قد حلت بي الأحزان في هذا الوسط المزعج الذي أنا موجود بينه، وقد كان زملائي وهم لا يدرون أسباب حزني يطلبون أن لا أظهر أسفي بالنسبة لتركي منزلي الأول؛ حيث إن الخليفة أصدر أمره إلى جواسيسه بأن يراقبوني جيدا، فابتدأت أظهر عدم اهتمامي بأي شيء مطلقا.
وقبل ذلك بمدة وجيزة كان المصريون قد استولوا على طوكر، وهم لا محالة زاحفون، ومن أجل ذلك استدعى الخليفة «أبو حرجة» وولى بدله قيادة الجيوش واحدا من أقاربه اسمه «مسعود»، وقد أرسل أبو «حرجة» بباخرتين إلى الأقاليم الاستوائية ليلحق بعمر صالح، الذي كان قد ذهب إلى الرجاف ليقيم هناك مركزا لجيوش الدراويش لصد حملة «ستانلي» و«أمين باشا».
وبعد مضي أيام قليلة لسفر هذه البواخر، مرض الخليفة بالحمى التيفوسية، وكان عموم سكان أم درمان يستطلعون أخبار هذا المرض أولا فأولا.
وأصبح جميع سكان أم درمان يرقبون أخبار مرض الخليفة بفارغ الصبر، وكانوا يتوقعون أن موت الخليفة يغير نظام كل شيء. وبطبيعة الحال إذا مات سيخلفه الخليفة «علي واد الحلو» حسب ما تقتضيه القوانين المهدية، وكان هذا يترقب وفاته بكل سرور، وقد أظهر أتباعه الرغبة الشديدة في الاستيلاء على الحكم.
بعد ذلك ابتدأت حالته الصحية تتحسن، وقد خيل إلي أن الله - سبحانه وتعالى - لم يهيئ بعد لهؤلاء القوم النجاة فيقضي على حياة هذا الطاغية.
خرج الخليفة بعد ثلاثة أسابيع من مرضه لأول مرة، فقابله رجال قبيلته بالتجلة والتعظيم والغبطة والسرور، بينما أظهر له بقية السكان سرورا مصطنعا؛ وعلى ذلك لم يعرف شعور الناس نحوه حق المعرفة.
وحيث كان يقطن بين النهرين في الجزيرة قبائل «الجالان» و«الدناجالا»، وغيرهما من الأعراب الذين يعرف الخليفة عنهم أنهم ألد أعدائه، فكان دائما يراقبهم عن كثب ويدعهم عزلا من السلاح مصادرا كل ممتلكاتهم، وكان ينتخب من بينهم آنا بعد آخر عددا يرسله لتعزيز حامية دارفور والقلابات والرجاف.
وكان يعتقد دائما أن الخليفة علي وأتباعه يحقدون عليه، ولو أنهم كانوا يظهرون له غير ما يخفون إلا أنه ما كان يتوقع قط أن يعلنوا العداء كما أعلنه من قبل الأشراف.
والآن وقد أصبحت أقطن على بعد خطوات منه، أخذ يسأل عني كثيرا زملائي ويطلب إليهم إبلاغه هل أنا مسرور من مكاني الجديد أو لا، وكان يترقب بفارغ الصبر وقوع هفوة مني، ولكن من حسن الحظ كان الملازمون يعطفون علي وبيني وبينهم صداقة، وكانوا يسرون لي بين آن وآخر أن الخليفة أصبح شديد الحقد علي، ويجب أن أكون شديد الحذر.
وفي ذات يوم من شهر ديسمبر سنة 1892 لما حصلت على إجازة قصيرة لأستريح فيها من عناء العمل، طلبني أحد الملازمين إلى الخليفة، وبعد أن ذهبت وجدته ينتظرني في حجرة الاستقبال محاطا بقضاته، ولقد صدقت ما قيل لي من أول وهلة؛ حيث لم يرد تحيتي وأمرني بأن آخذ مكاني بين قضاته.
Bog aan la aqoon