لقد كان خاصة العرب أهل ذوق وكفاءة، فأحرى بنا الاحتفاظ بجميل الموروث بينا نثقف أفكارنا وأقلامنا على نافع المكتسب.
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
1915
منذ شهرين تقريبا نشر الدكتور شبلي شميل رسالته إلى العالم الألماني هكل، باللغة الفرنساوية، وأردت أن أعرف رأي الأجانب في الرسالة ومؤلفها، فبعثت بها إلى كاتب أمريكاني زار مصر وأحب وادينا حبا جما، وشفعت الرسالة بتفاصيل عن الدكتور وأطواره الغريبة التي تجعل له شخصيتين تكاد الواحدة منهما تناقض الأخرى، وأخبرته أن الدكتور شميل غاضب على الأمريكان؛ لأنهم لا يساعدون الحلفاء على دحر ألمانيا، وأنه يقول عنهم إنهم أنانيون، فجاء الجواب وها أنا أنشره ضاحكة؛ لأنه يهمني كثيرا أن يتخاصم الرجلان وهما على مسافة ستة آلاف ميل بين الواحد والآخر:
قرأت باهتمام ما كتبته عن الدكتور شميل ورسالته إلى هكل، وسأبعث بنسخة من هذه الرسالة إلى المستر روزفلت.
يسرني وجود رجل كالدكتور شميل في الشرق؛ لأن هذا الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال، كأن ليس لأفكارهم أهمية إلا بقدمها. أفكار يزيد في ثقلها صدأ الأجيال ويحاول حفظها التعصب الذي يحيط بها بقوة ودقة كأنه نسج العنكبوت، فأمثال الدكتور شميل يمزقون خيوط العنكبوت ويبيدون الصدأ وقاعدته دفعة واحدة، ولا بأس من هيجان المجموع لهذه الفوضى، فهياجه ضروري بل لا بد منه. أمثال الدكتور هم العنصر الهادم ما في الجمعيات والأديان من الغلو والإفراط، وهم فاتحو الطريق للذين سيقيمون أسسا جديدة ملائمة لمطالب العصر ومعارفه. والآخرون لا يتمكنون من العمل إلا إذا عمل قبلهم الأولون.
تعجبين لماذا لا يشيد الدكتور شميل أثرا مكان الأثر الذي يهدمه، لكن لا عجب في ذلك؛ اذكري ديكارت تعلمي أن الأمرين لا يطلبان من رجل واحد، فالطبيعة وحدها مدمرة معمرة.
أما ما في أخلاق فيلسوفكم من التناقض فلا بد أنه راجع إلى الوراثة، نام بالظروف. لا بد أن يكون الدكتور عنيف الطبع حاد المزاج، ولهذا الخلق جماله. على أني أحب الخلق الهادئ الذي يترك الآخرين يتخاصمون حتى إذا ما سمع ما يقولونه من الحقائق والخرافات أعرض عن التافه من أقوالهم وتمسك بالصواب، فلا يتحول عنه، بل كلما مرت الأيام زاد به ثقة وحبا.
لا أدري لماذا يقول الدكتور شميل إن الأمريكيين أنانيون. هل عرف حضرته بعض أبناء وطني فحكم على أمة لأجل أفراد، أم هي فكرة تناقلتها الألسن والأقلام فأثرت في فكره؟
ما هي البينات التي تقنعه بأن الأمريكان أكثر أنانية من غيرهم؟ أود أن أسأله إذا حلت على العالم الويلات فمن يسارع إلى المساعدة قبلنا، ومن يفتح قلبه وكيسه قبل أبناء أمريكا؟ كم من الملايين أرسلت إلى الحلفاء في هذه الحرب الطاحنة؟ غذاء بلجيكا وكساؤها يذهبان من وراء البحار وأمريكا ترسل إليها 36 مليونا شهريا. بعض السيدات من أجمل نساء أمريكا تركن أزواجهن وأولادهن وذهبن لمعالجة الجرحى في ميدان القتال. الرجل الأمريكي أحسن زوج في نظر الفتاة الإنجليزية، لا لأنه أناني؛ بل لأنه يحترم المرأة ويعترف بمواهبها العالية ويعاملها المعاملة التي تستحقها رقتها وسمو عواطفها. أعظم المستشفيات في باريس أمريكية وينفق عليها من ثروات أمريكية فردية. قد يرى الدكتور شميل في كل هذا أنانية، ولكنها أنانية كريمة جميلة.
Bog aan la aqoon