Codka Gunta
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Noocyada
45
إن اللغة ما إن ينطق بها، حتى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها؛ إذ لا بد أن ترتسم فيها خانتان: نفوذ القول الجازم، وتبعية التكرار والاجترار. فمن ناحية، اللغة جزم وتقرير. ومن ناحية أخرى فإن الدلائل والعلامات التي تتكون منها اللغة لا توجد إلا بقدر ما يعترف بها، أي بقدر ما تتكرر وترد. فالدليل تبعي مقلد، وفي كل دليل يرقد نموذج متحجر: ليس باستطاعتي الكلام دون أن يجر كلامي في ذيوله ما يعلق باللسان، وما إن أصوغ عبارة ما حتى تلتقي عندي الخانتان المذكورتان، وأكون في الوقت ذاته سيدا ومسودا؛ إذ إنني لا أكتفي بأن ألوك ما قيل وأردده، مرتكنا بارتياح إلى عبودية الدلائل، بل إنني أؤكد وأثبت وأفند ما أردده.
في اللغة إذن خضوع وسلطة يمتزجان بلا هوادة، فإذا لم تكن الحرية مجرد القدرة على الانفلات من قهر السلطة، وإنما بالأخص عدم إخضاع أي كان، فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة. بيد أن اللغة البشرية، لسوء الحظ، لا خارج لها! إنها انغلاق، ولا محيد لنا عنها إلا عن طريق المستحيل: إما بفضل الوحدة الصوفية، مثلما وصفها كيركجارد، عندما حدد فداء إبراهيم كفعل لا مثيل له، خال من أي كلام، حتى ولو كان كلاما باطنيا، يقوم ضد شمولية اللغة وتبعيتها وطاعتها، أو بفعل «آمين» نيتشه الذي يشبه خلخلة مبتهجة ضد استعباد اللغة، وما يطلق عليه دولوز رداءها الرجعي. ولكن، نحن الذين لسنا فرسان الإيمان، مثل إبراهيم، ولا الإنسان الأعلى الذي يتحدث عنه نيتشه، لا يتبقى لنا إلا مراوغة اللغة وخيانتها. هذه الخيانة الملائمة، وهذا التلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة التي تسمح بإدراك اللغة خارج سلطتها في عظمة ثورة دائمة للغة، هذا هو ما أطلق عليه أدبا، يعني ذلك أن الوسيلة الوحيدة للخلاص من سجن اللغة وعبوديتها هو خلخلتها عن طريق «الكتابة/الأدب»، يقول بارت: «لست أعني بالأدب، جملة أعمال، ولا قطاعا من التبادل والتعليم، وإنما الخدش الذي تخلفه آثار ممارسة هي ممارسة الكتابة. وأقصد أساسا النص، وأعني نسيج الدلائل والعلامات التي تشكل العمل الأدبي، ما دام النص هو ما تثمره اللغة، وما دامت اللغة ينبغي أن تحارب داخل اللغة، لا عن طريق التبليغ الذي تشكل هي أداة له، وإنما بفعل الدور الذي تقوم به الكلمات والتي تشكل هي مسرحه. سيان أن أقول إذن أدبا أو كتابة أو نصا. إن قدرات التحرر التي ينطوي عليها الأدب لا تتوقف على الشخص المدني، ولا على الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون بشرا بين البشر، كما أنها لا تتوقف على المحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة.»
46
والحق أن سلطان اللغة هو مفهوم محوري يلتقي عليه البنيويون بعامة. «فإذا كان كل ما نعرفه في نهاية الأمر هو الأفكار الموجودة داخل عقولنا فمعنى ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة، وهكذا نصبح، منطقيا، سجناء داخل اللغة.»
47
يقول فوكوه: «أعتقد أن عددا منا، بمن فيهم أنا، يرون أن الحقيقة لا وجود لها، وأن اللغة فقط هي الموجودة.» أما فريدريك جيمسون فيعبر في كتابه «سجن اللغة» (1972م) عن حيرة البنيويين والموقف الذي وضعوا أنفسهم فيه. فحيث إن بناء اللغة هو الذي يحدد معرفة الفرد بالعالم، إذن لا يمكن الانتقال من اللغة إلى الواقع في ذاته - الواقع في حد ذاته غير موجود؛ لأن وجوده يحدث داخل اللغة فقط - مما يعني في نهاية الأمر تحول اللغة إلى سجن يحل محل «سجن العقل» على المذهب الكانتي. وهكذا يخلص فوكوه إلى القول: «يعتقد البشر أن كلامهم في خدمتهم لكنهم لا يدركون أنهم يخضعون أنفسهم لمطالبه.»
48
لقد جرت مياه كثيرة في مجالات الفلسفة والسياسة والاجتماع أدت إلى أن تتبوأ اللغة تلك المكانة التي تبوأتها في القرن العشرين. لقد جرى تحول في نظرتنا إلى اللغة عبر ما يقرب من ثلاثة قرون حدث خلالها ابتعاد تدريجي عن مفهوم الشفافية، التي نرى الكلمة أو الصوت ممثلا للشيء الموجود بالفعل والاقتراب من المفهوم الأخير القائل بأن الأشياء لا وجود لها خارج اللغة وأن اللغة تسبق الوجود. كانت دراسات فرديناند دي سوسير من العلامات الكبرى في هذا التحول. يقول سوسير إن الفكر في حد ذاته مثل سحابة حوامة لا يوجد فيها شكل محدد بصفة أساسية. لا وجود للأفكار المسبقة، لا شيء واضح قبل دخول البنية اللغوية.
49
Bog aan la aqoon