ورجع إلي محمد واد عاصي الذي كنت أرسلته مع خالد واد إمام إلى كردوفان وأخبرني بالحالة هنالك، وقد بشرني بأن الحكومة في الخرطوم تهيئ جيشا للاستيلاء ثانية على كردوفان ولكن لا بد من مضي وقت طويل قبل أن تهيأ التجريدة وتشرع في السفر.
فأخبرته بإذاعة هذه الأخبار في كل مكان ثم سألته عن علاقة زوجال بالمهدي، فأجابني بأنه على الرغم من أبحاثه لم يتحقق على وجه التأكيد هل تجري بينهما مكاتبات، ولكنه لا يشك في أن المهدي يرسل رسله إلى زوجال فيخبرونه شفويا بما يرغب، وهؤلاء الرسل هم التجار الجائلون، وقد وافقني على رأيي بأن زوجال لمركزه وتربيته يعرف بواعث هذه الثورة؛ ولذلك ليس من المرجح أن يشترك مع الثائرين.
ولا شك في أن تسليم الأبيض قد أضعف مركزنا، وكان علينا أن نعمل بحذر وحيطة ما دامت مديرية كردوفان كلها قد صارت في يد المهدي، وكنت أرجح أن أخبار واد عاصي عن استعداد الحكومة في الخرطوم لإرسال حملة للمهدي، سيجعل المهدي يحتفظ بقواته ويجمع جيشه في مكان واحد للمقاومة، وعلى ذلك ليس من المحتمل أن يوجه جيشه إلينا، ورأيت أن أرصد كل وقتي للقبائل العربية التي هيجها سقوط الأبيض ومنشورات التعصب، وكان يخشى منها أن تتمادى في هياجها وترتكب أي شطط، ولم يكن من المنتظر أن يتم تهيئة التجريدة الخاصة بكردوفان قبل الشتاء، فكان علينا أن نثبت ونقاوم بأية وسيلة حتى هذا الفصل.
وعلى الرغم من إقامة مراكز حربية في فافا وفي ودة، فإن عرب الخوابير تجمعوا في أم الوادي، وانضم إليهم بعض رجال الميما الذين غاظهم انقطاع المواصلات إلى بلادهم وحمسهم سقوط الأبيض، وكانوا يثيرون الهياج والفتن في جميع البلاد بين دارة والفاشر، ولم تقو حامية فافا على مهاجمتهم، فعزمت لذلك على غزوهم لكي أريهم أن سقوط الأبيض لم يثبطنا، وانتقيت 250 جنديا مدربا على الحروب، ثم دربتهم بضعة أيام على قتال السنجة، وأخفيت يوم شروعي في السفر عن كل أحد.
ثم أخذت جميع الخيول وكانت تبلغ نحو السبعين، وأشرت على واد عاصي بأن يقفنا على أخبار دارة، ثم خرجنا وأسرعنا في المسير، فلم يمض يومان حتى بلغنا جوار بير أم الوادي، حيث قد اجتمع عرب الميما والخوابير، ولم يكن معنا سوى أسلحتنا وذخيرتنا، ولم نحمل ميرة؛ لأن نيتنا كانت الهجوم ثم الرجوع، وفي اللحظة التي ظهر فيها العدو أمرت رجالي بتثبيت السنجة. وقاتلنا البازنجر، وبعد عشرين دقيقة نجحنا في تفريقهم، ودخل بعض عرب الميما في صفوفنا فقتلوا كلهم بحراب البنادق - السنجة - ثم أمرت الفرسان بأن يطاردوهم، وأمرت الجنود النظاميين بأن يسيروا وراء الفرسان ليبحثوا عن مكان البطيخ؛ لأن الفارين سيقصدونه بالطبع لكي يقصعوا عطشهم، وقد نفذت هذه الأوامر وقطعنا البطيخ، وقبضنا على عدد من النساء والأطفال وتفرق الرجال في كل مكان يبحثون عن الماء، ومات كثير منهم عطشا. وفي اليوم التالي أحرقنا خيام العدو، وأخذنا النساء والأطفال إلى بير أم الوادي التي اعتزمنا الهجوم عليها الآن، فدافع العدو دفاع اليأس عنها، وخسرنا 16 رجلا قتلوا و20 جرحوا، وأدركت من هذه الخسارة أن الجنود النظاميين عندي قد قلوا جدا في حين أن العدو يزداد حتى بعد هزيمته.
ولما كنت الأوروبي الوحيد في بلاد غريبة، وكان السكان حولي يدسون لي ويكرهونني؛ فإني كنت ألجأ إلى وسائل عديدة لكي أعرف المؤامرات والترسيمات التي تدبر حولي، وكنت أحيانا بواسطة النقود أو الهدايا التي أرسلها سرا أعرف ما سيحدث لي قبل حدوثه وأحتاط له.
وكنت بواسطة الخدم أستغل البغايا اللواتي كن يصنعن المريسة - أي الجعة الوطنية - وكان يشربها عندهن رجال الطبقات الدنيا، وكان الخدم يخبرونني بأن رجالنا وهم يتعببون هذه الخمر ويسكرون يتكلمون عن ثورة المهدي الذي لم يكونوا يعطفون عليه، ولكنهم كانوا يقولون إن الحكومة قد عينت في المراكز العليا ناسا من النصارى لمحاربة المهدي؛ ولذلك فالنتيجة يجب أن تكون سيئة، ومما قالوه إنهم وإن كانوا يحبونني إلا أنهم يعزون ما أصابنا من الخسارة وما قاسيناه من الآلام إلى أني مسيحي، وكنت متحققا بأن هذه الآراء ليست من ثمار ذهن الزنوج الذين لا يبالون بالدين، وإنما هي من ذهن أولئك الجنود الذين يكرهونني ويشتهون إزالة سلطتي وبث روح العصيان بين رجالي.
وعند قيامي من بير أم الوادي جاءتني أخبار سيئة أيضا؛ فقد أخبرني الخدم بأن بعض الجنود الذين يذهبون إلى حانة البغي، التي كنت أرشوها لكي تخبرنا بكل ما يدور في حانتها، قد ائتمروا على ترك الجيش. وعلمت بعد البحث أن الداعين إلى ترك الجيش هم بعض من رجال قبيلة الفور وصفوف ضباطهم؛ فإنهم على قولهم قد سئموا هذا القتال وقد تحققوا أن أيام الأتراك قد باتت معدودة في السودان، وأنهم ينوون ترك جيشنا والذهاب إلى جبل مرة للانضمام إلى سلطان دودبنجة خليفة سلطان هارون. ولما كان أكثر رجالي من قبيلة الفور، فإني شعرت بخطورة الحالة، وأرسلت في الحال إلى البكباشي محمد أفندي فرج وأخبرته بما سمعت، فدهش وأكد لي أنه لم يسمع شيئا قط عن هذا الموضوع، وأنه لن يهمل في الاستقصاء ومعرفة الجناة ومعاقبتهم، فأمرته بأن يلتزم التكتم وألا يفعل شيئا يلقي بينهم الشك والتوجس.
وأرسلت وهو معي إلى خادمي وأعطيت له صرة بها نقود، وأمرته بأن يذهب بها إلى البغي ويعطيها لها، ويطلب منها أن تدعو هؤلاء الرجال إلى منزلها وتسقيهم على حسابها ما شاءوا، وفي الوقت نفسه طلبت منها أن تخفي الخادم بحيث يسمع ما يدور من الحديث بين الجنود، وأخبرتها بأنها إذا نفذت هذه الأوامر فإني أكافئها مكافأة سنية. وعاد خادمي بعد قليل وأخبرني بأن كل شيء قد رتب على ما تهوى.
وفي اليوم التالي أرسلت للبكباشي وأعطيته أسماء ستة من الزعماء وأمرته بالقبض عليهم، وزيادة على ذلك أعطيته أيضا التفاصيل الخاصة بفرارهم من الجيش وتاريخ ذلك، وبعد نصف ساعة عاد ومعه الستة المقبوض عليهم وهم مقيدون من خلف وكانوا كلهم من الفور، وكان وراءهم عدد من القواصين والنظارة فطردتهم، ثم سألت هؤلاء الستة أمام ضابطهم عن سبب خروجهم على الحكومة، فأنكروا إنكارا باتا وجود هذه النية عندهم، وأنهم براء من كل ما نسب إليهم، فقلت لهم: «ولكنني أعرف أنكم عقدتم جملة اجتماعات في منزل خديجة، وقد أتحت لكم كل فرصة لكي تتعقلوا، ولكنكم أبيتم إلا الطغيان، فأمس كنتم عندها تشربون المريسة واتفقتم على أن تنفذوا تدبيركم اليوم، وكان غرضكم أن تضموا إليكم الجنود وتخرجوا بأسلحتكم من الباب الغربي للقلعة، وبعد ذلك تذهبون إلى السلطان عبد الله، وكنتم تنوون إنفاذ خطتكم بالقوة. ألم تقل أنت يا محمد إنه لديك مائتا رجل يطيعونك ويعملون ما تشير به عليهم؟ ألا ترون أني أعرف كل شيء؟ فما فائدة الإنكار؟»
Bog aan la aqoon