لما زار غوردون دارفور زيارته الثانية، عرف وتحقق من أن تجار الأبيض السودانيين يبيعون الأسلحة والبارود للثائر سليمان، وكانوا بالطبع يعطفون عليه لما ينالون منه من الربح، وكانت هذه الذخائر الحربية ترسل بواسطة الجلابة أو صغار التجار بين الأبيض وبين بحر الغزال، وكان هؤلاء يربحون منها ربحا عظيما؛ مثال ذلك أن ثمن البندقية ذات ذات الأنبوبتين كان من ستة عبيد إلى ثمانية، وكان ثمن صندوق الخراطيش عبدا أو عبدين، وقد حاول الموظفون في الأبيض وقف هذه التجارة، ولكن الصعوبات كانت عظيمة، وكانت قبائل العرب الرحل تسكن المراكز الواقعة بين كردوفان وبحر الغزال، وكان بين هؤلاء العرب قبائل الرزيفات والحوازمة والحمر والمصيرية، وكان من السهل على التجار الجلابة أن يخرجوا قوافل صغيرة، وأن يجتازوا ويختبئوا في الغابات الكثيرة التي لم يكن يسكنها أحد، وإذا اتفق أن موظفا مصريا التقى بهم فإنه كان يمكن التغلب عليه برشوة صغيرة.
وكان غوردون يعرف كل هذا؛ ولذلك أمر بوقف التجارة بكل أنواعها بين بحر الغزال والأبيض، وأمر كذلك التجار بترك المراكز الواقعة جنوب الأبيض والطويشة وطريق دارة، وحصر تجارتهم في الجزء الشمالي والغربي ما دامت الحرب دائرة في بحر الغزال. ولكن على الرغم من الدقة التي اتبعت في تنفيذ هذه الأوامر، كان الربح الناتج عن التجارة مع سليمان أكبر وأقوى إغواء من أن تقفه هذه الأوامر؛ حتى كان التجار لا يعبئون باكتشاف أمرهم، ولم يكن في يد الحكومة ما يمكنها من أن تقف هذه التجارة التي زادت بدلا من أن تنقص بعد ذيوع هذه الأوامر، فعمد غردون لهذا السبب إلى وسائل حاسمة، وأمر المشايخ والعرب بأن يقبضوا على التجار الجلابة، ويرسلوهم بالقوة إلى دارة وطويشة وأم شنجة والأبيض، وألقى عليهم تبعة وجود الجلابة في بلادهم بعد تاريخ معين.
وانتهز العرب الحريصون هذه الفرصة وأخذوا ينبهون الجلابة، بل التجار الوادعين الذين عاشوا بينهم زمنا طويلا، والذين لم يكن لهم أقل دخل في تجارة المهربات الحربية، فجمعوا القمح والزوان بلا تمييز وربحوا بذلك ربحا عظيما، فما هو أن ذاعت أوامر غوردون حتى حمل العرب على التجار حملة عامة، فلم يأخذوا منهم تجارتهم فقط بل أخذوا كل ما يملكونه؛ حتى جردوهم من كل شيء، وساقوهم كالبهائم وهم تقريبا عراة يعدون بالمئات إلى طويشة ودارة وأم شنجة، وكان هذا عقابا عظيما لهم على مساعدتهم أعداء الحكومة.
وكان كثير من هؤلاء التجار قد أقاموا بين العرب سنوات، وكان لهم زوجات وأولاد وسريات وأملاك كبيرة وقعت كلها في أيدي العرب. والحق أن هذا الانتقام من هؤلاء التجار الذين كانوا يتجرون بالمهربات الحربية وبالعبيد؛ كان هائلا، وإن كانوا هم يستحقونه على مبدأ السن بالسن والعين بالعين، وكانت نتائج هذا العمل بعيدة المدى؛ وذلك لأن معظم هؤلاء الجلابة كانوا من الجعالين الذين ذكرناهم، فانغرست بينهم من ذلك الوقت وبين العرب الذين أذلوهم وأباحوا تجاراتهم عداوة لا تزال مستمرة للآن، والدلائل تدل على أنها في ازدياد لا في تناقص.
ولو اعتبرنا المروءة والإنسانية لقلنا إن هذا الاعتداء على الجلابة يستحق المناقشة من حيث عدالته، ولكن عند تدقيق الفحص نجد أن الظروف لم تكن تسمح بمعالجة هذا الظرف الاستثنائي بالوسائل السياسية أو بروح العطف الإنساني؛ فإنه لم يجد في الحالة وقتئذ سوى اتخاذ إجراءات شديدة فعالة، والعرب أنفسهم يقولون: «نار الغابة تلزمه الحريقة!» يعنون بذلك أنه إذا شبت النار في الغابة لم يكن سبيل النجاة منها إلا بإحراق جزء من الغابة؛ بحيث إذا وصلت النار الكبرى لا تجد ما تأكله؛ فينجو الإنسان منها بوقوفه في المكان الذي أحرقه هو نفسه. وهذا المثل يقبل التطبيق على الحالة التي ذكرناها.
ولما كان لهؤلاء التجار الجلابة - وجلهم من الجعالين والشايجية والدناقلة - أقارب في وادي النيل، وكان لهم أصدقاء يشتركون معهم في النخاسة وسائر التجارة، أوجدت أوامر غوردون سخطا بينهم؛ إذ لم يكادوا يفهمون العلة في ضرورة اتخاذ هذه الإجراءات الشديدة.
الفصل الثاني
إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
غادرنا الأبيض أنا والدكتور زربوخين المفتش الصحي الذي كنت قد قابلته في القاهرة، وكانت مغادرتنا للأبيض في يوليو سنة 1879، فأخذنا طريقنا إلى الفوجة آخر محطة تلغرافية، وهنا تسلمت رسالة تلغرافية من غوردون يقول لي فيها إنه مسافر إلى الحبشة في مهمة مع الملك يوحنا.
ولما بلغنا أم شنجة وجدناها مزدحمة بالجلابة الذين طردوا من الجنوب، وكانت حالتهم تبعث على الشفقة، ومن الغريب أنه شاعت عني إشاعة مقتضاها أن غوردون خالي؛ ولعل سبب ذلك زرقة عيني وأني كنت حليقا، وكان الجلابة ينظرون إلي بعين الخوف لهذا السبب، وكانوا يعدون غوردون أصل بلائهم الحاضر، وأخذوا يغمرونني بالعرائض لمعاونتهم، فأخبرتهم بأن أم شنجة ليست داخلة ضمن نطاق أعمالي؛ ولذلك لا يمكنني مساعدتهم، وقلت أيضا إنه لو كان في مقدوري مساعدتهم من مالي الخاص لما فعلت.
Bog aan la aqoon