Codka Gunta
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Noocyada
قد يعترض معترض بأن إدراكنا لقابليتنا للوقوع في الخطأ لا يسوغ لنا ألا نستخدم عقولنا جهد استطاعتنا وألا نسلك وفقا لأفضل قدراتنا. ليس ثمة يقين مطلق وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق أغراض الحياة البشرية. وربما افترضنا، بل لا بد لنا أن نفترض، أن رأينا صواب وأننا نهتدي به في سلوكنا، ونحن لا نزعم أكثر من ذلك عندما نمنع الأشرار من إفساد المجتمع بنشرهم لآراء نعتقد أنها كاذبة وخطرة.
يرد مل على هذا الاعتراض قائلا: بل تزعم أكثر من ذلك بكثير! لأن هناك فرقا كبيرا بين أن تزعم صحة رأي ما لأنه صمد لكل محاولة سنحت لمناقشته وتفنيده، وبين أن تزعم صدقه لكيلا تسمح بتفنيده أو دحضه. إن إطلاق الحرية التامة في معارضة رأينا وتفنيده هو الشرط عينه الذي يسوغ لنا الزعم بصدقه حتى نسير عليه في أفعالنا. وليست هناك أي شروط أخرى يمكن بموجبها لموجود له قدراتنا البشرية أن يكون لديه أي ضمان عقلي بأنه على صواب.
يعزو مل تقدم الجنس البشري عقليا وسلوكيا، رغم «لا معصوميته» إلى خاصية جليلة ينفرد بها الذهن البشري، وهي قدرته على تصحيح أخطائه عن طريق المناقشة والتجربة؛ ليس بالتجربة وحدها، فلا بد من المناقشة لتبين لنا كيف ينبغي تأويل التجربة. وشيئا فشيئا تنكشف الآراء والممارسات الخاطئة وتستسلم للوقائع والبراهين. غير أن الوقائع والبراهين قلما تمتلك القدرة على أن تفصح عن نفسها، وإنما هي بحاجة دائما إلى مناقشات تكشف معناها. تكمن قوة الحكم البشري وقيمته إذن في خصلة واحدة، وهي إمكان رده إلى الصواب متى أخطأ. ولا يمكن أن نضع ثقتنا فيه ما لم تكن وسائل رده إلى الصواب في متناول اليد بصفة دائمة. انظر إلى أي شخص يتمتع بملكة حكم جديرة حقا بالثقة، فكيف واتته هذه الملكة؟ واتته لأنه اعتاد أن يفسح صدره لنقد آرائه وسلوكه، ومرن على الإصغاء لكل ما يمكن أن يقال ضده، وأن ينتفع بكل ما يكون في هذه الانتقادات من صواب، وأن يعرض لنفسه، وللآخرين إذا اقتضى الأمر، خطأ ما تبين خطؤه؛ ذلك أنه وجد أن الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الكائن البشري أن يتخذ سبيلا إلى معرفة كل شيء عن موضوع ما هي أن يصغي إلى ما يمكن أن يقوله عنه أشخاص متنوعون في آرائهم، وأن يدرس جميع الزوايا التي يمكن لعقول مختلفة أن تنظر إليه منها. لم يتسن لحكيم قط أن اكتسب حكمته إلا بهذه الطريقة، ولا هو في طبيعة الفكر البشري أن يصير حكيما بأي طريقة أخرى.
والتاريخ، كما يقول مل، مليء بالأمثلة الصارخة على استخدام سلاح القانون، بإخلاص وحسن نية، لاجتثاث أفضل الناس وأنبل المذاهب (وإن كتب البقاء لبعض هذه المذاهب فأصبحت بدورها، ويا للسخرية، غطاء يبرر سلوكا مماثلا تجاه أولئك الذين انشقوا عنها أو عن التفسير السائد لها).
سقراط:
ما كان للجنس البشري أن ينسى أنه كان في قديم الزمان رجل يدعى سقراط قام بينه وبين السلطات القانونية والرأي العام في زمنه صدام مشهور. ولد سقراط في عصر وبلد حاشدين بالأفذاذ من الرجال. وقد وصلت إلينا أنباء هذا الرجل عن طريق أناس كانوا أعلم الخلق به وبعصره، وقالوا إنه كان أحسن أهل زمانه خلقا وفضيلة. هذا الرجل، الذي كان المعلم الأكبر لعظام المفكرين على مدار التاريخ، حكم عليه مواطنوه بالإعدام بعد أن أدانوه قضائيا لمروقه وفساد خلقه؛ إذ كان ينكر آلهة المدينة، وكان في زعمهم يفسد الشباب بأفكاره وتعاليمه. لقد وجدته المحكمة مذنبا، ولدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنها وجدته مذنبا حقا وأدانت الرجل الذي ربما كان أجدر أهل عصره بالإجلال، وحكمت عليه بالموت بوصفه مجرما.
المسيح:
والمثال الثاني الذي يورده مل هو محاكمة المسيح؛ لقد اتهم المسيح بالمروق (وهي نفس التهمة التي صارت تلقى على الناس من أجله فيما بعد!) يقول مل إن جميع القرائن تدل على أن الذين حاكموا المسيح وأدانوه لم يكونوا من شرار البشر، بل كانوا على العكس خيارا يبلغون حد الكمال، وربما أكثر من الكمال، ومن العواطف الدينية والخلقية والوطنية لعصرهم وشعبهم. إن رئيس الكهنة الذي شق ثيابه عندما سمع كلمات المسيح، كان على الأرجح مخلصا في رعبه وسخطه، إخلاص عامة المتدينين الأجلاء الآن فيما يبدونه من مشاعر أخلاقية ودينية. وإن معظم الذين يأنفون اليوم من هذا السلوك لو أنهم عاشوا في زمنه وولدوا يهودا لفعلوا بالضبط مثلما فعل . وعلى المسيحيين الأرثوذكسيين، الذين ينجرفون إلى الظن بأن الذين رجموا الشهداء الأوائل كانوا بالتأكيد أسوأ منهم، أن يتذكروا أن القديس بولس كان واحدا من أولئك الذين اضطهدوا المسيحيين الأوائل.
ماركوس أوريليوس:
ويضيف مل مثالا ثالثا لعله أبلغ الأمثلة جميعا إذا كان هول الجرم يقاس بحكمة مرتكبه. ذلك هو الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (121-180) الذي كان الحاكم المطلق على العالم المتحضر كله آنذاك. لقد بلغ هذا الرجل من الحكمة والأستاذية ما لم يبلغه أي واحد من معاصريه، وكان مثالا لرقة القلب وللعدالة التي لا يشوبها شيء، اللهم إلا السماحة الزائدة. وكانت كتاباته هي أرفع ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلف اختلافا يذكر عن أخص تعاليم المسيح. هذا الرجل، المسيحي في كل شيء إلا العقيدة، اضطهد المسيحية! لقد كان يعلم أن المجتمع القائم في زمنه كان في حالة يرثى لها، غير أنه رأى أن ما يمسك هذا المجتمع ويحفظه من أن يصير إلى الأسوأ هو الإيمان بالآلهة القائمة وتوقيرها، ورأى أن مهمته كحاكم للبشرية ألا يدع مجتمعه يتفتت ويتفسخ، ولم يتصور إمكان إقامة روابط جديدة تمسك المجتمع إذا ما أزيلت الروابط القائمة. ولما كانت المسيحية تستهدف صراحة حل هذه الروابط، وكان عقله في الوقت نفسه يستغرب حكاية الإله المصلوب ولا يسيغها، فقد خلص أرق الفلاسفة والحكام جميعا، مدفوعا بالواجب المقدس، إلى إصدار قرار باضطهاد المسيحية. أيظن من يناوئ حرية الفكر اليوم أنه أكثر حكمة وفضيلة من ماركوس أوريليوس، أو أكثر منه دأبا في البحث عن الحقيقة والتزاما بها إذا وجدها؟! فما لم يدع ذلك فليكف عن ادعاء العصمة لنفسه ولجموعه وتكرار ما وقع فيه ماركوس أوريليوس العظيم وأدى إلى أوخم العواقب.
Bog aan la aqoon