في «رواق الرب»
Bog aan la aqoon
دنغ دانغ دونغ، دنغ دانغ دونغ!
ترددت رنات أجراس الكتدرائية كالأزيز في الأذن، تدعو الناس إلى الصلاة، كالارتداد القلق من الضياء إلى الظلمة ومن الظلمة إلى الضياء. دنغ دانغ دونغ، دنغ دانغ دونغ دانونغ، دانونغ دونغ دانغ دانغ، دنغ دانونغ ... دنغ دونغ دانغ ... دانونغ.
وجر الشحاذون أرجلهم وسط المطاعم الشعبية الصغيرة في السوق، ضائعين في ظلال الكتدرائية المتجمدة، في طريقهم إلى «ميدان السلاح»، على طول شوارع رحبة كأنها البحار، تاركين وراءهم المدينة منعزلة وحيدة.
كان الليل يجمع بينهم كما هي الحال مع نجوم السماء، فيتلاقون ليناموا معا في «رواق الرب» القريب من الكتدرائية، من غير ثمة رابط بينهم سوى الشقاء؛ يتبادلون الشتائم، وينهالون بألوان السباب بعضهم على بعض؛ ينبشون خصومات قديمة، ويتشاجرون بإلقاء الأتربة وبالبصق والعض أحيانا في سورة الغضب. ولم تعرف الوسائد ولا الثقة طريقها أبدا نحو تلك الأسرة من أقارب الدرك الأسفل. كانوا يرقدون بعيدا بعضهم عن بعض، دون أن يبدلوا ملابسهم. وينامون كاللصوص، رأسهم فوق كل رأس مالهم: قطع من اللحم، أحذية بالية، أعقاب شموع، حفنات من الأرز المطبوخ ملفوفة في أوراق صحف قديمة، حبات برتقال عطنة وأصابع موز معطوبة. تراهم على السلم المفضي إلى الرواق، وجوههم نحو الحائط. يحصون نقودهم، يعضون بنواجذهم على العملات المعدنية ليروا ما إذا كانت مزيفة؛ يحادثون أنفسهم، ويتعرضون خزينهم من الطعام ومن السلاح، فهم يتسلحون في تجوالاتهم اليومية بقط من الحجارة وصور من التعاويذ، ويلتهمون في الخفاء قطعا من الخبز المقدد. ولم يعرف عن أحدهم أنه أغاث رفيقا له في محنة واجهها، يعطيهم البخل فيما لديهم من فتات، وهم في ذلك مثل غيرهم من الشحاذين، يفضلون إلقاءه إلى الكلاب على أن يقدموه إلى أحد الرفاق ممن يشاطرهم الشقاء.
وبعد أن يشبعوا نهم بطونهم، ويضعوا نقودهم في منديل يعقدونه سبع مرات ويربطونه على سررهم، يلقون بأجسادهم على الأرض ويستغرقون في أحلام مضطربة حزينة، وكوابيس يرون فيها قطعان الخنازير الجائعة تمر أمام أعينهم، ونسوة عجافا، وكلابا ممزقة، وعجلات مركبات، وجنازة تتكون من أطياف قسس يدلفون إلى الكتدرائية تتقدمهم شظية من القمر مصلوبة على عظمة ساق متجمدة. وأحيانا ما يستيقظون من نومهم فزعين على صرخة مجنون ضل طريقه في «ميدان السلاح»، أو على نشيج عمياء تحلم بأن الذباب يغطيها بينما هي معلقة من مسمار كبير كاللحم في حوانيت الجزارين، أو على خطوات دورية شرطة تجرجر مسجونا سياسيا وتضربه، ووراء الموكب نسوة يمسحن آثار الدماء التي يخلفها الجريح بمناديلهن المغموسة بالعويل، أو على شخير مريض ينخر فيه الجرب، أو زفير شحاذة صماء بكماء حبلى تبكي من الخوف لأنها تشعر بطفل يتحرك داخل أحشائها. ولكن صرخة الأبله كانت أكثر الأشياء إثارة للحزن. إنها صرخة تشق عنان السماء. صرخة طويلة تكشف الأسرار وتخلو من أي نبرة إنسانية.
وفي أيام الآحاد، كان يهبط على هذه الجماعة الغريبة سكير دأب في منامه على أن ينادي أمه وهو يبكي كالطفل الصغير. وكان الأبله عندما يسمع كلمة «أماه» التي تصدر عن شفتي السكير على هيئة نواح وسباب، ينتصب في مكانه ويلتفت متطلعا إلى جميع الأنحاء أمامه في الرواق؛ وبعد أن يكتمل استيقاظه ويوقظ رفاقه بصيحاته، يبكي من الخوف ويشارك السكير نواحه.
الكلاب تنبح، وأصوات غريبة تسمع. وينهض المشاكسون من نومهم يزيدون من الضجيج إذ هم يطالبون بالصمت، فإذا لم يسد الصمت فسوف تأتي؟ ولكن الشرطة لم تكن لتهتم أي اهتمام بالشحاذين، فلم يكن أي منهم بقادر على دفع قيمة الغرامة. ويهتف «ذو القدم المسطوحة»: «تحيا فرنسا»، وسط صياح الأبله وحركاته المضحكة، الذي أصبح في نهاية الأمر مثار سخرية للشحاذين؛ لأن ذلك الأعرج الوغد ذا الألفاظ النابية كان يقلد السكير في بعض الليالي أسبوعا وراء أسبوع. وهكذا كان ذو القدم المسطوحة يقلد السكير بينما كان الأبله، الذي يحاكي الأموات في نومه، ينتفض على كل صرخة دون أن يلتفت إلى الأجسام الملقاة على الأرض ملتفة في دثارات ممزقة. فإذا ما رآه رفاقه على تلك الحال من الجنون رشقوه بكلمات السباب والسخرية الحادة. وكان ينقلب نائما إذا ما هده النواح، مشيحا بعينيه عن وجوه رفاقه الفظيعة، دون أن يرى شيئا، ودون أن يسمع شيئا، ودون أن يشعر بأي شيء. ولكنها كانت حكاية كل ليلة، فما يكاد يغلفه النوم حتى يوقظه صياح ذي القدم المسطوحة مرة أخرى: «أماه»!
وفتح الأبله عينيه مرة واحدة، كما يفعل من يحلم بأنه يدور ويلف في الفضاء، وبسط حدقتيه أكثر وأكثر وانكمش على نفسه كما لو كان قد أصابه جرح مميت ، وأخذت الدموع تهطل من عينيه. وبعد ذلك، تسلل إليه النوم رويدا رويدا بعد أن هزمه النعاس وتحول جسده إلى عجينة من النشاء، وترددت في ذهنه المكدود مخاوف غامضة. ولكنه ما كاد يخلد إلى نومه حتى أوقظه صوت آخر مختلف يصيح «أماه»!
كان صوت الشحاذ «فيودا» وهو خلاسي منحط أخذ يردد بين الضحكة والأخرى في عويل كالعجوز: «يا أم الرحمة، يا أملنا، ليحمك الله، إننا نضرع إليك نحن المحرومين الضعفاء ...»
واستيقظ الأبله ضاحكا، وبدا كما لو أنه يضحك هو الآخر من بؤسه وجوعه حتى تطفر الدموع من عينيه، بينما الشحاذون يقرعون الهواء بضحكاتهم وقهقهاتهم، ضحكاتهم ... وقه ... قها ... تهم. وفقد رجل سمين، ينضح شارباه بمرق الخضار، أنفاسه من كثرة الضحك، بينما لم يستطع واحد منهم ذو عين واحدة أن يحصر بوله وأخذ يضرب رأسه في الحائط كالتيس؛ أما العميان فأخذوا يتشكون بأنهم لا يستطيعون النوم وسط هذه الجلبة، وكذلك الشحاذ الذي يكنى ب «الذبابة»، الذي قال إن اللواطيين فقط هم الذين يستريحون إلى مثل ذلك الجو.
Bog aan la aqoon
ولم يلتفت أحد إلى احتجاجات العميان. أما ملاحظة «الذبابة» فلم يكد يسمعها أحد. ومن ذا الذي يهمه الترهات التي يرددها: «أنا الذي قضيت طفولتي في معسكر المدفعية، وقد صنعت أقدام البغال ورفسات الضباط مني رجلا. رجلا يستطيع أن يعمل كالحصان، وهذا ما نفعني حين اضطررت إلى أن أجر آلة الموسيقى في الشوارع؛ أنا الذي فقدت بصري في إحدى الحانات، ولا أعلم كيف، وساقي اليمنى في حانة أخرى، ولا أعلم متى، وساقي الأخرى في حانة ثالثة، ضحية سيارة، ولا أعلم أين»!
وذاع بين سكان الحي على لسان الشحاذين أن الأبله يفقد صوابه إذا ذكر أحد أمه أمامه، وكان هذا التعس يطوف الشوارع والميادين والساحات والأسواق محاولا الهرب من الدهماء الذين يصيحون به هنا وهناك بكلمة «أماه»، كأنما هي لعنة من لعنات السماء. وكان يدلف إلى المنازل محاولا الاحتماء فيها، ولكنه يعود إلى الطريق حين يطرده منها الكلاب تارة والخدم تارة أخرى. كانوا يطردونه من الكنائس، ومن الحوانيت ، ومن كل الأنحاء، دون اعتبار للتعب الذي يأخذ بخناقه، ولا لعينيه اللتين كانتا تتضرعان دونما شعور طلبا للمغفرة.
وأخذت المدينة الكبيرة، التي كانت تزداد كبرا بالنسبة إلى شدة تعبه، تتضاءل وتتضاءل أمام ما يشعر به من يأس. كانت ليال من الفزع تتتابع بعد أيام من الاضطهاد، حيث كان يطارده أناس لا يكتفون بالصياح في وجهه: «سوف تتزوج أمك يوم الأحد القادم أيها الأبله الصغير ... أمك العجوز ... ها ... ها ... ها!» ولكنهم كانوا يضربونه أيضا ويمزقون ملابسه. وحين يطارده الأطفال كان يلتجئ إلى الأحياء الفقيرة ... ولكن مصيره فيها لم يكن أقل سوءا. كان الناس هناك يعيشون في وهدة من الفقر المدقع، ولم يكتفوا بقذفه بالإهانات، ولكنهم كانوا يرجمونه أيضا بالحجارة وبالفئران الميتة وبعلب الصفيح الفارغة، بينما هو يجري أمامهم في رعب وفزع.
وفي يوم من الأيام، عاد من تجواله في الضواحي إلى «رواق الرب» حين كان جرس صلاة الظهيرة يدق، وكان عاري الرأس جريح الجبهة، يجر خلفه ذيل قطة ربطوه إلى قدمه للسخرية منه. كان كل شيء يثير فيه الفزع: ظلال الجدران، الكلاب التي تجري، الأوراق التي تتساقط من الأشجار، ضجيج عجلات السيارات. وحين وصل إلى الرواق، كان الظلام قد انسدل، وكان الشحاذون يجلسون ووجوههم إلى الحائط يحصون مكاسبهم. كان «ذو القدم المسطوحة» يتشاجر مع «الذبابة»، بينما الصماء البكماء تتحسس بطنها المتكور، والعمياء معلقة في أحلامها من الخطاف يغطيها الذباب كأنها قطعة من اللحم في حانوت الجزار. وسقط الأبله على الأرض كأنه قد مات. لم يكن قد أغلق عينيه منذ عدة ليال، ولا أراح قدميه أياما. كان الشحاذون يهرشون مكان لدغات القمل في صمت، ولكن لم يكن في استطاعتهم النوم. كانوا ينصتون إلى خطوات رجال الشرطة يذهبون هنا وهناك في الميدان الذي تشوبه الظلمة، وأصوات رجال الدوريات وهم يتبادلون السلاح ويقفون وقفة انتباه كأنهم الأشباح في عباءاتهم المخططة أمام نوافذ الثكنات المجاورة، وهم يقومون بنوبة حراستهم الليلية في خدمة رئيس الجمهورية. لم يكن أحد يعرف أين هو، فقد كان يشغل عدة منازل خارج المدينة في نفس الوقت؛ ولم يكن أحد يعرف كيف ينام، فقد قال البعض إنه ينام إلى جوار الهاتف يحمل سوطا في يده، كما لم يكن أحد يعرف متى ينام؛ فقد كان أصدقاؤه يزعمون أنه لا ينام على الإطلاق.
وتقدم شبح شخص إلى «رواق الرب». وأقعى الشحاذون على أنفسهم مثل الديدان، وأجاب على صرير الأحذية العسكرية نعيق طائر مشئوم في ظلام الليل الساري العميق.
وفتح ذو القدم المسطوحة عينيه. كان ثمة خطر ماثل يهدد بنهاية العالم. وقال للبومة: «ها ... ها ... افعلي ما تشائين. إني لا أريد بك خيرا ولا شرا. ولكن فلتذهبي إلى الشيطان رغم هذا.»
وتحسس «الذبابة» وجهه بيديه. كان الهواء ثقيلا كأنما ثمة زلزال على وشك أن يقع. ورسم «فيودا» علامة الصليب وهو يجلس وسط العميان. وكان الأبله هو الوحيد الذي يغط في نوم عميق.
وتوقف الشبح، وارتسمت ابتسامة على وجهه. وسار نحو الأبله على أطراف أصابعه، ثم صاح فيه برنة مزاح: «أماه». ولم ينبس ببنت شفة بعد ذلك، فقد نهض الأبله من على الأرض بفعل ذلك النداء ووثب فوق الشبح دون أن يعطيه أي فرصة يستخدم فيها سلاحه، ودفع أصابعه في عينيه وهشم أنفه بعضاته، ورفسه أسفل بطنه بركبتيه إلى أن تركه جثة هامدة بلا حراك.
وأغلق الشحاذون أعينهم في رعب. وعبرت البومة المكان مرة أخرى، وهرب الأبله عبر الطرقات التي يلفها الضباب وقد أعماه الخوف والجنون. كانت قوة عمياء قد انتزعت لتوها الحياة من الكولونيل «خوسيه بيراليس سونرينتي». الذي يكنى «الرجل ذا البغل الصغير». وكان هو الرجل الذي قتله الأبله في سورة غضبه وجنونه.
وكان الفجر يقترب.
Bog aan la aqoon
الفصل الثاني
موت «الذبابة»
كانت الشمس تجلل الأطراف البارزة من مبنى مركز الشرطة بأشعتها الذهبية، حيث يمر بعض الناس عبر طريق الكنيسة البروتستانتية، وهنا وهناك باب مفتوح، وبناء من الطوب الأحمر يقوم البناءون بتشييده. وفي المركز، كانت مجموعات من النسوة الحافيات يجلسن في انتظار المسجونين، قابعات في الفناء حيث يهطل المطر على الدوام، وكذلك في مصاطب الردهات المظلمة، يحملن سلال الفطور في حجورهن، وحولهن عديد من الأطفال الصغار يتعلقون بأثدائهن، والكبار منهم يهددون بالتهام أرغفة العيش التي تطل من السلال بأفواههم الفاغرة النهمة. وكانت النسوة يفضين بمتاعبهن بعضهن إلى بعض في صوت خفيض، باكيات على الدوام، ويمسحن عيونهن بأطراف عباءاتهن. وكانت هناك عجوز ذات عينين غائرتين، هدتها الملاريا، تبكي في حرقة وفي صمت، كأنما تريد أن تبدي أنها تعاني أكثر منهن بوصفها أما. هنا كانت شرور الحياة تبدو لا علاج لها، في مكان الانتظار الكئيب ذاك؛ حيث لا يوجد ما تستقر عليه العين سوى شجيرتين أو ثلاث، ونافورة جفت المياه منها، ورجال الشرطة عجاف الوجوه ينظفون ياقات قمصانهم بريق شفاههم. ولم يكن أمام النسوة إلا أن يسلمن أمرهن إلى الله القادر العليم.
وظهر شرطي خلاسي
1
يجر وراءه «الذبابة». كان قد قبض عليه إلى جوار «مدرسة المشاة». وكان الشرطي يشده من يده ويهزه من جانب لآخر كأنما هو قرد. ولكن النسوة لم يجدن في ذلك شيئا مضحكا؛ فقد كن مشغولات بمراقبة حركات السجانين وهم يحملون سلال الفطور ثم يعودون إليهن بأخبار السجناء: «يقول: لا تقلقوا عليه؛ فالأمور قد تحسنت فعلا!» يقول: «إن عليكم أن تشتروا له ما قيمته أربعة قروش من مرهم الزئبق حالما يفتح الصيدلي.» «يقول: لا تصدقوا ما قاله لكم ابن عمه.» «يقول: ابحثوا له عن محام، أو عن طالب في كلية الحقوق حتى لا يكلفكم كثيرا»! «يقول: الأمر لا يستحق كل ذلك، فليست هناك نسوة معهم تبرر الشعور بهذه الغيرة. لقد أحضروا واحدة ذلك اليوم، فبحث لنفسه عن صديق على الفور»! «يقول: أرسلوا إليه مسهلا حتى يستطيع أن يفرغ بطنه»! «يقول: إنه غاضب منكم لأنكم قد بعتم الصوان».
واحتج «الذبابة» على المعاملة التي يلقاها من الشرطي وقال له: «إيه ... أنت ... ماذا تظن أنك فاعل؟ ألا تشعر بأية شفقة؟ ألأني فقير؟ أنا فقير ولكني شريف. اسمع: إنني لست ابنك أو لعبتك أو حيوانك الأليف، ولا أي شيء حتى تعاملني هكذا! إنها لعبة ظريفة أن تعاملونا هذه المعاملة وتجرونا بهذه الطريقة كيما تحظوا برضاء الأمريكان. يا لها من لعبة قذرة! كما لو كنا ديوكا على مائدة عيد الميلاد. ولكن ... حتى المعاملة الحسنة لا نلقاها منكم! وحين جاء السيد فلان، حبسوا عنا الطعام ثلاثة أيام ونحن نتطلع عبر النافذة وقد التحفنا بالبطاطين كالمجانين ...»
وكانوا يقودون الشحاذين المقبوض عليهم إلى زنزانة ضيقة مظلمة تدعى «الثلاث ماريات». وارتفعت جلبة المفاتيح وهي تدور في الأبواب ولعنات السجانين الذين تفوح منهم نتانة العرق والتبغ، ثم ترددت صيحات «الذبابة» العالية مرة أخرى في هذه الأنفاق التحتية: «آه، يا له من شرطي! أيتها العذراء المقدسة، يا له من وغد! فليحمني منه يسوع المسيح!»
وكان رفاقه ينشجون كالحيوانات، تسيل أنوفهم وقد غمرهم العذاب من فرط الظلمة التي تحيط بهم من كل جانب، ويشعرون بأنهم لن يكون في مقدورهم الخلاص أبدا من وهدة السجن هذه التي سقطوا فيها؛ وغمرهم الخوف، فقد انتهى الأمر بكثير من الناس هنا إلى الموت جوعا وعطشا: وكان ينتابهم إحساس بأنهم سيضعونهم في القدور ويغلونهم على النار ويصنعون منهم طلاء للسيارات، كالكلاب، أو يذبحونهم ويقدمونهم طعاما لرجال الشرطة. ولاحت أمامهم الوجوه كأنها وجوه آكلي لحوم البشر، مضيئة كالفوانيس، يتقدم أصحابها عبر الظلال، وجناتهم كالأرداف، وشواربهم كأوراق الشيكولاتة المفضضة.
وكان ثمة طالب ومساعد قس في نفس الزنزانة. - سيدي، أعتقد لو لم أكن مخطئا أنك قد جئت إلى هنا أولا. أنت وأنا، أليس كذلك؟
Bog aan la aqoon
تكلم الطالب لكي يقطع حبل الصمت، لكي يتخلص من بعض ما يشعر به من حزن في حلقه. ورد مساعد القس وهو يبحث في الظلمة عن وجه محدثه: أعتقد هذا. - و... حسنا. كنت سأسألك عن سبب القبض عليك. - بسبب السياسة. هكذا يقولون.
وارتجف الطالب من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وقال بصعوبة شديدة: وأنا أيضا.
وفتش الشحاذون حول وسطهم بحثا عن كيس زوادهم الذي لا يفارقهم، غير أن الحراس كانوا قد جردوهم من كل شيء في مكتب مدير الشرطة، حتى مما يحملونه في جيوبهم، بحيث لم يعد معهم أي شيء حتى أعواد الثقاب . كانت الأوامر صريحة! ومضى الطالب في حديثه: وما هي قضيتك؟ - ليست لي قضية. إنني هنا بأمر من أعلى.
وارتد مساعد القس، وهو يقول هذا، إلى الخلف دافعا كتفه في الحائط كيما يسحق حشرات البق التي علقت به. - هل كنت ...
فرد مساعد القس بطريقة جافة: لا شيء! لم أكن شيئا ألبتة!
وفي هذه اللحظة سمع صرير الباب الذي انفتح على مصراعيه ليدخل منه شحاذ آخر.
وصاح «ذو القدم المسطوحة» وهو يدخل: «تحيا فرنسا!»
وقال مساعد القس: لقد سجنت ... تحيا فرنسا! - «... بسبب جريمة ارتكبتها بمحض الخطأ فبدلا من أن أزيل إعلانا عن السيدة العذراء من على باب الكنيسة التي أعمل بها، ذهبت وأزلت إعلانا عن الاحتفال بالذكرى السنوية لوالدة السيد الرئيس.»
وهمس الطالب بينما كان مساعد القس يمسح دموعه بأصابعه: ولكن، كيف علموا بالأمر؟ - لا أعرف. لقد أضاعني غبائي. وعلى كل حال فقد قبضوا علي وساقوني إلى مدير الشرطة الذي قام بإعطائي ما تيسر من اللكمات ثم أمر بأن أوضع في هذه الزنزانة، معزولا، باعتباري ثوريا، كما قال.
وبكى الشحاذون المتجمعون في الظلمة من فرط الخوف والبرد والجوع. ولم يكن أحد منهم يرى حتى يديه ذاتهما. وأحيانا كانوا يلجئون إلى السبات، ويسمع آنذاك زفير الصماء البكماء الحبلى يمرق من بينهم كأنما يبحث لنفسه عن مخرج.
Bog aan la aqoon
ولم يدر أحد منهم متى أخرجوهم من هذا القبو، وربما كان ذلك في منتصف الليل؛ فالتحقيق يتناول جريمة سياسية كما قال لهم أحد الرجال ربعة القامة معرورق الوجه زعفراني اللون، ذو شارب ينسدل على شفتيه الغليظتين في إهمال، أفطس الأنف قليلا، وذو عينين مقنعتين. وقد انتهى هذا الرجل بسؤالهم جميعا فردا فردا عن مدى علمهم بالمسئول أو المسئولين عن جريمة «رواق الرب» التي ارتكبت في الليلة الفائتة في شخص أحد كبار رجال الجيش.
وكان ثمة مصباح يتصاعد منه الدخان يضيء الحجرة التي نقلوهم إليها، فبدا ضوءه الباهت كأنما يمر من خلال عدسات مملوءة بالمياه. ما هذا الذي يجري هنا؟ ما هذا الجدار؟ وما هذا الرف المليء بالأسلحة والذي يبدو أشد شراسة من أنياب النمر؛ وزنار الشرطي المليء بالذخيرة؟
وأثارت إجابات الشحاذين أعصاب المحقق، المدعي العسكري العام، فقفز من مقعده وصاح قائلا وهو يفتح عينيه الحجريتين من وراء نظارته الطبية السميكة ويضرب المائدة التي يستخدمها كمكتب بقبضة يده: سأستخلص منكم الحقيقة! وردد الواحد منهم بعد الآخر أن مقترف الجريمة هو الأبله، زميلهم الشحاذ ووصفوا بدقة تفاصيل الجريمة التي شاهدوا وقائعها بأعينهم.
وأشار المحقق من طرف خفي، فهجم رجال الشرطة، الذين كانوا يرهفون سمعهم من وراء الباب، على الشحاذين يوسعونهم ضربا ويدفعونهم نحو إحدى الردهات العارية من كل شيء، إلا من حبل غليظ يتدلى من سقفها.
وصرخ أول المعذبين في محاولة محمومة للهرب من التعذيب بذكر الحقيقة: إنه الأبله! إنه الأبله يا سيدي! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله بحق الإله! الأبله، الأبله، الأبله! ذلك الأبله. الأبله. ذاك، ذاك، ذاك! - لقد نصحوكم أن تقولوا لي ذلك. ولكن هذه الأكاذيب لا تجدي معي! الحقيقة أو الموت! هل أنت عارف، أتسمع؛ اعرف، إن لم تكن تعرف.
وانساب صوت المحقق كالدم السيال في سمع الشقي الذي لم ينقطع عن الصراخ إذ هو معلق من أصابعه دون أن يستطيع وضع قدميه على الأرض: «إنه الأبله، الأبله هو. إنه الأبله بحق الإله! إنه الأبله! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله ...»
وأعلن المحقق: «كذب!» ثم قال بعد فترة صمت: «هذا كذب، وأنت كاذب. سوف أذكر لك من قتل الكولونيل «خوسيه باراليس سونرينتي» ولنر إذا كنت تجسر على إنكار ذلك. سوف أذكر لك اسمهما، إنهما الجنرال «يوسبيو كاناليس» والمحامي «قابيل كارفاخال»!»
وتلا كلامه صمت جليدي، وبعده، وبعده، أنين، وأنين آخر بعد ذلك، ثم أخيرا كلمة «أجل!» وحين أطلقوا الحبل ارتمى «فيودا» على الأرض دون حراك. وبدت وجنتا هذا الشحاذ الخلاسي غارقتين في العرق والأنين، كالفحم الذي بللته مياه الأمطار. وتتالى بعده استجواب رفاقه الذين كانوا يرتجفون كالكلاب الضالة التي تقتلها الشرطة بالسم في الشوارع ، وكلهم أمنوا على كلام المحقق، كلهم، عدا «الذبابة»؛ كان وجهه ينم عن مزيج من الخوف والاحتقار. وعلقوه من أصابعه لأنه كان يؤكد وهو على الأرض، نصف مدفون - مدفون حتى وسطه كحال كل من لا ساقين له - أن زملاءه يكذبون حين يلقون تبعة الجريمة على شخصين غريبين عنهما، في حين أن المسئول الوحيد عنها هو الأبله.
والتقط المحقق الكلمة: مسئول! كيف تجسر على أن تقول إن أبله مسئول؛ أترى كذبك؟ مسئول غير مسئول. - فليرد هو على هذا الكلام.
فاقترح شرطي له صوت نسائي أن يضربوه، بينما ساطه شرطي آخر على وجهه.
Bog aan la aqoon
وصاح المحقق في الوقت الذي انهال السوط على وجه الرجل الكهل: قل الحق! الحق وإلا ستظل معلقا هكذا طوال الليل! - ألا ترى أنني أعمى؟ - فلتنكر إذن أن يكون القاتل هو الأبله. - كلا؛ فهذه هي الحقيقة ولدى الشجاعة أن أقولها.
وفجرت ضربتان من السوط الدماء من شفتيه ... - إنك أعمى ولكن ... اسمع، فلتقل الحقيقة، اعترف كزملائك! - «وهو كذلك!»
وافق «الذبابة» بصوت منطفئ. واعتقد المحقق أنه كسب الجولة. - وهو كذلك أيها الأخرق. - إنه الأبله ... - أيها الأحمق!
بيد أن شتيمة المحقق لم تجد صدى في آذان هذا النصف مخلوق الذي لن يسمع شيئا بعد ذلك. وحين أطلقوا الحبال، سقطت جثة «الذبابة» - أي الجذع، فقد كان جسده دونما ساقين - على الأرض كالبندول المكسور.
وصاح المحقق وهو يمر بجانب الجثة: «أيها الكذوب العجوز، لم يكن اعترافك بنافع لنا؛ فقد كنت أعمى!»
وجرى ليطلع السيد الرئيس على الخطوات الأولى للتحقيق، واستقل عربة يقودها جوادان هزيلان، وتضيء فوانيسها عيون الموت ذاته. وألقت الشرطة بجثة «الذبابة» في عربة للقمامة ابتعدت به ناحية المقابر. وبدأت الديكة في الصياح. وعاد الشحاذون الذين أطلق سراحهم إلى الشوارع. وكانت الصماء البكماء تبكي من الخوف؛ لأنها تشعر بطفل يتحرك في أحشائها.
الفصل الثالث
فرار الأبله
فر الأبله عبر الطرق الملتوية الضيقة التي تؤدي إلى ضواحي المدينة، بيد أن صرخاته المحمومة لم تفلح في إشاعة الاضطراب لا في هدوء السماء ولا في سبات السكان، الذين كانوا يتشابهون فيما بينهم في نومهم الشبيه بالموت، كاختلافهم مع مطلع الشمس حين يستأنفون الكفاح من أجل الحياة. كان البعض منهم يفتقر إلى أشد مطالب الحياة أساسية، ويضطر إلى اللجوء إلى الأعمال الشاقة كي يكسب عيشه اليومي، بينما البعض الآخر يحصل على ما يفيض عن حاجته عن طريق موارد الكسل المحظوظ: باعتباره من أصدقاء السيد الرئيس؛ أو من ملاك العقارات (أربعون أو خمسون منزلا)؛ أو المرابين الذين يقرضون الأموال بفائدة ستة وستة ونصف وعشرة في المائة؛ أو الموظفين الذين يشغلون سبعة أو ثمانية مناصب حكومية مختلفة في آن واحد؛ أو مستغلي الامتيازات، والمعاشات، والشهادات المهنية، ونوادي القمار، وحلبات مصارعة الديكة، وفقراء الهنود، ومصانع الخمور، وبيوت الدعارة، والبارات، والصحف المعانة من الدولة.
وكانت عصارة الفجر الدموية تجلل قمم الجبال التي تحيط بالمدينة التي كانت ترقد وسط الوادي كأنها أديم القشور. كانت الشوارع تبدو أنفاقا من الظلال، ينبجس منها العمال الباكرون كأنهم أشباح في فراغ عالم يخلق من جديد كل صباح، يتبعهم بعد ساعات قليلة الموظفون والكتبة والطلاب، وفي الحادية عشرة، حين تعلو الشمس كبد السماء، يظهر أكابر القوم بعد أن فرغوا من تناول إفطارهم، تنفتح شهيتهم لتناول الغداء، أو يتوجهون لزيارة صديق من ذوي النفوذ لإقناعه بالاشتراك معهم في شراء متأخرات رواتب المدرسين المدقعين بنصف قيمتها. كانت الشوارع ما زالت تقعي غارقة في الظلال، حين قطع صمتها صليل تنورات بعض النسوة ممن يعملن بلا كلل في رعي الخنازير أو بيع الحليب أو التجول بالبضائع أو بيع فضلات الذبيحة كيما يقمن أود أسرهن، أو يبكرن لأداء أعمالهن اليومية. وبعد ذلك، حين يذبل الضوء ويتحول إلى نور أبيض وردي كلون زهرة البيغونيا، تتردد أصداء قدمي عاملة صغيرة نحيلة، تزدريها السيدات الفضليات اللائي لا يغادرن مخادعهن قبل توسط الشمس كبد السماء، فيبسطن حينذاك سيقانهن في أبهاء البيت، ويحكين أحلامهن للخدم، وينتقدن المارة، ويداعبن القطة، ثم يطالعن الصحيفة، أو يتهن خيلاء أمام المرآة.
Bog aan la aqoon
وبين الواقع والحلم، تابع الأبله جريه، تطارده الكلاب ويلسعه رذاذ المطر الحاد . كان يجري بلا هدف، فاغر الفم وقد تدلى لسانه، سائل اللعاب، لاهثا ، ملوحا بذراعيه في الهواء. وكانت تترى وراءه أبواب وأبواب وأبواب ونوافذ وأبواب ونوافذ. وكان يقف فجأة ويغطي وجهه بيديه ليحمي نفسه من عمود من أعمدة البرق، ثم يتبين له أن لا ضرر منه على نفسه فينفجر ضاحكا ويستمر في جريه، كأنما هو إنسان يهرب من سجن صنعت جدرانه من الضباب، بحيث إنه كلما زاد جريا، ابتعدت عنه هذه الجدران.
وحين وصل إلى الضواحي، حيث تستسلم المدينة إلى الريف المحيط بها، ارتمى على كومة من النفايات كأنه شخص بلغ مخدعه آخر الأمر، واستغرق في النوم. وكان يعلو كومة النفايات شبكة عنكبوتية من فروع الأشجار الميتة، تغطيها كوكبة من النسور. وحين لمحت تلك الطيور الجارحة السوداء الأبله يرقد هناك بلا حراك، حدقت إليه بعيونها الزرقاء، وحطت على الأرض بجانبه وهي تتقافز إلى جواره - قفزة هنا وقفزة هناك - في رقصة جنائزية. وكانت النسور تتطلع حواليها دونما انقطاع، وهي متأهبة لأن تطير عند أقل حركة تصدر عن ورقة شجر أو عن الرياح التي تصطفق في القمامة - قفزة هنا وقفزة هناك - ثم أطبقت على الأبله شكل دائرة إلى أن أصبح في متناول مناقيرها. وأعطى نعيب وحشي إشارة البدء بالهجوم. ونهض الأبله على قدميه إذ أفاق، مستعدا للدفاع عن نفسه. وكان واحد من تلك الطيور قد تشجع وألصق منقاره بالشفة العليا للأبله وأخذ ينقرها وينفذ منها إلى أسنانه كأنما هو سهم حاد، بينما أخذت الجوارح الأخرى تتنازع أيها ينقر عينيه وأيها قلبه. وجاهد الطير الذي أنشب منقاره في شفته كيما ينتزع لحمها، لا يهمه في شيء أن فريسته إنسان حي، وكان سيفلح في ذلك لو لم يتراجع الأبله خطوة إلى الوراء فسقط في وهدة مستودع للقمامة، مثيرا حوله سحبا من الغبار ومن قطع الأحجار الثقيلة. •••
كان الظلام ينسدل. سماء خضراء، وريف أخضر، وفي الثكنات، كان النفير يدوي معلنا تمام السادسة، مرددا أصداء تماثل القلق الذي تشعر به قبيلة في حالة طوارئ، أو قرية محاصرة في القرون الوسطى. وفي السجون، بدأت آلام الأسرى الذين يموتون موتا بطيئا على مر السنين تتجدد ثانية. وسحب الأفق رءوسه الصغيرة من شوارع المدينة، كأنما هي ثعبان بألف رأس. وكان الناس عائدين من مقابلات مع رئيس الجمهورية، بعضهم وقد أفلح في مساعيه، والآخر وقد خاب رجاؤه؛ وكانت الأضواء المتسربة من نوافذ أوكار القمار تطعن الظلمة في الصميم.
وكان الأبله لا يزال يصارع شبح النسر الذي ما فتئ يشعر به وهو يهاجمه، وآلام ساقه التي انكسرت وهو يسقط في وهدة مستودع القمامة، آلام لا تطاق، حالكة، تمزق أساسه تمزيقا. وأخذ يئن طوال الليل كالكلب الجريح، أنينا بدأ خافتا ثم استحال صراخا، وأخذ تعالي هنا يا فتاة يتردد خافتا مرة، وصراخا مرة أخرى: آآآآآ ... ه، ... آآآآ ... ه!
وكانت أظافر الحمى الحديدية تخمش جبهته. انفصال في الأفكار. عالم متماوج يتراءى في مرآة. تفاوت خرافي. عاصفة من الهذيان، طيران مخيف، أفقي، رأسي، مائل، هذيان حديث الولادة وميت في حلزون صاعد. وغرق في هذيان الحمى.
منعطفمنعطفمنعطف إلى منعطفمنعطفمنعطف إلى منعطفمنعطفمنعطف إلى زوجة لوط (هل هي التي اخترعت اللوتارية؟) وكانت البغال التي تجر الترام تتحول إلى زوجة لوط، وضاق السائقان ذرعا بجمودها، فلم يكتفيا بكسر سوطيهما على ظهور البغال وإلقاء الحجارة عليها، بل إنهما دعيا السادة الركاب إلى استخدام أسلحتهم أيضا؛ وكان أعلاهم شأنا يحملون خناجر جعلوا ينخسون البغال بها فتسير. - «آآآآ ... ه ... آآآآ ...!» - «يا أبله. ... يا أبله!»
ويشحذ شاحذ السكاكين أسنانه قبل أن يبتسم! شاحذو البسمة. أسنان شاحذ السكاكين. - «أماه!»
وأيقظته صيحة السكير التي سمعها في هذيانه. - «أماه!»
وكان القمر يسطع متألقا بين السحب الإسفنجية، وسقط نوره الأبيض على الأوراق الرطبة فخلع عليها بريق الخزف وجموده. - «إنهم يحملون ...» - «إنهم يحملون ...» - إنهم يحملون القديسين من الكنيسة كيما يدفنوهم! آه، يا لها من متعة! سوف يدفنونهم، سوف يدفنونهم، آه، يا لها من متعة!
المقابر أكثر بهجة من المدينة وأكثر نظافة منها! آه، يا لها من متعة، سوف يدفنونهم! - «تارارا، تارارا، بووم!»
Bog aan la aqoon
ومضى قدما في هذيانه فرأى نفسه يشق طريقه وسط الصعاب، متقافزا من بركان إلى آخر، ومن نجمة إلى أخرى، ومن سماء إلى سماء، نصف مستيقظ ونصف نائم، وسط أفواه ضخمة وأفواه صغيرة، بأسنان وبدون أسنان، بشفاه وبلا شفاه، بشفاه مزدوجة، بشوارب، بألسنة مزدوجة، بألسنة ثلاثية، صائحا: «أماه، أماه، أماه!»
توت، توت! واستقل القطار المحلي كي يبتعد عن المدينة إلى الجبال بأسرع ما يستطيع؛ فالجبال ستمنحه دفعة إلى أعلى نحو البراكين، فيما وراء الأبراج اللاسلكية، فيما وراء الجزر، فيما وراء حصن المدفعية، تلك الفطيرة المحشوة بالجنود.
بيد أن القطار عاد إلى المكان الذي انطلق منه، كأنما هو لعبة معلقة بحبل؛ وحين وصل: «تشوف، تشوف، تشوف»، كانت هناك بائعة خضروات لاهثة ذات شعر يضاهي؛ بأعواد الصفصاف المصنوعة منه سلتها، تنتظر في المحطة، وصاحت به: «بعض الخبز للأبله، أيها الببغاء الصغير! ماء للأبله، ماء للأبله!» وجرى ناحية «رواق الرب» وبائعة الخضروات تطارده وتتهدده بقرعة مليئة بالماء، بيد أنه حين وصل إلى هناك، دوت صيحة «أماه!»: قفزة، رجل، ليل، صراع، موت، دماء، هروب، الأبله ... «ماء للأبله، الببغاء الصغير، ماء للأبله!»
وأيقظه ما كان يشعر به من ألم في ساقه، وأحس أن هناك متاهة في داخل عظامه. واتسمت عيناه بالحزن في ضوء النهار. وكانت ثمة تعريشات تغطيها أزهار جميلة دعته كيما ينام تحت ظلالها إلى جوار غدير بارد يحرك ذيله المغطى بالزبد كأنما هناك سنجاب فضي يختبئ وسط طحالبه وأعشابه.
لا أحد. لا أحد.
ومرة أخرى، التجأ الأبله إلى ليل عينيه المغمضتين وجاهد ضد الألم، محاولا وضع ساقه المكسورة وضعا مريحا وهو يسند بيديه شفته الممزقة. ولكنه كان كلما فتح جفنيه الحارقين عبرت فوقه سماوات حمراء كالدم. وبين ومضات البرق، كانت أشباح يرقات تمرق هاربة من أمامه كأنها الفراشات.
وأدار ظهره لجرس إنذار الهذيان. ثلج للمحتضرين! بائع الثلج يبيع قربان الوفاة المقدس! القسيس يبيع الثلج! ثلج للمحتضرين! تليلين، تليلين! ثلج للمحتضرين! قربان الوفاة المقدس يمر! بائع الثلج يمر! اخلع قبعتك احتراما، أيها الأخرس ذو اللعاب السائل! ثلج للمحتضرين!
الفصل الرابع
ذو الوجه الملائكي
ومضى الأبله يحلم، في مستودع القمامة الذي استقر فيه، تغطيه أوراق الأشجار، وقطع من الجلد، ومزق، وهياكل مظلات، وأطواق قبعات من القش، وبقايا الحديد الخردة، وقطع خزف مكسورة، وصناديق من الكرتون وعجائن الكتب، وحطام زجاج، وأحذية قديمة لفحتها الشمس، وياقات، وقشر بيض، وندف من القطن وفضلات الطعام، ورأى نفسه الآن في فناء كبير، يحيط به عدد من الأقنعة، سرعان ما تبين أنها وجوه أناس منهمكين في متابعة صراع الديكة. واضطرمت المعركة بين الديكين كالأوراق التي تضطرم وسط النيران. وقضى ديك منهما دونما ألم تحت أنظار المتفرجين الجامدة، سعداء برؤية المهماز المعقوف يخرج مضرجا بالدماء. جو يعبق برائحة الخمر. بصاق بلون التبغ. أحشاء الديك الصريع. إنهاك وحشي. سبات. خور. ظهيرة مدارية. وطاف به في سباته شخص ما، يمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظه!
Bog aan la aqoon
كانت أم الأبله قد أصبحت محظية لأحد الأفاقين من أصحاب ديكة المصارعة، يلعب على الجيتار بأصابع كأنها من الحجارة. وسقطت الأم ضحية لشعور هذا الرجل بالغيرة عليها ولرذائله العديدة الأخرى. وكان شقاؤها قصة لا نهاية لها: محظية لهذا النكرة، وشهيدة للطفل الذي أنجبته تحت التأثير «المباشر للقمر المتحول»، كما تقول القابلات مدعيات العلم بكل شيء؛ ففي غمرة آلام مخاضها، امتزج رأس طفلها الهائل الحجم - رأس كبير ذو قرنين كالقمر - بالأوجه المعروفة لجميع المرضى الآخرين في المستشفى، وتعبيرات الخوف والسخط، والفواق، والجزع، وقيء صاحب الديكة المخمور، ونتج عن ذلك كله مولودها الأبله.
وأحس الأبله بصوت تنروتها المنشاة وسط الرياح وأوراق الشجر، وجرى خلفها والدموع تملأ مقلتيه. ووجد راحة على صدر أمه. وامتصت أحضان تلك التي منحته الوجود آلام جراحه كأنها أوراق النشاف. يا له من ملجأ عميق لا يعكر صفوه شيء! يا له من حب جارف! يا زهرتي! يا زهرتاه! يا زهرتي الحبيبة! يا زهرتي الحبيبة!
وكان صاحب الديكة يصل إلى أعماق أذنه وهو يغني برفق:
لم لا ... لم لا ...
لم لا ... يا حبيبي الصغير.
أنا الديك الصغير ...
ولما أرفع قدمي يا صغيري.
أجرجر جناحي يا صغيري!
ورفع الأبله رأسه وقال دون أن يتكلم: إني آسف يا أمي ، إني آسف!
ورد الطيف الذي مسح بيده على وجهه في حنان على شكواه قائلا: إني آسفة يا بني، إني آسفة!
Bog aan la aqoon
وترامى صوت أبيه من بعيد آتيا عبر كأس من الخمر:
لقد شبكتني ...
لقد شبكتني ...
لقد شبكتني امرأة بيضاء.
وحين تكون الشبكة طيبة.
تتساقط خيوطها وحدها ...
وتمتم الأبله: أماه، إن آلامي تصل إلى أعماق روحي!
ورد الطيف الذي مسح بيده على وجهه في حنان على شكواه قائلا في ود: أي بني، إن آلامي تصل إلى أعماق روحي!
إن السعادة لا تعرف طعم الجسد. وإلى جوارهما كان ثمة ظل شجرة صنوبر ينحني ليقبل الأرض، غضة كالنهر. وكان طائر يغني على الشجرة، هو طائر وجرس من الذهب في نفس الوقت: إنني أنا الوردة - التفاحة لعصفور الجنة. إنني أنا الحياة، نصف جسدي أكذوبة، والنصف الآخر حقيقة؛ وإنني وردة وتفاحة. أعطي الجميع عينا من زجاج وعينا حقيقية، فأما الذين يرون بعيني الزجاجية فإنهم يرون لأنهم يحلمون، وأما الذين يرون بعيني الحقيقية فهم يرون لأنهم ينتظرون! إنني أنا الوردة - التفاحة لعصفور الجنة، إنني الأكذوبة في كل شيء حقيقي، والحقيقة في كل شيء كاذب!
وفجأة، ترك الأبله حضن أمه وجرى ليشاهد موكب السيرك. جياد ذات أعنة طويلة كأنها أغصان اللبلاب، تقودها نسوة يرتدين ملابس متلألئة بالترتر. عربات مزدانة بالزهور، ولافتات من الورق الصيني معلقة على أفاريز الشوارع تتأرجح يمينا ويسارا كالسكارى. فرقة من دهماء الموسيقيين وعازفي البوق والكمان وقارعي الطبول. والمهرجون ذوو الوجوه المدهونة بالدقيق يوزعون البرنامج في ورق ملون، معلنا عن الحفل الافتتاحي المخصص لرئيس الجمهورية، حامي حمى الوطن ورئيس حزب الأحرار المجيد وراعي الشباب المجتهد.
Bog aan la aqoon