ولكن هذه «سسيل» قد أقبلت تعلن إلى الأستاذ باسمها وباسم رفاقها دهشهم مما سمعوا، فيؤكد الأستاذ أنه لم يكن مازحا ولا عابثا، ويعلن إليها أنه مستقيل، فتلح عليه في أن يسترد استقالته فيأبى. ويكون بينهما حوار نفهم منه أنه يحب الفتاة ويود أن يجد لحبه صدى في نفسها، وهو يتلمس هذا الصدى فلا يجده، فهو يضطرب بين اللين والشدة، حتى إذا استيأس ترك الفتاة تنصرف. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يعود إليه الفتى فيلومه لوما عنيفا؛ لأنه يحب هذه الفتاة، وقد تركها تنصرف، وقد كان يستطيع أن يعلن إليها حبه، فينكر هذا الحب، ثم يعترف به، ثم يعتذر عن إحجامه بأنه متقدم السن وقد ظهرت عليه آفات الكبر. ولكن الفتى يقنعه بأنه ما زال محتفظا بقوته قادرا على أن يستمتع بالحياة، والفتاة عائدة بعد حين لأنها نسيت حقيبتها، وهي إنما نسيتها لأنها تحب الشيخ، فإذا عادت فليعلن إليها حبه، وليكن بها رفيقا ولها ملاطفا وفي حديثه إليها لبقا. وقد عادت الفتاة تلتمس حقيبتها، فيدعوها إلى البقاء حينا ، وما هي إلا أن يتخذ طريقه إلى الحب فيعلنه إلى الفتاة، فتدهش ويطلب إليها الزواج فتضطرب ثم تتردد، ويكاد يستيئس منها، فيعلن إليها هذا اليأس وأنه سيقتل نفسه، فتشفق وتلين وتضعف، فيدنو منها يريد أن يقبلها، فتأبى وتفزع وتتراجع، فإذا رأى الفتى هذا قام مقامه في هذه المداعبة والملاينة فظفر من الفتاة باللثمة التي يرجوها، وإذا الفتاة مستأنسة مطمئنة قد جلست إلى جانب الشيخ وأسندت رأسها إلى كتفه وهي تتنسم تلك الزهرة التي كانت جافة فعادت نضرة. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضت أيام على هذا، وتم الاتفاق بين الشيخ والفتاة على أن تكون له زوجا وعلى أن تقيم عنده أياما، ثم يسافران إلى حيث يقيم وصيها فيكون الزواج، وسيسافران اليوم مع الظهر. ونحن نرى الشيخ قويا وسيما حسن الزي مطمئنا إلى الحياة مبتسما لها يمشي في غرفته مشية المطمئن الراضي. ولكن العميد قد أقبل يعلن إليه أن الناس يتحدثون بمقام الفتاة عنده وينكرون ذلك، وقد كتبت فيه صحف السوء واتهمت كلية الآداب كلها بالعبث والمجون، وذلك شر يرغب الناس عن الكلية وأساتذتها، وقد أصبحت الكلية حديث الناس وشك فيها الجمهور حتى إن امرأته قد أعلنت إليه أنها لن تدعه يذهب وحده إلى الكلية. ولكن الشيخ لا يحفل بكلام العميد ولا بكتابة الصحف ولا بسخط الجمهور، فهو سعيد، وهو يريد أن يتخذ الفتاة له زوجا، وهو سيبرح هذه المدينة وجامعتها وجمهورها.
فإذا انصرف العميد وأقبلت الخادم رأيناها ليست أقل من العميد سخطا على الأستاذ، وكيف لا تسخط وهو شيخ يريد أن يقترن من فتاة، وهو يحتجز الفتاة عنده وليست زوجا ولا خطيبة، والناس يتحدثون: أليست بائعة الفاكهة قد تحدثت إليها في ذلك ساخرة ساخطة؟! ولكن الشيخ لا يحفل بها ولا ببائعة الفاكهة.
وانظر إلى الفتى قد أقبل، ويسأله الشيخ فيم جاء؟ فيأخذ الفتى في لومه: أليس يحب هذه الفتاة؟ أليست هذه الفتاة تحبه؟ فما باله لا يظفر منها بما يطمع فيه المحبون؟ وما باله يدعها تقضي الليل وحيدة في غرفتها وهو في غرفته مسهد يضنيه الحب وتعذبه الشهوة؟! والفتى يغريه والشيخ يدافعه. ولكن انظر إليه كيف أثر فيه الإغراء، فملكت الشهوة عليه أمره ودنا من غرفة الفتاة تدفعه إليها الرغبة، وكاد يدخل لولا بقية من شرف ووفاء ردته عن ذلك، فينهر الفتى ويكبح شهوته ويؤثر انتظار الزواج.
وهذه الفتاة قد أقبلت فيلقاها باسما، وترد تحيته في دعة واطمئنان، وتعرض عليه أن يكون الزواج في هذه المدينة، وأن يكون الفتى الصربي من شهود هذا الزواج. ثم تأخذ في الثناء على الصربي وذكر بلائه في الحرب، فيحس أن في نفسها من هذا الفتى شيئا، وقد خرج الأستاذ لبعض شأنه على أن يعود بعد حين.
وأقبل الفتى الصربي يريد أن يرد إلى الأستاذ كتابه وماله لأنه مسافر، ولا يكاد يتحدث إلى الفتاة حتى نفهم أنه لا يسافر زهدا في العلم ولا عجزا عن الإقامة، وإنما يسافر يأسا وقنوطا، فهو يحب الفتاة ولكنه لم يعلن إليها حبه، وقد مضى الوقت وجاء هذا الإعلان متأخرا والفتاة تدافعه وتعتذر عن نفسها بضعف الشيخ ويأسه، وأنها لا تعرف الحب ولم تحسه، وقد أخذت نفسها بأن تعيش مع هذا الرجل كما تعيش الممرضة مع المريض. ويهم الفتى أن ينصرف، فتمسكه، ويمضيان في الحوار، حتى إذا استيقن أن لم يكن بينها وبين الشيخ إثم التمس الحب عندها فوجده في قلبها تستحي له الفتاة وتتراجع.
وهذا الأستاذ قد عاد، فيرد الفتى إليه كتابه وماله، ثم يعلن إليه في لين لا يخلو من القسوة أنه لا يستطيع أن يتزوج من هذه الفتاة. وقد تركتهما الفتاة، فيكون بينهما حوار عنيف فيه غيرة وحقد، فيه غيرة الشباب الطامع في الحياة يريد أن يستقبلها في أمل ولذة، وفيه غيرة الشيخ اليائس يريد أن يظفر من الحياة بنصيب. وقد اتفقا على أن يحكما الفتاة نفسها، فتدعى ويرد عليها الشيخ حريتها ويسألها أن تختار بينهما. فتسأله: وإلى أي حال تصير وحدك؟ ... ويفهم الشيخ، فانظر إليه يائسا قد صعقه اليأس وانصرف عنه المحبان.
وانظر إلى الفتى قد ظهر يزجره وينهره، وهو الآن لم يأت ناصحا ولا رفيقا، وإنما جاء ثائرا محنقا يريد أن ينتقم لشبابه المضيع. وقد تغير المسرح بعض الشيء، وأخذنا نسمع ونرى ضجيج الرقص وحركته وأصحاب اللهو يسرفون في لهوهم، والمومسات يتهالكن على الناس فتنة وإغراء، والفتى يدفع الشيخ إلى هذا اللهو، والمومسات يدعونه إليهن، وقد كاد الشيخ يقبل لولا بقية من شرف وكرامة فهو يأبى ويتراجع، والفتى يدفعه منتهرا زاجرا منذرا معلنا إليه أنه قد أفسد عليه شبابه فليفسدن عليه شيخوخته! ولكن الشيخ يأبى. وانظر إليه قد اعتصم آخر الأمر بكتب بقيت له، فهو يلتمس عند العلم العزاء بعد أن يئس من الحب، وكذلك فعل شابا، ولكن الفتى ينازعه ويكون بينهما جهاد يصرع له الشيخ. وتسمع الخادم فتسرع إلى سيدها فإذا هو طريح، فإذا أقبلت إليه لتسعفه نهض متثاقلا وأمرها أن تلتمس الطبيب فتخرج، ويعمد الشيخ إلى مسدسه فيخرجه وهو يعتصم بالمسدس حينا وبالكتاب حينا آخر، ولكن الفتى قد أقبل مرة أخرى، وظهرت الحانة والرقص والفتى يدعو الشيخ إليهما فيأبى، ويطلق مسدسه على الفتى فلا يصيب منه شيئا. وانظر إلى الفتى فهو الذي يتناول المسدس وهو الذي يطلقه على الشيخ. وانظر إلى هذا الشاب المضيع وقد انتقم لنفسه من هذا الشيخ فهو يسقط صريعا.
يونيو سنة 1927
زوجها
Bog aan la aqoon