وَثُلُثٌ شرابٌ، وثُلُثٌ نَفَسٌ" ١، فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل.
فحكى أبو طالب المكي٢ في "قوت القلوب": أن فيهم من كان يزن قوته بِكَرَبَةٍ٣ رطبةٍ، ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل. وكنت أنا٤ ممن اقتدى بقوله في الصبا، فضاق المعيُ، وأوجب ذلك مرض سنين! أفترى هذا شيئًا تقتضيه الحكمة، أو ندب إليه الشرع؟! وإنما مطلية الآدمي قواه، فإذا سعى في تقليلها، ضعف عن العبادة.
٧١- "ولا تقولن: الحصول على الحلال المحض مستحيل، لذلك وجب الزهد، تجنبًا للشبهات، فإن المؤمن حسبه أن يتحرى في كسبه هو الحلال، ولا عليه من الأصول التي نبتت منها هذه الأموال"٥ فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور، وأجرة الفجور، كان لنا حلالًا بوصفه الغنيمة.
أفتريد حلالًا على معنى أن الحبة٦ من الذهب لم تنتقل منذ خرجت من المعدن٧ على وجه لا يجوز؟ فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله ﷺ.
أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تصدق على بربرة بلحم، فأهدته؛ جاز له أكل تلك العين لتغير الوصف٨.
٧٢- وقد قال أحمد بن حنبل: أكره التقلل من الطعام، فإن أقوامًا فعلوه، فعجزوا عن الفرائض، وهذا صحيح، فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل، ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله.
_________
١ رواه الترمذي "٢٣٨٠"، وابن ماجة "٣٣٤٩"، والحاكم "٤/ ١٢١" عن المقدام بن معدي كرب.
٢ محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب، واعظ زاهد فقيه، نشأت واشتهر بمكة، ثم سكن بغداد فوعظ فيها، وبها توفي سنة "٣٨٦هـ".
٣ الكربة: الأصل العريض للسعف إذا يبس، أما الطري منها فيؤكل.
٤ أي مؤلف هذا الكتاب.
٥ زيادة من "أ".
٦ الحبة = ٠.٠٤٤٦ غم.
٧ المعدن: المنجم.
٨ عن عائشة ﵂ قالت: أتى النبي ﷺ بلحم بقر، فقيل: هذا ما تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقة ولنا هدية" رواه البخاري "٢٥٧٨" ومسلم "١٠٧٥".
1 / 45