والآن بدأت أفكر. وكنت ألوم نفسي على أني لم أجازف وأفر إلى الخرطوم على جوادي، ولكن هل كان غوردون يقبلني وقد صرت بعيدا عن الخطر كما قال المهدي؟ ولكن ما هو حظي الآن؟ هل هو حظ محمد باشا سعيد وعلي بك شريف؟ ولم تكن عادتي التفكير في همومي الشخصية. وتذكرت قول المادبو: «كن مطيعا وصبورا، اللي عمره طويل بيشوف كتير»، وقد مارست الطاعة والآن يجب أن أمارس الصبر، أما العمر الطويل ففي يد الله وحده.
وبعد ساعة لم أتمها بالضرورة رأيت عددا من الملازمين يقتربون مني ومعهم المصابيح، وعندما اقتربوا رأيت بينهم الخليفة عبد الله فوقفت وانتظرت.
ورآني واقفا أمامه فقال: يا عبد القادر، هل سلمت أمرك للقدر؟
فقلت بلهجة الاطمئنان: «مذ كنت طفلا. لقد اعتدت الطاعة، والآن يجب أن أطيع أردت أو لم أرد.»
فقال: إن صداقتك لصالح واد المك وخطاباتك لغوردون قد جعلتنا نشتبه في أمرك، وهذا هو ما ألجأني إلى أن أجبرك على أن تسير في الطريق القويم.
فقلت: «إنني لم أخف صداقتي مع صالح واد المك، إنه صديقي وأظن أنه مخلص لك، أما خطاباتي لغوردون فقد أمرني المهدي أن أكتبها.»
فقال الخليفة: هل أمرك بأن تكتب ما كتبت؟
فقلت: «لقد كتبت ما أمرني به المهدي، ولا يمكن أحدا أن يعرف محتويات هذه الخطابات سواي أنا ومن كتبت إليه، وكل ما أرجوه يا مولاي هو العدل وألا تصغي لأقوال الدساسين.»
ثم غادرني، فحاولت أن أنام ولكن أعصابي كانت هائجة، فكانت الخواطر المختلفة تمر برأسي، وكان الحديد حول عنقي وساقي يؤلمني أشد الألم؛ فلم يكن النوم مستطاعا، وما كدت أغفو تلك الليلة برهة قصيرة. وفي شروق الشمس جاءني أبو أنجة ومعه خدم يحملون طعاما، وقعد على الحصير إلى جانبي ووضع بيننا الطعام، وكان الطعام فاخرا يحتوي على فراريج ورز ولبن وعسل ولحم مشوي وعصيدة، ولكني قلت له إنه ليس عندي شهوة للطعام، فقال لي: «أظنك خائفا يا عبد القادر ولهذا لا يمكنك أن تأكل.» فقلت: «كلا، لست أخاف شيئا، وإنما لا أشتهي الطعام الآن، ومع ذلك سآكل شيئا حتى لا تستاء.» ثم بلعت لقمتين. وكان أبو أنجة يتودد إلي ويظهر لي أني ضيفه المكرم.
ثم قال لي: «لقد استاء الخليفة لأنك لم تظهر له خضوعا وقال إنك عنيد، وإن هذا في رأيه هو السبب في عدم خوفك.»
Bog aan la aqoon