وشعرت كأنه يقول هذا لكي يطمئنني لأنه رآني قد تألمت، ثم أمر بالعشاء فأحضر وأكلت أنا بشهوة أكثر من المعتاد حتى أوهمه بأني راض. وكان قليل الكلام وقت الطعام يبدو عليه كأنه مغموم، وبعد العشاء حاول أن يقول شيئا يزيل به أثر الكآبة ولكن لهجته كذبته. ثم انفصلنا وعدت إلى خيمتي وأنا أتأمل في الحالة، فقد كنت عازما على أن أبقى على وفاق مع الخليفة حتى تتاح لي ساعة الخلاص، ولكن صلفه وغطرسته وسوء أدبه قد جعلت هذا الواجب ثقيلا علي.
وبعد أن سرنا خمسة أيام بلغنا الشط، حيث وجدنا الآبار مسدودة فشرعنا في فتحها وأقمنا بعض العشش هناك؛ لأن المهدي قرر الإقامة هنا بضعة أيام، وكنت وقت مسيرنا أزور أوليفيه بان فأجد آماله التي جاء بها تذهب بالتدريج، وكانت معرفته العربية قليلة جدا، ولم يكن يؤذن له بالكلام إلا مع العبيد الذين كانوا في خدمته، ولم تمض عليه أيام حتى نسي مهمته الأصلية وصار لا يذكر شيئا سوى زوجته وأولاده. وكنت أحثه على التفاؤل بالمستقبل، وأن ينزع عن نفسه هذه الكآبة التي لا تنفعه في شيء. وكان الخليفة قد نسيه تقريبا فلم يكن يذكره أبدا.
وبعد وصولنا بيوم إلى الشط وافانا محمد الشريف شيخ المهدي السابق، الذي كان قد طرده من طريقته وكان أصدقاؤه قد حثوه على أن يذهب إليه ويستغفره، ولكن المهدي أحسن استقباله وسار معه بنفسه إلى خيمته وأهدى إليه فتاتين حبشيتين جميلتين وخيولا وغير ذلك، وبهذه المعاملة السمحة جذب المهدي إليه أنصار الشيخ محمد الشريف وضمن ولاءهم.
ولما غادرنا شرقلة جاءتنا الأخبار بأن جيوش غوردون هزمت هزيمة منكرة، ولما بلغنا الشط جاءتنا تفاصيل هذه الهزيمة التي انتصر فيها الشيخ عبيد على محمد علي باشا في أم درمان، وكانت نتيجة هذا النصر أن الثائرين زادوا ضغطهم في حصار الخرطوم، ولما أمدهم واد النجومي بجيشه وجد غوردون أنه لم يعد في قوته أي فتق في القوة التي تحاصره.
وخرجنا من الشط إلى الدويم؛ حيث عرض المهدي الجيش عرضا عظيما وأشار إلى النيل وقال: «إن الله قد خلق هذا النهر ووهبكم مياهه لتشربوها، وقسم لكم أن تملكوا جميع ما على ضفتيه من أرض.» فهتف له الجميع هتاف الفرح والسرور وكل منهم يعتقد أن تلك البلاد العجيبة قد وقعت فريسة للمهديين.
وغادرنا الدويم إلى طرة الحضرة، حيث قضينا أيام العيد، وكان أوليفيه بان الفرنسي قد أصيب بحمى، ولما زرته قال لي: «لقد جازفت جملة مجازفات في حياتي دون أن أفكر في نتائجها، ولكن مجيئي هنا غلطة فادحة، وقد كان أصلح لي لو أني وقعت في يد الإنجليز ومنعوني من تنفيذ إرادتي.» وكنت أجهد جهدي لكي أعزيه وأسري عنه، ولكنه كان يقابل كلامي بهز رأسه.
وفي العيد صلى المهدي بصوت عال غير عادي، ولما وصل إلى الخطبة بكى وانتحب انتحابا مرا، وكنا نحن الذين لا يؤمنون بدعوته نعرف أن هذا البكاء نفاق لن يعقبه خير لأحد، ولكن كانت له النتائج المرغوبة؛ فإن قبائل النيل الأبيض سارعت إلى الانضواء تحت رايته، وتحمس الناس أشد تحمس لسماعهم خطبته.
وبعد أن استرحنا يومين استأنفنا السفر، وكنا نزحف زحفا كالسلحفاة لكثرة جموعنا وازدياد عددهم يوما بعد يوم، وكانت حالة أوليفيه بان تسوء كل يوم، وتبين أن ما به هو التيفوس، ورجاني أن أطلب من المهدي بضعة نقود؛ لأن الذين يعنون به يضايقونه بما يطلبونه منه، ففعلت، وأمر المهدي أمين بيت المال بأن يعطيه خمسة جنيهات ودعا له بالشفاء، وأخبرت الخليفة بحال بان وبأن المهدي وهبه خمسة جنيهات، فلامني لأني فعلت ذلك بدون إذنه، وقال لي: «إذا مات هنا فإنه يكون سعيدا؛ فإن الله بقدرته قد نقله من الكفر إلى الإيمان.»
وفي صباح اليوم التالي أرسل إلي بان فذهبت ووجدته ضعيفا لا يقوى على النهوض، وكان قد مضى عليه يومان لم يذق فيهما شيئا من الطعام الذي كنت أرسله له، ولما قعدت إلى جانبه وضع يده في يدي وقال: «لقد جاءت ساعتي، وأنا أشكر لك حنوك علي ورعايتك لي، وآخر ما أطلبه منك من المعروف إذا نجوت من هؤلاء المتوحشين وأتيحت لك الفرصة بزيارة باريس أن تذهب إلى زوجتي المسكينة وأولادي، وتخبرهم أني وأنا أموت كنت لا أفكر إلا فيهم.»
وكان وهو يقول هذا الكلام تنحدر العبرات على خديه الغائرين، وعدت إلى تعزيته وتقويته، ولكني سمعت قرع الطبول فاضطررت إلى تركه، وكانت هذه آخر مرة رأيته فيها، وأمرت أحد خدمي المدعو نطرون أن يبقى معه، ثم ذهبت إلى الخليفة فأخبرته بحالته السيئة ورجوته أن يأمر بإبقائه في إحدى القرى حتى يشفى، فوافق الخليفة على مقترحي وطلب مني أن أذكره بهذه المسألة عند الغروب.
Bog aan la aqoon