فذل محمد أحمد وصغر وذهب إلى أحد أقاربه وطلب منه أن يصنع له «شعبة»؛ والشعبة عبارة عن خشبة مشقوقة يوضع العنق في شقها فتنضم وتؤلم الإنسان بذلك ألما شديدا، ثم ذر على وجهه رمادا وعاد إلى محمد شريف في هذه الهيئة يرجو الصفح ويقر بالتوبة والندم، ولكن شيخ الطريقة رفض أن يخاطبه، فعاد محمد أحمد خائبا إلى أهله في أبة، وكان يحترم مؤسسي الطريقة السمانية الشيخين نور الدائم والطيب احتراما عظيما؛ ولذلك كان لطرده من طريقتهما وقع عظيم في نفسه لا يكاد يحتمله.
وحدث بعد ذلك أن سافر محمد شريف إلى بلدة قريبة من أبة، فذهب إليه محمد أحمد في الشعبة ووجهه ملطخ بالرماد يستغفر ويتوب، ولكن الشيخ طرده أفظع الطرد وقال له: «اخسأ عني يا خائن، اخسأ أيها الدنقلاوي الشقي الذي لا يخاف الله والذي يخرج على معلمه ومولاه، لقد حققت قول من قال: الدنقلاوي شيطان مجلد بجلد إنسان، إنك تثير الشقاق بين الناس، فاخسأ عني فإني لن أغفر لك.»
وكان راكعا يسمع هذا الكلام الجارح ثم انتصب وخرج والدموع تنهمل من عينيه، ولكن هذه الدموع لم تكن دموع الندم بل دموع الغيظ والحقد اللذين كان يتلظى بهما قلبه، وكان مما يزيده غيظا قلة حيلته في غسل هذه الفضيحة عن نفسه، فعاد إلى أهله وأخبرهم أن محمد شريف قد طرده ولن يقبله في الطريقة ثانيا، وأنه قد عزم على أن يطلب من الشيخ القريشي أن يقبله في طريقته، وكان هذا الشيخ قد خلف الشيخ الطيب جد محمد شريف، وقد أذن له في تعليم الطريقة السمانية وإعطاء العهد عنها، وكان بينه وبين محمد شريف لهذا السبب غيرة شديدة.
وجاء جواب الشيخ القريشي يقول فيه إنه مستعد لقبوله، وتهيأ محمد أحمد هو وتلاميذه للذهاب إلى مسلمية حيث الشيخ القريشي وأخذ العهد منه، وبينما هو في ذلك وإذا برسالة من محمد شريف قد وصلته، يقول له فيها إنه يأمره بالقدوم وإنه قد عزم على الصفح عنه وعلى الإذن له بأن يعود إلى ممارسة الطريقة، فرد عليه محمد أحمد ردا أبيا قال فيه إنه لا يطلب الصفح لأنه لم يذنب، وإنه لا يحب أيضا أن ينقص مكانة الشيخ بأن يجتمع به علنا أمام الناس وهو «دنقلاوي شقي»!
واستقبله الشيخ القريشي مرحبا، وانتشرت حكاية رفض محمد أحمد قبول الصفح من شيخه في جميع أنحاء السودان، ولم يكن الناس قد سمعوا بمثل هذا العمل من قبل، وأخذ محمد أحمد يصرح بأنه ترك مولاه القديم؛ لأنه قد خالف الدين جهرة، فعطف عليه الناس عطفا كبيرا لهذا السبب وجعلوا يتحدثون به، وكبر مقامه في عيونهم، وقد بلغت هذه الحادثة أهل دارفور وصارت حديثهم وصار هو بطلا يعجب به؛ لرفضه الطاعة لمولاه.
وحصل على إذن من الشيخ القريشي بأن يعود إلى أبيه حيث كان يزوره الناس من جميع البلاد يتبركون به، وصارت العامة تهرع إليه وترى فيه مظلوما خرج على ظالمه وأبى الضيم، وكانت تأتيه الهدايا فيفرقها بين الفقراء ولا يأخذ شيئا منها لنفسه؛ حتى صار يلقبه الناس بلقب «الزاهد».
ثم سافر إلى كردفان حيث يكثر الفقهاء، وهم من أجهل الناس وأكثرهم خرافات، فلقي نجاحا عظيما بينهم، ووضع رسالة وزعها بين أتباعه المخلصين، حضهم فيها على تطهير الإيمان الذي فسد وانحط بفساد الحكومة وعدم احترام الموظفين أركان الدين.
وبعد أشهر مات الشيخ القريشي فذهب محمد أحمد وأتباعه إلى مسلمية؛ حيث بنوا له ضريحا له قبة تذكارا له.
وحدث في هذا الوقت أن جاء رجل يدعى عبد الله بن محمد التعايشي من قبيلة البقارة؛ أي الذين يقتنون البقر، وطلب من محمد أحمد أن يدخل في الطريقة السمانية فقبله محمد أحمد وأقسم أمامه يمين الولاء، وكان عبد الله هذا أكبر إخوانه الأربعة، وكان أبوهم يدعى محمد التقي من قسم الحبيرة من فخذ التعايشي، وكان هذا الفخذ ينتسب إلى «أولاد أم صورة»، وكان لعبد الله أربعة إخوة؛ ثلاثة ذكور وهم: يعقوب ويوسف وسماني، وأخت تدعى فاطمة. وكانت علائق أبيهم بأسرته سيئة؛ ولذلك عزم على مهاجرة السودان والحج إلى مكة ثم الإقامة في جوار الرسول بالمدينة، وقد وصف أولئك الذين عرفوا محمد التقي هذا بأنه كان رجلا صالحا متحرجا، يؤدي واجباته الدينية بدقة ويشفي الأمراض بالتعاويذ والتمائم، وكان أيضا يعلم الناس القرآن.
وكان عبد الله ويوسف أشد أولاده عصيانا وقد لقي منهم الأمرين في تعليمهم بعض الآيات الضرورية للصلاة، أما يعقوب وسماني فكان فيهما شيء من طبع والدهما وهدوئه، وقد حفظا آيات القرآن وبعض الشروح وكانا يعاونانه على تأدية واجباته الدينية.
Bog aan la aqoon