Codka Gunta
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Noocyada
Weltanschauung ، ومفادها، كما أسلفنا، أن اللغة تنطوي في باطنها وصميمها على وجهة نظر عامة إلى الأشياء وتصور إجمالي لما يكونه العالم، وهي صيغة متطرفة لفرضية سابير-ورف. أكد همبولت على نحو حاسم وصريح أن اللغة تحدد الفكر وتحتمه وأن التفكير لا يمكن أن يتم بدون اللغة. وبلغت فرضيته من الصرامة مبلغا يحدو بنا إلى أن نتساءل: إذا لم يكن ثمة تفكير على الإطلاق قبل اللغة، فكيف نشأت اللغة أصلا؟! وفي رده على هذا السؤال يهيب همبولت بالنظرية القائلة بأن اللغة «موضوع أفلاطوني» شأنه شأن الكائن الحي الذي بزغ فجأة في يوم من الأيام طوعا ودون أي إكراه من أحد!
وقد وجدت الفرضية بعد ذلك أنصارا لها في القرن العشرين، منهم إرنست كاسيرر الذي يقول: «إن التمييزات التي نسلم بها هنا، تحليل الواقع إلى «أشياء» و«عمليات»، جوانب «دائمة» وأخرى «عابرة/مؤقتة»، «موضوعات» و«أفعال»؛ هي تمييزات لا تسبق اللغة ولا تشكل لها أساسا تحتيا من الوقائع المعطاة، وإنما اللغة ذاتها هي ما يدشن مثل هذه التحديدات وينشئها في عالمه الخاص.»
25 (2-4) سابير وروف
غير أن فرضية النسبية اللغوية احتلت الصدارة ولفتت إليها الأنظار من خلال أعمال إدوار سابير وتلميذه بنيامين ورف، حتى صارت تعرف باسم «فرضية سابير-ورف» أو تسمى، على سبيل التبسيط، «فرضية ورف». والحق أن أطروحات سابير وورف كانت من الروعة والطرافة بحيث أسرت عددا كبيرا جدا من المفكرين. كان سابير عالم لغة وأنثروبولوجيا أمريكيا، وكان تلميذه ورف رجل أعمال ولغويا هاويا. وبخلاف أشياع النسبية اللغوية الأوائل كان سابير وورف يؤسسان دعاواهما على خبرة مباشرة بالثقافات واللغات التي كانا يتحدثان عنها، مما أضفى على شروحهما كثيرا من الحيوية والوقع المباشر، وتحلت كتاباتهما بطلاوة آسرة ألهبت خيال عدد هائل من القراء.
نظر سابير وورف إلى الفروق بين لغات عديدة وبين اللغة الإنجليزية، فوجدا أن لغة الإسكيمو على سبيل المثال تشتمل على ألفاظ كثيرة لتسمية مختلف أصناف الثلج: الثلج المتساقط، والثلج الذي يفترش الأرض، والثلج المتكتل الصلب ... إلخ، بينما وجدا عند قبائل الأزتك لفظة واحدة تستخدم لتدل على كل من الثلج والجليد والبارد. ولم ينحصر اهتمامهما في مفردات اللغات بل امتد ليشمل الفروق الكبرى في بنية اللغة ذاتها: نحوها وصرفها ونظمها وتركيبها. من ذلك ما بينه ورف من أن لغة الهوبي لا تشتمل على أي تصور للزمن كبعد من الأبعاد. وإذ كان ورف يدرك الأهمية المحورية لمفهوم الزمن في الفيزياء الغربية (إذ بدونه لا تكون سرعة ولا عجلة سرعة) فقد خلص إلى تصور عما تشبه أن تكونه الفيزياء الهوبية، فقال إنها لتكون مختلفة عن الفيزياء الإنجليزية اختلافا جذريا، بحيث إن من المحال تقريبا على عالم الفيزياء الإنجليزي وعالم الفيزياء الهوبي أن يفهم أحدهما الآخر.
إن الكائنات البشرية لا تعيش في العالم الموضوعي فقط، ولا تعيش فقط في عالم النشاط الاجتماعي بمعناه المعتاد، إنما يعيش البشر إلى حد بعيد تحت رحمة الله المعينة التي أصبحت وسيط التعبير بالنسبة لمجتمعهم. إن من الوهم المطبق أن يتخيل المرء أنه يتكيف مع الواقع دون حاجة ماسة لاستخدام اللغة، أو أن اللغة هي مجرد وسيلة عرضية لحل مشكلات محددة في التواصل أو التأمل.
26
تؤثر لغتنا في الطريقة التي ندرك بها الأشياء:
وحتى أفعال الإدراك الحسي البسيطة نسبيا هي تحت رحمة النماذج الاجتماعية المسماة «ألفاظا» أكثر مما نظن، فنحن نرى ونسمع ونكابد خبراتنا بالطريقة التي نفعل بها ذلك؛ لأن العادات اللغوية لمجتمعنا تهيئ اختيارات معينة من التأويل. (سابير، ص210)
على أن الفروق غير مقصورة على الإدراك الحسي:
Bog aan la aqoon